الأجساد كحدود والحدود كأجساد
Cover-En-2.2.jpg
مع اقتراب تاريخ نشر هذا العدد، تمّ إلقاء القبض على سوجانا رنا وروجا مايا ليمبو، ناشطتي وعاملتي منازل مهاجرتين نيباليّتين، في منازل أصحاب العمل واحتجزا في لبنان، على الرغم من امتلاكهما لأوراق قانونية. تم ترحيل سوجانا يوم السبت 10 ديسمبر، بينما لا يزال مصير روجا غير معروف.
عندما كنا نتأمّل إمكانية نشر عدد عن جغرافيّات الأجساد والحدود، افترضنا في البداية مقالات وشهادات عن محنة اللاجئين، عن الحدود الزلقة للبحر الأبيض المتوسط، عن الأجساد العالقة في اللّيمبو، الذين تقطعت بهم السبل على حدود غير مرئية. ما لم نتمكن من التنبؤ به، رغم ذلك، هو التفكيك الدقيق للحدود كمواقع هياكل سلطويّة معيّنة ذاتيّا، سواء من قبل الجهات الفاعلة الجيوسياسية أو المعايير الاجتماعيّة القسرية، وهذا هو السائد في هذا العدد.
في هذا المعنى، الحدود هي أجساد، واجهات في حركة مستمرة عبر الزمان والمكان، والأجساد تصبح حدودا، ومواقع لصراعات الهيمنة، للعواطف المتناقضة، وللمقاومة. لقد أصبح من المستحيل الحديث عن الحدود دون التشكيك في التناقضات الوحشية من تشكيلات سلطويّة عموديّة، وانهيار وخلط الدول الوطنيّة والقوميّة، والتمييز المؤسساتيّ، حيث تقرر الهياكل المهيمنة ماذا ومن ومتى تكون هذه الأجساد “قانونية.” وبالمثل، يستلزم الحديث عن الأجساد إعادة تقييم كليّة وجزئيّة لحالات القهر والحركة، وسيولة الهوية والانتماء والجغرافيّات والصّراع، من موقعيّة يُعاد التفاوض بشأنها في كلّ تقاطع. كأجساد كويريّة – وأنا أستخدم الكويريّة كموقف سياسي، كأجساد يتمّ تقديمها كغريبة بسبب موقعيّتها – كيف يمكننا التنقل الحدود المعيارية لهياكل السلطة المتقاطعة؟ كيف يمكننا التفاوض على حدود المقاومة والمعارضة؟
يُفتح هذا العدد مع وصف ومقتطف قصير من أداء الفيديو لمجموعة ديكتافون، معنون لا شيء للتّصريح. قامت مجموعة ديكتافون بعرض تركيب الفيديو الخاصّ بمشروعهم في حفل إطلاق كحل في 8 ديسمبر، 2016. لا شيء للتّصريح هو مشروع مؤثّر يتتبّع رحلة ثلاث نساء، تانيا الخوري، عبير سكسوك، وبيترا سرحال، جانب خطوط السكك الحديدية القديمة في لبنان ، ساردات تاريخهم ومتأمّلات في الحدود كفضاءات عبور، وأداء، وانحباس.
في روح التعدي على حدود إنتاج المعرفة والنشر الأكاديمي، يتضمن هذا العدد ثلاث شهادات شفوية ومحادثة بين عاملات المنازل المهاجرات القاطنات في لبنان. سجّلت هذه المحادثة في 19 نوفمبر عام 2016، وتمّ تدوينها. كانت عملية التحرير مهمّة ساحقة بالنسبة لي: عالمة بموقعيّتي، كنت متخوّفة من الاستحواذ اللغوي وحاولت الابتعاد عن فرض المصطلحات الغريبة. هذا هو السبب في أنني قررت عدم ادماج ملاحظة التّحرير في المحادثة، والتّي أناقش فيها عادة الأفكار الرئيسية التي تناولتها المحادثة من الناحية النظرية، واخترت ترك الصرف، واخترت بدلا عن ذلك ترك المحادثة خامّة ودون وساطة قدر الإمكان. معا، الأعمال الأربعة جواهر تعكس ما تطمح كحل أن تصبحه: منصة تؤرّخ مقاومة مجتمعات النّساء الواقعة تحت الظّل.
في “الاستقبال اللّبنانيّ،” روز تفسّر الأسباب التّي دفعتها إلى المجيء إلى لبنان في المقام الأول. أغلب قصتها مكرّسة لل 48 ساعة أولى في لبنان: تصف وصولها البشع إلى مطار بيروت والوقت الذي قضّته في المكتب دون معرفة مصيرها. أمّا الثلاثة عشر عاما التّالين من حياتها فقد عبّرت عنهم بكثير من الاختزال والسرعة. فأعربت عن افتقارها للحرية وعن روتين الحياة اليومية في نفس المنزل مع نفس الراتب والتّي كانت مسألة تضحية.
مالا وصلت إلى لبنان، دون علم مسبق، عن طريق قارب في خضم الحرب الأهلية اللبنانية. “الهجرة إلى الحرب الأهلية اللبنانية” تحكي قصّة أم كان عليها أن ترعى أطفال الآخرين في بلد تمزّقه الحرب، بينما تنظر إلى بقائها على قيد الحياة لها كضرورة لأجل أطفالها، على الرغم من القنابل والليالي الطويلة في القبو. رغم بداياتها المضطربة، كانت قادرة على نحت موقع لنفسها في أماكن نشاط عاملات المنازل المهاجرات في لبنان، حيث لا تزال مالا تنشط اليوم.
“الطريق إلى المعارضة” هي رواية جيمّا لرحلتها من حياتها المميّزة بالعمل الدؤوب في الفيلبّين، إلى مرورها في العمل المنزلي في لبنان. بلا هوادة، كانت جيمّا قادرة على إرسال أمها، وهي عاملة منازل مهاجرة سابقا، إلى أرض الوطن. على الرغم من كونها عاملة منزليّة مستقلة ناجحة، قدرت جيمّا على ملء فراغها الخاصّ فقط من خلال النشاط المدني. بينما تحشد المجتمعات عبر الوطنية من المهاجرات للنّضال من أجل نفس القضية، تقول لي عن أطفال عاملات المنازل المولودين في لبنان: “هي لن تصبح عاملة المنزلية.”
قامت جيمّا، مالا، وروز، مع انضمام ميريم وجوليا إليهنّ، بتفكيك قويّ للحدود في هذه العدد في “أحاديث،” “مقاومة الحدود: محادثة عن الكفاح اليومي لعاملات المنازل المهاجرات في لبنان” بالإضافة إلى انتقادهنّ الحدود القانونية، والتّصرفات التّي تعرّضن إليها لدى رقابة الهجرة، وغرفة العزل في المطار، تروي النّساء الخمس تجارب مرعبة من التحرش الجنسي والكشف الذّاتي ذي الطّابع الجنسي الاجباري الذّي تعرّضن له. ثم انتقلن إلى مناقشة الحدود الطبقية، حيث تصبح “العاملة المنزلية” طبقتهنّ وفئتهنّ المعياريّة، قبل بلورة طبقات مختلفة من العنصرية المؤسساتية والعنصرية داخل منازل أرباب العمل. نائيات بأنفسهنّ عن رواية الضحية، عدّدن استراتيجياتهنّ للمقاومة، وعودتهنّ إلى نشاطهنّ. ومع ذلك، ما لا يلتقطه المقتطف المحرّر تماما، ربما باستثناء قسمه الختاميّ، هي الصلابة، الأخوة، التضامن، والقوّة التّي لا تقدّر، الذّين سادوا في الغرفة.
بعد ذلك، يأمّل مقال الرأي “العشاء الكبير لميلاد المسيح: تركيا، روج افا، وقليل من النّسويّة” لإ.س.ك.بريرانا حدود السلطة الأبوية والتحرر الوطني الذين يتفاوض عليهم الجيش النّسائي الكردي في روج افا كل يوم كجزء لا يتجزأ من نضالهنّ . من خلال مقالات الصحف، والأفلام الوثائقية، ومفهوم الجينيولوجيا “Jineology” المستخدم من قبل النساء الثوريّات أنفسهنّ، ي/تنتقد الكاتب/ة العسكرة في أبعادها الذكورية وي/تقرأ نضال النّساء الكرديّات ضد سياسة المحو وعمى الألوان العالمية.
بعدُ في سياق “الأقليات” العرقية في الشرق الأوسط، ي/تفتتح شانط قسم كحل الجديد “محاولات نقديّة” ب “تعرية طبقات الآخر: تجربة أرمنية كويريّة.” يتناول المقال الكويريّة، بالمعنى السياسي والجنسي، ضد فكرة أودار الأرمنية، أي الغريب/ة، وينقل شعور الغربة في مختلف الدوائر المتقاطعة – وعلى وجه التّحديد في المجتمعات الأرمنية والكويريّة. ي/تعيد شانط زيارة تأريخ العار – آموط – والذاكرة المنتقلة عن طريق الرحم عن طريق التموضع ضدّ حدود الهوية.
.
مقال تانيا الخوري، “تأدية دور العربيّة،” يشمل قضايا الأدائيّة والتمثيل، بالمعنى الحرفي والمجازي. منسّقة بين جماهير آدائها المختلفة، توصّلت إلى فهم موقعيّتها الشخصيّة، وخاصّة بعد التّصوير الرّومانسي للنّساء العربيّات أو تصويرهنّ كضحايا بعد 2011. آداؤها المعنون ربما إذا قمتَ بتصميم حركاتي، سوف تشعر بالارتياح، الذي هدف في البداية لمعالجة نظرة الذكور البيض للنّساء “العربيات” كشفت حدود التمثيل والمجانسة القسرية لخبرات كان عليها أن تحملها كفنّانة.
المادة البحثية الأولى في هذا العدد تُسائل “مأزق نظرية ما بعد الاستعمار” من خلال استكشاف التوترات بين التفاوض والرّفض. وفي نقد آخر للتجانس والحدود، تأخذ شيرين أبو النّجا مثال مركز يارل للخشب في المملكة المتحدة. هي تفضح القصور في نظرية ما بعد الاستعمار، ولا سيما مفاهيم التهجين والأفق، من خلال التفكير في المعاملة التّي يتلقّاها اللاجؤون من قبل مراكز القوى الغربية. وفقا لأبو النّجا، تلغي الحدود المشيّدة وتفكُّكُها التناقضات كما تم تعريفها من قبل نظريّة ما بعد الاستعمار، وتقوض محاولات النظرية للمصالحة بينها. على الرغم من أنّ الصراعات لا تزال قائمة على أجساد النساء، فإنّ خلط الحدود وطرق عبورها تدعو إلى إعادة النّظر في الخطوط الفكريّة من أجل معالجة الجغرافيا السياسية الحالية.
في “المشاهد العديدة من دمشق الكويريّة،” ينظر ماثيو غانييه إلى الأجساد والحدود من خلال موضوعيّاتهم الكويريّة. ويستند عمل غانييه البارع على اثنوغرافيا أجريت في دمشق قبل الحرب السورية بقليل. ناسجا الحركة، والمساحات، والجغرافيّات الكويريّة، يأخذنا الكاتب في جولة في مختلف الأماكن وهو يجوب المدينة، قاصّا الحكاية من خلال عيون أصدقائه ومعارفه. يترتّب عن الأجساد المتحرّكة عبور/ عدم عبور الحدود، فضلا عن اكتشافات جغرافيّات جديدة مع نماذج مختلفة من الملاحة. في نهاية المطاف، يزاوج مقال غانييه الأجساد بالحدود، والعكس بالعكس، مما يجعل المفهومين ضمنيّا وعلى حد سواء مرنين، وفي محادثة بينهما دائمة تغيّر المشاهد.
تقوم شهد أبو سلامة بتقديم رواية مباشرة عن الحدود في “النّساء تثرن: بين المقاومة الإعلامية وترسيخ البنى الجندريّة القمعية.” عند محاولتها عبور معبر رفح في غزة للدراسة في الخارج، لم تكن أبو سلامة الوحيدة العالقة على الحدود لعدة أيام، لكنها تعرضت للتحرش الجنسي من قبل أحد المتظاهرين معها، وقم تمّ توثيق الوقائع بصريا. مقال أبو سلامة هو قراءة قوية لمراكز الهيمنة السلطويّة التّي تستخدم جسدها كامرأة وكفلسطينية لمحاربة معاركها الخاصة. هي تتناول الاستخدامات المختلفة لوسائل الإعلام، سواء لتعزيز أجندة الهيمنة، أو لنشر روايات المقاومة للجمهور، مما يثير خطابات جديدة ويعتدي على الحدود التي تبدو غير سالكة.
متطرقة إلى وسائل الإعلام الرئيسية، تحلّل هيذر جابر صورة الناس ذوي الجنسانيّات غير المعيارية مثلما يقع ثمثيلهم في المسلسلات التلفزيونية اللّبنانية. “عبور الحدود: إعادة التّفكير في الفشل والمنفى في المسلسلات اللبنانيّة” تكافح استراتيجيات الضبابيّة والظلام، ويقرأ الفشل باعتباره السرد الذي يتحدى الخطابات السائدة والأعراف الاجتماعية بسبب حملها لتأثيرات كويريّة. تحليل جابر يشمل الحدود المعيارية للأمة بوصفها مواقع محتملة للمنفى الداخلي، ويتحدى فكرة المنفى إلى “الغرب” في كونها واقعة في ثنائيّة النجاح مقابل الفشل.
تماشيا مع سياسة التمثيل، تتطرّق ديما ناصر في “الأصوات المجندرة للشباب والتحرير في “القاهرة: مدينتي، ثورتنا” لأهداف سويف.” يتطرق كتاب سويف الأكثر مبيعا إلى الثورة المصرية عام 2011. تسلّط ناصر الضوء على محو سويف للأصوات المعارضة، خصوصا تلك من الطبقة العاملة والحركة النسوية غير العلمانية. تقرأ الكتاب كسيرة ذاتية هجينة تتمحور حول موقعيّة سويف نفسها بدلا من التركيز على مختلف أصوات النساء والنضالات النسوية التي وقفت ضد بعضها البعض في ميدان التحرير. في محاولة لجعل الثورة مقروءة لجمهور غربي، خيّرت سويف صوتها الخاص على حساب الروايات والخطابات الأقل جاذبية والموجودة بكثرة في مصر اليوم.
بعدنا في سياق مصر، تتعامل سارة عبد مع موضوع قلّت دراساته، ألا وهو، عاملات الجنس المصريّات، في “كيف تنظر عاملات الجنس إلى هويتهنّ العاملة؟ دراسة حالات في مصر.” من خلال سلسلة من المقابلات، قدرت عبد على طرح تصور عاملات الجنس لشغلهنّ. فتفضح الفكرة المقبولة اجتماعيا أنّ أجساد العاملات في مجال الجنس “غير قابلة للاغتصاب،” وتتلاعب مع الرغبة في الأجاد المعتبرة غير قانونية أو غير شرعيّة ومثقلة بوصمة العار والخجل الاجتماعي والديني، ولكنّها لا تزال مرغوبة، وأحيانا من أطراف السلطة. وعلى الرغم من وجهات نظر متعارضة من عاملات الجنس في ما يخصّ مهنتهنّ، فهناك توافق في الآراء بين المشاركات في الدراسة أن تمييز الدولة هو العقبة الرئيسية أمام إمكانية إنشاء النقابات، والقتال من أجل حقوقهنّ العمالية، والحصول على الخدمات الصحية بطريقة خالية من الوصم.
يغلق العدد مع عبيرة خان، التّي تقرأ أحدث رواية لطارق محمود، “أنشودة غولزارينا.” قراءة مراجعة خان هي متعة فائقة. كشفت عن تفاجئها بأنّ الرواية لا تواجه مجدّدا حكاية أخرى عن التطرّف ما بعد 11/9. اتّسم محمود بالحذر والعناية في وضع طبقات مختلفة ومعتدلة لشخصياته، ممّا أضفى عليها شعورا بالسخط عند التفكير في إعادة رسكلة حبكة مألوفة. من خلال وعيه بأدائه المتعب لدور المغترب، يقدّم بطل الرواية منظورا جديدا: خان يقرأ الطبقة الخارجية للانتقام كمواجهة مباشرة مع النظم المهيمنة، التي من شأنها أن تمهد في نهاية المطاف وسيلة خلاص ذاتي.
لقد كان العمل على هذا العدد شرفا. الأهم من ذلك، لقد كان درسا في الوعي بالموقعيّات، وبنماذج الامتياز المتغيرة، وبالمآسي النّاجمة عن الاستحواذ. أشعرني الكتّاب والمساهمون في هذا العدد، الذّين واللّواتي فصّلوا/ن نضالهم/نّ دون ترهيب من قبل أي خطاب، سواء المهيمن أو البديل، بالتّواضع. عبرت كلماتهم/نّ وأصواتهم/نّ حدود ما هو أكثر أو أقل طابعا سياسيّا، وتحدثوا/ن عن ما يهمّهم/نّ دون اعتذار. وبالنسبة لبقيّتنا من الحلفاء/الحليفات في تضامننا مع النضالات المتقاطعة، نحن مدعوّون/ات إلى اتخاذ خطوة إلى الوراء والاستماع.