الإعاقة والعزل الاجتماعي: الاستجابات العقابيّة للتفاوت العصبيّ

السيرة: 

ياسمين هي كاتبة نسوية مقيمة في لندن. تعمل حاليًا على الدكتوراه في جامعة لندن للاقتصاد، قسم العلوم الاقتصادية وعنف سياسات الحياة (Biopolitics) في سوريا. تغرد على: 

 @yasmine_kherfi   

 

اقتباس: 
ياسمين خرفي. "الإعاقة والعزل الاجتماعي: الاستجابات العقابيّة للتفاوت العصبيّ ". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 2 (23 نوفمبر 2020): ص. 206-209. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 12 أكتوبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/250.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (354.26 كيلوبايت)

kohl-yasmine-s-draft-72dpi.jpg

Carceral Responses to Neuro-divergence

Aude Nasr

تندر المساحات التي تتصدى للتمييز المبنيّ على أساس القدرة/ الإعاقة في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا. هذا يعكس التأثير الهائل لنماذج التكيّف العقلي المجتمعية المميّزة بناءً على القدرة/ الإعاقة لجهة إحباط النقاشات المرتبطة بهذه المسألة، باعتبارها أمرًا محرّمًا أو "عيبًا". بالتالي، تصعُب مُناقشة مثل هذه المواضيع تحديدًا، من دون إدراك أن الإحباطات الناجمة عن الكتابة حولها (على سبيل المثال) هي نتيجة تغلغل الأنماط المجتمعية للرقابة الذاتية والعار، التي يجدر بنا مواجهتها تلقائيًا. لذا، يغدو مهمًا الكشف عن هذه السرديات المغيّبة، ولكن ليس انطلاقًا من "وجهات النظر الشرق أوسطيّة" المسلّم بها والمتّسمة باهتمام شعبي مفاجئ محكوم بتأخر "الدمج" في الخطابات السائدة المتعلقة بالتوعية حول مسائل الإعاقة، وإنما كمكوّنات تشكّل سجلّ معرفيّ إلكتروني يخدم أساسًا المجتمعات التي يحكي عنها ولها.

أشارك عبر هذا النص بعض الأفكار بصفتي مقدّمة الرعاية لشقيقي الأصغر المتعايش مع خلل جيني. في الحقيقة، ترتبط كلمات مثل "خلل" بالأساليب التي يبني من خلالها المجتمع مفهوم "السويّة". تُسلّط المقاربات التربوية لعدالة الإعاقة الضوء على هذه المحاججات اللغوية والسياسية لإبراز الإشكاليات الكامنة في الطرق التي من خلالها نفكّر ونحاكي بناء صورة مثالية عن ذواتنا. يتحدّى هذا النوع من التشكيك في المقام الأول التفاوضَ على المعايير الجسدية. ومن خلال ذلك، يُعطّل السرديات التي تختزل قيمة الحياة والتي لا تجعل من التنوّع العصبي مرضًا وحسب، بل تقصي وتهمّش التجارب التي تحيد عن النماذج المحددة سلفًا من قِبل نظام مبنيّ لمصلحة الرجال البيض القادرين جسديًا.

ساهم تزايد شبكات الدعم المتبادل الذي أعقب الجائحة التي نعيشها حاليًا في نشر وتعميم أنظمة الدعم المرتكزة على التضامن، والتي تبيّن حاجة الناس إلى بعضهم البعض، وتشير إلى ضرورة إحداث تغيير جذري لناحية فهمنا وعلاقتنا بالمجتمع، وأيضًا لناحية تعزيز أنماط التنظيم المجتمعيّ التي من شأنها أن تلبّي بشكل أفضل احتياجات الناس المتنوعة. لكن ذلك لا يعكس استجابة قطاع الصحة العامة مع الجائحة، حيث يتّضح جليًا كيف تُمنح الأجساد قيمة وتراتبية ورعاية متفاوتة، بناء على عمليات تقييم تنطلق من الفردانية لتحديد القيمة الإنسانية. تعتمد هذه المقاربة على مقاييس مثل الإنتاجية والكفاءة المرتبطين بشكل وثيق بالأخلاقيات الرأسمالية التي تجد في تعاظم الأرباح وسيلة رئيسية لتحديد القيمة البشرية وتحسين نوعية حياة الفرد. ليست هذه المقاييس محض تجريدات فلسفية؛ إنها تؤدي إلى إنتاج سياسات تفاقم ممارسات التمييز على أساس القدرة/ الإعاقة، وتزيد من تغلغلها في طرق التفكير والحياة اليومية والبيئة القائمة.

بالإضافة إلى عوامل مثل العرق والجنس والهرمية الطبقية، يتفاقم التمييز المبنيّ على القدرة/ الإعاقة أيضًا وفقًا لخصائص وأوضاع محدّدة من "الاستثناء" التي تشكّل الذاتيات السياسية في محيط ما، مثل تجارب الاستعمار الاستيطاني، أنماط مختلفة من الحكم والرقابة، الاحتلال العسكري، وحشية الشرطة، والتهجير القسري. ومع ذلك، غالبًا ما تكون الخطابات المهيمنة المتعلّقة بمسألة التمييز على أساس القدرة محدودة في تحليلها لواقع سلطة إخضاع أجساد وحيوات الناس (BioPower) وما يتداخل فيها من أنماط قمع متنوعة تعمل على تشكيل حياة الناس "غير القادرة جسديًا" في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا. وعلى الرغم من أهمية طرح إشكالية سرديات "الإدماج" وتعزيز فهم إمكانية الوصول، ترتكز الخطابات المهيمنة على مقاربات الحقوق التي تروّج لمبدأ الاستكشاف الفرداني لمفهوم التطوّر، مما يختزل بدوره نطاق النقاش، ويتناول "مسائل الإعاقة" بمعزل عن أشكال القهر الأخرى.

تندر مثلًا النقاشات التي تلقي الضوء على التصنيف العرقي "للعروبة" و"الإسلام" ومأسسة رهاب الإسلام في العديد من أقطار العالم، كعوامل تُفاقم أشكال "الأغيرة" للأشخاص ذوي/ات الإعاقة الذين/ اللواتي يجسّدون هذه الهويات. مثلًا، في العام 2017، أثارت قصة الأستاذ الذي أطلق على صبيّ مسلم مصاب بـ "مُتلازمة داون" في السادسة من عمره تسمية "إرهابي"،1 قلقًا شديدًا حيال سلامة الأطفال المسلمين المتنوعين عصبيًا (بأنماط مختلفة من التعبير والتواصل)، في خضمّ صعود للمناخ المعادي للإسلام في الولايات المتحدة الأميركية. وفي السياق نفسه، أدّى قتل الفلسطيني المصاب بالتوحّد إياد حلّاق2 إلى لفت الأنظار نحو إفلات دولة الاحتلال الاستيطاني من العقاب وعنف مستوطنيها المستعمرين تجاه الأشخاص ذوي/ات الإعاقة، على الرغم من صيت الجيش الإسرائيلي الذائع في ممارسة العنف العشوائي. وفي أماكن أخرى، يؤكد التعامل الوحشي لرجال الشرطة مع الأشخاص المختلفين عصبيًا على الحاجة الملحّة لربط النقاش حول عدالة الإعاقة بالإلغائية.3

من المهمّ أيضًا أثناء التفكير في تقاطعات الإعاقة والعرق أن نلاحظ كيف تتعرّض الجماعات المصنّفة بكـونها "غيرية" لأشكال مختلفة من العزل. فمنهج العقاب يتجلّى بشكل متصل ومتواصل عبر مختلف المؤسسات، مثل المجمّع الصناعي للسجون ومراكز احتجاز المهاجرين/ات ومراكز العلاج النفسي.4 فبالرغم من تاريخ المأسسة الطويل، ما زالت المدارس المنفصلة للأطفال ذوي الإعاقات موجودة وفاعلةً في الكثير من الأماكن، بحجّة أنها توفّر التعليم الخاص والمصادر التي لا يُمكن توفيرها لهم/ن بغير ذلك. ولكن بالنتيجة، تعزز مثل تلك المؤسسات الفصل والتمييز، بدلًا عن إصلاح أوجه التفاوت في النظام التعليمي. في المقابل، عوضًا عن البحث عن حلول دامجة، أو مساءلة تجاهل الأنظمة التعليمية لحاجات جميع تلاميذها، انتشرت المدارس المنفصلة كنظام موازٍ معزول تمامًا للأطفال والمراهقين/ات الذين/ اللواتي تهمل الدولة حاجاتهم/ن وتعتبرهم/ن أشخاص ثانويين/ات.

قادني ارتياد تجربة أخي الأصغر مدرسة منفصلة للأطفال والمراهقين/ات ذوي/ات "الحاجات الخاصة" في الخليج إلى التفكير في الطرق التي يجري من خلالها التعبير والتواصل حول القيمة الإنسانية، وفي كيفية فرضها عبر هندسة إقصائية. على الرغم من حسن الرعاية والنيّة لدى معلّمي/ات وموظفي/ات المدرسة والتزامهم/ن بعملية تعليم شقيقي، شعرتُ بالخجل لأنني أذعنت لوضعه ضمن بيئة مدرسية مغلقة وشبيهة بالسجن إلى حدّ كبير. لم تكن هناك خيارات متاحة أُخرى للتعليم. تدريجيًا، أدركتُ أنه بينما يبذل المعلّمون/ات قصارى جهدهم، تبقى هذه المؤسسات مصمَّمة في نهاية المطاف للعزل والإخفاء – بينما تعتبر الأنشطة المصمَّمة للاحتفال بالطلاب على انفراد، داخل جدران الفصل الدراسي، أنشطة تهدف إلى الادماج والإشراك الاجتماعي.

المشكلات التي يولّدها التمييز الإقصائي لا تعود في سببيّتها لأفراد معيّنين، بل هي نتيجة للبنية المجتمعية. ففي ظل الأبوية الرأسمالية، يُنظر إلى أشخاص معينين على أنهم هامشيون/ات واستثنائيون/ات وخاطؤون/ات وشاذون/ات، بحيث أن الاحتياجات التي لا تندرج ضمن متطلّبات التيار السائد، تتطلّب جهدًا شاقًا لا ينفع المنظومة القائمة. في الأصل، تروّج محاور الاضطهاد لمنطق تحسين النسل الذي يرفض حياة معيّنة، باعتبارها أقلّ شأنًا. غالبًا ما يعمل مصطلح "الإعاقة" كتصنيف عقابي للطُرق التي تُمكّن المؤسسات الاجتماعية من ممارسة التهميش المسبق الحتميّ، وتقييد الوصول إلى الخدمات المهمّة المصمَّمة ضمنيًا للقادرين/ات وحدهم/ن. يَسِم مصطلح "الإعاقة" الناس بكونهم/ن غير قادرين/ات اجتماعيًا بصرف النظر عن ظروفهم/ن واحتياجاتهم/ن الفعلية.

يتّضح ذلك تحديدًا في الاستجابة المجتمعية لمواصلة التعليم خلال فترة الجائحة. فإغلاق المدارس لأشهر عديدة أثار لديّ مشاعر مختلطة حيال الامتيازات المتوقّعة للحياة المدرسيّة "العاديّة"، التي حُرم منها فجأة الكثيرون من الأطفال والمراهقين/ات حرصًا على سلامتهم/ن. في حين يُفضّل العديد من الطلّاب التعلّم في المنزل حفاظًا على السلامة، إلا أنهم/ن واجهوا مستويات عدّة من العراقيل،5 إذ إنّ أدوات التعلّم الافتراضية مصمَّمة إلى حدٍ كبير لحاجات الطلّاب ذوي/ات الأجساد القادرة والمطابقة للنموذج العصبي "العادي". بالنسبة لهؤلاء، تراوحت الحالة الطبيعية المستجدّة بين متابعة الحصص إفتراضيًا، أو الذهاب إلى المدرسة شخصيًا مع الالتزام بإجراءات وقائية إضافية، أو مزيج من الإثنين. أمّا بالنسبة للأطفال الذين كانوا في مدارس منفصلة، شكل البقاء في المنزل غالبًا خللًا جذريًا في التعليم، حيث أن الفضاء الإلكتروني غير قادر دائمًا على توفير العديد من الأدوات والطرق التربوية التي يعتمدون عليها. من ناحية أخرى، لم يكن هناك شيء "طبيعي" في المدارس المنفصلة. في الحقيقة، لم يؤدّ استئناف التعليم المنفصل إلا إلى زيادة الإقصاء الاجتماعي والإهمال – فقد كان ذلك مستدامًا ومتخفيًا في مظهر من مظاهر الروتين قبل الجائحة، وسيستمر بطرق أُخرى بعدها، فاستئناف العمل كالمُعتاد يعني استئناف قسوة نظام يعزّز كُلاً من الضعف والتهميش.

لقد كشفت استراتيجيات الصحة العامة المعدّة بهدف التصدّي للوباء الحالي مدى تبلّدنا أمام لغة سياسات الموت ودوافع المجتمع الرأسمالي. بينما نعيد تخيّل الاحتمالات السياسية لأجل تحقيق تطلّعاتنا بمجتمعات شاملة ومتجذّرة في الرعاية والمساعدة المتبادلة في مضمار السعي إلى تحقيق التحرّر للجميع، كيف نقاوم شخصيًا إقصاء المُصابين/ات بإعاقات، ونعتني ونتضامن مع أولئك المتأثرين/ات به؟ علينا أن نغذّي ممارساتنا النسويّة على نحو مُشتبك، رافضين/ات سطوة منطق "المعيارية القادرة" والسردية الاختزالية في سياساتنا. الإعاقة ليست كتلةً واحدة. من أجل إظهار أشكال الرعاية التي نرغب برؤيتها في مجتمعاتنا، لا بُدّ أن نناضل لأجل حساسية السياق وفهم الفوارق الدقيقة للتحرّر والذي يشمل معالجة إشكالات التنوّع العصبي ومكافحة المؤسسات العقابية – الإقصائية بكلّ أشكالها القائمة.

 
ملحوظات: