لا ضحايا ولا همج: المُتعة في المقاومة، ومقاومة العنف (والمقاومة به)

السيرة: 

غوى صايغ كاتبة كويرية آناركية، وناشرة مستقلة ومؤرشفة. هي المحرّرة المؤسِّسة لمجلّة "كحل" ومؤسِّسة شريكة لـ"منشورات المعرفة التقاطعية". حصلت على ماجستير في الدراسات الجندرية من جامعة باريس 8 فينسين - سانت دينيس. إنها شغوفة بنظرية الكوير، والمنشورات الدورية العابرة للحدود القومية، والتاريخ المتخيل أو المجهول. أودري لورد وسارة أحمد هما ملهمتاها.

اقتباس: 
غوى صايغ. "لا ضحايا ولا همج: المُتعة في المقاومة، ومقاومة العنف (والمقاومة به)". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 2 عدد 1 (2016): ص. 1-6. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 19 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/neither-victim-nor-savage.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (148.3 كيلوبايت)
ترجمة: 

لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".

من بغداد إلى اسطنبول وداكا، يضرب العنف والأسى المدمّران. يبدو كلّ مكانٍ وكلّ مدينةٍ عشنا أو حلمنا أو مشينا فيها، أو حتّى لم نعرفها أو نسمع عنها من قبل، كأنّها تنهار تحت ثقل قرونٍ من الظّلم والإحتلال والقمع محلّي المنشأ. وإذ بدأَت جغرافيّاتٌ جديدةٌ بالظّهور، يهتزّ أطلس العالم بالصّور المروّعة التي نزداد مناعةً تجاهها مع كلّ يومٍ يمرّ. وعلى الرّغم من انزعاجي من أطر العمل الكونيّة، لا يسَعني إلّا أن أعترف بأنّ العنف، والتفجيرات، ووحشيّة الشّرطة، وحملات القمع، وإطلاق النار، والحبس، والتعذيب والحروب منتشرةٌ أينما توجّهنا. نحن نعيش كلّ يومٍ من أيّامنا في ظلّ معرفتنا الطّاغية بأنّه لم يعد من مكانٍ آمنٍ للأجساد غير البيضاء المنتمية إلى الطّبقة العاملة.

يأتي هذا العدد من مجلّة “كحل” بعنوان “أكثر من ضحايا وهمجٍ: تعقيدات العنف والمقاومة والمتعة” في الوقت المناسب. لقد كان العمل على هذا العدد طيلة الأشهر الستّة الماضية في حدّ ذاته فعلًا جماعيًّا من المقاومة، إذ غصنا في الحكايات والسّرديّات وسياسات المقاومة التي ترفض معادلة الضحايا/ الهمج. هذه المجموعة من الأعمال تقف لتحكي ضدّ العنف القمعيّ الذي نختبره في المجتمعات المهمّشة والمختزَلة، سواء على يد العنف القمعيّ الإثاريّ، أو التمثيلات اللّيبراليّة اليمينيّة والخطابات الأحاديّة. في نهاية الأمر، إنّ كتابتنا وتفكيرنا وتنظيمنا المقاوِم والتقاطعيّ كنسويّاتٍ سمراواتٍ يساريّاتٍ يمنحنا بديلًا قويًا لتعميم الجندر وتطبيع المعاناة.

إنّ تجاوز ثنائيّة الضحايا/ الهمج يستلزم فهمًا مصقولًا للعنف، وهو فهمٌ ينظر إلى العنف السّائد بصفته غير قابلٍ للفصل عن النماذج واسعة النّطاق من القمع، والهيمنة، والظّلم الإجتماعيّ – الإقتصاديّ، والمأسَسة، والنيوليبراليّة والإحتلال… هو فهمٌ يُظهر أيضًا العنف المطبّع الذي نعيشه يوميًا في الأفعال الصّامتة من الإكراه، والتحرّش، والتنمّر، وإيذاء الذّات، كما في الطّرق التي ترعى هذه الأفعال على مستوى اللّحظات الكليّة من العنف، والعكس بالعكس. لكن الأهمّ، أنّ أرخنَة العنف تتطلّب الإعتراف والإحتفاء بالمتعة والمقاومة حتّى في السّياقات العنيفة، كما أنّها تتحدّى موقفنا من أفعالٍ معيّنةٍ قد نراها عنيفةً، لاسيّما في سياقات العناية بالذّات، وحماية الذّات، والمتعة الرّضائيّة وحركات المقاومة.

يفتتح العدد بتدخّلٍ فنّيٍ لكلٍّ من تانيا فان دير وصبا الصّدر بدعمٍ من سلوى منصور، هو عبارةٌ عن تخريب لوحةٍ إعلانيّةٍ للمجوهرات، بهدف كشف وتقويض رسالتها الرّأسماليّة والمُميّزة جنسيًا ضدّ النساء. ويتبع هذا الفعل الفنّي – السّياسي مسار “الإعتراض الثّقافي”، بحسب تعريف الفنّانات.

في مقال رأيٍ حادٍّ، تتحدّى نادية العلي الطّرق التي نتكلّم فيها عن العنف، مشدّدةً على رفضها التفرّعات الثنائيّة. إنّ انزعاجها من التمثيلات الغربيّة للعنف المُختبر في أماكن أخرى في العالم، لاسيّما في الشّرق الأوسط والعراق، تثبته الخطابات الإعتذاريّة التي تنبع من مسائل الموقعيّة، سواء في فلَك جاليات الشّتات أو فيها. وتعبّر العلي عن اضطرابها من النّزعة التي تميل إلى التركيز على تمثيلات العنف، بدلًا من التطرّق إلى العنف ذاته الذي يعيشه الأشخاص موضوع التمثيل، داعيةً إلى المزيد من البحث الميدانيّ من أجل الحدّ من هيمنة الخطاب والتمثيل.

أيضًا في إطار نقد سياسات التمثيل في هذا العدد، يتناول نقاش “أحاديث” الذي أدارته وحرّرته جنى نخّال، مختلف الطّرق التي يتمّ عبرها إسكات الأجساد غير المعياريّة، موضحًا مساحات الوكالة الخاصّة بها سواء في الأدوار التقليديّة في داخل الأسرة، أو في اللّغة، أو في الأحاديث العامّة عن الجنس. كذلك يتحرّى الحوارُ سؤال ما إذا كانت المتعة مجازًا للمقاومة أم للعنف الدّاخلي، خاتمًا بمراجعةٍ للوكالة وللنّظرة الذّكوريّة في العمل بالجنس والبورنوغرافيا.

في “جعل السّادو – مازوخيّة ممارسةً كويريّةً، فقدان التّسميات: منهجيّةٌ دائريّةٌ”، تفكّ لايدي جِيا الإرتباط بين الألم والعنف، لتربط بدلًا من ذلك الممارساتِ الجنسيّة الرّضائيّة، وتحديدًا الـBDSM، بالمقاومة والمتعة. ناسجةً قصص الجنس مع سرديّات العنف، تتحدّى الكاتبة الأعراف القائمة ليس فقط في البيئات التي تسودها المعياريّة على أساس الغيريّة الجنسيّة، بل أيضًا في مجتمعاتٍ كويريّةٍ وأيديولوجيّاتٍ نسويّةٍ معيّنة. تقدّم هذه الشّهادة قراءةً جريئةً واستفزازيّةً لممارسةٍ لطالما خضعت للوصمة والنّبذ، حتّى في داخل الدّوائر الراديكاليّة.

أمّا الشّهادة الثانية، “التجنيد الإجباري والجندر في المجتمعات الدرزيّة تحت الإحتلال” لميسان حمدان، العضوة المؤسّسة في مجموعة “أرفض. شعبك يحميك”، فتكشف المستويات الإجتماعيّة – التاريخيّة للخدمة العسكريّة الإجباريّة التي يخضع لها الشبّان الدّروز في دولة الإحتلال الإسرائيليّ، مستكشفةً الجوانب الجندريّة للتجنيد. والأهمّ في هذه الشّهادة، هو إدانة الكاتبة لإكراه الشّباب الدّرزي من قبل سلطات الإحتلال والضّغط الإجتماعيّ على قبول مستقبلٍ مُعسكَرٍ في خدمة المحتلّ.

وفي مكانٍ غير بعيدٍ عن قراءة حمدان الإجتماعيّة – التاريخيّة للعوامل الكليّة والجزئيّة في تشكيلات المجتمع والضّغط الإجتماعيّ، تقدّم كنزة يوسفي “قراءة في التنظيم المجتمعيّ والتحرّر الوطنيّ في السّياسات النسويّة الصحراويّة”. في المقال البحثيّ الأوّل في هذا العدد، تنطلق يوسفي من دراسةٍ إثنوغرافيّةٍ نادرةٍ أجرتها في المخيّمات الصحراويّة في تندوف في الجزائر، لتقدّم تحليلًا دقيقًا يتحدّى مفاهيم العنف وبناء الدّولة، ناسجةً من خلاله عدسةً نسويّةً للمقاومة. وتؤكّد يوسفي أنّه من خلال عدم استبعاد المقاومة العسكريّة، يغدو ممكنًا البحثُ عن طرقٍ بديلةٍ لتنظيم المجتمع.

في “بنات مصر خطٌّ أحمر: أثر التحرّش الجنسي في الثقافة القانونيّة في مصر”، تقدّم مريم كيرلُس المقال البحثيّ الثّاني في هذا العدد، مستكشفةً أبعاد القانون المصريّ الجديد الذي يجرّم التحرّش الجنسيّ في القضايا والتقارير المحليّة والدوليّة. بالإضافة إلى هذا، تقتفي كيرلُس أثر الثّقافة القانونيّة في الحالات التاريخيّة من التحرّش الجنسيّ في المكان العام، والتي صنعت عناوين الأخبار في مختلف الصّحف ووسائل الإعلام. ويأتي هذا المقال في الوقت المناسب ليكشف عن توقّعات الناشطات/ين والمنظّمات في ما يتعلّق بمحاسبة الدّولة وأجهزتها.

على الضّفة الأخرى من المسألة، تنأى سوزانا غالان ببحثها عن “منطق حماية الدّولة”، معبّرةً عن تشكيكها في فائدة قوانين التجريم. بدلًا من ذلك، تغوص الكاتبة في سياسات الدّفاع عن النفس، قارئةً إيّاها من خلال الطّرق المختلفة التي تستخدمها النسويّات، والثّائرات والثّوار، والمجتمعات في مصر لإبعاد التحرّش الجنسي والإعتداءات الجنسيّة الجماعيّة. ويغطّي بحث غالان مروحةً من المقاربات السّائدة والأنماط البديلة لرعاية وحماية الذّات، مبيّنًا بوضوحٍ عمل منظّماتٍ مثل “قوّة ضدّ التحرّش” و”ويندو”، وكذلك التحوّل في الخطاب العام بعد الثّورة المصريّة في العام 2011، بما يناهض الخطاب القانونيّ للدّولة.

من جهتها، تزوّدنا سِوار مسنّات بقراءةٍ أدبيّةٍ بليغةٍ لرواية “أهل الهوى” لهدى بركات، في المقال البحثيّ الأخير في هذا العدد. تحليل مسنّات المصقول بعنايةٍ للعواطف الكويريّة في الرّواية، والمعشّق بمفاهيم الذّاكرة الجماعيّة، يمثّل من دون شكٍّ متعةً للعين وللفكر. تتناول الكاتبة في المقال أثر عنف الحرب في نفس الإنسان وذهنه/ا، بالإضافة إلى العنف المتجسّد في المؤسّسات كالمصحّات النفسيّة على سبيل المثال. وتتقاطع هذه الأشكال من العنف مع صورة المرأة الحبيبة الموجودة في داخل وخارج الرّاوي في الرّواية. بسلاسةٍ، يعانق المقال ويُبرز انقطاعات الذّاكرة والإدراك، كاسرًا ثنائيّات الحقيقيّ والمُتخيّل، ومعيدًا تشكيل الرّغبة في خلال هذه السّيرورة.

وفي إطار القطع الأدبيّة، تمنحنا جيسّيكا خزريك في هذا العدد نصّ “حقلٌ في أكوام القمامة”، وهو نصٌّ متمرّدٌ يمثّل تحدّيًا للحدود المعياريّة للّغة والنّحو. أسلوب خزريك السّورياليّ ينساب بحريّةٍ على الورق، بينما تكشف الكاتبة انقطاعات الفكر، متجاوزةً من خلال ذلك معاييرَ الخطاب المتّسق الخالي من التّكرار والإعادات الهوَسيّة. أصرّت الشّاعرة والمؤدّية على ترجمة قصيدتها بنفسها، مقدّمةً نصًّا متينًا يمزج بين اللّغة العربيّة وتفجّراتٍ عرَضيّةٍ باللّغة الإنكليزيّة.

يختتم العدد بمراجعتَين لكتابَين جعلانا نحلم ونفكّر ونكتب. تتناول المراجعة الأولى بقلم آريان شاهفيسي رواية “32” لسحر مندور، الصّادرة مؤخّرًا باللّغة الإنكليزيّة، والتي تمثّل درّةً من درر الأدب العربيّ منحتنا إيّاها مندور، الرّاوية الشابّة والمستشارة في “كحل”. شاهفيسي التي عاشت في بيروت، تقرأ الرّواية بنكهةٍ من الحنين المطعّم بالموقعيّة الفجّة، ملاحظةً التلاعب بالعنف والعطف، وبالتفاصيل اليوميّة الكوميديّة أحيانًا. وبينما تمثّل بيروت بداية ونهاية الرّواية، تلحظ شاهفيسي أنّ المدينة لا تمتثل للصّور النمطيّة عن الحياة في بيروت، على الرّغم من أنّها تلامسها بالحدّة والمشاعر النّضرة.

أمّا المراجعة الثّانية، فتأتينا بقلم رؤى الصغير، المحرّرة المشارِكة في “كحل”، متناولةً كتاب “الحريّة هي صراع مستمرّ: فيرغسون، فلسطين، وأسس الحراك” لأنجيلا إ. ديفيس، مبرزةً تقاطعات التاريخ، والذّاكرة، والمقاومة وبناء الحركة في أزمنة العنف. بشكلٍ عابرٍ للحدود، تحدّد مجموعة المقابلات والمقالات والخطابات الواردة في الكتاب العنف والتمييز ضدّ الجماعات المهمّشة عبر الزّمن والحدود الجيوبوليتيكيّة، بما في ذلك السّجون. وتسارع الصغير هنا للدّلالة على التداخلات الكثيرة بين المجمع السّجني الصّناعي والنّضال الفلسطيني وفيرغسون، كما هو واردٌ في الكتاب.

إنّ التعاون مع هؤلاء الكاتبات والنسويّات الشّرِسات لهو أمرٌ يبعث على الإمتنان. هنّ يذكّرننا من خلال أبحاثهنّ وفنّهنّ، ألا نتمادى في إسكات الأشخاص المتعرّضين/ات للعنف، بل أن نعترف بمقاومتهن/م السياسيّة وندعمها، من دون أن نصادرها أو نستبعدها. إنّ اعتباراتهنّ الحذرة لكثيرٍ من تداخلات العنف والمقاومة والمتعة ضمن الأنظمة الأكبر من الظّلم، تتّسع لتطال الفعل المُسيّس المتمثّل بالكتابة وإنتاج المعرفة النسويّة، كتكريمٍ واحتفاءٍ بالحيوات التي فقدناها، وتلك التي لن يُحتفى بها.

ملحوظات: