كيف نتكلّم عن العنف على أساس الجندر؟

السيرة: 

ناديا العلي غادرت جامعة سواس في لندن مؤخّرا، وهي تعمل الآن في جامعة براون (بروفيدانس، رود آيلاند، الولايات المتحدة) حيث تشغل منصب أستاذة في علم الإنسان في الشرق الأوسط. اهتماماتها ومنشوراتها البحثية الرئيسية تدور حول النشاط النسوي. النساء والجندر في الشرق الأوسط؛ الهجرة عبر الوطنية وحشد الشتات؛ الحرب والنزاع وإعادة الإعمار، دراسات فنية وثقافية والطعام. تشمل منشوراتها "نساء العراق: قصص غير مروية من عام 1948 إلى الوقت الحاضر" (, Zed Books2007 ) "أي نوع من التحرر؟ النساء واحتلال العراق" (2009، مع نيكولا برات، مطبعة جامعة كاليفورنيا) و"العلمانية والجندر والدولة في الشرق الأوسط: الحركة النسائية المصرية" (2000, CUP). شاركت نادية في العديد من المنظمات والحملات النسوية، بما في ذلك النساء في الأسود، لندن، ونساء ضد الأصولية، وكانت عضوًا مؤسسًا في "الفعل سويّا: مبادرة النساء من أجل العراق". كانت نادية أيضًا ممثلة نقابية ناشطة في اتحاد الجامعات في جامعة كلية لندن، وهو أكبر اتحاد للأكاديميين/ات المقيمين/ات في المملكة المتحدة. وقد شاركت في جمعية رابطة دراسات النساء في الشرق الأوسط (AMEWS) لسنوات عديدة وكانت رئيستها من 2009-2011.

اقتباس: 
نادية العلي. "كيف نتكلّم عن العنف على أساس الجندر؟". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 2 عدد 1 (2016): ص. 9-16. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 24 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/how-to-talk-about-gbv.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (352.41 كيلوبايت)
ترجمة: 

لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".

أينما نظرنا من حولنا، نجد أنفسنا محاطين/اتٍ بأدلّةٍ وتبعاتٍ وإشاراتٍ على أشكال العنف اليوميّة وكذلك البنيويّة، في ظلّ انتشار الإقتصاديّات الرأسماليّة النيوليبراليّة ومعها السياسات الإمبرياليّة بصيغها (عبر) الوطنيّة من التمييز الجنسي، والعنصريّة والمعياريّة على أساس الغيريّة الجنسيّة. وعلى الرغم من نطاقها وامتدادها العالميّين، فإنّ تعبيرات وتجارب العنف على أساس الجندر في حيوات الناس اليوميّة، تُصبح محدّدةً ومعيّنةً من خلال تشكيلات ونزاعات القوّة على المستويَين الإقليمي والمحلّي، بالإضافة إلى منظومات الإعتقاد والمعايير الثقافيّة.

يتمظهَر العنف بمصادره ومرتكبيه وأشكال مقاومته المتعدّدة بوضوحٍ في واقعنا التجريبيّ. لكننا كباحثين/ات ومناضلين/ات، لا ننخرط في محاولات فهم وتحدّي ومحاربة العنف فحسب، بل نتصارع مع تمثّلاته أيضًا. وتكشف تمثّلات العنف في البحوث والإعلام والثقافة الشعبيّة، وطبعًا في الخطابات السياسية، الطرقَ المعقّدة والإحتياليّة التي تُشكّل بها موقعيّاتُنا الخاصّةُ البياناتِ التي نستخدمها للتكلّم عن العنف وتحدّيه. وكنت أتأمّل بشكلٍ خاصٍّ في صراع المناضلات والباحثات النسويّات المقيمات في الغرب، في سبيل مناقشة وتحليل الأشكال المختلفة من العنف الجنسي والعنف على أساس الجندر التي تؤثّر في الناس في الشرق الأوسط. وبرزت هذه التأمّلات تحديدًا في سياق عملي عن العراق، لكنّها تتّصل أيضًا ببحثي في مصر وتركيا، وأظنّ أنّ الزميلات العاملات في سياقاتٍ أخرى في المنطقة يواجهن إشكاليّاتٍ ومعضلاتٍ مماثلة.

في مقالٍ نشرته حديثًا عن العنف الجنسي في العراق، تحسّرتُ على الطرق المختلفة التي جرى فيها توسّل العنف تاريخيًا وفي السياق الحاضر: “إنّ العنف المُجندر والجنسي لا يُوظّف فقط كخطابٍ عنصريٍ وصانعٍ للـ”آخر” من قبل القوى الإمبرياليّة والدوائر الإنتخابيّة اليمينيّة في الغرب، بل إنّ الخطابات عن العنف الجنسي قد برزت في كلّ لحظةٍ من لحظات التوتّر السياسيّ والطائفيّ في العراق الحديث، كأداةٍ سياسيّةٍ واستقطابيّةٍ مركزيّةٍ بين السياسيّين/ات والناشطين/ات”1 (Al-Ali, 2016: 13- 14). في هذا المقال، أشير إلى أهميّة أرخَنَة العنف على أساس الجندر من أجل تفادي “الحاضريّة” وقصر النّظر الذي يُبرئ مروحةً واسعةً من المعتدين، ويُعفي عن التواطؤ والصّمت التاريخيّين، كما يبدو واضحًا في التمثّلات المعاصِرة للعنف على أساس الجندر في العراق.

بمعنًى آخر، المسألة لا تتعلّق فقط بـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش). فالإحتلال الأميركي والبريطاني، والحكومات العراقيّة المختلفة وميليشياتها، والثوّار والجماعات الشيعيّة الطائفية، والعصابات المسلّحة، وكذلك أفراد الأسرة هم كلّهم مرتكبون لأبشع أشكال العنف الجنسي والعنف على أساس الجندر في العراق، من العنف المنزليّ، مرورًا بالترهيب اللّفظي والجسدي، والتحرّش الجنسي، والإغتصاب، والزواج القسريّ، والإتجار بالبشر، والدعارة الإجباريّة، والختان، وصولًا إلى “جرائم الشّرف” والقتل.2 والمناضلات النسويّات العراقيّات والكرديّات اللواتي يقفن في صدارة النضال ضدّ العنف على أساس الجندر وغيره من أشكال العنف المرتبطة بالإستبداد والطائفيّة، يُشرن إلى حقيقة أنّ الغضب العالميّ من ارتكابات “داعش” بما فيها خطف واستعباد واغتصاب وتعذيب النساء الأيزيديّات، لم يُترجم دعمًا سياسيًا وماديًا وافيًا، ولا حقوقًا باللّجوء. وفي هذا السياق، تشدّد هؤلاء النسويّات على أنّ العنف على أساس الجندر وغيره من الأعمال الوحشيّة تُرتكب أيضًا على يد الميليشيات الشيعيّة ضدّ العرب السنّة.

في خلال السنوات الأخيرة، بتّ ألحظ بشكلٍ متزايدٍ مآزقي وصعوباتي الخاصّة في الكلام عن العنف على أساس الجندر في العراق. لقد مثّل تحدّيًا بالنسبة إليّ الإحجامُ عن الإشتراك في أيٍّ من الإتجاهَين: إتّجاه التابو وإسكات العنف الجنسي والعنف على أساس الجندر ضمن السياسات العراقيّة الداخليّة من جهةٍ، واتّجاه الخطابات الإثاريّة والثقافويّة الجوهرانيّة الشائعة في الإعلام الغربي وفي الخطابات الشعبيّة من جهةٍ أخرى. في المقال المذكور أعلاه، حاولت أن أتفكّر في المهمّة المستحيلة عادةً لإيجاد طرقٍ مصقولةٍ وتقاطعيّةٍ حقًا للتكلّم عن العنف على أساس الجندر، وجادلتُ أن عمليًا، غالبًا ما يُختزل التوتّر في أطر عملٍ تفسيريّةٍ تجذّر العنف بإحكامٍ في السياسات النيوكولونياليّة والإمبرياليّة والنيوليبراليّة (لاسيما تلك المرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل). وفي حالاتٍ أخرى، تُحدّد أطرُ العمل هذه الثقافاتِ الوطنيّة والمحليّة والتمظهرات المحليّة للأبويّة كمصادر حصريّةٍ لأشكال القمع واللّامساواة على أساس الجندر.

لا أرغب هنا بتكرار حجّتي بأننا نحتاج إلى التخلّص من قيود الموقعيّة من أجل تفادي المقاربات ثنائيّة التفرّع المضلّلة. إنّ إقامتنا في مدنٍ كلندن ونيويورك ومواجهتنا اليوميّة للخطابات السياسيّة والتمثّلات الإعلاميّة العنصريّة والإمبرياليّة والمتّسمة بالإسلاموفوبيا، تصوغ حتمًا الطرقَ التي نفكّر ونكتب فيها كباحثاتٍ ومناضلاتٍ نسويّات. لكن بالطّبع، لا يجوز لهذا الصراع أن يغدو النقطة المرجعيّة الوحيدة أو حتّى الرئيسة بالنسبة إلينا، إذا ما أردنا أن نأخذ على محمل الجدّ مفاهيم التضامن ومقاومة العنف على أساس الجندر. ومن دون أن أدمج العراق والشرق الأوسط وشمال إفريقيا في بوتقةٍ واحدةٍ، وجدت إشكاليّاتٍ متشابهةً وثنائيّاتٍ زائفةً في الكلام عن العنف على أساس الجندر. أينما كنّا، لا يمكننا كباحثاتٍ ومناضلاتٍ نسويّاتٍ أن نتجنّب الكلام في وقتٍ واحدٍ عن الفساد، والإستبداد السياسي، والطائفيّة، وتوظيف الثقافة والدّين على الصّعيدَين الإقليمي والمحلّي، وكذلك الحالات المتنوّعة ممّا سمّته دينيز كانديوتي (2014) “الإستعادات الذّكوريّة”.3

وتقترح كانديوتي أنّه في ظلّ الشروط النيوليبراليّة وارتفاع البطالة بين الذّكور وظروف عملهم التي تزداد تزعزعًا، وفي الوقت عينه تزايد طموحات النساء وحضورهنّ في المكان العامّ، عمدت دولٌ كثيرةٌ إلى استخدام وسائل فجّةٍ لحفظ وإعادة إنتاج البطريركيّة. وتجادل كانديوتي:

إنّ التجاذبات المتناقضة لسياسات الإستعادة الذكوريّة من جهةٍ، والمقاومة المضادّة للبطريركيّة من جهةٍ أخرى، تفتح مجالاتٍ جديدةً للتحدّي أمام جيلٍ جديدٍ من الرجال والنساء ممّن هم/ن أكثر تنبّهًا بشكلٍ كلّيٍ للعلاقات الحميمة التي تربط بين الحكم الإستبداديّ وأشكال القمع القائمة على أساس الجندر، والمُعتقد، والإثنيّة والميول الجنسيّة. ولعلّ المناضلين/ات الشّباب من الذكور والإناث قد استوعبوا/ن أنّه طالما يتمّ التسليم بالنظام الإجتماعيّ البطريركيّ كنظامٍ بديهيٍّ، مطبّعٍ وغير خاضعٍ للسؤال، فلا بدّ للمواطنيّة أن تبقى منقوصةً وللدّيموقراطيّة أن تظلّ مبتورة4.

وتشير الإستعادات الذكوريّة إلى سيرورات وتشكيلات القوّة التاريخيّة والإقليميّة والمحدّدة محليًا التي تشمل الإستبداد، والإسلاميّة والطائفيّة التي تتقاطع جميعًا مع البُنى العالميّة المتّصلة بالإمبرياليّة وبالإقتصادات النيوليبراليّة. وسبق لي أن أثبتّ حاجتنا إلى الإنخراط في التحليلات والسياسات التقاطعيّة التي تتطرّق إلى تشكيلات القوّة واللّامساواة على المستويَين الكلّي والجزئي. ومؤخّرًا، إتّسع وازداد انزعاجي من موقف بعض الباحثات النسويّات المقيمات في الغرب في مقاربة العنف في الشرق الأوسط، ليشمل أيضًا الباحثين/ات غير النسويّين/ات بعد حضوري مؤتمرًا بعنوان “الأجساد المُتعايشة مع العنف” في الولايات المتحدة.

في المؤتمر، واجهتُ توجّهَين أقلقاني بعمقٍ، وهما يمثّلان نوعَين مختلفَين ضمن ثيمة الأكاديميّين/ات التقدّميّين/ات سياسيًا المقيمين/ات في الغرب، ممّن يقوّضون ويُسكِتون بشكلٍ غير متعمّدٍ النضالات وأشكال المقاومة المحليّة ضد أشكال القمع والعنف على أساس الجندر. وأصنّف أحد هذين التوجّهين استفزازًا أكاديميًا هادفًا إلى تحدّي الطرق المعتمدة في التفكير لدى الجماهير الليبراليّة حسنة النيّة. أما التوجّه الآخر، فيهدف بشكلٍ محدّدٍ إلى نقد ومناهضة الخطابات والممارسات السياسيّة والإعلاميّة الأميركيّة. وفي سياق المؤتمر الذي حضرت، برز التوجّه الأوّل في المحاضرة الرئيسة التي ألقاها أحد الباحثين البارزين في السياسة والعلاقات الدّولية.

سوف أعفيكن/م من التفاصيل المروّعة التي وردت في الكلمة، والتي تضمّنت عدّة أخطاءٍ وتحريفاتٍ في الوقائع، لكن جوهر الكلمة كان تجميل إعدامات “داعش”، والمقارنة بين حركة قطع رؤوس الناس في فيديوهات البروباغندا التي ينشرها التنظيم، وبين حركة التانغو، وإيماءات رياضة تاي تشي، والذّبح الحلال للخراف. كذلك أُعلِمنا في المحاضرة أنّ القوّات الخاصّة الغربيّة تدرّبت على الحركة ذاتها لإنجاز القتل بسرعةٍ، في محاولةٍ واضحةٍ لإظهار “أنّهم” (أي داعش) لا يختلفون كثيرًا “عنّا” (يبقى السّؤال الأكبر هنا: من هم/ن أولئك المتماهون/ات مع القوّات الخاصّة المدرّبة في الغرب؟). وختم المحاضِر الرّئيس المقيم في المملكة المتحدة عرضَه بالغ الفصاحة والأناقة بتقييمٍ مفاده أن لا قدرة لنا على هزيمة “داعش”، وبالتالي لا بدّ لنا من البدء بالتفاوض معهم.

لا أريد أن أنخرط هنا في تعنيف أكاديميٍّ معيّنٍ، إذ إلى جانب الإحراج الناتج عن كونه زميلًا جامعيًا آسرًا وداعمًا لي، أظنّ أنّ محاولته حسنة النيّة في دفع الإسلاموفوبيا ومناهضة “الحقائق” التبسيطيّة والرّاسخة عن “داعش”، يشاركه فيها غيره من الباحثين/ات والناشطين/ات التقدّميين/ات المقيمين/ات في الغرب، الذين/اللواتي يتخرطون في بهلوانيّاتٍ فكريّةٍ وسياسيّةٍ مماثلة. لذا، وبدلًا من الإسترسال في تحليل ذلك الخطاب المحدّد الذي أقلقني بشدّةٍ، أودّ أن أبتعد بنفسي عن المحاولة الأوسع لتقويض الخطابات والسياسات الإمبرياليّة والعنصريّة، عندما تخدم خطابًا إعتذاريًا تجاه المُرتكبين المُريعين للعنف الذي يؤثّر في حياة الناس اليوميّة. وفي سياق “داعش”، من الواضح أن معظم النساء والرجال والأطفال لا يختبرون عنف “داعش” كضربةٍ أنيقةٍ وحميمةٍ تقتل بسرعة…

يثقلني شعورٌ بأنّه سبقت لي رؤية هذا. في التّسعينات، فُرض على العراق أحد أكثر أنظمة العقوبات فتكًا في التاريخ في إثر غزوه الكويت في الثاني من أغسطس/ آب من العام 1990. وقتذاك، عمد كثيرٌ من الناشطين/ات البريطانيّين/ات والمقيمين/ات في الغرب المناهضين/ات للحرب وللعقوبات إلى تمويه فظاعات نظام صدّام حسين. وسواء بشأن حملة الأنفال التي شملت استخدام الأسلحة الكيميائيّة ضدّ الكرد/يّات في الثّمانينات، أو أعمال قمع وتعذيب وقتل المتمرّدين/ات السياسيّين/ات، بالإضافة إلى مختلف أشكال العنف على أساس الجندر، كان الصّمت المطبق سيّد الموقف.

لسببٍ ما، بدا من الصّعب جدًّا بالنسبة إلى كثيرٍ من اليساريّين/ات ومن يُفترض أنّهم/ن يمثّلون دوائر انتخابيّةً تقدّميّةً، أن يقوموا بنقد وتحدّي ومقاومة حكوماتهم/ن في ما يتعلّق بالسياسات الخارجيّة المدمّرة، وفي الوقت عينه الإعتراف بوجود ديكتاتوريّاتٍ وأطرافٍ غير حكوميّةٍ محليّةٍ عنيفةٍ وقمعيّةٍ في الشرق الأوسط. لكن هذه “البقع العمياء” الحادّة ليست فقط امتيازًا للناشطين/ات والباحثين/ات الغربيّين/ات، إذ كما نعرف في سياق كثيرٍ من جاليات الشّتات، يمكن للمواقف الراديكاليّة المتصلّبة والوطنيّة الإنفعاليّة أن تزداد قوّةً عندما يكون الناس بعيدين/ات عن الوطن وقادرين/ات على التعبئة في ظروفٍ آمنةٍ نسبيًا. وفي أثناء احتلال العراق، فوجئت بناشطين/ات عراقيّين/ات في الخارج يدعمون بفاعليّةٍ الثوّارَ الذين كانوا يزدادون طائفيّةً، ويتورّطون في قتل المدنيّين/ات العراقيّين/ات في قتالهم الأكبر ضدّ الإمبرياليّة والإحتلال.

من المهمّ التأكيد على أنّ الباحثين/ات التقدّميّين/ات المقيمين/ات في الغرب ليسوا وحدهم/ن من يصبحون إعتذاريّين/ات تجاه اللّاعبين الإقليميّين والمحلّيين العنيفين. بالطّبع، يبدو هذا التوجّه واضحًا في الشرق الأوسط لدى بعض الباحثين/ات والناشطين/ات ممّن يقعون إمّا في فخّ إلقاء اللّوم بالكامل على الإمبرياليّة، أو الإنخراط في جوهرانيّةٍ فجّةٍ لمفاهيم الثقافة والتقليد. ولا أقصد من خلال تأمّلاتي هذه بأيّ شكلٍ من الأشكال وضع الباحثين/ات والناشطين/ات الغربيّين/ات في مقابل غير الغربيّين/ات، لكنّني أعتقد بأهميّة الموقعيّة في هذا الشأن.

سأنتقل الآن إلى ملمحٍ إشكاليٍّ آخر في الدّراسات الحاليّة الهادفة إلى مناهضة الخطابات السياسيّة والإعلاميّة الغربيّة. وتنتشر هذه النزعة المحدّدة بشكلٍ خاصٍّ في دوائر الدّراسات الإثنيّة والدّراسات الأميركيّة النقديّة في الولايات المتّحدة، والتي كانت لها مساهماتٌ مثيرةٌ في فهمنا للطّرق المعقّدة والمتشابكة التي يتمثّل فيها العنف في الخطابات السياسيّة والإعلاميّة الأميركيّة في الدّاخل والخارج. وفي سياق المؤتمر الذي حضرتُ عن الأجساد التي تختبر العنف، قَدّمَت عدّةُ مشاركاتٍ ممتازةٍ تحليلاتٍ ثريّةً نظريًا وقاطعةً نقديًا للطّرق التي تنخرط فيها خطابات الإعلام والأفلام والفيديو والسياسة في العنف، وفي (إعادة) إنتاجه والتصدّي له. وإذ شعرتُ بالإلهام والتواضع أمام مشاركاتٍ عدّة، أحسست بالإنزعاج من تفادي معظم المشاركات الكلام عن الأجساد ذاتها التي تختبر العنف، والإنخراط بدلًا من ذلك في تناول تمثّلات العنف حصرًا.

أودّ أن أوضح بشكلٍ حاسمٍ أن لا نيّة لديّ في خلق ثنائيّةٍ أخرى بين المقاربات ما بعد البنيويّة وتلك الماديّة. إنّ المقاربات الباتلريّة (نسبةً إلى جوديث باتلر) النسويّة ما بعد البنيويّة وكذلك المَفهَمة القائمة على فكر فوكو عن المعرفة والقوّة والخطاب، هي مقارباتٌ محوريّةٌ ليس فقط في كثيرٍ من الدّراسات النسويّة والكويريّة المعاصِرة، بل أيضًا في النضال النسويّ والكويريّ. لكن المشكلة في مسعانا الأكاديميّ، أنّه ينتهي بالتفاعل مع تمثّلات العنف بأسلوبٍ منغمس ذاتيًا. إنّه لأمرٌ إشكاليٌّ أن تستمرّ الدّراسات المقيمة في الغرب بالمساهمة في تجاهل وإسكات وإخفاء الأشكال المتعدّدة والمتنوّعة من المعاناة والبقاء والمقاومة، التي يبديها الناس ممّن يختبرون العنف فعليًا.

إنّ الأكاديميّين/ات، سواء وُجِدوا/ن في المعاهد والمؤسّسات الغربيّة أو في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، يواجهون جميعًا تحدّي تفادي المقاربات ثنائيّة التفرّع لجهة تشكيلات القوّة الكليّة والجزئيّة التي تتقاطع في ما بينها وتكوّن بعضها البعض، إنّما التي لا يمكن أبدًا إختزالها في واحدةٍ أو الأخرى. إنّ الباحثين/ات النسويّين/ات والكويريّين/ات الذين/اللواتي يحاولون توثيق وتحليل العنف الجنسي والعنف على أساس الجندر، يحتاجون إلى تفادي فخّ الوقوع أسرى وأسيرات موقعيّتهم/ن، كما ناقشت سابقًا. ونظرًا إلى تجاربي الأخيرة في المؤتمر المذكور في الولايات المتحدة، أودّ أن أضيف هنا أنّ العمل مادّي الأساس هو أمرٌ ضروريّ. نعم، التمثّل(ات) مهمّةٌ، ولا شكّ لديّ في هذا. لكن لهذه التمثّلات تداعياتٌ وآثارٌ ماديّة، وعلينا أن نجتهد لعدم إساءة استخدام تبصّراتنا ما بعد البنيويّة والإستهانة بها عبر تفادي البحث المُربك والمعقّد ذي الأساس التجريبي. ليست هذه الدّعوة سقوطًا في مفاهيم التجريبيّة السّاذجة والوضعيّة، بل إنّها تهدف إلى إثبات أنّ الوقائع الماديّة والمعاني المتعدّدة التي يربطها بها الناسُ من مختلف الجنسانيّات والفئات الجندريّة، لا تمكن الإحاطة بها على مستوى الخطاب والتمثّل فحسب.

ملحوظات: