راحة أمّي مرتبطةٌ بنهاية هذا العالم

السيرة: 

رنا شعيتو كاتبة وعاملة في مجال العدالة الإجتماعية، درست الاقتصاد والسياسات العامّة.

اقتباس: 
رنا شعيتو. "راحة أمّي مرتبطةٌ بنهاية هذا العالم". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 11 عدد 3 (15 كانون الأول/ديسمبر 2025): ص. 3-3. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 18 كانون الأول/ديسمبر 2025). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/my-mother-rest-world-has-end.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

مدير الترجمة في مجلة "كحل". تمارس الترجمة المكتوبة والتعاقبيّة مع تخصص في مجال السياسة والإدارة العامة وموضوعات الهجرة / اللاجئين والعلوم التربوية.

olive_tree_website_ar.png

سارة السراج - شجرة زيتون

أذكر حين كنتُ صغيرة، عندما كنّا نقضي صيفنا في جنوب لبنان، كان والدي يصحبنا في جولاتٍ قصيرة حول القرية. كان يقود السيّارة حتى محطة الوقود في بنت جبيل، ثم يدير المقود لنعود أدراجنا، تلك كانت النقطة الأخيرة التي نصل إليها كلّ مرّة، أو ربما هكذا خِلتُ آنذاك. كنت أظنّ أنّنا بلغنا نهاية العالم، وكثيرًا ما كنت أطلب من والدي أن يأخذني إلى "نهاية العالم" تلك، وإن شئت، أستطيع الترجّل من السيّارة والسير نحو ذاك المُنتهى. أن نقصد النهاية تلك بدى بالنسبة لي وكأنه ذهابٌ فيه أمل بالعودة والبدء من جديد.

 

***

 

كأنّ فكرة البيت تصنع المساء
كأنّ فكرة الملح تصنع
المائدة.
– بسام حجّار1

 

ينحصر تخيّلي للمستقبل ضمن ثنايا غرفتي. مساحةٌ صغيرة وواسعة في آنٍ معًا، تحتضن عالمي برفق وتمنحه التماسك. لوقتٍ طويل، اكتنفَت غرفتي العالم بأسره، بين جدرانها الأربعة، وغالبًا بين حوافّ سريري. هناك حيث تتكشّف معالم الدنيا ومعالمي. أُغيّر هذا العالم بتغيير موقع سريري، وأخرج منه لأخرج من العالم.

لا أستطيع أن أجزم تمامًا لماذا تدفعني مثل هذه المهمّة إلى العودة إلى غرفتي. أظنّ أنّ السبب يكمن تحديدًا في غرفتي، حيث عودتي الدائمة. ليس المستقبل ها هنا زمنًا متخيَّلًا ننتظره أن يأتي، بل أمرًا قد حدث. في غرفتي، في دفء بيتي، لا أستشرف المستقبل… بل أتذكّره.

كذا، حين أحاول أن أتذكّر المستقبل، تغمرني رغبة عارمة في العودة إلى البيت، ويملؤني أملٌ بأن يعود الجميع إلى بيوتهم.

***

 

ما لا يُقال
إلّا
همْساً،
لا الألم،
بل مكانه بعد أن يزول،
مكانه الذي له
يبقى موجعاً
لشدّة ما يزول.
– بسام حجّار2

 

كانت فكرة المستقبل تطاردني، كأمرٍ لم يحدث بعد، كانت فكرة ساذجة وعقيمة، تُختزَل فيها فكرة المستقبل ضمن منطق الاحتمالات: إنها جملةٌ لانهائية من السَبَبيّات والنتائج. لا تُحلَّل السبَبيّة في علم الاقتصاد إلا باشتراط "ثبات العوامل الأخرى". فنقول مثلًا: لا أستطيع العودة إلى البيت لأنه بعيد، "مع ثبات العوامل الأخرى"، ولكن إن انتفى هذا البُعد تصبح العودة ممكنة. لكنّ الاحتمالية تلك مستحيلة، و"ثبات العوامل الأخرى" مسألةٌ خارج فضاء الممكن وعليه تُمسي العودة افتراضاً مُحالاً.

البيت، هو الذاكرة. ذاكرة أمّي بين أغصان شجرة الزيتون – أمّي في سريرها تحتسي قهوتها.
ذاكرة أبي وأنا، نجلس معًا نراقب ضباب الصباح يتبدّد، نقطف الزعرور والتين على مهل.
ذاكرة إخوتي ونحن نستعدّ للمدرسة في الصباح، ثم نعود لنجلس حول طاولة المطبخ لندرس معًا.
ذاكرة السهر ليلًا لأتحدّث إلى أولاد الحيّ من الشرفة حين ينام الجميع، والخوف من أن يُكشَف أمري.
ذاكرة الوقوع في الحبّ، وذاكرة العشق.
ذاكرة لمسة اليد، وتضاريس الخاصرة، والولع في طيف نظرة.
ذاكرة رائحة، وهمسة، وسرٌّ لم أعُد مضطرّةً إلى كتمانه.
ذاكرة ذاكرةٍ، لشيءٍ لم يحدث بعد، أو ربما حدث ذات يوم.

لهذا كلّه، لا أستطيع العودة إلى البيت أبدًا. لكن إن أنا تتبّعت خيوط الذاكرة بما يكفي، سأرى ملامح مستقبلٍ هناك – سأرى طريقًا يقودني إلى هناك.

***

 

ولكنّني متعبٌ
والمشَقّة في قلبي
لا في الطريق
– بسام حجّار3

 

يُرهقني تتبُّع الطريق إلى البيت رغم ما فيه من بهجة، فأبدو عاجزة عن التذكّر.
ماذا يحدث حين يقوّض الإرهاق قدرتنا على الفعل في هذا العالم ناهيك عن ترك أثرٍ في المستقبل؟
ماذا يحدث حين ينتزعنا الإرهاق من هذا العالم، ويمنعنا من التقدّم نحو عوالم أُخرى؟

لا أقصد ذاك التعب الذي بالإمكان تسكينه، بل إرهاقٌ نابعٌ من استنزافٍ مستمرٍّ يسود هذا العالم ويقتلعنا منه في آن.
إرهاقٌ يُغرقنا في أسرّتنا، ويهمس قائلاً: إنّ هذه هي حدود العالم.
إرهاقٌ يُفرغ الراحة من معناها، حتى تغدو جزءًا منه، بل امتدادًا له.
فماذا نفعل حين تصبح الراحة نفسها متعِبة؟
ماذا يحدث حين يبلغ الإرهاق من الجسد حدّاً لا تُشفيه راحة، إن قُدّر لنا أصلًا أن نستريح؟
كيف يمكن لمن تملَّكه الإرهاق أن يحلم بنهاية هذا العالم؟
كيف له أن يتذكّر مستقبلاً؟

لا أستطيع أن أتحدّث أو أن أكتب، أو حتى أن أتأمّل في هذا الأمر دون أن أفكّر في أمّي، التي اكتشفتُ معنى الإرهاق من خلالها قبل أن أكتشفه في نفسي.
كثيرًا ما طلبتُ من أمّي أن ترتاح، وبإلحاحٍ يصل حدّ الفظاظة أحياناً. لكن كيف لها أن ترتاح؟
لا تستطيع أمّي أن تنال قسطاً من الراحة ما لم تكن الراحة مُمكنةً في هذا العالم.
لا بُدّ للراحة أن تعود إلى هذا العالم، كي تجني أمّي ما تستحقّه منها.
إذ إنّ راحة أمّي مرتبطةٌ بنهاية هذا العالم.

 

ملحوظات: