الاهتداء إلى موضع العلّة: الإعاقة والكويريّة والعرق في سيرة

السيرة: 

يلدا حميدي هي أستاذة مساعدة في دراسات المرأة والجندر في جامعة ولاية مينيسوتا، مانكاتو. يلدا مهتمّة بالنسوية العابرة للقومية، والما بعد الكولونيالية، والإسلامية. يركّز مجال عملها على النسوية الشرق أوسطية والإيرانية، الحرب، الشتات، السيادة، والعلاقة بين المرأة والأمّة. يواجه بحث يلدا المعنون "من الوطنية الأنثوية إلى الأنوثة في الشتات: التفاوض حول الشتات والتطلّعات النسوية"، الاستيلاء على أدب الشتات الإيراني في القوانين النسوية والأدبية ويقترح طرقًا جديدة لتطبيق الاستماع الخطابيّ لقراءة الأدب النسويّ متعدّد الأعراق.

 

فال موييه هي طالبة دكتوراه في دراسات المرأة والجندر والجنسانية في جامعة ستوني بروك. عنوان أطروحتها: العضلات، التستوستيرون، و "المخاطر" الأخرى في رياضة النساء، حيث تحلّل أساليب اختبار الجنس الحالية في السباقات النسائية الدولية كشكل من أشكال المراقبة العالمية المعرقنة. يجمع هذا المشروع بين الأدوات النظرية من دراسات العبور الجندري، دراسات الإعاقة، ودراسات العلوم النسوية للبحث في التوترات والقلق الجيوسياسي حول موضوع النساء الرياضيات.

‫ ‫الملخص: 

تقدّم هذه الورقة قراءة استعاديّة لنصّ بروجيستا خاكبور النسويّ الكويريّ العابر للقوميّات بعنوان " Sick: A Memoir" [عليلة: سيرة ذاتيّة] (2018)، بهدف تحرّي الأساليب التي تلجأ إليها المؤلّفة في مَوضعة إعاقتها وكويريّتها في إطار قضايا المهجر والشتات وتصاعد عنف السلطة. تستعين هذه الورقة بمنظور الدراسات النسويّة ودراسات الإعاقة على تحليل "عليلة" باعتبارها رواية فريدة عن الكويريّة والإعاقة والما بينيّة وبطبيعة الحال المقاومة من موقع المرأة الكويريّة المعوّقة السمراء. كما تدافع عن أهميّة قراءة رواية خاكبور باعتبارها محاولة لتسطير التشابك الهويّاتي التقاطعي متعدّد الأوجه الذي يتصدّى للخطابة السائدة حول الكشف والتشخيص من ناحية، ونقد سياسات العرق داخل مجتمع المهجر الإيرانيّ وفي الولايات المتحدة الأميركيّة على السواء، وإلقاء الضوء على دور الوطن والانتماء والإحساس بالتشرّد من جرّاء سياسات بناء الهويّة الوطنيّة والإقصاء التي تتّبناها الدولة. إلى ذلك، تقترح خاكبور دليلًا جديدًا للجغرافيا النسويّة يستوعب الأجساد الإيرانيّة الأميركيّة الأنثويّة الكويريّة المعوّقة والمهاجِرة ضمن الخريطة المتزايدة للذوات المستثناة والمحذوفة.

اقتباس: 
يلدا حميدي، فال موييه. "الاهتداء إلى موضع العلّة: الإعاقة والكويريّة والعرق في سيرة ". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 2 (23 نوفمبر 2020): ص. 236-247. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/254.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (712.77 كيلوبايت)
ترجمة: 

باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.

الاهتداء الى موضع العلّة

الاهتداء الى موضع العلّة

عود نصر

مقدّمة

حدث في خريف العام 2018، درَّستُ (أنا يالدا) فصلًا عن أدب المهجر الإيراني اختتمناه، تلامذتي وأنا، بقراءة كتاب "Sick: A Memoir" [عليلة: سيرة ذاتيّة ] (خاكبور 2018) ومناقشته. ما إن افتتحتُ الجلسة بالسؤال: هل أعجبكم/ن الكتاب؟ عَلَت الأيدي. أجابت ك. بتوتّر وحماسة: "لقد أحببت الكتاب. إنّه يروي قصّتي بحذافيرها، أو قصّة عائلتي. المشكلة الوحيدة هي أنّني لم أعرف كيف أفسّر اختلافها عنّي. بدت لهجة خاكبور أميركيّة صرف". أمضينا الأسبوعين التاليين ونحن نناقش الجوانب المتعدّدة للمرض والإعاقة والكويريّة من منظور تجربة الجسد الأنثويّ الأسمر للكاتبة الإيرانيّة الأميركيّة.

وفي حين تحلّى سؤال طالبتي بالصدق وحبّ الاستطلاع، فقد باغتتني الملاحظة عينها من أحد الزملاء الأقدمين أثناء تقديمي لعملي حول هذا الكتاب في مؤتمر أكاديمي في ربيع العام 2019، حيث اعتبرها "مجرّد فتاة أميركيّة مريضة" ووصف سيرتها بالمثال الحيّ على ما أسماه "موضة التذمّر من الإعاقة". وقد أطلعتُ فاليري صديقتي وشريكتي في تأليف هذا النص لاحقًا على هذه الملاحظة. ما تقرأونه وتقرأنه هنا هو محاولة لنقل كتاب "عليلة" إلى مختلف حقول التخصّص من النسوية العابرة للقوميّة إلى الدراسات الكويريّة ودراسات الإعاقة. ونبيّن في هذا النص إمكانيّة قراءة رواية خاكبور كمحاولة لتسطير التشابك الهويّاتي التقاطعي متعدّد الأوجه الذي يتصدّى للخطابة السائدة حول الكشف والتشخيص من ناحية، ونقد سياسات العرق في مجتمع المهجر الإيرانيّ وفي الولايات المتحدة الأميركيّة على السواء، وإلقاء الضوء على دور الوطن والانتماء والشعور بالتشرّد من جرّاء سياسات بناء الهويّة الوطنيّة والإقصاء التي تتّبناها الدولة. كما نبيّن كيف تقترح خاكبور دليلًا جديدًا للجغرافيا النسويّة يستوعب الأجساد الإيرانيّة الأميركيّة الأنثويّة الكويريّة المعوّقة والمهاجرة ضمن الخريطة المتزايدة للذوات المستثناة والمحذوفة وبالتالي غير الخاضعة للكشف.

 

عليلة: أكثر من مجرّد سيرة

تعدّ بروجيستا خاكبور مؤلّفة "عليلة: سيرة ذاتيّة" من الكاتبات المعروفات في أدب المهجر الإيراني الأميركي. حازت روايتاها "Sons and Other Flammable Objects" [أبناء وأشياء أخرى قابلة للاشتعال] (2008) و"The Last Illusion" [الوهم الأخير] (2014) على عدّة جوائز وكرّمها العديد من نقّاد الأدب،1 كما نُشرت كتابتها الأخرى (المقالات والتحقيقات والمراجعات النقديّة ومقالات المجلّات والأعمدة) في عدد من المواقع الإعلاميّة. تركّز خاكبور على أهمّية العرق وأثر التمييز العرقي في حيوات وتجارب أبناء وبنات الجالية الإيرانيّة الأميركيّة. فهي لا تعمد إلى المكاشفة حول ألم شعبها ومعاناته فحسب، بل تبيّن كيف يساهم السعي إلى تبنّي إديولوجيّات التمييز على أساس المقدرة الجسمانيّة والعرق في تأزيم العلاقات الصراع الجيلي بين أفراد الجالية. ففي سيرتها الذاتيّة، "عليلة"، تبوح خاكبور بتفاصيل تعايشها مع داء لايم كامرأة كويريّة سمراء. ليس مُستغرَبًا أن تؤدّي أيّ من هذه المحدّدات الهويّاتيّة إلى زيادة مضاعفات المرض، ما يبيّن للقرّاء كيف تختلف نتيجة ذلك، النظرة إلى الجسد المريض والطريقة التي يعالَج بها.

تتابع رواية "عليلة: سيرة ذاتيّة" قصّة حياة خاكبور بشكل عام وفق التطوّر الزمني من مرحلة الطفولة التي شهدت انتقالها من طهران إلى لوس أنجلس مرورًا بمرحلة الشباب في نيويورك وغيرها من المدن حيث تابعت مسيرتها المهنيّة في مجال الكتابة. تتضمّن هذه الرواية نوعين من الفصول. الفصول الرئيسيّة تتحدّث عن داء لايم وتحدّيات الإعاقة التي تعاني منها الكاتبة. وتحمل جميع هذه الفصول اسم المكان أو الأماكن التي تشكّل مسرح الأحداث أو ترتبط بها مباشرة. فعلى سبيل المثال، يضيء الفصل الذي يحمل عنوان "إيران-لوس أنجلس" على التحوّلات البارزة في سياق ثورة 1979 وهجرة العائلة ومرض خاكبور. وهناك ثلاثة فصول تحمل اسم مدينة نيويورك فيما ترد مدينة لوس أنجلس في عناوين ثلاثة فصول أخرى إضافة إلى فصلين يحملان اسم مدينة سانتا في. ويدلّ هذا التكرار على دائريّة الحركة التي طبعت حياة الكاتبة في الولايات المتحدة الأميركيّة. ولكنّه يُوظَّف أيضًا في إعادة كتابة المعالم المكانيّة وتجاوز الجغرافيا التي يألفها الرجل الأبيض ذي القدرة الجسمانيّة للخروج بسرديّات وتفاصيل جديدة لا يجدها القرّاء عند كاتب/ة آخر/ى ذي/ذات امتيازات. ومن الأمثلة على ذلك، رداءة الرعاية الطبيّة التي تلقّتها الكاتبة في إحدى المستشفيات في ضاحية مأهولة بالسكان البيض. وبالإضافة إلى الفصول العشرة الأولى، تتضمّن السيرة الذاتيّة فصولًا أقصر تثير في ثناياها عددًا من القضايا والإشكاليّات الثقافيّة النابعة من تقاطع الإعاقة مع نوع الكاتبة الاجتماعي (جندرها) وعرقها وديانتها. وتسعى خاكبور من خلال تلك الفصول إلى تقديم صورة أكثر تشابكًا وغنى عن المرض والإعاقة من خلال إضافة العوامل العابرة للقوميّة إلى وصف المعاناة مع داء لايم، فتلخّص أبرز تلك القضايا في عناوينها "عن الجسد الخطأ" و"عن الإعانة" و"عن المظهر" و"عن المكان" و"عن كوني عليلة"، وأخيرًا "عن الحبّ المفقود والمولود".

 

المرض غير المكتشَف

تعاند رواية "عليلة: سيرة ذاتيّة" من خلال موضوعات الكشف والتشخيص المتعلّقة بداء لايم، وهو المرض الأشدّ ارتباطًا بالمكان (تمامًا كحياة خاكبور)، سرديّات المرض الغائيّة كما تسعى إلى ردم الفجوات في دراسات الإعاقة حول تشكّل الوعي بالذات في بلدان المهجر وقضايا العرق والأمراض المزمنة وتلك الناجمة عن الظروف البيئيّة. ففي سياق رحلتها للحصول على تشخيص قاطع لحالتها المرضيّة، تقابل خاكبور العديد من العقبات والطرق المسدودة نتيجة معاناتها من داء أقلّ شيوعًا (لايم) وموقعها كامرأة سمراء مسلمة. وسرعان ما تختلط هذه الظروف ببعضها البعض بحيث يصعب الفصل بين مختلف جوانب المعاناة في سياق هذه السرديّة.

ويقدّم داء لايم مثالًا واضحًا على كيفيّة تشكّل المرض والإعاقة كظاهرتين اجتماعيّتين وبيولوجيّتين في آن واحد. فهذا الداء المنتقل بالعدوى عن طريق حشرة القرادة في بعض المناطق لم يلقَ اهتمام الأطبّاء حتى السبعينيّات من القرن العشرين ما أبقى تأثيراته المزمنة خارج إطار البحث والدراسة وموضوعًا للنقاشات الحامية في الأوساط العلميّة (هالبرين 2015). وتزداد إشكاليّات الكشف عن المرض واحتمالات تجاهله أو اعتباره مرضًا كاذبًا من قبل العديد من الأطبّاء في ظلّ صعوبة التشخيص، حتّى مع الفحوص، إضافة إلى تشابه العوارض مع مجموعة من الأمراض المزمنة الأخرى وفق ما تؤكّد تجربة خاكبور (هالبرين 2015).

إذًا يتقاطع الالتباس المحيط بداء لايم مع التمييز العرقي النظامي والهياكل الأبويّة التي يتّسم بها حقل الطبّ. فما تعانيه خاكبور لا يخرج عن نطاق تجارب العديد من الأشخاص ذوي/ات البشرة الملوّنة مع التشخيص الطبّي ولا سيّما لجهة عدم اقتناع الأطبّاء بصدق شكواهم من الألم (موسي 2011). ويتقاطع ذلك مع الفكرة السائدة عن أن النساء "يصطنعن" الألم أو يعانين من الهيستيريا، ما يدفع الأطبّاء إلى تصنيف الآلام التي تشكو منها النساء ضمن العوارض "غير المفسّرة طبيًّا" أو ردّها إلى أسباب نفسيّة عوضًا عن البحث عن المسبّبات العضويّة (سامولوِيتز 2018). وهناك أبحاث مستجدّة لا تزال قيد التطوير تتناول ظاهرة تفاوت الخدمات الصحيّة وتراجع دقّة التشخيص الطبّي لدى النساء من ذوات البشرة الملوّنة في الولايات المتحدة الأميركيّة من منظور تقاطعيّ. غير أنّ هذه الأبحاث تركّز بشكل خاص على النساء من السود أو السكّان الأصليّين أو من أميركا الجنوبيّة باعتبارهنّ يعانين من أشدّ أشكال التمييز واللامساواة في قطاع الرعاية الصحيّة وخصوصًا في مجال رعاية الأمومت،2 في وقت لا يزال الحديث عن التمييز ضد النساء المسلمات من ذوات البشرة السمراء غير وافٍ، ما يساعدنا على فهم السياق الذي تروي فيه خاكبور سيرة حياتها.

وتوجّه دراسات الإعاقة الانتقاد إلى عمليّة الوصم التي تحيط بالتموضع الاجتماعي للشخص المعوّق وتعيد إنتاج هذا التموضع. ولكن ما الذي يحدث عندما يرتبط الوصم بداء بعينه؟ ممّا لا شكّ فيه أن رواية خاكبور تدخل في حوار مع عدد من السرديّات الأخرى حول المرض، منها كتاب سوزان سونتاغ "Illness as a Metaphor" [العلّة كمجاز] (1988) وأودري لورد "The Cancer Journals" [يوميّات السرطان] (2006)، كما تشوّش بعضًا من النماذج الراسخة والتموضعات الذاتيّة المفترضة ضمن مجال دراسات الإعاقة، ما يضع رواية خاكبور في علاقة كويريّة مع دراسات الإعاقة كمجال بحثيّ. في القسم الآتي، سنناقش نماذج الإعاقة التي تُخلخلها سرديّة خاكبور عن مرضها أو تنحاز إليها. وفي حين لا تترادف الإعاقة مع المرض إلًا أن منظّري ومنظّرات دراسات الإعاقة يوفّر(و)ن الأدوات التحليليّة المفيدة في تفكيك ونقد النماذج الطبيّة للإعاقة ومعها هيكليّات التمييز على أساس القدرة والتفوّق الجسماني.

تقول سوزان سونتاغ في كتابها "العلّة كمجاز":

أودّ أن أرسم الصورة لا لمعنى الانتقال إلى مملكة المرضى/ المريضات والعليلين/ات والاستقرار فيها، بل للتخيّلات التأديبيّة والفانتازيا الوجدانيّة الملفّقة التي تترافق مع هذا الواقع: ليست جغرافيا حقيقيّة بل تنميطًا على مستوى الأمّة. (1988، ص.3)

تقدّم سونتاغ مشروعها كعمليّة استنطاق للمجاز والتخيّلات والصور المترسّخة عن بعض الأمراض والعلل إضافة إلى استخدام المرض كمجاز بصورة أعمّ. وإن كانت سونتاغ قد سعت إلى التنقيب عن "التنميط على مستوى الأمّة" وتحليله عوضًا عن التجربة المعاشة، فإنّ خاكبور تعمل في سيرتها على المزاوجة بين الاثنين لتؤكّد أنّهما في الواقع متلازمان ويساهمان في تشكيل خصوصيّة التموضع الذاتي لكل شخص على حدة. وتقابل خاكبور "مجاز" داء لايم مرارًا وتكرًرًا في سيرتها الذاتيّة إمّا في احتماليّة أن يكون متوهَّمًا أو بوصفه "مرض الموسوسين/ات ومثيري/ات الذعر والأغنياء الذين يملكون الوقت والمال ليذهبوا سعيًا وراء تشخيص غير علميّ" (ص.21). وتشير خاكبور إلى أن داء لايم هو من الأمراض الخلافيّة داخل مهنة الطبّ حيث يؤثّر هذا التصوّر الذي تتبنّاه المؤسسة الطبيّة عن المرض باعتباره غير معروف أو "كاذبًا" في تحديد مسار علاجها، أو الأصحّ عدم علاجها منه، إضافة إلى تحديد مدى سهولة الوصول إلى العلاج أو صعوبته ومدى القدرة على تحمّل نفقاته.

ويُخرج نموذج التحليل الاجتماعي للإعاقة القوّة المعوّقة من الجسم إلى المجتمع القادر والبيئة المبنية. إلّا أنّ هذا النموذج لا يفي بوصف تجربة خاكبور مع داء لايم. وتعدّد أليسون كافر الباحثة في دراسات الإعاقة والنسويّة والكويريّة الانتقادات الموجّهة إلى النموذج الاجتماعيّ مشيرة إلى أنّ "الأشخاص الذين يعانون من المرض المزمن أو الألم أو الإعياء هم/ن الأشدّ انتقادًا لهذا الجانب من النظريّة الاجتماعيّة، وهم محقّون/ات في ذلك لأنّ التغيير المجتمعي والهيكلي لن يشفي في المحصّلة آلام المفاصل وأوجاع الظهر" (ص.7). وفي حين يعمل النموذج الاجتماعي إلى حدّ كبير كبديل ممكّن عن النموذج الطبّي الذي يرى أنّ الإعاقة مشكلة يجب "علاجها" على مستوى الفرد متجاهلًا الهياكل المجتمعيّة، يرتبط صراع خاكبور مع المرض إلى حدّ كبير بالغموض المحيط به داخل النظام الطبّي. فمن جهة، تصرّ خاكبور على وجود علّة في جسمها بينما يحاول الأطباء إقناعها بأن مشاكلها نفسيّة. من هنا فإنّ سعي خاكبور المتواصل للتشخيص والعلاج يأتي في إطار محاولتها الدخول إلى هذا النظام الطبّي على أساس لغة مشتركة تتيح قراءة معاناتها بوضوح من وجهة نظر طبّيّة، وهذه المعركة للوصول إلى الرعاية الطبيّة مختلفة عن تلك التي تناقشها معظم دراسات الإعاقة. وكما توضح كافر "هناك احتمال أن يؤدّي النموذج الاجتماعي إلى تهميش الأشخاص ذوي/ات الإعاقة المهتمّين/ات بالتدخلات الطبيّة أو العلاج" (2013، ص.7). وفي حالة خاكبور يكون التشخيص الواضح أمرًا إيجابيًّا. فإلى جانب إمكانيّات العلاج المتاحة، تتحدّث خاكبور عن دور التشخيص في تخفيف شعورها بالاغتراب عن جسدها: "في رحلة العودة إلى المنزل، شعرتُ وكأنني غريبة في جسدي لكن غربتي كانت مختلفة هذه المرّة. كأنني مسافرة أو سائحة قد تنظر في يوم ما إلى هذه التجربة من بعيد وقد لا تتذكّرها" (ص.210). يبقى الشعور بالغربة ولكنّه هذه المرّة ممزوج بتفاؤل لم تعهده قبل التشخيص.

في مقابل ذلك ، تقدّم كافر نموذجًا سياسيًّا/ علائقيًّا "يضع الإعاقة بشكل مباشر في إطار السياسة" (ص.9) وتؤكّد أنّ وضع الإعاقة يرتبط دائمًا بمعيار القدرات الجسديّة ومحاور السلطة الأخرى كالعرق والجندر والجنسانيّة وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، يمكن للقرّاء من خلال النموذج السياسي/ العلائقي طرح أسئلة مثل: لماذا لم تُشخَّص خاكبور في مرحلة أبكر من قصّتها الطويلة مع الطب؟ وما يظهره كتاب "عليلة" هو مجموع التأثيرات المركّبة للعنصرية والتمييز ضد النساء على مسار التشخيص والتي لا تزال تفتقد إلى الاهتمام البحثي في مجال الطب. وبالتالي فإن نموذج كافر يسمح بمزيد من التحليل لمختلف نواقل القوة التي تؤثر على خاكبور، ولكنّه في نظرنا لا يحيط بمجمل الديناميكيات والتعقيدات الصحيّة والمعاناة مع الألم والأرق والإدمان في حياة خاكبور حتى وإن كان يقرّ بالأطر السياسيّة للتشخيص والعلاج.

ويبقى سبب مرض خاكبور واحدًا من أبرز الأسئلة التي لا تزال تنتظر الإجابة عنها في الرواية والتي تستمر في إحباط أي سعي للشفاء. وهو أحد أوجه المرض التي لا تعرضها نظريّات دراسات الإعاقة المنصبّة على موضوع التمكين بصورة وافية. وتُجري جاسبير.ك.بوار الباحثة في الدراسات الإثنيّة النقديّة والكويريّة مداخلة مهمّة في هذا الصدد إذ تتحرّى الآثار الموهِنة للرأسمالية العالمية والاستعمار الاستيطاني والإمبرياليّة الغربيّة في كتابها "The Right to Maim: Debility, Capacity, Disability" [الحق في التشويه: الوهن والقدرة والإعاقة] (2017). تقول بوار في هذا الكتاب إن مصطلح الإيهان لا يعبّر عن وضع استثنائيّ بل عن واقع معشّش في تلك الأنظمة، وأنّ الهدف من استخدامه هو "تعبئة مفهوم الوهن لمجابهة التعريف السائد للإعاقة (فضلًا عن كشف تواطئه مع هذا التعريف) بهدف إضافة ضلع ثالث إلى ثنائيّة القدرة والإعاقة، علمًا أنّ بعض الأجساد التي لا تظهر علامات الإعاقة أو لا تندرج في فئة الأجساد المعوّقة قد تكون موهنة تحديدًا بسبب حرمانها من الأحقيّة والقدرة على تلقّي الموارد الرعائيّة أسوة بالمعوّقين/ات" (ص.XV). ويوفّر مصطلح بوار، الوهن، أداة تعبيريّة تتيح رسم صورة لمعاناة خاكبور مع الآلام الجسديّة والعوارض التي لا تزال خارج نطاق التشخيص والحسم بارتباطها بداء لايم. فخاكبور مصابة بالوهن من قبل أن تجد لمعاناتها مسبّبًا أو اسمًا وقبل أن تتمكّن من الاستحصال على إقرار من مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في الولايات المتّحدة (CDC) بأنّها تعاني من داء لايم.

يبرز كتاب"عليلة" أيضًا أهمية السرد الشخصي في بناء قاعدة للتواصل مع القرّاء بطريقة تعجز عنها النظريات والنماذج التحليليّة، حيث يساهم الوصف الحيّ للأعراض والعلاقات الأسريّة والرومانسيّة واللحظات الحميمة والعاطفيّة في مدّ الصلة بين القرّاء وقصة خاكبور. كما تتيح السيرة كوسيط وكنوع أدبيّ إبراز أوجه القصور في نظريات الإعاقة التي لا تتصدّى لمحاور القوة المتفاعلة مع الإعاقة أو التي تضلّل التشخيص أو تغفل التحليل السياسي للإحساس بالآلام الجسديّة.

 

جغرافيا نسويّة لذات كويريّة معتلّة

بعدما تناولنا في القسم السابق موضوعتي التشخيص والكشف الملتبستين في تجربة خاكبور مع المرض، نسلّط الضوء في هذا القسم على كيفيّة تأثّر هذه السيرة بتصوّر محدّد للموقع الجغرافي. ففي معرض الإشارة إلى الموقع الجغرافي الذي يحتلّه جسدها، تولي خاكبور اهتمامًا لإيران والولايات المتّحدة الأميركيّة وإلى الجماعات والفضاءات المتَخيّلة المرتبطة بكليهما. فهي تنطلق من أسماء أماكن محدّدة في الولايات المتّحدة الأميركيّة وتشقّ طريقها إلى فضاء المهجر والشتات. فمن جهة، تنسب الكاتبة نفسها إلى مجتمع المهجر الأميركي من أصل إيراني في مدينة لوس أنجلس حيث تقيم عائلتها. ومن ناحية أخرى، تستهلّ كتابها بفصل بعنوان "الجسد الخطأ" وتختتم بفصل آخر بعنوان "أي مكان آخر بعيدًا عن هنا"، وذلك للتأكيد على أهميّة العلاقة بين مختلف فضاءات الشتات والمرض.

استقرّت أسرة خاكبور إثر وصولها إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة في ولاية كاليفورنيا. ويمكن ملاحظة الطريقة الخاصّة التي ترسّم فيها الكاتبة رقعة الولاية من خلال علاقة أسرتها الإيرانيّة الأميركيّة اللاجئة مع المكان. وفي حين تحفل سرديّات الشتات الإيراني السائدة بمظاهر الغنى وتعابيره، تتحدّث خاكبور صراحة عن كفاح أفراد أسرتها مع الفقر طيلة حياتهم. تقدّم للقارئ نموذجًا لتغيّر معاني الحياة بالنسبة إلى المقيم/ة في كاليفورنيا أو نيويورك تبعًا للاختلاف الطبقي ضمن المجتمع الإيراني الأميركي. ففي صورة تعكس التلازم المربك بين كآبة الواقع الذي تعيشه ابنة الشتات وحياة لوس أنجلس المفعمة بنور الشمس واليوغا والتفاؤل والسعادة، تحدّثنا خاكبور عن شعورها بالاغتراب وعدم الانتماء إلى الساحل الغربي. تقول: "لم تكن لوس أنجلس جذّابة بالنسبة إلى قطّ. بل كانت مظلمة وخطرة وموحشة ومترعة بالأذى والعزلة" (ص. 85-86). وقد دفعها تراكم هذه الأحاسيس إلى الجامعة بقصد الهرب.

على النقيض تمامًا من حياة الساحل الغربي، قدّمت نيويورك لخاكبور كلّ ما كانت تشتهيه. وقد اختارت كلّيّة سارة لورنس بالتحديد لسببين: قربها من المدينة وبعدها عن رقابة الأهل. وعاشت جميع أحلامها خلال سنواتها الدراسيّة وقد نجحت في التحرّر من سلطة الأبوين الإيرانيّين المشدّدة، فإذ بها تكتسب عادة التدخين بملء إرادتها في الأسبوعين الأوّلين من انتسابها إلى الكلّيّة وتنضمّ إلى عالم السهر واللهو الجامعيّ وتنغمس في تعاطي مختلف أنواع المخدّرات. وفي حين تبدو هذه التجارب مروّعة بالنسبة إلى فتاة يافعة على أعتاب الحياة، إلّا أن خاكبور وجدت فيها سلامها الداخلي وكأنّ الحطام الذي في داخلها قد حظي أخيرًا بمنفذ للتعبير من خلال نمط الحياة الذي ابتدعته لنفسها في نيويورك. كانت تلك هي البيئة التي وفّرت لها اللقاء بأصدقاء يشاركـ(و)نها مقدار كرههم/ن للحياة. الأهمّ من ذلك، أتاحت لها نيويورك الهرب من توقّعات الأسرة المهاجرة التي فشلت في تقبّلها كشخص عليل. ويضع تضارب تجارب الصداقة وتقبّل المرض وأجواء نيويورك الكئيبة في مقابل الوحدة والنكران ومظاهر البهجة المزعجة في مدينة لوس أنجلس كلًا من المدينتين على طرفي نقيض في حياة الكاتبة. وفي حين تُترجِم سير الشتات الإيراني ولا سيّما التي عاش مؤلّفوها ومؤلّفاتها مرحلة الشباب في إيران ثنائيّة الغرب والشرق إلى المقارنة بين إيران والولايات المتّحدة الأميركيّة، تتّخذ هذه الثنائيّة في نظر الطفلة ابنة العائلة الإيرانيّة المهاجرة شكل التناقض بين نيويورك ولوس أنجلس. وهذه واحدة من عدّة سبل تتّبعها الكاتبة لتفكيك الثنائيّة الاستشراقيّة.

يكثر ذكر المدن الأميركيّة في السيرة الذاتيّة في حين لا يجد القارئ سوى عبارات قليلة تتحدّث عن إيران. وفي مقابل هذا الغياب، تعرّف الكاتبة بنفسها كإيرانيّة أميركيّة وتتحدّث صراحة عن استمرار إحساسها بالانتماء إلى إيران على مدار حقبات سياسيّة واجتماعيّة مرّت على الولايات المتّحدة. ويتكوّن بعضٌ من تصوّر خاكبور عن إيران من خلال شعورها بالتشرّد وعدم الانتماء الكامل إلى الولايات المتحدة الأميركيّة. هذه الصورة عن إيران الوطن الأم تتناقلها الأجيال من الأباء إلى الأبناء في صيغة موروث عائلي. في المقابل، تصطدم هذه الصورة المعزّية بصورة أخرى كارهة للأجانب (زينوفوبيّة) يصطنعها الخطاب السياسي وتروّج لها وسائل الإعلام الأميركيّة، وهذه الأخيرة ستظلّ تلاحق خاكبور وباقي أفراد مجتمع الشتات إلى الأبد. وتعاود خاكبور في سياق سيرتها تذكير القرّاء/القارئات بالأحداث الصادمة التي شهدتها من ذكريات الطفولة المختلطة بأحداث الثورة الإيرانيّة في العام 1979 إلى الحرب بين إيران والعراق (1980-1988) وذكرى اللجوء وصولًا إلى أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وكيف تسبّبت جميعها في انتكاسات داء لايم ونوبات القلق التي لازمتها في حياتها. كما تذهب بعيدًا في المجاهرة بتأثير "هذه الإدارة" على وضعها الصحّي: "عندما أصبح حظر المسلمين مادّة ثابتة في نشرات الأخبار في العام 2017، عندما علمتُ ولم أتعجّب أن بلدي قد أُدرج على لائحة من ست دول تصنّفها هذه الإدارة بلدانًا خطرة، تدهورت صحّتي بشدّة" (ص.167). وتوضح خاكبور تأثير اضطراب ما بعد الصدمة والقلق على تطوّر داء لايم وتخلص إلى التساؤل: "أحيانًا أتساءل هل كنت لأتمتّع بصحّة أفضل لو كان عندي وطن" (ص.168).

ثمّة نمط آخر لحركة خاكبور يتطلّب منها التحصّن ضدّ العنصريّة ورهاب الأجانب كلّما احتاجت أن تقصد المستشفى في وقت كان الإيرانيّون/ات والأميركيّون/ات من أصل إيرانيّ يتعرّضون للاستهداف العنصري في مختلف أوجه الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في الولايات المتّحدة. فقد يحدث في اللحظات الحرجة إثر حادث أو نوبة من الأعراض الحادّة أن تجد خاكبور نفسها مضطرّة للدفاع عن نفسها وخصوصًا عندما تتحدّث مع سائقي النقل. ففي حين يفرض داء لايم على المريض وتيرة ثابتة من الزيارات المتكرّرة إلى المستشفى، إلّا أن هذه التجربة لا تزال تخبّئ الكثير من المفاجآت بالنسبة إلى خاكبور ما يحوّل المستشفى إلى مصدر للتوتّر بقدر ما هو مكان للتعافي. في المشاهد الأولى من سيرتها الذاتيّة، تروي خاكبور بعضًا من تفاصيل حوارها العابر الحذر مع سائق شاحنة القطر بعدما رفضت الصعود إلى سيّارة الإسعاف لتقلّها إلى المستشفى كي لا تفترق عن كلبها، فيسرّ لها: "تعلمين، العرب ليسوا من الشعوب المفضّلة لديّ"، مستثنيًا إيّاها على اعتبار أنّها "مثال جيّد لأبناء شعبك" (ص.19). تقرّر خاكبور المحتجَزة داخل سيّارتها في انتظار العودة إلى منزلها بسلام الحفاظ على سلامتها بألّا تجادل وألّا تصحّح معلوماته بأنّها ليست عربيّة . لاحقًا في السيرة، وأثناء توجّهها إلى المستشفى في سيّارة أجرة، تخاطب خاكبور السائق مستعيدة حوارها مع سائق الشاحنة كوسيلة دفاع استباقيّة: "المعذرة يا سيّد، أودّ أن أطمئنك إلى أنّني أتحدّث الفارسيّة. أنا إيرانيّة، ولكنّي لست من الأشرار، رجاء لا تقلق من لغتي" (ص.249). كان ذلك بعد أحداث باريس بأيّام وكان عليها أن تقاطع كلام والدتها المفزوعة على الهاتف كي تتأكّد من أن السائق لن يندفع لمهاجمتها. وتضاعف الحاجة للدفاع عن النفس في مواجهة رهاب الأجانب واحتمالات التعرّض للتمييز العنصري من أوجه التمييز المُضمَر التي يتوجّب على خاكبور التعامل معها وهي تشقّ سبيلها إلى أقسام الطوارئ في المستشفيات لتلقّي العلاج، وهذه أمور تغيب تمامًا عن تجربة الشخص الأبيض المعوّق.

تعكس القراءات "المبيّضة" أو "المُأمركة" لسيرة خاكبور (المذكورة في المقدّمة) الطريقة الغريبة التي يُساء تشخيصها بها ويُنظر إليها خطأً على أنها بيضاء أثناء مرضها. ولا يقتصر الأمر على رفض الأطبّاء الذكور البيض علاجها واتّهامهم لها بأن مرضها موجود "في عقلها"، بل تخطئ ثقافة التفوق الأبيض أحيانًا بتشخيص أعراض مرض الجسد الأسمر. وفي فصل موجز بعنوان "عن المظاهر"، تتحدّث خاكبور عن إحدى المرّات وهي في طريقها إلى قسم الطوارئ في واشنطن حين وجدت عزاءها في مسعفة سوداء راحت تتوسّل إليها: "رجاء لا تدعيهم يعرضونني على أطبّاء عنصريّين"، فإذ بالمرأة تنظر إليها "مذعورة". هنا تدرك خاكبور كيف يُنظَر إليها كامراة بيضاء (ص.128). ولدى وصولها إلى الطوارئ في مستشفى هاورد، تتذكّر خاكبور الطبيبة المسلمة السمراء التي أرسلتها لها العناية الإلهية فإذ بها تفهم معاناتها وتمنحها مقدارًا من الراحة لم تعهده من قبل. تدرك هذه الطبيبة أن المرض "يجعلني بيضاء – هزيلة وشاحبة إلى حدّ يهنّئني الآخرون وأنا في أحلك مراحل المرض على تحوّلي إلى امرأة بيضاء في الظاهر" (ص.129). ولهذا المقطع أهميّة بالغة، إذ تسعى خاكبور إلى تفكيك الأفكار السائدة عن العافية من منظور أبيض موضحة كيف يمكن لمظاهر العافية لدى المرأة البيضاء، الجسد النحيل والشعر المبيضّ/ الأشقر والبشرة الشاحبة، أن يكون دلالة على الداء المزمن لدى النساء الأخريات.

إلى ذلك، تجابه خاكبور بانتسابها إلى معشر النساء المسلمات السمراوات آثار التمييز العنصري على جبهتين اثنتين، وإن كانت لا تأتي على ذكر ذلك بوضوح. أمّا وجه التمييز الأكثر تجلّيًا فيكمن في التفرقة العنصريّة حيال المسلمين/ات والإيرانيّين/ات وغيرهم/ن من الجماعات الخاضعة لمجهر التفوقّ العرقي الأبيض. إلّا أن الوجه الآخر المستتر للتمييز العنصري فيأتي من داخل مجتمع المهجر الإيراني الذي يصرّ على نسب الإيرانيّين/ات إلى العرق الأبيض الخالص ويسعى بذلك إلى النأي بنفسه عن العرب وغيرهم من شعوب منطقة البحر المتوسّط. وفي هذا السياق، توضح ندا مقبوله مؤلّفة "The Limits of Whiteness: Iranian-Americans and Everyday Politics of Race" [حدّ البياض: الأميركيّون/ات من أصل إيراني وسياسات العرق في الحياة اليوميّة] (2017) كيف فرّق تصنيف الأميركيّين/ات من أصول إيرانيّة كجماعة تنتمي إلى العرق الأبيض المجتمع الإيراني في المهجر إلى فرقتين، واحدة تتبنّى هذا التصنيف وأخرى تعانده وترفض التماهي مع هذه النسخة من البياض. وتتضامن خاكبور صراحة مع الفرقة الأخيرة حين تخاطب طلّابها/ طالباتها باعتبارها البروفسورة الملوّنة الوحيدة في الهيئة التعليميّة للجامعة وعندما تمتنع عن التعريف بنفسها كامرأة بيضاء حتّى عندما يخطئ الأطبّاء تشخيص علّتها على أنّها مجرّد علامة على بياضها "المزعوم".

لا تزال العوامل المساهمة في هذا الشعور بالغربة وعدم الانتماء الناتجة من موقع عائلة خاكبور في أسفل السلّم الطبقي والمتفاقمة بسبب هذا التموضع، خارج إطار التفسير النظري. وتشير الباحثة في مجال دراسات الإعاقة نيرمالا إيريفيليس إلى مدى إغفال التحليل الطبقي في هذا المجال من الأبحاث، موضحة أنه "في حين يظهر العامل الطبقي في سرديّات الإعاقة، إلّا أنّ تناوله يأتي من منطلق كونه من مكوّنات التجربة الاجتماعيّة/ الثقافيّة لا عنصرًا للتحليل النقدي" (2011، ص.5). من هذا المنطلق عينه، تأتي خاكبور على ذكر دخلها والتغطيّة الصحيّة مرارًا إلّا أنّها ما كانت لتدرك مدى أثر الرخاء المادي على التعافي لولا تلقّيها الرعاية والدعم المالي من صديقة ثريّة خلال مرحلة انتقالها إلى سانتا في. وقد كانت حياة سيدني صديقة خاكبور اليوميّة بالنسبة إليها أشبه بالعطلة:

أدركتُ لأوّل مرّة في حياتي أن الأغنياء يملكون هكذا خيارات، أنّه بالمال نكتسب جرأة التشبّث بالحياة مهما كانت احتمالات النجاح ضئيلة. كانت الفواتير تُسدَّد من دون أن أراها حتّى وكانت حاجاتي مُجابة من قبل أن أسأل وكان في وسعي أن أتخيّل نهاية سعيدة لهذه القصّة (2018، ص.217).

يدفعنا هذا الاكتشاف إلى التأمّل في شتّى الاحتمالات حيث يكون "البقاء رهن القضايا الاقتصاديّة لا الطبيّة" كما تقول إريفيليس (2018، ص.13). وما الخطّة الدائريّة لحركة خاكبور عبر الولايات المتّحدة سوى بدافع البحث عن الأمان الوظيفي والعلاج الطبّي.

في المحصّلة، تحتلّ رحلة التعايش مع المرض الواجهة في سيرة خاكبور في حين تؤدّي عوامل الانتماء العرقيّ والطبقيّ والخلفيّة الدينيّة الإسلاميّة الدور الخفي في تحديد مسار تطوّر السرديّة والمرض على السواء. فالقرّاد الناقل لداء لايم هو نوع من الحشرات يعيش "هناك" في الطبيعة بعيدًا عن جسم الإنسان، ولكن ما إن يلسعه حتّى يتغلغل الداء في الأحشاء ويبدأ بتغيير هذا الجسم ومهاجمته. كذلك تشكَّل رهاب الإسلام والتمييز العنصريّ والجندريّ وتكاليف الرعاية الطبيّة الباهظة معًا معالم البنية الاجتماعيّة الظاهرة وتؤثّر في الوقت عينه على تفاعلات الجسد الباطنيّة ما يولّد التوتّر ويتسبّب بالانتكاسات الصحيّة. تتصدّى هذه العلاقة التي تظهرها خاكبور في سيراتها بين الجسد والمجتمع للفصل الزائف بينهما في مجال دراسات الإعاقة.

 

الكويريّة العابرة للقوميّة

تستهلّ خاكبور كتابها بمقدّمة قصيرة عن "الجسد الخطأ". ويخيّل للقارئ/ة تحت تأثير التمثيلات التي تقدّمها النسويّة البيضاء والاستعماريّة للجسد الكويريّ الملوّن والمسلم أن القصد من "الجسد الخطأ" يقتصر عند الكاتبة على مفاهيم المتعلّقة بالجنسانيّة فحسب. وما هذا النوع من الجسد المثليّ الإيرانيّ المهجريّ المتخيَّل سوى وليد لتقاطع بين خطابين اثنين تطلق عليهما الباحثة في الدراسات الكويريّة الأميركيّة من أصول إيرانيّة سيما شاخساري عبارتي "هومو-إيروتيكيّة المنفى" و"السياسات المثليّة في المهجر" حيث "يتمّ تصوير الشخص المثليّ الإيرانيّ المعياريّ كضحيّة للرهاب الرجعيّ الإيرانيّ، التي تنتظر أن تمثّلها وتحرّرها تكنولوجيّات الوسائط الجديدة، فيما يُقولَب المواطن الإيرانيّ من خلال السلطة الافتراضية (السيبرانيّة) كذات غيريّة ترفض التقاليد وتتقبّل المثليّة وتدافع عنها وتتجّنب الشذوذ" (2012، ص.14). ورفضًا للتحوّل إلى "البشري بوصفه كائنًا اقتصاديًّا نيولبراليّا" أو إلى ضحيّة العالم الإسلامي المجنسنة الباحثة عن الملجأ من الاضطهاد في كنف الحريّة الافتراضيّة الغربيّة (شاخساري 2011، ص.6؛ 2020)، تعمد خاكبور في الحال إلى التصحيح، مشيرة إلى أن الخطأ في جسدها يكمن في ما هو "أعمق من الجندر والجنسانيّة وأعقد من المظاهر" (ص.5). هنا، يختصر كلام خاكبور مفهوم الجندر والجنسانيّة في مجموعة أوصاف سطحيّة تعطّل نظريّة معيّنة عن سياسات مجتمع الميم مبنيّة على التضادّ بين الغرب والشرق.

ومن شأن الاستخفاف بموقف خاكبور المناهض للاستعمار أن يسفر عن سوء فهم إضافي حيال الطريقة التي تتناول بها ميولها الجنسيّة. فخاكبور لا تأتي على ذكر شريكاتها من النساء وكويريّتها التي عُرّفت بها منذ منتصف التسعينيّات إلّا في مقطع صغير في الصفحة 239 من مخطوطها الذي يبلغ 255 صفحة. وتضيف: "ولأنني أُعطيتُ امتياز الغيريّة من خلال مواعدتي للرجال في كثير من الأحيان، أجدني لا أستعجل ملء تلك الخانة. لعل ذلك راجع إلى أن كثرة المعرّفات الهويّاتيّة الهامشيّة تربكني" (ص. 238-239). خلال قراءة السيرة لفصل أدب المهجر الإيراني الدراسي، عبّر بعض طلاّب/ طالبات يالدا عن عدم تعاطفهم/ن مع ما اعتبروه مناصرة متأخّرة وغير كافية لمجتمع الميم. وقد رأى/ت أحد(ا)هم/ن أن الكاتبة قد أخفت هذه العبارة في موضع من السيرة حيث لا يتنبّه إليه معظم القرّاء/ القارئات ما أشعرهم/ن بالخيانة والخذلان لعدم تبنّي الكاتبة الدفاع عن قضيّتهم/ن.

وبالرغم من تعاطفي مع إحساس طلّابي/ طالباتي بالتهميش والإخفاء، إلّا أن وجهة النظر هذه تصنع فرضيّات متعدّدة: أوّلًا، تهمل تقاطعيّة الهويّة التي تتّخذها الكاتبة، وثانيًا، تتغاضى عن سعي سيرة خاكبور لمناهضة المفاهيم الاستعماريّة عن الجنسانيّة. إلى ذلك، لا يقرّ هذا الزعم باختلاف المفاهيم الثقافيّة عن الكويريّة وبأنّ هناك ثقافات لا ترتبط فيها الكويريّة مع فكرة الخزانة والخروج منها. وتعليقًا على ذلك، توضح أفسانه نجم آبادي في كتابها "Professing Selves: Transsexuality and Same-Sex Desire in Contemporary Iran" [الذوات الصريحة: العبور الجنسي والرغبة المثليّة في إيران المعاصرة] (2013) أن المجتمع الكويري في إيران قد اتّبع عددًا من الأساليب لتأكيد هويّته منها الخروج والإفصاح الجزئيّ عن الهويّة الجنسيّة وعدم التصريح أمام الأهل والمحيط المهنيّ وخارج دائرة الأصدقاء/ الصديقات الكويريّن/ات المقرّبين/ات. أمّا تطرّق خاكبور العرضيّ لمسألة الجنسانيّة، فيشير إلى تململ حقيقي من الحاجة إلى الإفصاح عن كل شيء للقارئ/ة ما يقدّم نقدًا لسياسات الظهور. كما تسلّط روايتها الضوء أيضًا على كيفيّة عدم اتّساق كلّ من جنسانيّتها وشركائها/ شريكاتها الرومانسيّين/ات مع المفاهيم المعلّبة عن مجتمع الميم. ولو كانت اختارت التشديد على ثنائيّتها الجنسيّة لكانت النتيجة إغفال العلاقة المعقّدة بين شركائها الرومانسيّين من الرجال ومرضها.

وبدلًا من الإغراق في تفاصيل علاقاتها مع الرجال والنساء، اختارت خاكبور تسليط الضوء على علاقاتها الرومانسيّة طويلة الأمد مع الرجال كوسيلة للدلالة على الوقت والمكان ومراحل المرض. ففي كلّ مرّة يندفع أحد عشّاقها إلى المشهد طامحًا "لإبرائها" بطريقة تعكس مفهوم المؤسّسة الطبّية عن الإعاقة حيث الهدف هو التصحيح بالمعنيين الإصلاح والشفاء وإتمام "التحسّن". وتشير خاكبور إلى أن "علاقاتنا كانت على ارتباط وثيق بعلاقاتهم هم مع المرض" (ص.237). إذا تصف منوال علاقاتها على الشكل الآتي: "يظهر العديد منهم كلّما تحسّنت صحّتي، ومن ثمّ ينسحبون تدريجيًّا كلّما ساءت" (ص.239). إذًا، فإن دلّت علاقاتها على شيء فعلى مدى انجذاب الشريك/ة أو نفوره/ا من مرضها أكثر منه على هويته/ا الجندريّة. وإهمال هذا التفصيل أو محاولة مقايسة هذه السرديّة بغيرها من سرديّات مجتمع الميم، من شأنهما أن يسطّحا المشهد المعقّد للجنسانيّة والمرض وتشكّل الذات في المهجر.

 

صداقات متمرّدة؟3

بعيدّا عن "التذمّر" الذي أشار إليه الباحث في ذاك المؤتمر، تسدّ سيرة خاكبور الثغرات النظريّة التي تتناول نماذج الإعاقة وتتصدّى بشكل جدّي لقضايا النزوح والتمييز الطبقي والجندري والعنصريّ في سياق تجربتها مع المرض. إلّا أنّ سيرة خاكبور لا تُغرِق في السلبيّة والمأساويّة، بل تلقي الكاتبة من خلالها الضوء على العلاقات التي شدّت عزيمتها وردّت لها اتّزانها حتّى في أحلك لحظات شعورها بالاغتراب عن جسدها. فقد وفّرت لها تلك الصداقات مساحات للتعافي من دون أن تتّخذ هذه الشخصيّات دور المنقذ الشافي كما هي الحال مع علاقاتها بشركائها/شريكاتها الرومانسيّين/ات، بل قدّمت عوضًا عن ذلك استراحات مؤقّتة وجزئيّة أعانت خاكبور على الاستمرار.

على سبيل المثال، تظهر الصداقة مع دوري كأوّل علاقة منسجمة ومتّزنة إذ لا تقدّم دوري نفسها كمداوية قادمة لإنقاذ خاكبور بل كشخص "نال قسطًا من عذاب الجحيم ولا يزال يجاهد للخروج من الحفرة" (ص.206) وقد عرضت أن تكون مع الكاتبة في "فريق" واحد (ص.208). وتمثّل العلاقة مع دوري من خلال إيصالها بالسيارة إلى حيث تريد ومرافقتها إلى "مواعدات الكتابة" وإطلاق حملة على موقع GoFundMe لجمع التبرّعات لتغطية تكاليف علاجها، النموذج الأمثل للعلاقة القائمة على الرعاية المتبادلة. وبالرغم من عدم استخدامها لمفردات "متجذّرة" أو "الموطن"، "تقول خاكبور: قد أخرجتني دوري من طور الشعور بأنّي كائنة فضائيّة" (ص.209). هذا النوع من الصداقات الوطيدة التي بناها الآخرون مع خاكبور كمساعدتها الجامعيّة السابقة، مايسون، أو محرّرتها التي رافقتها إلى المستشفى إثر حادث السيّارة الذي تعرّضت له، هو المسؤول عن إحداث الفارق الكبير في مساعدة خاكبور على تخطّي الأزمات وإحراز التحسّن. وتُظهر سرديّة خاكبور كيف أنّ التعاطي مع داء لايم المزمن هو مشروع غير مكتمل إلّا أن الدعم قد يأتي من خارج مهنة الطب وفي شكل علاقات حميمة غير رومانسيّة. بل إن عدم قدرة خاكبور على اكتساب الشرعيّة لعلّتها داخل دهاليز صناعة الطبّ والناتجة من تأثيرات التمييز العنصري والجندري المعطوفة على ندرة المعلومات حول هذا الداء قد أعطت لشبكات الدعم البديلة هذه دورًا بالغ الحيويّة والتأثير.

 

  • 1. لمزيد من المعلومات يرجى الاطّلاع على الموقع الإلكتروني https://porochistakhakpour.com/
  • 2. يقدّم مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) موجزًا عن المعلومات المتوافرة حول انعدام التوازن في أعداد الوفيّات الناجمة عن الولادة لدى النساء من السود والسكّان الأصليّين في الولايات المتّحدة الأميركيّة "Racial and Ethnic Disparities Continue in Pregnancy-Related Deaths" [التفاوتات العرقيّة والإثنيّة في الوفيّات المتّصلة بالحمل]، صفحة أخبار CDC الإلكترونيّة، 2019.
  • 3. استعرنا العنوان من أنثولوجيا " Dissident Friendships: Feminism, Imperialism, and Transnational Solidarity (Dissident Feminisms)" [صداقات متمرّدة: النسوية والإمبرياليّة والتضامن العابر للقوميّة / نسويات متمرّدة] (تشاودري وفيليبوز، 2016) للإضاءة على إشارات المؤلّفتين إلى أهميّة بناء الصداقات المتخطّية للحدود القومية والطبقيّة بين النساء في إطار النسوية العابرة للقوميّة.
ملحوظات: 
المراجع: 

Chowdhury, Elora, and Liz Philipose, eds. 2016. Dissident Friendships: Feminism, Imperialism, and Transnational Solidarity. University of Illinois Press.

Erevelles, N. 2011. Disability and Difference in Global Contexts: Enabling a Transformative Body Politic. 1st ed. 2011 edition. New York: Palgrave Macmillan.

Halperin, John J. 2015. “Chronic Lyme Disease: Misconceptions and Challenges for Patient Management.” Infection and Drug Resistance 8 (May): 119–28. https://doi.org/10.2147/IDR.S66739.

Kafer, Alison. 2013. Feminist, Queer, Crip. 1 edition. Bloomington, Indiana: Indiana University Press.

Khakpour, Porochista. 2008. Sons and Other Flammable Objects. Reprint edition. Grove Press.

———. 2014. The Last Illusion. Export/Airside edition. Bloomsbury Publishing.

———. 2018. Sick: A Memoir. New York: Harper Perennial.

———. 2020. Brown Album: Essays on Exile and Identity. Vintage.

Lorde, Audre. 2006. The Cancer Journals: Special Edition. Special edition. San Francisco: Aunt Lute Books.

Maghbouleh, Neda. 2017. The Limits of Whiteness: Iranian Americans and the Everyday Politics of Race. 1st ed. Stanford, California: Stanford University Press.

Mossey, Jana M. 2011. “Defining Racial and Ethnic Disparities in Pain Management.” Clinical Orthopaedics and Related Research 469 (7): 1859–70. https://doi.org/10.1007/s11999-011-1770-9.

Najmabadi, Afsaneh. 2013. Professing Selves: Transsexuality and Same-Sex Desire in Contemporary Iran. Duke University Press Books.

Puar, Jasbir K. 2017. The Right to Maim: Debility, Capacity, Disability. Durham: Duke University Press Books.

Samulowitz, Anke, Ida Gremyr, Erik Eriksson, and Gunnel Hensing. 2018. “‘Brave Men’ and ‘Emotional Women’: A Theory-Guided Literature Review on Gender Bias in Health Care and Gendered Norms towards Patients with Chronic Pain.” Pain Research & Management 2018 (February).

Shakhsari, Sima. 2011. “Weblogistan Goes to War: Representational Practices, Gendered Soldiers and Neoliberal Entrepreneurship in Diaspora.” Feminist Review, no. 99: 6–24.

———. 2012. “From Homoerotics of Exile to Homopolitics of Diaspora: Cyberspace, the War on Terror, and the Hypervisible Iranian Queer.” Journal of Middle East Women’s Studies 8 (3): 14–40.

———. 2020. Politics of Rightful Killing: Civil Society, Gender, and Sexuality in Weblogistan. Durham: Duke University Press Books.

Sontag, Susan. 1988. Illness as Metaphor. Farrar, Straus, Giroux.