الدَيْن
kohl-10-dispossession-ar.jpg
في السنوات الأخيرة، أصبحت ديون الأُسَر موضوعاً رئيسياً للنقاش العام في الأرجنتين. في الدراسة المُعنونة "قراءة نسوية للديون" (2021)، حاولنا لفت الانتباه إلى ارتفاع نسبة المديونية لدى النساء، ومدى ارتباطها بالشروط الهيكلية التي تفرضها الاتفاقية التي وقّعتها الأرجنتين مع "صندوق النقد الدولي" عام 2018: الدَين هو ما يترتّب عن العملية الاقتصادية الريعية على الأسرة. كما حدّدنا تغيّراً في أسباب إلغاء الديون، والتوجّه بشكلٍ متزايدٍ نحو سداد ثمن السلع والخدمات الأساسية من أجل إعادة الإنتاج الاجتماعي. وهذا ما أسميناه "الاستدانة من أجل العيش". وقد ساهمت عملية التسييس النسوي – خاصة منذ عام 2017 وانطلاقة الحركة النسوية على نطاق واسع مع الإضراب النسوي – بشكل كبير في زيادة الوعي بهذه المديونية كمشكلة عامة ومجال لتدخّل الدولة.
شعار "نُريد البقاء على قيد الحياة، أحراراً بلا ديون!" الذي أطلقته حركة "ني أونا مينوس" (NiUnaMenos) في عام 2017 يعبّر عن مثّلث تتداخل فيه مسألة الحرية مع المطالبة بعدالة غير عقابية (تشمل مختلف المطالب، بدءاً من الردّ على تواطؤ المؤسسات وعجزها في مواجهة العنف المتجسد في جرائم قتل النساء (femicide) و"الترافيستيسايد" (travesticide) أي العنف الجندري البنيوي،1 وصولاً إلى رسم آفاق عدالة غير أبوية). بهذه الطريقة، تتحدّى هذه الحركة المفاهيم السائدة للأمن وتضيء في الوقت نفسه على العنف المرتبط بالحرب الأهلية والسلطة الإدارية التي تمتلكها الشرطة إزاء الفضاء الاجتماعي. من خلال إعادة طرح سؤال: ما الذي يجعل الحياة ممكنة في ظل هذه الظروف؟
نقترح قراءةً نسوية لمفهوم الدَين تربط بين البعد المادي لحركيّة الأجساد في مواجهة التجريد المالي. في المقاربات النيوليبرالية، يتفاخر المختصّون بالطبيعة المجرّدة لحركة الأموال والمنطق الغامض الذي يصعّب على عامّة الناس فهم قواعد سيرها. يجري الحديث عن هذا الموضوع بشكل مُلغَّز ويجري إقناع العامّة بان القرارات في هذا القطاع تُتَّخذ بأسلوبٍ رياضيٍ وخوارزميٍ، تحدّد معنى القيمة وموضعها.
سنسرد أثر الدَين وحركته داخل المنازل، وفي الاقتصادات الشعبية (التي يغلب عليها العمل غير المأجور)، وكذلك الاقتصادات المأجورة، ومن خلال سرديتنا سنتحدّى جبروت التجريد الذي يوظَّف في الكلام عن سؤال المال والمديونية لجعله عصيّاً على الفهم. أتاح لنا البحث في سؤال الدَين والمديونيّة الكشف عن الكيفية التي تتوغّل فيها عمليات التمويل في ميدان إعادة الإنتاج الاجتماعي، وتحويلها إلى "قطاعات تراكميّة" (فيديريتشي 2014). اقتصادات المديونية شكل ملموس من "الاستعمار الذي يضرب إعادة الإنتاج الاجتماعي مباشرة" (فيديريتشي 2014؛ كافاليرو وغاغو 2021).
هذه الصورة عن الاستعمار ليست مجازية؛ فهي تستحضر الروابط التاريخية مع ديناميكيات الاستعمار التي تتجدّد مراراً وتكراراً. كما أنها ضرورية لإزالة التجريد الذي يحجب طبيعة النظام المالي، ويقود قدرة فهمه على أنه جهاز استعماري ذو عنفٍ نيوليبرالي المنشأ، خصوصاً ضد أجساد معيّنة ممّن يتمّ تمييزهم عنصرياً وتأطيرهم جندرياً وتعيينهم جغرافياً. وكما تجادل دينيز فيريرا دا سيلفا في تحليلها لأزمة 2008 ضمن نصّها: "مديونية غير قابلة للسداد" (2022)، أنّ الفئات التي تعرّضت للاستعمار في الماضي، عند وقوعها في المديونية أو الخداع المالي، تظهر أن فقرها وهو واقع ناجم في الأصل عن الاقتلاع الاستعماري، يتّكئ عليه الآن المستعمر السابق كمصدر مستدام للربح. عليه، نرى كيف أن المديونية هي ظاهرة تشهد على ديمومة عمليات اقتلاع الثروات الاستعمارية.
اليوم، يستعمر النظام المالي مساحات إعادة الإنتاج الاجتماعي ويُسرّع أنواعاً مختلفة من اقتلاع الثروات. يتيح لنا هذا استنباط تعريفٍ أوضح للّيبرالية الجديدة وكيفية تطوّرها من خلال انتزاع الموارد العامة والمشتركة من مساحات إعادة الإنتاج الاجتماعي، إلى حدّ أن دخل الفرد يمسي غير كافٍ لضمان إعادة الإنتاج تلك.
الدَين هو آلية ملموسة تُجبر صغار المنتجين الزراعيين على الاعتماد على المواد الزراعية السامّة. الدَين هو تعبيرٌ عن ارتفاع التكاليف وإخضاع قطاعات الخدمات والإنتاج الأساسية لقواعد الحركة الماليّة كلّياً. الدَين هو جهاز يربط بين داخل السجن وخارجه، بينما يظهر السجن نفسه كنظام مديونية بذاته. الدَين هو ما يُفرَض على الأفراد عند تجريم الإجهاض. الدَين هو ما يتحكّم بشكل الاستهلاك الشعبي حين تؤدّي أسعار الفائدة الباهظة إلى تدمير الحياة المنزلية والصحة وروابط المجتمع. الدَين هو ما يتيح للاقتصادات غير القانونية استقطاب العمالة – خاصةً من الشباب والأقليات العرقية – بأيّ ثمن. الدَين هو ما يتحمّله الشباب حتى "قبل" دخولهم سوق العمل أو ضمن وظائف شديدة الهشاشة (إذ يُمنحون بطاقة ائتمان مع مستحقّات الرعاية الاجتماعية أو الراتب الأول)، الدَين هو الدينامية التي تضمن حالة عدم الاستقرار والتي تقرّر بدورها حركة أصحاب المداخيل الهزيلة. الدَين هو أساسٌ من أسس البنية التحتية الرئيسية للحياة: خدمات صحّية غير متاحة، لوازم عند ولادة طفل، شراء دراجة نارية للعمل في خدمة توصيل الطعام. الدَين هو وسيلة لضمان الحصول على السكن. الدَين هو المورد الذي يعود إليه الناس عند مواجهة الطوارئ وفقدان شبكات الدعم الأخرى. الدَين هو آلية تضمن انتزاع موارد الحياة من المهاجرين والسود. الدَين هو ما يحصّن حالة التبعية التي تربط الأفراد بالعلاقات الأسرية التي يشوبها العنف.
الدَين مرتبط بالعنف ضد الأجساد التي تتّسم بمعالم الأنوثة ـ وتلك المهمّشة عرقياً والمفقّرة. ومن خلال تتبّع الوقائع الملموسة لما تفتعله الديون، يتّضح الارتباط بين الدَين والعنف الجنسي والعنصري والاستعماري. الدَين هو ما يمنعنا من قول "لا" عندما نريد أن نقول "لا". الدَين هو ما يربطنا بمستقبل من العلاقات العنيفة التي لولا الدين لوجدنا مهرباً منها. الدَين يجبرنا على الاستمرار في علاقات مترهّلة نبقى فيها بسبب الالتزامات المالية التي قد تمتدّ من متوسطة الى طويلة الأجل. الدَين هو ما يعيق الاستقلال الاقتصادي، حتى في الاقتصاديات التي تؤدي فيها النساء أدوارًا رئيسية. في الوقت ذاته، لا يمكننا تجاهل الأثر الازدواجي للدَين: فهو يتيح أيضًا صعود بعض أشكال الحركة. بمعنى آخر، الدَين لا يقيّد الوجود وحسب؛ بل يمكّن من الحركة أحيانًا. يمكننا التفكير، مثلاً، في ظاهرة الدَين من أجل الهجرة، أو مَن يأخذ قرضًا لإطلاق مشروع اقتصادي، أو مَن يستدين من أجل الفرار. لكن هناك شيء واضح: سواء كان قيداً أو ممكِّناً للحركة، فإنّ الدَين هو استغلال لقوّة عمل مستقبلية، فهو يجبرك على قبول أي نوع من العمل بسبب الالتزام المسبق بالدَين. الدَين يجعلك تقبل قسريًا، شروط عمل أكثر مرونة وفي هذا الصدد، هو جهاز فعّال للاستغلال. ينظّم الدَين إذن اقتصادًا للطاعة، والذي لا يعدو كونه اقتصادًا محددًا للعنف.
إستناداً إلى التيّارات النسوية المتنوعة، نشأت طريقة نضال تتوافق مع التكوين الحالي لمّا نسمّيه العمل، بما في ذلك العمل المهاجر، والهشّ، والعمل في الأحياء، والعمل المنزلي والمجتمعي وقد أنتجت هذه الحركة أيضًا عناصر لفهم العمل المأجور بشكل جديد وأحدثت تحولاً في كيفية تنظيم النقابات نفسها.
إن إضافة البُعد المالي يتيح لنا الآن رسم خريطة لتدفّقات الدَين واستكمال خريطة الاستغلال بأشكاله الأكثر ديناميكية وتنوّعاً، والتي تبدو "غير مرئية". فهم الكيفية التي يعمل بها الدَين على أنّه أداة لاستخراج واستنزاف القيمة الكامنة في الاقتصاديات المنزلية والاقتصاديات غير المأجورة — تلك الاقتصاديات التي كانت تُعتبر تاريخياً غير منتجة — تبيّن كيف تعمل الأجهزة المالية كآليات حقيقية لاستعمار عملية إعادة الحياة. كما يُظهر كيف يدخل الدَين في الاقتصاديات المأجورة ويجعلها خاضعة. بالإضافة إلى ذلك، يتيح لنا فهم كيفية عمل الدَين كأداة مميّزة لتبييض التدفّقات النقدية غير القانونية، وبالتالي، كحلقة وصل حاسمة بين الاقتصاديات غير القانونية والقانونية.
أخيرًا، نقترح كطريقة عملية للتحليل، أن نُخرج الدَين من المختبَأ. لكي نخرج ديون كلّ فرد، وكلّ أسرة، وكلّ عائلة من حالة الكتمان التي هي فيه، علينا أولاً أن نتحدّث عنها. يعني ذلك أن نرويها ونصوغ مفاهيم حولها لفهم كيفية عملها؛ والتحقق في كيفية تداخلها مع الاقتصاديات المختلفة. يعني تسليط الضوء على أشكال الاستغلال والاقتلاع التي تسوسها في الحياة اليومية، وكيفية تدخّلها في عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج للحياة. ويعني أيضًا طرح الأسئلة التالية: في أي المجالات والفضاءات تكتسب المديونية سلطةً مقرّرة؟ ما أنواع الطاعة التي تنتجها؟ إخراجها من المختبأ يعني جعلها مرئية ووضعها كقضية مشتركة، ونزع الطابع الفردي (de-individualizing) عنها. لأن إخراج الدَين من الكتمان يتطلّب تحدّي قوته في بثّ الشعور بالخزي والذنب، وكسر جبروته المستمَدّ من قناعة عامّة في أنه "مسألة خاصة"، لا يمكننا مواجهتها إلا بإدارة حساباتنا بشكل فردي. ويعني أيضًا إظهار الطريقة التفاضلية التي يعمل بها الدَين بالنسبة للنساء، وللمثليات، وللأشخاص العابرين جنسياً. ويتطلّب البحث في الفرق في الاستغلال الذي يحدث عندما يكون المستدينون – أي الذين يقضون اليوم كلّه في إدارة الحسابات – من النساء، أو ربّات المنازل، أو المعيلات من الإناث، أو العاملات غير النظاميات في الاقتصاد الشعبي، أو العاملات في الجنس، أو المهاجرات، أو سكان الفيلات أو الفافيلاس (من الأحياء الفقيرة)، أو النساء ذوات البشرة السوداء أو النساء من السكان الأصليين، أو العابرين والعابرات، أو الفلّاحات والمزارعات، أو الطالبات. هاتان الحركتان – أي جعْل الدَين مرئيًا وإظهار الفروقات الجنسانية والجندرية المنضوية فيما ينتجه من تفاعلات – هما طريقتان لهزيمة التجريد الذي يحوم حوله.
- 1. أي سلسلة العنف البنيوية التي تنبع من نظام ثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي مبني على تقسيم ثنائي إقصائي بين الجندرين، يصبح بموجبه العابرون جنسياً محطّ اضطهاد ممنهج (ملاحظة المترجمة).
Cavallero, Luci and Verónica Gago. 2021. A Feminist Reading of Debt. London: Pluto Press.
Chakravartty, Paula and Denise Ferreira da Silva. 2012. Accumulation, Dispossession, and Debt: The Racial Logic of Global Capitalism – An Introduction. American Quarterly, 64(3), 361–385. https://dx.doi.org/10.1353/aq.2012.0033.
Federici, Silvia. 2014. From Commoning to Debt. Financialization, Microcredit and the Changing Architecture of Capitalist Accumulation. The South Atlantic Quarterly, 113(2), 231–244.
Ferreira da Silva, Denise. 2022. Unpayable Debt. Londres: Sternberg Press.