سيرورة الجندرية الاستعمارية
kohl-7-beyond_binaries-ar.jpg
سيرورة الجندرية الاستعمارية أو باختصار (س.ج.إ) هي إطار مفاهيمي يوضح كيف تؤثّر وتشكّل الممارسات الاستعمارية ما يُشار إليه بـ"هوية وشخصية" العابرين جنسياً. إن الممارسات التي تشكّل أنماط أو مدارس تفكير معيّنة، أو تصقل العدسة الجندرية المعرفية التي يتبنّاها جمعٌ من الناس (لوغونيس 2020)، تفرض كذلك أشكالاً معيّنة من الإدماج النيوليبرالي وتأطّر جهود تحقيق المساواة للعابرين جنسياً داخل المؤسسات. يهدف الإطار الذي نطرحه في العمل هذا إلى رسم خريطة لكيفية تشكيل الأيديولوجيات والممارسات الاستعمارية تاريخياً واستمرار تأثيرها في فهم ومعاملة مسألة وظاهرة الاختلاف والشذوذ الجندري. بمعنى آخر، يبيّن هذا الإطار الاستعمارية الجندرية كمنهاج تربوي يعمل على تشكيل ما نصطلح عليه بالـ "الاستعمارية العابرة" (ديبيترو 2019) في الممارسة – الممارسات والخطابات التي تمكّن وتقيّد التشكيلات المشتركة والإنتاج المشترك للسلطة (باكيتا 2015) في كيفية فهمنا وتفاعلنا وإدارتنا للاختلاف الجندري، خاصة بين المجتمعات السوداء ومكوّناتها الـ"عابرة جنسياً" والسكّان الأصليين والأشخاص الملونين (BIPOC) في الشمال العالمي. يستكشف (س.ج.إ) تأثيرات الاستعمار على الذاتية الجندرية والهوية والعلاقات، مع التركيز على كيفية استمرار الإرث الاستعماري في تعطيل الفهم الثقافي الخاص بالسكّان الأصليين للجندر والمادية العابرة.
تُبرز (س.ج.إ) بجلاء بيداغوجيات أو مناهج تربوية استعمارية متعلّقة بالجندرية أو تلك الممارسات التعليمية والخطابية التي تعزّز الأفكار الاستعمارية حول الجندر. تتجلّى هذه الممارسات في أساليب تعليمنا وفهمنا ونشر مفاهيم الهوية المغايرة جنسياً وأبعادها الذاتية والمادّية. وغالباً ما تكون هذه المفاهيم متجذّرة في رؤى أنجلو – غربية واستعمارية، تفرض ثنائيات الجندر ووجهات نظر هرمية، مما يخلق تفاضلاً في أشكال معيّنة من التعبير عن الجندر. تكشف (س.ج.إ) عن الطرق الخبيثة التي تستمرّ بها ديناميكيات القوة الاستعمارية في تشكيل وإعادة إنتاج نفسها داخل هياكل المعرفة والسلطة الحديثة. إن هذا التأثير يمتدّ ليؤثر في إدراكنا وتجسيدنا وتنظيم الجندر في المجتمع.
يتناول (س.ج.إ) في عمقه العنف المعرفي المعقّد والسيطرة الوجودية التي يعانيها الأشخاص العابرون جنسياً من ذوي البشرة الملوّنة. يُبرز الإطار واقعًا مزدوجًا: فمن جهة، يكشف عن القمع المستمرّ والتهميش المنهجي الذي يتعرّض له هؤلاء الأفراد، نتيجةً للتأثيرات المتواصلة للاستعمار والتحيّزات المجتمعية الراسخة. ومن جهة أخرى، يسلّط الضوء على أشكال المقاومة والتشكيلات الجماعية التي تُنتَج في وجه هذه المعايير الاستعمارية والجندرية الثنائية، محتفيًا بمرونة الأفراد ووكالتهم في تحدّي هذه الهياكل القمعية والتنقّل عبرها.
يتجاوز (س.ج.إ) حدود نقد الإرث الاستعماري في تشكيل الجندر؛ فيتوغّل في كيفية تشابك هذه التأثيرات التاريخية مع الهياكل الاجتماعية الراهنة، بما في ذلك الأطر الأكاديمية والتنظيمية داخل المؤسسات التي تسعى إلى تنويع أو تضمين الأفراد العابرين جنسياً من أصحاب البشرة الملوّنة في الأوساط الأكاديمية مثلاً. يقدّم (س.ج.إ) تحليلاً لكيفية تصوّر وتنفيذ مبادرات المساواة للعابرين جنسياً، كاشفاً النقاب عن القيود التي يفرضها المنظور الاستعماري على هويتهم وشخصيتهم. تُعتَبر هذه الرؤية أساسية لفهم ديناميكيات العلاقات الشخصية بين الأفراد العابرين جنسياً وتفاعلاتهم مع المجتمع الأوسع، خاصةً في البيئات التعليمية، حيث يعكس عدم القدرة على تبنّي ممارسات مناهضة للقمع الاستعماري المتجذّرة في تصميم السياسات المتعلّقة بالمساواة بين الجنسين. علاوة على ذلك، تشمل استعمارية العابرين جنسياً أيضًا الاستيلاء على الحركات النسوية والكويرية وقمعها في سياق الشمولية متعددة الثقافات، مما يؤدي غالبًا إلى تهميش قضايا العرق والاستعمار وعدم المساواة العالمية في الخطاب السائد حول النوع الاجتماعي بالمجمل والجندرية تحديداً.
تُظهِر الاستمرارية الجندرية الاستعمارية (س.ج.إ) كيف يتشابك الإرث الاستعماري مع الأشكال الراهنة من الاستغلال الاجتماعي والاضطهاد، مسلّطةً الضوء على الظلم والتمييز المنهجي الذي يعاني منه الأفراد العابرون جنسياً من ذوي البشرة الملوّنة على مستوى العالم. إن هذا الاضطهاد المتواصل يزداد تعقيداً بفعل التحيّزات المتأصّلة ضد العابرين جنسياً، والتي تتجذر في الأعراف المجتمعية، مما يفرض رؤى ثنائية وإقصائية للجندر.
الإطار المفاهيمي لـ (س.ج.إ) يتحدّى التصوّرات الغربية السائدة حول الهوية، والتي تشكّل بدورها معالم المشهدَين الاجتماعي والثقافي والقانوني في سياقات ما بعد الاستعمار. يمتدّ تأثيره ليطال بشكل خاص الأجناس غير النمطية. من خلال مناداته بإزالة الاستعمار، يسعى (س.ج.إ) إلى تفكيك السرديات المقيّدة التي تحيط بالهوية، مما يفتح المجال للاعتراف والتأكيد على تجارب العابرين جنسياً المتنوعة والمختلفة. علاوة على ذلك، يوجه (س.ج.إ) انتقاداً ممنهجا للعلاقة بين المؤسسات والأفراد، مشدداً على كيف أن تصرفات الشمال العالمي، التي قد تبدو محاطة بنوايا حسنة، يمكن أن تسهم بشكل غير مباشر في تعزيز القمع في الجنوب العالمي (ديبيترو 2019).
في دراسة فلسطين، بالإضافة إلى تحليل جاسبير بوار (2018) لظاهرة "الغسيل الوردي"، يقدم الـ(س.ج.إ) رؤى عميقة حول التفاعل المعقّد بين القمع والمقاومة والهوية في المناطق المتضررة من الاستعمار والنزاعات. يُعتبر الغسيل الوردي، كأداة استعمارية، استغلالًا لحقوق مجتمع الميم لإبعاد الأنظار عن الظلم الأعمق، مما يساهم في تعزيز الأيديولوجيات الاستعمارية والتمييزية. يدعو مركز الدراسات الثقافية إلى دحض هذه الاستراتيجيات والتركيز مرة أخرى على أصوات وتجارب الفئات المهمّشة، مع الاعتراف بتضحياتهم وصمودهم في مواجهة كل من الاحتلال ومحاولات اغتصاب الهوية الفردية والجمعية. هذا النهج لا يقتصر فقط على تحدي الروايات القمعية، بل يحتفي أيضًا بقدرة الأفراد الفلسطينيين من مجتمع الميم على المقاومة والتكيّف في سياق معقّد مليء بالضغوط الاستعمارية والاجتماعية.
في أبحاثي حول الممارسات النسوية العابرة للحدود ومن خلال نشاطي ضمن مجتمعات "خوتيريا"، لاحظت أوجه تشابه بين المقاومة الكويرية الفلسطينية وتجارب مجتمعات العابرين جنسياً من شعوب أمريكا اللاتينية والمهاجرين غير الموثّقين، خاصةً فيما يتعلّق بمواجهتهم (جمع شامل كل الهويات الجندرية) لعنف الدولة، والإقصاء المنهجي، وتجارب كل تلك المجتمعات مع الأطر المفروضة على بناء وشرعنة الهوية. على سبيل المثال، في مقابلاتي مع أفراد لاتينيين عابرين جنسياً ممّن تعاملوا مع نظام الهجرة في الولايات المتحدة الأميركية، شارك العديد منهم كيف أن الرقابة الحكومية والسيطرة على معاني الهوية العابرة تركهم في حالة من الانفصال أو ربما الاغتراب كمصطلح أصحّ عربياً، عن هوياتهم الثقافية والجندرية (سالاس-سانتا كروز 2024). هذا يتوافق مع مفهوم "عسر الهوية الاستعماري"، الذي يعاني منه الأفراد الكويريون الفلسطينيون أثناء مواجهتهم للقمع المركّب الناجم عن الاحتلال والثقافة المحافِظة في بعض أركانها الداخلية. يشير "اضطراب الهوية الاستعماري" إلى الاغتراب العميق الذي يختبره الأشخاص الكويريون والعابرون جنسياً من ذوي البشرة الملوّنة نتيجة التنقّل بين البنى الاستعمارية، والترانسفوبية، والهياكل النمطية المغايرة .
بالنسبة للأفراد الفلسطينيين من مجتمع الميم، يتفاقم "عسر الهوية" بسبب تكتيكات "الغسيل الوردي" الإسرائيلي، كما ناقشته لانا تطور في تحليلها للحركات السياسية الفلسطينية. تشير تطور (2021) إلى أن الغسيل الوردي، رغم تقديمه كخطوة نحو تقدّم حقوق مجتمع الميم، يُستخدم لتعزيز السيطرة الاستعمارية ومحو التجارب الحياتية للكويريين الفلسطينيين، مما يجبرهم على التعامل مع هويات مفروضة تُبعدهم عن مجتمعاتهم. كما أبرزت لين درويش وحنين معيكي (2014)، يتعيّن على النشطاء الكويريين الفلسطينيين مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والقوى المحافظة داخل مجتمعهم، وهو ما يتجلّى في الجهود المستمرّة لمجموعات مثل "القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني". وتشير معيكي وهوشبرغ (2010) ولانا تطور (2021) إلى أن النضال من أجل تحرير الكويريين والعابرين جنسياً في فلسطين لا يمكن فصله عن النضال الأوسع ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. وقد أكد هذا المفهوم النقاش حول "هبّة الكرامة"، حيث جُمعت هذه الهبّة، التي حظي بها الفلسطينيون طواعية في جميع المناطق، في مقاومة موحّدة ضد التفتيت الاستعماري، مما يعزز الحاجة إلى نهج جماعي للتحرّر الوطني والمقاومة الكويرية (تطور 2021).
في هذا السياق، يوفر إطار "سيرورة الجندرية الاستعمارية" (س.ج.إ) منظورًا لفهم كيف تداخَل الاستعمار والمغايرة النمطية والترانسفوبيا للحفاظ على هياكل السلطة القمعية. يساعدنا دمج الدراسات النسوية والكويرية الفلسطينية، على رؤية الطرق التي يتعامل بها الاستعمار مع المغايرة الجنسية النمطية والترانسفوبيا لتعزيزها إما مباشرة أو بشكل غير مباشر. كما يسلّط هذا لاطار التحليلي الضوء على المقاومة المستمرّة للكويريين الفلسطينيين، مثل أولئك المنخرطين في منظمة "القوس" المحلية و"كويريون فلسطينيون من أجل المقاطعة"، الذين يواجهون نير الاستعمار الخارجي الى جانب الارهاصات الاجتماعية الداخلية في نضالهم من أجل العدالة.
alQaws for Sexual & Gender Diversity in Palestinian Society. alQaws. http://alqaws.org/siteEn/index.
Bacchetta, Paola. 2015. Décoloniser le féminisme: Intersectionnalité, assemblages, co-formations, co-productions. Les Cahiers du CEDREF, 20. http://journals.openedition.org/cedref/833
Darwich, Lynn and Haneen Maikey. 2014. The Road from Antipinkwashing Activism to the Decolonization of Palestine. WSQ: Women’s Studies Quarterly, 42(3), 281–285.
DiPietro, PJ. 2019. Beyond Benevolent Violence: Trans* of Color, Ornamental Multiculturalism, and the Decolonization of Affect. In Speaking Face to Face: The Visionary Philosophy of María Lugones, eds. P. J. DiPietro, Jennifer McWeeny and Shireen Roshanravan. Albany: SUNY Press, 197–216.
Lugones, María. 2020. Gender and Universality in Colonial Methodology. Critical Philosophy of Race, 8(1–2), 25–47.
Maikey, Haneen and Gil Z. Hochberg. 2010. No Pride in Occupation: A Roundtable Discussion. GLQ: A Journal of Lesbian and Gay Studies, 16(4), 599–607.
Puar, Jasbir K. 2018. Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times. Durham, NC: Duke University Press.
Salas-SantaCruz, Omi. 2024. My pronouns are fuck ICE: on the colonial gender continuum, colonial dysphoria, and loving illegality. International Journal of Qualitative Studies in Education, 1–22.
Tatour, Lana. 2021. The Unity Intifada and ’48 Palestinians: Between the Liberal and the Decolonial. Journal of Palestine Studies, 50(4): 84–89.