حياة مزدوجة

السيرة: 

أنا جيرنيا كولبل، أعيش في ليوبليانا، عاصمة سلوفينيا. حصلت على إجازة في القانون وأعمل حاليًا للحصول على درجة الماجستير. أنا من ذوات الإعاقة ومن مجتمع الميم وناشطة أيضًا. من خلال تجربتي في كلية الحقوق، تشكّل لدي فهمٌ عميق عن التمييز الممنهج ضد الأشخاص ذوي الإعاقة ومجتمع الميم، لذلك أحاول مناهضة التمييز المنهجيّ من خلال نشاطي (السياسي). هدفي الأسمى هو جعل العالم مكانًا أفضل مستعينة بمعرفي وخبرتي لأتيح للجميع الوجود من دون خوف من الاستبعاد بسبب هوياتهم ومَن يكونون. إلى جانب القانون، أهوى الفن والموضة والسفر، فكلّ هذه الأشياء معًا تجعلني أشعر بالحرية وتجعل ذهني منفتحًا وجاهزًا لأيّ تحدٍّ قد أصادفه في طريقي.

 
اقتباس: 
جيرنيا كولبل. "حياة مزدوجة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 2 (23 نوفمبر 2020): ص. 210-213. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/251.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (420.44 كيلوبايت)
ترجمة: 

باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.

الاهتداء الى موضع العلّة

الاهتداء الى موضع العلّة

عود نصر

أنا امرأة كويريّة متوافقة الجندر أبلغ من العمر 24 عامًا وحائزة على بكالوريوس في القانون، أي أنّني يونيكورن1 تقاطعيّ لامع. وأنا اليوم متصالحة مع نفسي على عكس ما كنته قبل سنوات قليلة.

أعاني من الشلل الدماغي التشنّجي من الدرجة الرابعة وأحتاج للعون في قضاء جميع حاجاتي وأنشطتي اليوميّة. أعرّف عن نفسي بأنني "لست غيريّة الجنس". أفضّل ألّا أحصر هويّتي في أي من تفعيلات مجتمع الميم، فذلك يوتّرني بشكل لا يوصف. لم أنجح يومًا في الاتساق مع قالب معيّن سواء في ما يتعلّق بإعاقتي2 أو بميولي الجنسيّة. ولطالما أشعرني ذلك بأنّني مجبرة على التقيّد بنموذج بعيد المنال. وبعد سنوات من البحث عن الذات، قرّرت التخلّي عن محاولة تحقيق ما يتوقّعه المجتمع منّي. ولكن أريد أن أرجع إلى البداية.

منذ ولادتي وأنا ألازم الكرسي المتحرّك. نشأت على محاربة الأحكام المسبقة تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة. أعتقد أن التصوّر العامّ هو أن الشخص ذي الإعاقة يجلس على كرسي بملابس فضفاضة (لأنّ ارتداءها هو الأسهل)، بلا ثقافة ولا طموح ولا توق إلى الجمال ولا رغبة على الإطلاق في ممارسة الجنس، والأهمّ من ذلك كلّه أنّه لا يستحقّ أن يكون مرغوبًا/ة فيه. ولا عجب في القول إنّني لم أكن هذا الشخص مطلقًا. كنت منذ سن مبكرة جدًا متابعة لجميع صيحات الموضة وكنت أمضي معظم وقتي مع أصدقاء من غير ذوي/ات الهمم* أمثالي. كنت طالبة متفوّقة وأتمتّع بفضول فطريّ للتعرّف على ما حولي ومَن حولي. لم أكن أغادر المنزل أبدًا بلا مكياج وملابس على الموضة. وكنت أراقب وزني لأنّني أيقنت أن التساهل في تناول ما أريده من الطعام كان سيجعلني مطابقة للصورة الذهنيّة عن الشخص المعوّق التي لطالما سعى المجتمع جاهدًا لإلصاقها بي. وكانت كلّ هذه الأفعال تشعرني بأنّني طبيعيّة وقادرة على التحكّم بمجريات حياتي. وقد ساهمَت في تخفيف حدّة الاضطراب والاكتئاب اللذين كنت أعاني منهما في ذلك الوقت.

هكذا بدأت معركتي مع الاضطراب النفسي التي استمرّت لسنوات – معركة لا يمكنني الجزم بأنّها ستنتهي أو تأخذ هدنة. وأخيرًا تقبّلت الإعاقة في سنّ الثامنة عشرة وتخلّيت عن الهوس بإقناع الآخرين بأنّني شخص طبيعي. كما أنّني أصبحت ناشطة في مجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أو حقوق ذوي القدرات المختلفة وهي التسمية التي أحبّذها.

عزمت من خلال نشاطي في مجال حقوق ذوي/ات الإعاقة على تناول جميع المسائل والقضايا ما عدا واحدة، حياتي الجنسية أو كلّ ما هو متعلّق بالجنس، فقد شعرت أن هذا الجانب لن يُؤخذ على محمل الجد مهما حاولت. أنا نفسي لم أكن أعلّق أهميّة على هذا الموضوع لأنني اعتبرت أن الآخرين قد يكونون على حق وأنني فعلًا شخص لاجنسي بجسم معطوب. كما أنّني تفاديت الحديث عن كلّ ما هو متعلّق بالجنس لأنّني لم أرغب في أن أتحوّل إلى فيتيش، الأمر الذي كان سيفاقم شعوري بالسوء.

غادرت منزل أسرتي بعيد إتمامي عامي الثامن عشر واتّجهت إلى دراسة القانون. قبلها وخلال سنوات مراهقتي لم أكن "أواعد" سوى الرجال الغيريّين المعياريين، ولكن بعد أن انتقلت للعيش وحدي وتحرّرت من عائلتي المعادية للمثليّة، تعرّفت إلى شخص غيّر نظرتي إلى الموضوع. أُغرمت بشخص غير منتمٍ إلى الثنائيّة الجنسيّة. وإمعانًا في تعقيد الأمور، كانوا3 موكلون بمساعدتي. ارتطم العالمان ولم يعد في الإمكان العودة إلى ذي قبل. غمرني طوفان من الغضب والحيرة. وكان غضبي نابعًا من أنّني كنت أصبّ اهتمامي على شخص ليس من الرجال الغيريّين المعياريين. والأسوأ من ذلك، أن الشخص المعني كان يراني عارية بصفة يوميّة بحكم عمله كمساعد لي. تعلّمت كيف أصطنع تقبّلي لهذا الوضع لأنني لم أكن أملك الخيار، في حين يتصرّف المجتمع وكأنّ العريّ مسألة خطيرة. شعرت بالضعف كوني امرأة، لأن الشخص الذي أحببته قد رآني عارية مرات عديدة لدرجة أن جسدي لم يعد يعني له شيئًا. لم أفهم كيف يمكنهم أن يجدوني جذّابة بعد أن اعتادوا العمل كمساعد لي. ونظرًا لطبيعة الوظيفة، يفترض أن تكون علاقتي بمساعدي خالية من أي توتّر جنسي. لذا فقد بدا لي هذا الإحساس العارم لاأخلاقيًّا وخاطئًا وعرضيًّا. وتفاقمت حدّة التوتر بيننا إلى أن دخلنا في مشاجرة عبّرنا فيها عن كل مشاعرنا (أو عدمها). لحسن الحظ تمكّنوا على إثر هذه المشاجرة من ترك الوظيفة ولم نتحدث لبعض الوقت ما خفّف من وطأة الأمور. لكن تلك الحادثة لم تكن سوى بداية معركتي مع جنسانيّتي.

وبدأت رحلتي مع إيذاء الذات والاكتئاب والقلق النابع من عدم قدرتي على التعامل مع أحاسيسي. شعرت باللاجدوى من الصدق، فمن المستحيل أن أكون كويريّة، صحّ؟ أو هكذا قيل لي. ولكن كان ثمّة نور في نهاية النفق المظلم. وقد أدركت أخيرًا أنني لن أكون في نظر المجتمع شخصَا طبيعيًّا، فلم كل هذا الجهد؟

خرجت من تلك المرحلة متصالحة مع جنسانيّني من الداخل، وقد كان ذلك للحقّ أسهل من التصالح مع إعاقتي (أو ربّما بسبب إعاقتي التي جعلتني أتصالح مع اختلافي فلم أجد حرجًا من تقبّل عنصر إضافي من هذا الاختلاف). فإن كنت يونيكورنًا فما الذي يمنع أن أكون يونيكورنًا تقاطعيًّا؟ أمّا بالنسبة لعائلتي وأصدقائي فقد كنت انتقائيّة في إطلاعهم على حقيقتي. وقد كنت مدركة تمامًا للتنميط الذي يطال ذوي الاحتياجات الخاصة كأشخاص بلا ميول جنسيّة، بلا شهوة. وإن كان إقناع الآخرين بامتلاكي الرغبة صعبًا فقد كان الحديث عن عدم غيريّتي من المستحيلات. وقد عمدت إلى إخبار عدد قليل من الأصدقاء ممّن كنت أثق في تقبّلهم/ن ودعمهم/ن لي إذ لم تكن لدي الطاقة لإقناع الآخرين بالتخلّي عن أفكارهم/ن ومواقفهم/ن. بصراحة، كنت أجد صعوبة كافية في إقناع نفسي وفي صمّ أذنيّ عن ذاك الصوت الداخلي الذي ما انكفأ يقول: "لا يمكنك أن تكوني كويريّة، فأنت معوّقة". وهكذا واصلت حياتي بين الاختباء في الخزانة والخروج الانتقائي منها. ومن ثمّ بدأت العمل التطوّعي في عيادة قانونيّة لدعم الشباب الكويريّ.

وما إن بدأت عملي التطوّعي هذا حتّى بدأت حياتي تتداعى ومن دون سابق إنذار. في شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2018، سافرت إلى بلجيكا في إطار برنامج إيراسموس بلاس (Erasmus+) الدراسيّ التبادلي. هناك، تحوّلت التجربة التي أردتها أن تكون من أفضل التجارب في حياتي إلى كابوس حقيقي. فقد تعرّضت للإهمال وعدم الاكتراث من قبل مقدّمي/ات الرعاية الموكلين/ات بتلبية حاجاتي اليوميّة. ثلاثة أشهر أمضيتها في بلجيكا كانت الرعاية خلالها من السوء بحيث كنت أُترَك بلا طعام لأيّام أو في السرير أو موجوعة، كنت عاجزة عن الذهاب إلى الحمّام، ببساطة لم يحترموا الحدّ الأدنى من إنسانيّتي. وإثر عودتي في شهر كانون الأوّل/ديسمبر، بدأت تظهر عليّ أعراض بليغة لاضطراب كرب ما بعد الصدمة فلجأت إلى جمعيّة الميم التي كنت تطوّعت فيها أملًا في أن أجد ذراعين مفتوحتين لاستقبالي، وفي ظنّي أن من عانى من التمييز أقدَر على فهم معاناتي وعدم التمييز ضدّي، صح؟ أخطأتُ للأسف. يومها كان شعري لا يزال طويلًا وكان المظهر الأنثوي جزءًا لا يتجزّأ من شخصيّتي وطريقتي اللاصداميّة في التعبير عن رفضي للتصوّر المجتمعي عن الشخص ذي الإعاقة. وكوني ناشطة من أصحاب الهمم، كنت لا أفوّت فرصة للتعبير عن رأيي في ما يتعلّق بتأمين حريّة الحركة والوصول والدفاع عن حقوق الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة. ولا حاجة للقول إن شخصيّتي ومواقفي لم تتوافقا مع مواقف الجمعيّة. كنت حين أتكلّم أُجابَه بنظرات الاحتقار، وقد قوبلت بالتجاهل والرفض يوم طالبت بتوفير مَطلع للكراسي المتحرّكة. توقّفت عن ارتداء الملابس الأنثويّة وبدأت أتفادى وضع مساحيق التجميل على وجهي أو ارتداء الفساتين إلى الاجتماعات، لأن الفساتين ليست كويريّة كفاية. وفجأة باتت الأشياء التي كانت مبعثًا للراحة والطمأنينة في نفسي مصدرًا يوميًّا للضغط والرعب والإحساس بالاغتراب. وتنبّهت عند لحظة معيّنة إلى أنّني لم أعد أدافع عن معتقداتي وأفكاري فدخلت إلى خزانة أخرى، خزانة أصحاب الهمم. وقد نالت محاولاتي لطمس ذلك الجانب من شخصيّتي من صحّتي النفسيّة ففكّرت بالتخلّي عن نشاطي في مجال الدفاع عن مجتمع الميم وإخفاء هذا الجانب منّي فهو على الأقلّ أسهل من إخفاء إعاقتي.

وقد واجهت المعضلة عينها في مجال نشاطي المتعلّق بالدفاع عن حقوق ذوي/ات الإعاقة. هناك لم يكن في وسعي الحديث عن جنسانيّتي اللامعياريّة، وكنت كلّما أشرت إليها أُقابَل بالنظرات الحائرة على وجوه أصحاب الهمم والأشخاص العاديّين على السواء لأنّ أحدًا منهم لم يستطع أن يفهم لمَ قد "أرغب" في أن أحيا هذه الحياة. لم يستوعبوا حقيقة أن الأمر لم يكن مسألة اختيار.

وفي يوم من الأيّام وجدت نفسي وسط مسيرة الفخر المثليّة في لندن. ولا يمكنني أن أصف شعوري عندما شاهدت بعد 10 دقائق فقط من انضمامي إلى المسيرة أشخاصًا كويريّين من أصحاب الهمم وسط الحشود، فخورين/ات يلاقون الاستحسان والقبول بكلّ ما هم/ن عليه. بدأت أحصي عددهم/ن، ولكنّني توقّفت عن العدّ عند المائة. ولأوّل مرّة شعرت أنني تائهة وسط الحشود ولكنّني في الوقت عينه مرئيّة كما لم أكن من قبل. كانت تلك حقًّا أجمل لحظات حياتي. وقرّرت آنذاك أن لا جدوى من التخلّي عن ناشطيّتي لمجرّد أن الآخرين لا يستسيغونها. اتّخذت هذا القرار بالدرجة الأولى من أجلي لأنّي لم أنتفع يومًا من الاختباء في الركن المعتم. وثانيًا، من أجل أصحاب الهمم الكويريّين/ات الذين سيأتون من بعدي، لربّما يعينهم ذلك ولو قليلًا. ماذا يسعني أن أطلب أكثر من ذلك؟ في الخلاصة، حتّى وإن كنت مقعدة فسأبقى دومًا منتصبة القامة مرفوعة الرأس. لن يكون من السهل أن أحيا في عالمين منفصلين حيث الناس هنا وهناك عاجزون عن تقبّل حقيقتي كاملة بكلّ ما فيها من تعقيدات. وحيثما كنت، سأشعر دائمًا بقليل من الوحدة، ولعلّها سرّ جمال هذه الحياة. أينما ذهبت، سوف أرقص على إيقاعي الخاص وأسنّ قوانيني تبعًا للّحظة.

 

 
  • 1. Unicorn
  • 2. سأعمد في سياق هذه المقالة إلى خلط المصطلحات والتعابير لأنّني شخصيًّا لا أتبنّى أيًّا منها في المطلق. ولأنّني أعي حساسيّة الموضوع فقد آثرت أن أستخدم جميع المصطلحات شبه المقبولة علمًا أن آرائي الشخصيّة لا تصغّر ولا تقلّل من أهميّة المشاعر والآراء التي يمتلكها الآخرون حيال هذا الموضوع. *اقتراح لترجمة handicapable استنادًا إلى مصطلح رائج في بعض الدول العربيّة. (المترجمة)
  • 3. اعتمد ضمير الجمع للإشارة إلى الهويّة غير الثنائيّة. (المترجمة)
ملحوظات: