الجسور والحوارات ووحدة الصفّ: النسوية الكويريّة المناهضة للاستعمار والنسوية الماديّة
kohl-0-cover-ar.jpg
وُلد هذا المشروع من رغبةٍ عميقة في إعادة النظر في قضايا الجندر والجنسانية ضمن سياقاتها المعقّدة التي تتشابك مع علاقاتٍ متعدّدة تكوّن واقع السلطة وآليات عملها في العالم. نعالج قضايانا من خلال الدمج متعدّد المنطلقات بين النظريات النسوية المناهضة للاستعمار والكويرية والنظرية النسوية المادّية. ركّزنا في هذا المشروع على الإمكانيات التفسيريّة والتحليلية التي تتيحها هذه النظريات، من خلال تفاعلاتها وتآزرها. من خلال تلك الأطر التفسيرية نحاول النظر في تجسّدات السلطة ضمن مواقع وعلاقات ومحلّيات جندرية متباينة – بدءًا من الأجساد وصولًا إلى الأراضي، ومن اللحم والأبدان إلى التربة، ومن البيولوجيا إلى المعادن والأرض، ومن الملكية إلى العمل. تقدّم النظرية النسوية المادية أساسًا قويًا لنقدٍ مناهضٍ للرأسمالية، حيث تكشف الشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تنظّم استغلال النساء والأشخاص ذوي السمات الأنثويّة، ننظر في النهب الممنهج لأعمالهنّ وأجسادهن. في المقابل، توفّر مدارس تفكيك الاستعمار رؤىً نقدية حول أشكال العنف التي يفرضها الإٍراثُ الاستعماري في المجتمعات المعاصرة. ويتوضّح لنا تباعاً كيف أنّ فرض الجندر والجنسانيّة بأشكالها ودلالاتها الاستعمارية على الفضاءات المُستعمَرة قد أعاد تشكيل شروط الحياة داخل التركيبة الراهنة، ليس لعناصر المجتمع الخاضعة للسلطات المستجدّة بل لجميع أركان البنية الحديثة. إذن، نحن هنا في صدد تفكيرٍ نقديٍّ في رهانات البنى التكوينية للجندر والجنسانيّة المتأثرة بالاستعمار، من فلسطين إلى جورجيا، ومن كشمير إلى الأرجنتين، ومن المغرب إلى المملكة المتحدة. فكلّ هذه التعقيدات تسائلنا عن أبعاد راهنيّة واقعنا المعقّدة وما تعنيه هذه التشابكات بالنسبة للنضال من أجل التحرّر الشامل والعدالة الكاملة.
السياق والظرف والعمليّة
هذا العدد الخاص لا يأتي في فراغ، بل يتشكّل ضمن سياقٍ زمنيٍّ محدّد: زمن صعود الفاشية العالمية، والحرب المعمّمة، ومرحلة الإبادة الجماعية المتسارعة في غزة التي تتواصل بلا هوادة منذ أكثر من عام، وامتدت آثارها إلى غرب آسيا، خاصة إلى لبنان، وكذلك إلى العديد من الدول حول العالم حيث تُقمَع بعنف حركات التضامن مع فلسطين. وفي وقت كتابة هذه السطور، تشير الأرقام الرسمية إلى أن الإبادة الجماعية في غزة قد أسفرت عن أكثر من 40,000 شهيد، وهو رقم يعتبره العديد من الأكاديميين أقلّ بكثير من الواقع، إذ تشير تقديراتهم إلى أكثر من 186,000 شهيد بشكل مباشر وغير مباشر (خطيب وآخرون 2024). تُبرز هذه الظروف أهمية وضرورة إعادة التفكير في السلطة، والمقاومة، والتحرّر للجميع. ومن هذا المنطلق، نقدّم منظورًا يناهض الاستعمار، والامبريالية، والرأسمالية، والعنصرية، ويرفض دون تهاون جميع أشكال التمييز الجنسي ورهاب المثلية.
اخترنا، في مواجهة الحجم الهائل للرعب المستمرّ والانحدار نحو الفاشية المعولمة، إعداد هذا المعجم المفاهيمي كأداةٍ ممكنة للنضال من أجل تحرير جميع الشعوب المضطهدة. بالتعاون مع مجموعة تضم ثمانية عشر باحثًا وباحثة من مختلف أنحاء العالم، قمنا بتطوير ثلاثة وعشرين مفهومًا نسويًا يمكنها أن تقدّم رؤى استراتيجية رئيسية لبناء وتعزيز التضامنات بين النضالات العالمية ضد الاستغلال والقمع. هذه المفاهيم، رغم أنها كانت في البداية ثمرة تفكير جماعي، فإنّ لكلٍّ منها جذورها الممتدّة في تجارب المشاركين الخاصة، سواء كميدانيين وباحثين، أو كمنظمين وناشطين. ومنذ البداية، رفضنا بشكلٍ واعٍ الانصياع للثنائية السائدة التي تفصل بين الأكاديمي والناشط. بالنسبة لنا، لا يمكن فهم السلطة والمقاومة والتحوّل الاجتماعي إلا من خلال التزام صريح بتحرير الشعوب من جميع أشكال القمع. لقد شعرنا بهذه الضرورة بشكل أكثر إلحاحًا منذ السابع من أكتوبر 2023. لذلك، يأتي هذا العدد الخاص، وما يقدّمه من أدوات مفاهيمية جديدة، في وقت بالغ الأهمية، خصوصًا في ظل مدى انتشار الدعاية الصهيونية، وتكرار الصور الاستعمارية-الاستشراقية عبر وسائل الإعلام العالمية المهيمنة، وتواطؤ الحكومات في جميع أنحاء العالم، بل وأجزاء من مجتمعاتها، في إسكات الجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب في فلسطين ولبنان. تحت وطأة هذه الظروف، نقدّم هذا العدد الخاص تضامنًا مع النسويات، والكويريات، وكلّ من يناضل في حركات التحرير التي ترمي إلى القضاء على الاستعمار من خلال تفكيك تعقيداته في هذه المناطق.
أردنا نشر هذا المعجم بالتعاون مع مجلة "كحل"، على أمل أن تُسهم الجسور والحوارات المتعددة والتفاعلات التي يحتويها المعجم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، في دعم حياة الفلسطينيين واللبنانيين وتعزيز نضالهم من أجل التحرر. كما يشرّفنا العمل مع زميلتنا ورفيقتنا العزيزة، الفنانة أود أبو نصر. في زمنٍ يسوده الموت اللحظي والمتسارع والبطيء، إلى جانب الموت المبكر المستمرّ، استطاعت أود، من خلال فنّها، أن تنفخ الروح في الكلمات المكتوبة في هذا العدد الخاص، وأن تعيد صياغتها بلغة الحياة اليومية المتواضعة، لتؤكد مجددًا البُعد الإنساني في وجه حملات مُمنهجة مدعومة بآلة عسكرية مدمّرة، تسعى لطمس وجود البشر بشكل انتقائي. لعلّ هذه اللفتة تكون شعاع قوة يُعزّز النضال، ونورًا يشعّ في وجه تهديد إنسانيتنا المشتركة.
نقطة انطلاق أساسية لهذا العدد الخاص كانت وستظل الرغبة الصادقة في التعلّم المتبادل وخلق روابط من التضامن. بادئ ذي بدء، يتشارك الباحثون، المنتمون الى كلٍّ من المدرستين النسويتيتين (المعادية للاستعمار والمادية) المعنيّتين، الكثير من القواسم المشتركة. ومن أبرز ما يجمعنا هو الالتزام بمناهضة جميع أشكال القمع والهيمنة والاستغلال، والانخراط الفعّال في المقاومة ضد الاستعمار، والإمبريالية، والرأسمالية، والعنصرية، والتمييز الجنسي، وكل أشكال رهاب المثلية. نتشارك أفقًا أوسع لفهم كيفية تداخل مختلف أشكال العلاقات السلطوية وكيف تترابط على نحو لا يمكن فصله. نحن جميعًا ملتزمون بإعادة تأريخ الحقيقة العالمية لهذه البُنى والأنظمة والتشكيلات السلطوية، سواء من خلال دراسة الماضي، أو تتبّع أنساب الحاضر، أو عبر النظر إلى المدى الطويل للأحداث التاريخية. نرفض إعادة إنتاج الوضع الراهن، ونلتزم ببناء مخيال فعّال يسهم في بناء حاضر ومستقبل تحرريّين. شعرنا منذ البداية أن حواراتنا يمكن أن تكون مثمرة، لأن كلّ منظور يسلّط الضوء على أبعاد مختلفة لعلاقات السلطة، والمقاومة، والتحرّر. ومن خلال جمع تأمّلاتنا، وتخصيب أساليب تفكيرنا المتبادلة، يمكن فقط أن نُعزّز كلّ منظور لفهم كيفية عمل السلطة وما الذي تعنيه وتتطلّبه عملية التحرّر.
بينما ظلّت فلسطين محور تفكيرنا وجوهر اهتمامنا، يتميّز هذا العدد الخاص بطابعه العابر للحدود الوطنية. أي أنّ موضوعاتنا ومعالجاتنا متجذّرة في مواقع متعدّدة، ومنفتحة على تعدّدية في الترجمة والتأويل. يضمّ العدد سلسلةً من المداخل التي تمتدّ كلّ منها لحوالي ألف كلمة، وتشكّل مساحة لالتقاء جغرافيات متعدّدة، لكنها تتجاوز ذلك لتجمع بين أنساب فكرية وتجارب راهنة ترتبط بنظريات ما بعد الاستعمار ونظريات المادّية التاريخيّة، بل وتطمح إلى تجاوزها. تستدعي أمثلته فلسطين كقضية محورية تتشابك مع مواقع أخرى في العالم، ممّا يتيح رؤيةً أكثر عمقًا للترابط بين النضالات التحرّرية ويعزز فهماً سياسياً مستنيراً لصراعات الحرية والمقاومة في سياقاتها المتنوّعة.
تتعدّد ميزات هذا المعجم: أولًا، على عكس المجموعات السابقة من الكلمات المفتاحية أو المعاجم أو القواميس أو الموسوعات، والتي غالبًا ما أُنتجت على هيئة كتب وليس كأعداد خاصة من المجلات، لا تسعى تلك المشاريع السابقة إلى خلق حوار بين وجهات نظر مستقلة، متمايزة، ومتطوّرة باضطراد. كانت المشاريع السابقة ذات طبيعة أكثر تفكيكًا، فردانية، وأحادية الصوت. أما في هذا العدد الخاص من مجلة "كحل"، فإننا نجتمع في حوارٍ متعدّد الأصوات ونفعل ذلك بطرقٍ متنوّعة. فعلى سبيل المثال، طلبنا كفريق تحرير من كلّ مؤلّف أن يشرح الكلمة المفتاحية الخاصة به ليس فقط من المنظور النظري الذي يرتكز عليه في أعماله المعتادة، بل مع وعيٍ خاص بضرورة مخاطبة التوجّهات النظرية الأخرى الحاضرة في العمل الجماعي. كذلك، نحن كفريق تحرير، وبالرغم من تموضعاتنا المختلفة داخل وخارج مدارس النسويات المناهضة للاستعمار والنظريات النسوية المادية، قمنا بمراجعة وتقديم ملاحظاتنا – التي كانت غالبًا متباينة – على كلّ مدخل مفاهيمي، وظللنا في حالة حوارٍ مستمرٍّ فيما بيننا طوال عملية الإنتاج.
ثانيًا، يتحدّى هذا العدد التيار السائد في العديد من المجموعات التي تُعتبَر مرجعيّةً عالميةً للمفردات النسوية والكويرية. فتلك المرجعيات المعتمدة ترتكز في أساسها – مع بعض الاستثناءات القليلة –على النظرية المنتَجة ضمن دول الشمال العالمي ومن أجل خدمته. هذا النص "الرسمي"، الذي يُعتبر عالميًا، يميل إلى إعادة تكرار الأعمال الأكثر هيمنة والتي تحظى بأكبر عدد من الاستشهادات المرجعيّة، وهي عملية تقوم بدورها بمحو منهجي لعالم كامل من الإنتاج النظري في الجنوب العالمي، بما في ذلك في بعض الأحيان فضاء الجنوب في الشمال العالمي. بالمقابل، بالنسبة للنظريات النسوية والكويرية المناهضة للاستعمار، فإنَّ مثل هذه السياسة في الاستشهاد المرجعيّ تشكّل نوعًا من العنف المعرفي الاستعماري، حيث يتمّ تجسيد الشمال العالمي كمرجعية علمية حصرية، سواء من الناحية التجريبية أو النظرية.
في هذا العدد الخاص، نتحرّك بوعي ضدّ التكرار الأبدي للاقتباسات النظرية السائدة لأنها تعيق تفكيرنا وتحليلنا وخيالنا. ككلّ، يقاوم المعجم هذا الترحُّلات الإمبريالية السهلة للمفاهيم النقدية السائدة من الشمال العالمي إلى الجنوب، ويُسائل الافتراض المسبق لعالميّتها الخالصة ومصداقيتها المطلقة. بدلاً من ذلك، يهدف هذا العدد الخاص إلى إبراز بعض المواد الجديدة التي تفتح طرقًا أخرى للتفكير والوجود والفعل، وتتبنّى في تكراراتها المفاهيمية، حيثما تظهر، ما يخدم المنهج المضاد للهيمنة. يسلّط هذا العمل المعجمي الضوء على الإسهامات النظرية التي تتمخّض معرفيًا وتجريبيًا ونظريًا عن الفعل الفكريّ في الجنوب العالمي ولأجله، بما في ذلك فضاء الجنوب العالمي الذي يمكث في دول الشمال. هذه المقاربة تغيّر كلّ شيء. ماذا يحدث عندما يسافر مفهوم "الجسد-الموطن" (cuerpo-territorio)، وهو منظورٌ قدّمته النسويات المجتمعية في "أبيا يالا"، إلى فلسطين؟ كيف يمكن أن يَطُلَّ لنا مفهومٌ مثل "إلغاء التماثل الجندري" – الذي طوّرته هورتنس سبيلرز ونسويات سوداوات أخريات في سياق العبودية عبر الأطلسي، بين النقاشات التي تطرحها أعمال أليس وينباوم – في السودان؟
بعض التحوّلات واضحة، مثل التحوّلات اللفظية. على سبيل المثال، يُصرّ المؤلّفون على تبنّي وجهات النظر والمفردات الخاصة بالشعوب الأصلية والمهمّشين. ومن الأمثلة على ذلك رفض التسميات الاستعمارية للأماكن التي تمّ تسميتها من قبل السكّان الأصليين، واستخدام التسميات التي أطلقها هؤلاء السكّان، مثل "جزيرة السلحفاة"، "أبيا يالا"، "فلسطين"، وغيرها. أما التحوّلات الأخرى فقد لا تكون واضحة في البداية، مثل كيفية ارتباط همّنا المشترك الذي لا يساوَم عليه في مكافحة علاقات الاستعمار ومعالم الإستعمار المتجدد، والرأسمالية، والعنصرية، والتمييز الجنسي، وكراهية المثليين – نناضل ضدّها على نحو متّسق غير قابل للتفرقة. نناضل ضدّها كلّها في كلّ عملية بناء لمصطلح مفاهيمي. باختصار، إنّ الجسر الواعي بين توجّهين نظريين متباينين هو مفتاحنا نحو خلق تضامنات فعّالة تنطوي على أشكال من التحوّل المعرفي الجادّ، وتباعاً يمهّد إلى تحوّلٍ أكبر في قواعد التعبير والانتاج.
النظرية الديكولونياليّة والنظرية الماديّة: مدارس نسوية كويريّة تتكامل
لقد ساعدت عملية إنشاء هذا العدد في إبراز مجموعة من الإسهامات، يتخلّل ذلك إبراز محدوديات كلّ من نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية من جهة والنظرية المادّية في حالتها الحالية من التطوّر. بدلاً من الركود أو خيبة الأمل أو حتى الاستبعاد بسبب محدوديّاتنا وصراعاتنا، نقدّم هذا العدد الخاص كفرصةٍ ودعوة لتعميق كلّ توجّه نسوي وتحفيز المزيد من الحوارات المتعددة والتآزرات النظرية فيما بينها.
أولاً، نقدّم بعض الملاحظات حول منابع وتطوّر مختلف مدارس النسوية. إحدى الخصائص البارزة للغاية في نظرية االنسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية هي أنهما تتمسّكان بكُليّة عناصر السلطة أو القوة إلى حدّ العزوف عن أيّ شكلٍ من الفصل ما بين مكوّناتها المعقّدة. تفرض هذه المدارس التعقيد المفاهيمي بكليته كأساسٍ لتحليلاتها، فننظر مثلًا: الجندر والجنسانية، الاستعمار، العبودية، الإمبريالية، الرأسمالية العرقية، العنصرية، التمييز الجنسي، والعديد من أنواع كراهية المثليين. تحتوي نظرية الديكولونيالية النسوية والنظرية الكويرية على سلاسل جينيالوجية متعددة من التنظير التي بقت جزءًا أساسيًا من تطورها الراهن. ومن أبرز هذه السلاسل نجدها في نسوية السكان الأصليين ونسوية ذوي البشرة السوداء والنظريات الكويرية التي تتناول سؤال التحديد الجندري، وإلغاء التماثل الجندري، والظروف الاستعمارية والعرقية، والموضوعات والاقتصادات التي نشأت على مدار 500 عام من الاستعمار، والعبودية عبر الأطلسي، و"تربية العبيد"، واقتصادات المزارع في ظل الرأسمالية العرقية. كما تشير مداخلات باكيتا حول استعمار الجنسانية، ومدخل بي جي ديبيترو حول استعمار الجندر، ومدخل أومي سالاس-سانتا كروز حول النسوية الكويرية الديكولونيالية، فإن نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية تقدما فهمًا معقدًا للكيفية التي فرض بها الاستعمار جميع العلاقات والهياكل والأنظمة والتراكيب التي نسمّيها ببنى السلطة أو القوة في المجتمع والدولة. كما تسلّط هاتين المدرستين الضوء بشكل خاص على الثنائيات التي اختلقها الاستعمار، والاتجاهات الاستعمارية العرقية الأوروبية المهيمنة في مدماك القضايا الجندرية والجنسانية. تكشف نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية عن العنف المعرفي – في مجال الفئات أو التصنيفات الفئوية، والمنطق، والافتراضات المبدئية، والاستنتاجات – وكلّ ما يترتّب على تلك العمليات الفكرية من آثار مادّية. في هذا العدد الخاص، تتناول أومي سالاس-سانتا كروز هذه المترتّبات المادية بشكل مباشر في مدخلها عن "اضطراب الهوية الجندرية الاستعماري". تتّخذ نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية موقفًا نقديًا حادًا لا جدل إزاءه اتجاه التعبئة الاستعمارية-العنصرية للنماذج المهيمنة للجندر والجنسانية، وإعادة إنتاجها في النظرية والممارسة النسوية والكويرية السائدة (والسائد من المفاهيم هو ما نشير إليه أيضا بالمفهوم المهيمن). نرى ذلك ينعكس بشكل صريح في المداخلات التي قدّمها كيربي لينش حول "تفكيك الآخر"، وعائشة بوناغا حول "ردّ الفعل الإسلاموفوبي"، وفي مداخلات باكيتا حول الأدلة الاختزالية والمجتمعات الذكورية السلطوية.
تقترح نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية أيضًا إعادة تقييم المعرفيات التي تمّ تهميشها ومحوها من أجل اكتشاف إمكانيات وآفاق جديدة. يساهم جميع الباحثين في هذا العدد الخاص في هذه الجهود. بعضهم يفعل ذلك بشكل مباشر، مثل أنجيلا فيغيريدو مع مفهومها للمعرفيات السوداء غير الخاضعة أو باولا باكيتا مع مفهومها للكوكبية الموضعية. كما أن نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية تهتم بشكل مركزي بالمادية. وغالبًا ما تتخذ هذه الاهتمامات شكل تحليل "الأرض" بجوانبها المتعددة. يتم ذلك من خلال الاعتراف بالأرض كمركزٍ لحياة الشعوب الأصلية وعلاقاتها، وبالتالي كنقطة محورية في نضالات التحرّر النسوي والكويري المناهضة للاستعمار والإمبريالية. يتوضّح ذلك لنا في مدخل شيماء نادر عن الزراعة المقاومة أو ربما نصفها بالمتمردة في فلسطين. كما ويظهر لنا هذا البعد المادي في القضايا المتعلقة بالحدود، وفي مدخل أومي سالاس-سانتا كروز وسيرجيو أ. غونزاليس عن الحدود، والـ"فرونتيرا"، والأراضي الحدودية. يتّفق معظم الباحثين في نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية على أن النساء والمثليين المستعمَرين والمهمّشين لا يمكنهم أن يكونوا أحرارًا حتى يتمّ الانقلاب على جميع العلاقات المتعدّدة والمترابطة التي يرزحون تحتها. على سبيل المثال، يؤكد الناشطون الكويريون الفلسطينيون منذ وقت طويل أنّ تحرير النساء والمثليين الفلسطينيين يتطلّب أولًا وقبل كلّ شيء إنهاء الاحتلال والفصل العنصري والإبادة الجماعية. من جهة أخرى، تتمثل إحدى نقاط القوة في نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية في جعل الجسد محورًا أساسيًا، كما توضح المداخلات عن الأبعاد الاستعمارية للـ"جندر" لـ بي جي ديبيترو، والعمل المقدَّم حول مسائل إلغاء التماثل الجندري بقلم أليس وينباوم. لقد أثبتت التفاعلات الفكرية العابرة للحدود التي استمرّت في التطوّر بين الباحثين في نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية على مدار العقد الماضي أو أكثر، أن القضايا المادية والمعرفية لا بدّ إلا وأن تنفصل أبدًا في قلب العملية التحليليّة. للاستشهاد بمثال واحد فقط من هذه التنظيرات و"الحوار المتعدّد العابر للحدود": العروض المقدَّمة من حنين معيكي، وولاء القيسيَّة، وجين هاريتاورن، وهما دار، وسارينا دانكوا، وصابرين الرسَّاس، وجواو غابرييل، وملاد شيخ، ومسينيسا غاراون، وسانتا خوراي، والعديد من الآخرين، في مؤتمر "استعمار الجنسانيات" الذي نظمته شبكة "استعمار الجنسانيات" في آذار/مارس 2021، قد أبرزت الظروف المادية القاتلة لبنى السلطة الراهنة تحت الاستعمار، والعنف المعرفي، والإبادة المعرفية. ووصلت الباحثات هذه التعقيدات بجوانب مختلفة من الممارسات النضالية، وفعالية النشاط الفنّي، والتضامنات الحيوية، ومظاهر البقاء المعرفي للمهمّش من شرائح المجتمع ومنازعته للتوسعة، وأحلام ورغبات مشتركة من أجل مستقبل عادل، انقلابي تحوّلي تحرّري، ومفعم بالمعاني التي تلامس الجميع.
نظرية النسوية الديكولانيالية والنظرية الكويرية متعددة ومتنوعة. إنها في الواقع مجموعة مرنة من المنظورات والمقاربات والمفاهيم والنقاشات التي تبقى في حالة مستمرة من الاحتكاك العملي مع الواقع، عليه فإنها تحاول ألا تغدو مجموعة ثابتة من المصطلحات المقرَّرة مسبقًا. وفي هذا السياق، قام المنتمون إلى مدرسة البوستكولونيالية أو الـ ما بعد استعمارية بتوجيه انتقادات عديدة لمكنونات هذا العمل ومنهجه. إشكالية هذه المدرسة المعرفية هي في المبالغة في التركيز على قضايا الخطاب والممارسة الهوياتيّة أو الآداء الهوياتيّ والمعرفي، وفي الوقت نفسه تدأب هذه المدرسة على إغفال الماديّات والاقتصاديات السياسية للأراضي والأجساد والأبدان والتربة. هذه بعض العناصر من بين أخرى التي تجعل الحوار مثيراً بشكل خاص، بين الباحثين في نظرية النسوية الديكولونيالية والنظرية الكويرية من جهة ونظريات المادية التاريخية.
النسويّة المادّية (التاريخية) هو تقليد نسوي غني يستند إلى سلالات متنوّعة من الماركسية، والاشتراكية، والفكر المستقلّ، والفكر الأناركي من مختلف أنحاء العالم. تتوحد هذه السلالات النسوية المتباينة في تأكيدها على الأساس التحليلي ألا وهو: المادية والمجتمعيّة-الاقتصادية التي تشكّل ظروف عمل أجساد النساء والأشخاص الذين يوسَمون بالأنوثة غير المحبَّبة، تلك التركيبة التحليلية التي تنير لنا فهم أشكال الاضطهاد والاستغلال التي تواجهها تلك الأجساد في المجتمعات والاقتصادات الرأسمالية.
على عكس النسويات الليبراليات والراديكاليات، يصرّ النسويون الماديون على أن النساء لا يتعرّضن للاضطهاد فقط من قبل النظام الأبوي و"شخص الرجل المهيمِن عالميًا"، بل إن هذا الاضطهاد الأبوي مرتبط تاريخيًا واجتماعيًا بالنظام الرأسمالي، بما يحمله من هياكل مدمّرة تتحرّك من خلال استغلال العمل واحتكار أدواته. لكن على عكس الماركسيين التقليديين، يرى النسويون الماديون أن الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي قائم على التفاوتات الطبقية بين العمّال البروليتاريين وأرباب العمل البرجوازيين، بل إن هذه التقسيمات العمّالية هي أيضًا ذات طابع جندري وعرقي وجنسي. من خلال فهم نشوء الرأسمالية كعملية جندرية تنبع من التفريق العنيف بين ما أو مَن يُعتبر "منتِجًا للقيمة" ومن يُعتبر"منتِجًا للحياة". يحلل النسويون الماديون كيف يتم تهميش النساء والأشخاص المؤنثين إلى مجالات العمل المنزلي غير المدفوع والعمالة المنتجة المدفوعة بأجور منخفضة. يناقش هذا العمل كذلك هذه العملية الهيكلية من تقليص قيمة عمل النساء، والتي أسمتها ماريا ميس (1998) بـ"تأنيث العمل المنزلي"، سيضيء لنا سيغريد فيرتومن تجلّيات هذا التأنيث في التاريخ الحديث والمعاصر.
إصرار النسويات المادّيات على الأبعاد الجندرية والعِرقية المتعددة في عمليات تراكم رأس المال، يؤكد لنا أن أماكن العمل لا تنحسر بالمصانع والمكاتب، بل تشمل أيضًا أجنحة الولادة، مقاصف المدارس، مطابخ المنازل، وغرف النوم. يؤكد أتباع هذه المدرسة أن قوة العمل الرأسمالية لا تتكون فقط من عمّال المناجم والمهندسين وعمال الأرصفة والمصانع، بل أيضًا من الممرضات، وعاملات رعاية الأطفال، وربّات المنازل، والمعلّمات، وعمّال المزارع، والقابلات، والأمّهات، والمربّيات، والتجّار الصغار عبر الحدود، كما تصفهم لانا سلمان في مدخلها عن التهريب الاجتماعي الإنجابي. هؤلاء العمّال المؤنّثين لا ينتجون القيمة (بشكل مباشر أو غير مباشر) فحسب، بل أيضًا يعيدون إنتاج ما سمّاه ماركس السلعة الأكثر ميزةً وتحديدًا: قوة العمل نفسها، كما تطرحه فيروز يوسفي في مدخلها عن الإنجاب الاجتماعي. بالنظر إلى الدور الحاسم للنساء في قوة العمل وإنتاجها، كربّات منازل غير مدفوعات الأجر، وأمّهات، وممرّضات، وعاملات تنظيف، وعاملات في المزارع، فقد أبرزت النسويات المادّيات أيضًا إمكانياتهن الثورية في مقاومة وتفكيك الهياكل الرأسمالية للاستغلال والاضطهاد. كما يظهر من خلال مداخلات لوسي كافاليرو وفيرونيكا غاغو عن الدَين، وأعمال صوريا الكحلاوي عن الملكية غير المؤكّدة وحقّ التملّك، حيث دفعت النسويات المادّيات وما زلن يدفعن نحو فهمٍ تحليلي وسياسي أوسع للمصطلحات الاقتصادية "التي يهيمن عليها الرجال" مثل الدَين، والملكية، والقيمة، ورأس المال، التي تعترف بالأعمال غير المرئية، والأجساد-الأراضي، وحياة النساء والأشخاص المؤنّثين. كما أن مدخل كاميل بارباغالو ونيكولاس بوريت حول الإضراب، ومدخل فيروز يوسفي حول "العُشّة" يظهران بشكل مؤثر كيف يمكن أن توسّع عدسة النسوية المادية أو "تعبر بشكل متقاطع" مفهومنا لاستراتيجيات المقاومة وما يرتبط بها من ظواهر كالإضرابات، والمعسكرات، وتهريب البضائع، والاحتلالات، من خلال إعادة ربط المجالات المفصولة مثل الإنتاج والإنجاب، وأماكن العمل والمنزل، والسوق والعائلة، والعمل والحبّ، وغيرها.
في حين قدّمت النسوية المادية اطلالات نقدية حول التفاعلات الرأسمالية المتعلقة بالتقاطع بين الهوية الجندرية والطبقية، الا انها اتُّهمت تباعاً بأنها تغضّ النظر عن الأبعاد الاستعمارية والعرقية المتعلقة بهذا الفضاء. وعلى نفس المنوال تجترّ بعض المدارس النسوية المادية المعالجات المحصورة بالمشهد الأوروبي حصراً لمعضلة الفصل الجندري والمجنسن للعمل، وبهذا الاجترار تقف هذه المدارس قاصرة عن فهم السياق التاريخي الاستعماري والامبريالي والعبودي المرتبط بتلك الأبعاد المادية. من خلال العمل التكاملي الذي قدمته مفكّرات مثل روزا لوكسمبورغ، ماريا ميس، سيلفيا فيدريتشي، سلمى جيمس، كلوديا جونز، أنجيلا ديفيس، تيتي بهاتشاريا، أليساندرا ميزادري، سو فيرغسون، شيرين راي، جينيفر مورغان، أليس وينباوم، سارة سالم، كاميل بارباغالو، فيرونيكا غاغو، وغيرهن الكثير، أصبحنا ندرك أن النساء لم يخضعن جميعًا لنفس طبائع القمع والاستغلال الرأسمالي. يصرّ أتباع المدرسة المادية النسوية على تشريح السمات الجندرية للرأسمالية من منطلقات معرفيّة وسياسية تمخّضت عن مجتمعات العبيد والسكان الأصليين والمستعمَرين وغيرهم من النساء اللواتي يتعرضن لمختلف أشكال التعريف العرقي. هكذا تحافظ المدرسة المادية على جدَلٍ مستمرٍ مع المدارس النسوية المناهضة للاستعمار سواء تلك النسوية السوداء ونسوية السكان الأصليين او النظرية الكويرية. على خطى التسلسل التاريخي الثري لتلك النظريات النسوية، نطلق هذا المعجم كهمزة وصل بين المدارس النسوية الديكولونيالية وتلك التابعة للمادية التاريخية.
التآزر، القواسم المشتركة، التقارب، التضامن
يُعنى هذا العدد الخاص – الذي كانت المفاهيم عماداً لتكوّنه – بتوفير غذاءٍ للتفكير وتحفيز المزيد من التنظير والممارسة والحوار المتعدّد والتضامنات التي تتّسم بأبعاد واقعية ملحّة في الجنوب العالمي، بما في ذلك فضاء الجنوب داخل دول الشمال العالمي. العديد من المفاهيم الواردة هنا قد تمّ ابتكارها من قبل مؤلّفي المداخلات أنفسهم عن سياقاتهم التي عاشوها. من الأمثلة على ذلك "الملكية غير المؤكّدة" التي تناولتها صوريا الكحلاوي. أما بعض المفاهيم الأخرى فقد كانت موجودة مسبقًا، فاستفاد منها المؤلفون كنقاط انطلاق، وأعادوا توجيهها بشكل جذري نحو اتجاهات جديدة، وأضفوا عليها أبعادًا جديدة، مفصّلين كلّ جانبٍ منها بما يتماشى مع الضرورات والسياقات المطلوبة.
نأمل أن يجد قرّاءنا الفائدة في ومن المصطلحات الرئيسية في هذا العدد الخاص، بأي طريقة يرونها الأنسب: سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كنقاط انطلاق لمفاهيم وممارسات إضافية أو مغايرة، أو ببساطة كدعوات لخلق تنظيرات جديدة تكون ذات فائدة للتحوّل والتحرير في عصرنا. إلى الأمام!
29 تشرين الثاني/نوفمبر 2024
* أسماء المؤلفين مرتّبة أبجديًا وقد قدّم جميعهم إسهامات متساوية في تطوير وتنفيذ هذا الفصل وكذلك العدد الخاص بشكل عام.
Khatib, Rasha, Martin McKee and Salim Yusuf. 2024. Counting the dead in Gaza: difficult but essential. The Lancet, 404(10449), 237–238. https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(24)01169-3/fulltext
Mies, Maria. 1998. Patriarchy and Accumulation on a World Scale: Women in the International Division of Labour. London: Zed Books.