كيف يؤثّر التقشّف على النساء: الاقتصاد السياسي الأعمى
kohl2.jpg
في كلّية الإعلام في الجامعة اللبنانية، حيث أكملت تعليمي في "اختصاص" الصحافة، لم يكن يلفتني عمق التفاوتات على أساس النوع الجنسي، فقد كانت الصفوف مليئة بالطالبات الإناث، وأحياناً، أكثر من الطلّاب الذكور، ولم تكن غلبة الأساتذة الذكور تعني لي الكثير، فكنت أنظر إلى الأمر على أنه عادي لا غرابة فيه.
لا يعني ذلك أنني لم أكن أعاني من التمييز كغيري من الفتيات، بل بالعكس، فقد عشت ظروفاً جعلتني أختبر أصنافاً شتّى منه، ولا سيّما أن أمّي اضطرت للعمل بشروط مُجحِفة لتعيل الأسرة بعد خسارة والدي لعمله، واضطررت أنا للعمل في سنٍّ مُبكرة كي أخفِّف عنها هذا الثقل الرهيب. ولكن كنت أعتقد، كما الكثيرين، أن التعليم هو "المُنقذ"، والشهادة الجامعية هي "خشبة الخلاص الفردية" في ظلّ هذا النظام القائم على المُزاحمة.
لا أعرف تماماً كيف تسرَّبت إليّ تلك الفكرة التي تزعم أن المسألة كلّها تتعلّق بموهبة الفرد وحسن إعداده وكفاءته، بالإضافة طبعاً إلى الحظّ. وكأن لا علاقة أبداً للسياسات العامّة والنظم القائمة في ترسيخها. فوجدت نفسي، بعد إنهاء "اختصاص" الصحافة وبدء العمل فيه، أتابع "اختصاصاً" جديداً، في العلوم السياسية، لتطوير كفاءات إضافية كمدخل للمزيد من الحظوظ. لم يكن لديّ شكّ أن كلّ ما عليّ فعله هو أن أبذل كلّ جهودي كي أثبت جدارتي في الجامعة وأقتنص المزيد من الفرص في العمل. إلّا أنني الآن، وبعد سنوات من بدء عملي كصحافية، ما زلت أختبر التمييز، لا بل المزيد من أصنافه، في مكان العمل كما في مكان العيش، حيث يتمّ إقصاء النساء أو استغلالهن في العمل غير المدفوع الأجر، وحيث أجور النساء أقلّ من أجور الرجال، والفرص بينهما غير مُتكافِئة، وحيث تُضطر النساء لبذل جهود مُضاعفة لرعاية الأسرة والعمل خارج المنزل في آنٍ، ونتعرّض في هذا السياق للكثير من أنواع العنف والتحرّش والإخضاع.
لقد سمح عملي الحالي كمُحرِّرة في ملحق "رأس المال" (وهو ملحق اقتصادي أسبوعي يصدر مع صحيفة "الأخبار")، أن أفهم أكثر "الاقتصاد السياسي" للنظام الاجتماعي الذي نعيش فيه، وبالتالي إدراك خلفيّات التمييز الذي لطالما عشته، حيث الأبوية والذكورية هما توأم الرأسمالية، وليستا من بقايا ما قبلها أو من العناصر الدخيلة عليها، وحيث أن التمييز المُمارس ضدّ النساء هو المظهر الأكثر نفوراً للتمييز الطبقي نفسه وآليات الاستغلال وأشكال تقسيم العمل في النظام الرأسمالي. ولكن هذه التجربة المهنية الجديدة نبّهتني أيضاً إلى أن "الاقتصاد"، كما هو شائع، لا سيّما في الصحافة والإعلام والتقارير والندوات المتخصِّصة، يتجاهل النساء كلّياً، ولا يدرس تأثير السياسات والمؤسّسات عليهن، كما لا يعيرهن أي اهتمام إلّا في إطار الحثّ على زيادة إشراكهن في سوق العمل من أجل زيادة النموّ الاقتصادي وتراكم رأس المال واستخلاص فائض القيمة في "جيش العاملات الاحتياطي" والأجور المنخفضة.
في هذا السياق، يشكّل برنامج "التقشّف"، الذي تنفّذه الحكومة اللبنانية من خلال موازنة العام 2019، مثالاً مناسباً عن "العمى" الذي يُصيب الاقتصاد الشائع وتغييب المقاربات التي تندرج في ما يُسمّى "الاقتصاد النسوي"، أي النظم التي تهتمّ بالنشاط الاقتصادي للمرأة عبر استشكاف الحياة الاقتصادية بشموليتها، بما فيها اقتصاديات الأسرة وأهمّية الروابط والعاطفة في الظواهر الاقتصادية والأدوار الجندرية في الاقتصاد. فقد قرّرت الحكومة تخفيض العجز في المالية العامّة لشراء المزيد من الوقت الثمين، وإطالة أمد حياة النموذج الاقتصادي القائم، بحيث يقضي هذا البرنامج بتخفيض الإنفاق الاستثماري على الخدمات الأساسية والبنية التحتية والحماية الاجتماعية، ولا سيّما التحويلات إلى الجمعيّات والبرامج الرعائية والصحّية والتعليمية، بالإضافة إلى قصقصة أجور وتقديمات الموظّفين والمتقاعدين وعدد أيام الإجازة السنوية وغيرها... كذلك يقضي بفرض رسوم جمركية على السلع المستوردة وزيادة الضريبة على ربح الفوائد وعدد من الرسوم والضرائب الأخرى، فضلاً عن استهداف العمّال والعاملات المهاجرين برسوم إقامة وإجازات عمل باهظة.
هذه الإجراءات التي تقدّمها الحكومة بوصفها "إصلاحات ضرورية" لمكافحة الهدر والإنفاق غير المُجدي، سيترتّب عنها آثارٌ سلبية على الفئات العاملة وبالتالي على الأسر، خصوصاً أن تغطية أكلاف هذه الخدمات ستستنزف حصّة أكبر من ميزانيتها، كنتيجة مباشرة لتخلّي الدولة عن وظيفتها الأساسية في توفير الخدمات العامّة والحماية الاجتماعية، والتي جُيّرت مسؤولية تأمينها طوال العقود السابقة إلى الجمعيّات الأهلية والطائفية، حيث خصّصت الدولة جزءاً من ميزانيّتها لتمويل جزء من هذه الكلفة. إلّا أن برنامج التقشّف المطروح سيؤدّي حتماً إلى زيادة الضغوط على النساء، اللواتي يُجبرن في ظلّ هذا البرنامج التقشّفي على القبول بشروط عمل مُجحفة وغير عادلة، وفي الوقت نفسه، بذل جهود أكبر للتعويض عن نقص الدعم والرعاية وارتفاع الأسعار وكلفة المعيشة.
تشكّل النساء 23% من مجمل اليد العاملة في لبنان وفقاً لإدارة الإحصاء المركزي. وأكثر من 30% من النساء العاملات يُصنّفن في فئة العمالة غير الماهرة، على الرغم من أن أكثر من 56% من حملة الشهادات العالية هن نساء وفقاً لمجلس البحوث العلمية. تأتي هذه الأرقام لتؤكّد نتائج دراسات سابقة، تُبيّن أن معظم حالات خروج النساء من العمل تحصل في محطّتين أساسيتين من حياتها، وهما الزواج أو إنجاب الأطفال، وهو ما لا يحصل بالنسبة إلى الرجال. ويعود ذلك في شكل رئيسي إلى النظام الأبوي الذي يلقي مسؤولية رعاية الأسرة والاهتمام بالمنزل على عاتق المرأة من جهة، ومن جهة أخرى إلى عدم توافر الخدمات العامّة – أو متدنّية الكلفة، مثل دور حضانة الأطفال ورعاية المسنِّين، التي تتيح للمرأة إمكانية تكييف مشاركتها في العمل مع خيارها بالزواج وتأسيس أسرة. وبالإضافة إلى ذلك، يبيّن مؤشّر "رأس المال البشري" الصادر مؤخّراً عن البنك الدولي، والذي يقدّر القيمة التي سينتجها في المستقبل كلّ طفل يولد اليوم تبعاً لظروفه الصحّية ومكتسباته التعليمية بأن "الطفل الذي يولد في لبنان، اليوم، لن يكون مُنتجاً عندما يكبر إلّا بنسبة 54% من قدرته الفعلية على الإنتاج، لأنه ببساطة لن يحظى بالتعليم المناسب والصحّة الجيّدة بالقدر الكافي لاستغلال طاقته الإنتاجية الكاملة، وهو ما سيحرُم الاقتصاد من 46% من طاقته الكامنة" (زبيب 2018)،1 ويعود المصدر الأساسي لهذا الهدر في الطاقة الإنتاجية إلى تراجع "دولة الرعاية الاجتماعية" وإقصاء النساء عن النشاط الاقتصادي، ولا سيّما المتعلِّمات منهن.
ينطوي التقشّف على عداء واضح للنساء، فهو يزيد من تهميشهن واستغلالهن ويؤدّي إلى زيادة اللامساواة الجندرية، ويزيد كمّية العمل الرعائي غير المدفوع الأجر المفروض عليهن في ظلّ النظام الاجتماعي وتقسيم العمل فيه، والذي يُلقي على النساء عبء الاستعاضة عن دور الدولة وواجباتها في تأمين التعليم والطبابة والاستشفاء والخدمات الرعائية والحماية الاجتماعية. إذ تبذل النساء آلاف الساعات من العمل غير المدفوع الأجر في رعاية الأطفال والمرضى والمسنّين والطبخ والتنظيف... في تقرير بعنوان "عمل الرعاية ووظائف الرعاية من أجل مستقبل العمل – 2018"، صادر مؤخّراً عن منظّمة العمل الدولية، يتبيّن أنه "في مقابل كلّ 303 دقائق تقدّمها النساء في لبنان يومياً لرعاية الأطفال، يقدّم الرجال 111 دقيقة"، أي نحو الثلث فقط، وهو عمل يفاقم اللامساواة التي باتت سمة بارزة في كلّ البلدان، حتى المتطوّرة منها وإن بدرجات متفاوتة، ويسرق وقت النساء ويجعلهن غير قادرات أو عاجزات عن تخصيص وقت للتعليم والمشاركة السياسية والاقتصادية.
في الدورة الثالثة والستين لـ"لجنة وضع المرأة" التابعة للأمم المتّحدة، والتي عُقدت في آذار/ مارس الماضي، شكلّت نظم الحماية الاجتماعية والخدمات العامّة والبنية التحتية المُستدامة، المحاور الأساسية للنقاش باعتبار أن تأمينها وتوفيرها من قِبَل الحكومات سيؤدّي إلى تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة والفتاة. لذلك، وانطلاقاً من كون الدولة، في المفهوم السائد للمُصطلح، هي مسؤولة عن أمن ورفاهية المجتمع المقيم فيها، وتملك كلّ الأدوات التي تسمح لها بفرض السياسات التي تراها مناسبة لتطوير هذا المجتمع، يصبح عندها الحديث عن تعزيز دور المرأة وتمكينها وزيادة مشاركتها مرتبط بالدور الحاسم للسياسات العامّة التي تنتهجها في سبيل تحقيق هذه الأهداف. إلّا أن التفكير بأن هذه السياسات يمكن أن تُرسم بمعزل عن النظام الاجتماعي واقتصاده السياسي، أو بمعنى أدقّ، بمعزل عن التغيير في الوعي والمصالح والبنى والمؤسّسات، يبدو تفكيراً ساذجاً، ويشبه إلى حدّ كبير مسار بعض الحركات النسائية الليبرالية التي تنظر إلى قضية النساء بوصفها قضية مطلبية – حقوقية فقط.
في لبنان، كما في العديد من الدول، لعب النظام الاقتصادي في كلّ مراحله دوراً سلبياً تجاه المرأة. وعلى الرغم من تحسين وضعيّتها في مؤشّرات التعليم والصحّة، إلّا أن حضورها لا يزال مُهمّشاً، ولا تزال النساء يشكّلن النسبة الأكبر من الفقراء واللاجئين وضحايا الحروب والأزمات الاقتصادية والعبودية الحديثة في الخدمة المنزلية والجنس والعمل الزراعي. وبالتالي، إن تغيير وضعيّة النساء وتحرير طاقاتهن في العمل والإنتاج والإبداع والمعرفة والعلوم، لا يبدو مُمكناً من دون استبدال هذا النظام بنظام بديل قائم على المساواة.
في الوقت الراهن، كلّ ما يسمّى بسياسات تمكين المرأة في لبنان يدور في دوّامة تأسيس وزارات غير فاعلة وإطلاق برامج محو الأمية وتعلّم الحياكة والتطريز، فيما المطلوب هو تغيير السياسات العامّة، لا لدعم الفئات المحرومة فقط، بل أيضاً للقضاء على أوجه اللامساواة الهيكلية التي تقود إلى استمرار هذا الحرمان، خصوصاً أن النساء هن من الفئات الأضعف في مواجهة الأزمات الاقتصادية والتغييرات في بنية العمل.
وعلى هذه السياسات البديلة أن تنطلق من الاعتراف بقيمة العمل المنزلي غير المدفوع واحتسابه ضمن الناتج المحلّي تعبيراً عن حجم مشاركة النساء الفعليّة في الاقتصاد، بالإضافة إلى زيادة الأجور في العمل ومساواة قيمته من الناحية الجندرية في الوظائف نفسها، وتحسين ظروف العمل لناحية تخفيض ساعات العمل الأسبوعية وتعزيز الحقّ بالإجازات السنوية وإطالة مدّة إجازة الأمومة، فضلاً عن توفير الحماية للنساء من العنف والتحرّش وتجريم التمييز ولا سيّما في أماكن العمل. والأهمّ اعتماد نظام ضريبي أكثر عدالة ومساواة، يقتطع معدّلات أكبر من الريوع والأرباح لصالح تمويل الخدمات العامّة التي تفيد المجتمع عموماً والنساء خصوصاً، على أن تشمل تأسيس دور حضانة للأطفال بما يسمح للأم العاملة بالاستمرار في عملها بعد الإنجاب، وتوفير دور عامّة لرعاية المسنِّين الذين تتولّى النساء عادة الاهتمام بهم، وكذلك توفير الطبابة المجّانية للجميع وتطوير التعليم الرسمي في كلّ مراحله.
تقول ألكسندرا كولونتاي إحدى أبرز النساء في الحركة الشيوعية الروسية بأن "ما يُعطي المرأة مكاناً سامياً في المجتمع الإنساني، هي ليست خصائصها الأنثوية بل قيمة عملها للمجتمع، وقيمة شخصيّتها كإنسان وعامل خلّاق وكمواطن مفكّر أو مقاتل".2 في الخلاصة، إن المراحل المفصلية في حياة أي نظام، والتي غالباً ما تُترجم بأزمات يمرّ بها، يفترض أن تكون مدخلاً لإحداث تغيير وتصحيح منظومة رسّخت مستويات عالية من اللامساواة والظلم وعدم التكافؤ. وفي الحالة الراهنة، يفترض ذلك العمل كي لا تبقى النساء على هامش الاقتصاد والمجتمع.
- 1. https://bit.ly/31F9bec
- 2. ألكساندرا كولونتاي، "السيرة الذاتية لامرأة شيوعية متحرّرة جنسيّا"، 1971، متوفّرة على الرّابط التّالي: https://www.marxists.org/archive/kollonta/1926/autobiography.htm#4b