الهيستيريا النسائية، العمل المحجوب، ونظام الكفالة
أودّ أن أتقدّم بشكري لشهد موصلي على عونها في مراجعة النسخة العربية من هذا المقال.
خلود فواز باحثة ومروجة صحية ومترجمة. حصلت على درجة البكالوريوس في علوم المختبرات الطبية وهي حاصلة على درجة الماجستير في الصحة العمومية من الجامعة الأمريكية في بيروت. تشمل اهتماماتها البحثية الرئيسية الصحة الجنسية والإنجابية وصحة مجتمع الميم والمشاكل الصحية بين السكان المشردين/ات. شاركت في المساحات النسوية، وهي عضو في تعاونية الضمة النسوية المحلية، ونادي السنديانة الحمراء في الجامعة الأمريكية في بيروت وهي مجموعة طلابية يسارية. تشمل خبرتها المهنية البحوث الطبية الحيوية في المركز الطبي للجامعة الأمريكية في بيروت، وإعداد التقارير في اليونيسف، وتعزيز الصحة في منظمة أطباء بلا حدود (MSF) مع التركيز على العنف الجنسي بين السكان اللاجئين/ات، وترجمة وتحرير مختلف مواد الصحة الجنسية والإنجابية و مواد نسوية لمشروع الألف وكحل على التّوالي.
kohl2.jpg
منذ عقود، اعتبر الطبّ أنّ الهيستيريا علة سريرية تصيب النساء،1 واستدلّ عليها بعوارض معينة كنوبات اهتياج عاطفية وسلوكيات جنسية متقلّبة وتغيرات في الشهية ونوبات غضب حادة. وبحكم الهيمنة الأبوية على مؤسسات الرعاية الصحية وإنتاج المعرفة العلمية بشكل عامّ، تم اعتبار هذه الحالة أنها قابلة للشفاء غالبا من خلال الزواج والحمل، أو إرسال النساء العليلات إلى مصحّات للعلاج، وكلّها وسائل شفاء شاع التصديق بفعاليتها.
لقد ساهم الإنتاج المعرفي والعملي النسوي بسياقه المحلي في فضح العديد من هذه الخرافات باطلة الأسس والتي شقّت طريقها إلى المجتمع العلمي ومجال الطب النفسي كمعرفة موثوقة في فهم طبيعة السلوك الأنثوي في سياقاته المختلفة.
اعتنق الخطاب الطبي هيمنة هذا المفهوم بتفسيره للسلوك "الهستيري" الأنثوي بكونه تعبيراً فطرياً عن اللاعقلانية التي تتسم بها النساء كاشفة بذلك عن ضعفهن المزعوم مقارنة بالرجال، بالإضافة إلى عدم قدرتهنّ على السيطرة على مشاعرهنّ.
يعاد الترويج لـ"الهستيريا" اليوم بأشكال مختلفة، سواء أطلق عليها هذا الاسم واعتبرت رسميا كحالة قابلة للتشخيص أم لا، فإنها تبقى معتقداً أبوياً متجذراً يسود المؤسسات ويصوغ التصورات و السياسات العلاجية المتعلقة بالنساء في البلدان الناطقة باللغة العربية وخارجها. هذه المعتقدات مرئية بوضوح في الأفلام والإعلام العربي على سبيل المثال حيث يتسم تمثيل النساء بالسطحية والأحادية. تتضمن الأنماط الشائعة في المسلسلات الفتاة التي تنتظر منقذها، وتلك المهووسة بالزواج، أو تلك المعذبة تحت وطأة تفكيرها بزوجها الخائن. بشكل عام، يتم تصوير النساء غالبا بكونهن شخصيات هستيرية، غير عقلانية، مبالغة في الدراماتيكية على عكس الرجال المتسمين بالاتزان والقدرة على ضبط مشاعرهم في وجه الشدائد. كما تتسم المسلسلات العربية بمشاهد الصّفع، حيث يظهر الرجال على أنهم شخصيات سلطوية أبوية تأديبية تمتلك الحق بمحاسبة النساء عبر صفعهنّ أو ضربهنّ عند الضرورة.2 لا تعبّر هذه النماذج المعروضة على الشاشة عن المعتقدات السائدة عن "الهستيريا" الأنثوية المتغلغلة في المجتمع بفعل الأيديولوجيا الأبوية فقط، بل تشهد كذلك على طرق التعامل بإسفاف مع معاناة المرأة واعتبار "ترويضها" حقاً يمارسه الرجل.
في الثقافة النمطية، يتم تهميش سلوكيات النساء وتعبيراتهنّ الجسدية وتجريدها من صفاتها السياسية، والتغاضي عن شرعية دورها في مقاومة المعاملة الظالمة التي تتلقاها النساء. ولكن، باعتبار الجسد موقعا للنضال السياسي، ينبغي لطرقه المختلفة في التعبير عن المعارضة والتمرد (الموصوفة بكونها هستيريا) أن تسمع وتستخدم لتحدي المفاهيم النمطية لما يشكل فعل مقاومة.
من المهم إعادة تعريف المفاهيم المتعلقة بالرفض والمقاومة لتحدّي هيكليات السلطة الأبوية التي تفرض خضوع النساء والفتيات، لذلك نحن بحاجة إلى فهم أكثر شمولية لكيفية ارتباط الحالات والاضطرابات النفسية باللامساواة والعنف الجندري الممنهج الذي تتعرض له النساء. يجب أن يُطعن بالنماذج التي تعامل النساء معاملة الأطفال معبرة عن معاناتهن كحالة يرثى لها، وأن يتم تفكيك المنظور الأبوي للهستيريا والاعتراف بها كطاقة محركة للغضب والفاعلية في وجه هيكليات القمع التي تضحي بالأفراد كقرابين لأمراضها المجتمعية تاركة بذلك خيارا وحيدا أمام النساء للتعبير عن سخطهن: أجسادهن. إن فرض صفة الأنوثة على طرق الاحتجاج غير النمطية (من ضمنها الأفعال غير اللفظية كالبكاء، الصياح، والصراخ) وإدراجها ضمن أعراض "الهستيريا" الأنثوية و"الجنون" يمثل بعضا من الطرق التي يتم من خلالها غسيل العنف الأبوي وممارساته اليومية. عندما تحدث تلك الممارسات العنيفة في المساحات المغلقة للمنازل وتحوّل الحياة المنزلية الى بيئة عدائية، أي طرق للتعبير تعتبر إذا مقبولة، فعّالة، ومتواجدة للنساء اللواتي لا يردن الإلتزام بالمعايير الجندرية المفروضة عليهنّ، أو اللواتي يرفضن الخضوع؟ أولئك الذين يستفيدون من إستغلال النساء ليسوا مهتمين أو موجودين في موقع يسمح لهم بفهم اللامساواة الجندرية التي لم تطلهم وأن يطلقوا أحكاما حقة على مختلف أفعال التحدي التي تمارسها النساء في مواجهة التصرفات المختلفة التي تستخدمنها كردّ على اضطهاد مماثل. ولكن في الواقع، تعمل الثقافة الأبوية على تعرية ما توصمه بالسلوك الأنثوي "المجنون" من ظروف السياق الذي يمارس ضمنه مما يؤدي لتهميشه وتنحيته كسلوك عديم الجدوى.
انطلاقاً من ذلك، ما هي المعرفة التي تحتاجها النساء والفتيات إذاً ليتمكنّ من ربط ما هو شخصي بما هو سياسي؟ كيف سيستطعن استيعاب الأساليب التي يتم من خلالها نزع الصفة السياسية عما يمارسن من آليات تكيّف ومقاومة للاضطهاد واستبدالها بوصمة علّة مرضيّة؟ وكيف سيتمكنّ من تحقيق هزيمة جماعية ضد هذه الأساليب؟ تستمرّ المعرفة النسوية بصقل التحليل الاجتماعي الذي نبذ الأبعاد الجندرية والاحتمالات التحررية للمرأة من نطاق تخصصه، حيث سعت المعرفة النسوية على سبيل المثال لتحليل استخدام الضعف كأداة للمقاومة، كما طوّرت من المنظومة المعرفية والعملية النسوية لخلق مساحات ضرورية (في العالم الافتراضي وعلى أرض الواقع) لتحسين التنظيم النسوي التقاطعي (بتلر وآخرون، ٢٠١٦). ولكن، توجد فجوة بين النظرية والممارسة، حيث أن موارد وأدوات التثقيف والتنظيم الجماعي ليست متاحة لمعظم النساء والفتيات، اللواتي يجدن أنفسهن يتّكلن بشكل أساسي على المعرفة التي شكلّنها من خلال تجاربهنّ الشخصية مع التحرش الجنسي، العصبية الذكورية وكراهية النساء والمواجهات المختلفة مع النظام الأبوي الذي يصيغ وعيهنّ حول النضال في وجه اللامساواة الجندرية.
إضافة لما سبق، من المهم الإشارة للأنظمة التعليمية وموقفها من المعرفة النسوية حيث تشكك بشرعيتها الكافية ليتم إدخالها في المناهج التعليمية. أما اولئك الذين/اللواتي يملكون/يملكن إمتياز الحصول على تعليم عالي، فغالباً ما يتعثرون/يتعثّرن بالصدفة بحلقات دراسية إختيارية (تدرسها أقسام تخوض معركة مستمرة حفاظا على وجودها) توفر المساحة اللازمة لتطوير الوعي النسوي بشكل متعمد.
يتمثل جزء من الإغتراب الذي تروج له المنظومة الأبوية الرأسمالية، في إخضاعه للنساء في عملية فصل العوامل المسببة للاضطهاد عن مظاهره، حيث يُنظر للصراخ ونوبات الغضب وغيرها من الانفعالات العاطفية التي تظهرها النساء أحياناً بمعزل عن كونها ناتجة عن القهر الجندري أو كونها أفعال مقاومة ضده. عوضاً عن ذلك، تنشأ النساء والفتيات على الروايات الأبوية التي تبرّر هذه التصرفات على أنها "بيولوجية" و"أعراض للدورة الشهرية" وتبريرات أخرى توحي إلى أنّ اللوم يقع على التغيرات الهرمونية وأسباب أخرى. يستمرّ قطع الروابط بين منظومة السبب والمسبب جزئياً بفعل ضعف وصول النساء إلى المواد التثقيفية وآليات الدعم الاجتماعي الضرورية ليس لفهم النظم القمعية التي تستغلّهن وتسميتها ومقاومتها فقط، بل لإدراك أن العنف يستمرّ من خلال كتم بحور آلامهنّ، غضبهنّ، وإحباطهنّ أيضاً.
الهستيريا الأنثوية والعمل القائم على النوع الاجتماعي
تظهر العلاقة بين الصحة النفسية والنظام الأبوي بشكل واضح من خلال الأدوار الجندرية المحددة التي أثّرت تاريخيا على عملية تقسيم العمل. وبالتحديد، فقد فرّقت البنى الاجتماعية في ظل النظام الأبوي بين أنواع العمل التي تستطيع ويحقّ للنساء ممارستها وأنواع العمل التي يستطيع ويحقّ للرجال ممارستها. يملي هذا النموذج الثنائي اعتبار الرجال معيلين لأسرهم وبالتالي اعتبار مساهمتهم في القوة العاملة إجبارية، بينما تصنف النساء ربّات لمنازلهم ومقدمات للرعاية. إن الأعراف الاجتماعية والمؤسسات المبنية تبعاً لهذا التقسيم لا تنفي النساء إلى الدائرة المنزلية فحسب، بل تضع شروطاً غير متساوية لمشاركتهنّ في سوق العمل الذي صمّم من قبل الرجال ولا يزال يُدار من طرفهم بشكل مطلق. وفقاً لهذا السياق، تم تهمّيش النساء منذ البداية، وحرمانهنّ من العمل في ظلّ شروط متساوية الكرامة.
إضافة إلى ذلك، وفي ظلّ العولمة ونظام السوق الحرة النيوليبرالية الرأسمالي، أجهضت النسوية مبادئها الجوهرية التي تنص على العدالة الجندرية (شاهفيزي، ٢٠١٥) واختزلت إلى بدعة تدفع لتمثيل أكبر للنساء وللتنوع الجندري في مختلف المؤسسات (المصدر السابق). وفي هذا السياق، اتخذ الفكر النسوي قالب "نسوية الشركات" المعني في نهاية المطاف بزيادة مبيعات الشركات وترويج علاماتها التجارية من خلال "النسوية الدّعائية". هذا المجهود السطحي يشغل بالنسبة الأكبر لحملات ومبادرات "تمكين النساء"، ولربما تساعد هذه المبادرات النساء ذوات الامتيازات لتطوير مسارهنّ المهني، إلا أنها في الوقت ذاته تكاد لا تقدم أي مساهمة تذكر لترويج العدالة الجندرية لمعظم النساء حول العالم.
تتم الاستعانة في البلدان ذات الدخل المرتفع بمصادر خارجية لتأمين الرعاية (العمل المنزلي والعمل العاطفي) متجسدة بالنساء الفقيرات القادمات من بلدان ذات دخل أدنى، مدفوعات غالباً بظروفهن الاقتصادية3 للهجرة وممارسة العمل المنزلي، وإرسال حوالات نقدية إلى بلدانهنّ للمساعدة في إعالة عائلاتهنّ (شاهفيزي، ٢٠١٥). وكما في مختلف بقاع الأرض، تستفيد أنظمة ضبط الهجرة المتشابهة من إستغلال النساء والفتيات الفقيرات، لذلك من المهم ربط معاناتهنّ المحلّية بالنظام العالمي الذي يعيد إنتاج دوائر الاتكالية على النساء ويبخس من قيمة عملهنّ. الفقر أيضاً متعدد الأبعاد وتقاطعي، يتقاطع مع الفروقات العمودية (المبنية على المدخول والطبقة)، والفروقات الأفقية (الناتجة عن التمييز بحسب الهويات الاجتماعية المهمشة والأعراف الموضوعة)، كالعرق والجندر والإثنية (كبير، ٢٠١٥). إلا أن أكثر أشكال الحرمان حدّة هو الحرمان الجامع لتركيبة من هذه العوامل المختلفة، مما يفسّر سبب معاناة بعض النساء من "الفقر المزمن" أكثر من غيرهنّ أو بقائهن في حفرة الفقر (المصدر السابق).
نظام الكفالة
يتزايد الإعتماد على عاملات المنازل المهاجرات للقيام بأعمال الرعاية وبالأخص بين أولئك المتمكنين/المتمكنات ماديّا من توكيل آخرين للقيام بالأعمال المنزلية وتربية الأطفال بدلاً عنهم/عنهنّ. وعندما يتعلّق الأمر بصحّة النساء النفسية في ظل النظام الأبوي، فإن العاملات المنازل المهاجرات هنّ الأكثر والأعمق تأثراً. يمثل نظام الكفالة نموذجاً صريحاً عن ذلك ولا يزال يعتبر موضوعاً حُرّم نقاشه. توظّف عاملات المنازل المهاجرات في كثير من دول الشرق الأوسط (مثل لبنان، الأردن، الكويت، البحرين، والسعودية)، كعاملات منزليات من خلال رعاية قانونية يقدمها الكفيل أو ربّ العمل، وتخضع العاملات خلال إقامتهنّ للمراقبة الصارمة المفروضة في ظل تبعيتهن الاقتصادية والقانونية لكفيلهنّ. تتم هذه العملية من خلال عقد عمل لا يمكن إبطاله إلا بموافقة الكفيل/ة نفسه/ا مما يمنحه/ها نفوذاً كبيراً في تقرير شروط العمل والرّاحة. وفي ظلّ هذه العلاقة الأبوية، تصبح آليات المحاسبة التي تضمن حماية الموظف من الإستغلال والأذى محدودة أو معدومة في معظم الأحيان. تقيّد حرية تنقّل العاملة بشكل مشدد عند وصولها وخلال مدة إقامتها، ولقد شرحت عاملات المنازل المهاجرات الطرق التي تستخدم لمراقبة تحركاتهنّ عن كثب في المطار على سبيل المثال، حيث توضعن في غرف "معزولة" أثناء إنتظارهنّ لمشغلـ/ـتـ/هنّ ليـ/تقلّهنّ في بداية فترة عملهنّ (جيمّا وآخرون، ٢٠١٦). في بعض الأحيان، تنتظر العاملات لأيام بسبب إهمال كفيلـ/ـتـ/هنّ، مع القليل من الطعام والشراب (المصدر السابق). الظروف أثناء الليل تضع العاملات المهاجرات الأجنبيات في خطر أيضاً، حيث سجّلت حالات من التحرّش الجنسي في غياب الحرس الليلي المسؤول (المصدر السابق).
يـ/تتجرأ العديد من المشغّلين/ات على إستغلال عاملتهنّ المكفولة ويفلتن/ون من العقاب (كعدم دفع الأجر أو دفع معاش ناقص)، كما أن عدم وجود إطار لحماية العاملة في ظل نظام الكفالة يجعل عاملات المنازل عرضة للإعتداء الجسدي والتحرش الجنسي. وقد وصفت عاملات المنازل المهاجرات في بيروت تجاربهنّ في مساحات موثوقة كاشفات عن التطبيع والتكرار المخيفين للعنف الجنسي والعنصرية التي يتعرّضن لها، سواء من خلال الإقصاء الممنهج الذي يحرمهنّ من الوصول إلى المساحات العامة أسوة بباقي سكان المدينة أو من خلال العنصرية اليومية والتحرش والتعدي الجنسي العرقي (جيمّا وآخرون، ٢٠١٦). تسجّل المنظمات المحلية شبكة الانتهاكات التي تتعرض لها العاملات المهاجرات الأجنبيات4 ونسب الإنتحار المرتفعة5 الناتجة عن هذه المعاملة الإستغلالية.
لكن الخطاب المسيطر يظلّ ذلك الذي يعتبر مشاكل الكفالة مشاكل فردية، مشيراً إلى أن معظم الكفلاء/الكفيلات يعاملن/ون موظفاتهم/نّ بإحترام، ولكن هذا لا ينفي الوجود الدائم لبعض التفاح الفاسد (باندي، ٢٠١٣). في المحصّلة، في النقاش حول العمالة المنزلية المهاجرة، تركّز التحليلات على الحلول الموضعية العلاجية، كطرق التعامل مع المشغّل/ة السّيئ/ة، أو نوع النصائح التي يجب تقديمها لهم/نّ (المصدر السابق)، ونادراً ما تتجسد أفكار عن تدخلات هيكلية تهدف إلى تغيير الإطار الأبوي من أساسه في الخطاب السائد.
إن عدد "التفاح الفاسد" ليس مهمّاً عندما تبقى المشكلة الأساسية تتمثل في أن نظام الكفالة هو نظام عمل يسمح بإنتشار استغلال العمالة الأجنبية (والتي تشكل النساء معظمها) منذ البداية، وبالتالي يزيد عرضتهنّ للإستغلال (منصور-إلي وهندو، ٢٠١٨|). يخصخص نظام الكفالة المسؤولية تجاه عاملات المنازل، اللواتي يصبحن تابعات وظيفيا لربّ/ربّة العمل عوضاً عن الدّولة (باندي، ٢٠١٣). كما يردع الاتفاق المؤسساتي العاملات المهاجرات عن اللجوء إلى طرف ثالث لمعالجة أي من مخاوفهنّ أو لحلّ النزاعات المتعلقة بالعمل. عوضاً عن ذلك، صمم النظام بهذه الطريقة لجعل الخيار الوحيد المتاح للعاملات والعمال هو اللجوء لمشغّلـ/ــتـ/هم المسيئ/ة الذي يرتبطن به/ا قانونياً (المصدر السابق).
وفقاً لما سبق، فإنه بدون آليات قانونية-إجتماعية مناسبة لتحميل المشغّلين/المشغّلات مسؤولية أفعالهم، وغياب طرف ثالث بإمكانه أن يتوسّط في المشاكل بين المشغّل/ة والعاملة، تضطّر عاملات المنازل المهاجرات إلى اللجوء لأساليب غير قانونية بنظر الدّولة، كالهرب من العائلة التي يعملن لديها. ولأن الهرب من المشغّل/ة تصرّف شائع، يحاجج الكثيرون أن نظام الكفالة ينتج طبقة ضعيفة من عاملات المنازل المهاجرات اللواتي يسكنّ بشكل غير رسمي في الدولة المضيفة، ويعانين لإيجاد طرق لكسب قوتهنّ (باندي،٢٠١٣).
يجب علينا التشكيك في استخدام القانون كمعيار للخيارات المتاحة لعاملات المنازل المهاجرات، فكيف بإمكاننا اعتبار سلطة القانون شرعية في إدعائها تحقيق العدالة، حين تؤيد أنظمة عمل تؤدي إلى عنف جندري، وإلى الحكم على النساء والفتيات بالبقاء عالقات في دوائر من العمل الاستغلالي، وتجريمهنّ عندما يحاولن الهرب؟ عندما يكون القانون ذاته أداة اضطهاد، يصبح عاجزا عن تأمين حلول مستدامة لتلك اللواتي يميّز ضدهن. النظام الذي يمأسس هياكل العمل الظالمة لا يمكن أن يعتمد عليه لإعادة تأهيل من يتعرضن للعنف الذي صنعه. لذلك، يجب التشكيك بقدرة قوانين العمل على خدمة وحماية النساء المهاجرات بحكم كونها متواطئة مع الإستغلال الجندري للعاملات. تاريخيا، حدّدت تشريعات قانون العمل ضمن أراضي الدولة لحماية مواطنيها، ومع ذلك فقد تم إهمال العمل المنزلي وعمل الرعاية غير المأجور مما يعكس موقع النساء المهمش في مؤسسات العمل بشكل عام (فادج،٢٠١٤). ومن خلال توسّع سلاسل الرعاية العالمية، توسّعت هذه العملية بشكل أكبر تاركة العاملات المهاجرات الأجنبيات خارج نطاق أنظمة القوانين التقليدية، مجردات من القدرة على اللجوء إلى نصوص قانونية فعّالة لحمايتهنّ (المصدر السابق).
تواصل عاملات المنازل المهاجرات مكافحتهن لهذه الأشكال الممأسسة للقمع من خلال المقاومة الفردية والجماعية، وبالرّغم مما يواجهنه من تضييق على تنقلاتهن في لبنان على سبيل المثال، يلجأن إلى التنظيم من خلال الوسائل المتاحة بين أيديهن، على شكل "حديث الشرفات" (عندما لا يستطعن الخروج من المنزل)، التجمعات غير الرسمية في الكنائس، أو من خلال العمل مع منظمات محلية (منصور-إلي وهندو، ٢٠١٨). لقد ساهمت عاملات المنازل المهاجرات عبر نضالهنّ ضد اللامساواة الجندرية وظلم العمل، في تأسيس حركة نقابية وواصلن المشاركة في مبادرات شعبية قاعدية، كمسوات6، شبكة تضامن أسستها راحل زيغاية عام ٢٠١٨ تهتمّ في الدفاع عن حقوق العاملات المهاجرات الأجنبيات في لبنان. وفي سبيل التعايش ضمن بيئة عنصرية وعدائية، تعبّر عاملات المنازل المهاجرات عن فاعليتهن من خلال ممارسات متجسدة "بالهستيريا" أيضاً، وقد شاركت العديد منهن الطرق التي يستخدمنها للرد على التحرش الجنسي في المواصلات العامة وفي المساحات داخل بيروت من خلال تجاربهنّ الشخصية:
مرة رميت كيس سمك على سائق تاكسي متقدم في السّن (...) الرجل العجوز لمس مؤخرتي. أقمت الدنيا ولم أقعدها في الباص. صفعته وصرخت على السائق حتى ينزله من الباص (...) كان بحوزتي قنينة زجاجية واستخدمتها لأذية الرجل. شرحت لرب عملي ماذا فعل ولكن الشاب كذب وأصرّ أني هاجمته بالقنينة بلا سبب. (جيما وآخرون، ٢٠١٦)
إن الروايات الموثقة كهذه، لا تعطي مثالاً عن قوة عاملات المنازل المهاجرات في ظل النظام الأبوي الذي يخضعهنّ فحسب، بل كذلك تسلّط الضوء على الطرق التي يتم من خلالها دحض مظالمهنّ ومخاوفهنّ، وحتى تجريمها في بعض الأحيان.
نظام الكفالة ليس نظاماً فريداً من نوعه، إذ أنّ الأبوية ليست محدودة، فلا بد من توجيه الجهود لتحدي هيكليات العمل التي تنظم قيمة النساء في تراتبية هرمية، وتطبّع إستغلالهنّ، وتساوم على صحّتهنّ النفسيّة.
كنساء ذوات بشرة ملونة، مصنفات عرقيًا، منظموا ومنظّمات مجتمع، مؤسسوا/مؤسسات حركات سياسية أو إجتماعية، وحلفاء، علينا أن نسأل أنفسنا: ما درجة التقدم الذي وصلناه في ربطنا لما هو شخصي بما هو سياسي، في كشف العلاقة بين صحة النساء النفسية والنظام الأبوي الذي يخضعهنّ؟ في الوقت الذي تتحدى فيه المجموعات النسوية، والمنظمات الشعبية، والجهود المبذولة للتعبئة الاجتماعية الوضع الراهن وتدفع لتغيير تقدمي، يبدو أن العلاقة بين عمل النساء، الصحة النفسية، ومقاومة النظام الأبوي لم تحظى بالاهتمام الذي تستحقه من قبل الخطاب الشائع في البلدان الناطقة باللغة العربية.
ينبغي العمل على محو الوصمة التي تعرّف النقاشات حول "صحة و/أو جنون" تصرفات أنثوية محددة في المجال المنزلي بشكل عام، كالانهيارات العصبية والبكاء ونوبات الغضب؛ وهي ردّات فعل استُخدمت تاريخياً لتشهد زوراً على "لاعقلانية" سلوك النساء وطبيعته العاطفية. بدلاً عن ذلك، يجب فهم هذه التصرفات من منظور لا يتجاهل طرق المقاومة المجسّدة ضد الظروف الاستغلالية للنظام الأبوي الذي يروّج خضوع النساء، ويبخس قيمة عملهنّ، ويسخر من غضبهن ويهمّشه.
كنسويات، علينا تحليل الاستراتيجيات الموجودة للتنظيم المجتمعي بغية التركيز على الروابط بين العمل القائم على النوع الاجتماعي والصحة النفسية. حينها فقط، بإمكاننا إعادة تأطير دور حركات المقاومة والتمرد غير النمطية والتي تم تهميشها تاريخياً ويستمر طمسها من قبل الأيديولوجيا الأبوية.
- 1. https://bit.ly/2FkFx4m
- 2. https://bit.ly/2FiivLE
- 3. تشرح أريان شاهفيزي الطرق التي عولمت ظلم النساء من خلال برامج تخفيف الديون التي تطبق في البلدان ذات الدخل المتدني التي تؤثر بشكل خاص على النساء الفقيرات وتؤدي إلى تأنيث العمل، في قطاعات محددة كصناعة الملابس ولكن أيضاً خارج حدود تلك البلدان مع إرتفاع العمالة المنزلية الأجنبية.
- 4. https://www.migrant-rights.org/
- 5. https://www.hrw.org/news/2008/08/26/lebanon-migrant-domestic-workers-dying-every-week
- 6. http://mesewat.com/
Butler, Judith, Sabsay, Leticia, and Gambetti, Zeynep. Vulnerability in Resistance. Durham: Duke University Press, 2016. Print.
Fudge, Judy. “Feminist Reflections on the Scope of Labour Law: Domestic Work, Social Reproduction, and Jurisdiction.” Feminist Legal Studies vol. 22, no. 1 (2014): 1-23.
Gemma, Rose, Mala, Meriam, and Julia. “Resisting Borders: a Conversation on the Daily Struggles of Migrant Domestic Workers in Lebanon.” Kohl: a Journal for Body and Gender Research vol. 2, no. 2 (2016): 140-153. (Last accessed on 07 June 2019). Available at: https://kohljournal.press/resisting-borders.
Hochschild, Arlie Russell. “Global care chains and emotional surplus value.” In On the Edge: Living with Global Capitalism. Eds W. Hutton and A. Giddens. London: Jonathon Cape, 2000. 131-146. Print.
Kabeer, Naila. “Gender, Poverty, and Inequality: A Brief History of Feminist Contributions in the Field of International Development.” Gender & Development vol. 23, no. 2 (2015): 189–205.
Mansour-Ille, Dina, and Hendow, Maegan. “From Exclusion to Resistance: Migrant Domestic Workers and the Evolution of Agency in Lebanon.” Journal of Immigrant & Refugee Studies vol. 16, no. 4 (2018): 449–469.
Pande, Amrita. “‘The Paper that You Have in Your Hand is My Freedom’: Migrant Domestic Work and the Sponsorship (Kafala) System in Lebanon.” International Migration Review, vol. 47, no. 2 (2013): 414–441.
Shahvisi, Arianne. “Feminism as a Moral Imperative in a Globalised World.” Kohl: a Journal for Body and Gender Research vol. 1, no. 1 (2015): 5-14. (Last accessed on 07 June 2019). Available at: https://kohljournal.press/feminism-as-a-moral-imperative