بين الاكتئاب والهوس: كيف نُشفى بالسيطرة على أجسادنا؟
palace_higher_hill_ar.jpg

ميرا المير
"نصحانة!"، "نحفانة!" تُقال الأولى بصوتٍ مفعمٍ بالخيبة بينما تمتلئ الأُخرى بالفرح والحماس! يحاول أصدقائي الوصول إليّ للتسكّع خارجًا، يهاتفونني عدّة مرّات، لكنّني أفشل بإمساك الهاتف، جسدي يخونني في لحظات الاكتئاب. أتحوّل شخصًا آخر في لحظات الهوَس، أرقصُ في الشوارع، أركض، أعمل وأضحك كثيرًا، ولطالما سمعتُ عبارة "مش مبيّن عليكِ إنّه عندك اكتئاب!"، جسدي يخونني كذلك في لحظات الهوَس ويصبح أكثر نشاطًا لا ينام، وما بين النوبتين يأتيني الأرق والقلق والتفكير الزائد.
قبل سبعِ سنواتٍ من الآن شُخِّصتُ بمرضِ "اضطراب المزاج ثنائيّ القُطب"، وأُخمّن أنني أُصبتُ به قبل تلك السنوات لكنّني أخّرت زيارة الطبيب النفسي. فمن الصعب اتخاذ قرار الذهاب إليه في مجتمعاتنا، خاصةً مع استخدام المرض النفسيّ كشتيمة أو وصمة، وأراهن أنني حاولت التهرّب من زيارته تأثّرًا منّي بما يتداوله الناس عن مَن يزورون المعالجين والأطباء النفسيين، أو رُبما لأنني كنت أرفض فكرة أنني مريضة، فلا أحد يصدّق أنني كذلك، أو بسبب تكاليف العلاج الكبيرة… لستُ أدري فعلياً السبب وراء إرجاء الزيارة، لكنّني أعرف أنني لم أزره إلّا بعد أن بلغ السيل الزُبى.
يُلّخَصُ مرضي بأنه يتقلّب بين "الاكتئاب" أي نوبات الحزن الشديد والبكاء والأفكار الانتحاريّة، منتقلًا إلى "الهوس" أي نوبات السعادة والحماس والعمل، والنوبتان عكس بعضهما، ولا أدري لو كان الطبّ يُسمّيها نوبات لكنني اعتدتُ تسميتها هكذا. تتراوح حياتي بين الاكتئاب والهوس بدون أي توازن، وكذا تقلّباتي المزاجية والنفسية والجسدية، لم أعرف الثباتَ في حياتي، ولم يكن الأمر سهلًا عليّ حتى مع تناول الأدوية، ظلَّ جسدي يخونني، وعقلي يهبط ويعلو مثل لعبة "السيسو" أحيانًا أفهمه، وفي أحيانٍ كثيرةٍ لا أعرفني.
لا يدرك الآخرون الصراعات التي قد يخوضها المرء مع جسده كلّ يومٍ وكل دقيقة، بل يستمرّون بالنظر إليه ووصفه بما يريدون هُم دون أي اعتبارٍ لما مرّ به هذا الجسد لكي يبدو بكلّ هذا الصمود، وكم أنّ الأجساد – على اختلافها – بندوبها الظاهرة والمخفيّة، بزيادة وزنها ونقصانه، بالهالات تحت العيون، بها كلّها، جميلة. مطلوبٌ دومًا من النساء أن يكنَّ جميلاتٍ ونحيفاتٍ متوسطات الطول ويبتسمنَ للجميع، ولا بأس ببكاءهنَّ من الألم في غرفهنَّ والتقوقع مع الألم في أجسادهنَّ، المهمّ أن يبتسمنَ ويسمحنَ للمجتمع ومنظومته باستباحة أجسادهنَّ، وتقرير استحقاقهنَّ للعلاج من عدمه، وكيفيّته وشروطه.
تلك النظرة لجسدي كانت دائمًا ما تدفعني للتفكير بالانتحار، لماذا يستمرّ وزني بالازدياد، ولمَ – أحيانًا – يكون هذا نتيجة تأثير الأدوية، حتى أنني فكّرتُ ذات يومٍ بالقفز من أعلى بنايةٍ في عمّان خلال رحلةٍ عائليّة جميلة في نوبة اكتئاب؛ لأنني كرهت جسدي، هذا الكُرهُ كان امتدادًا لأفكار الآخرين ونظراتهم وتصوّراتهم عني.
وربّما من ويلات المرض النفسيّ هو الفقاعة الخارجيّة التي نعيش بها، إذ إنَّ بعضًا ممّن حولي كانوا يعتقدون بأنني "أتدلّع" بالحديث عن المرض وآثاره؛ لأنّ لديّ أصدقاء وعائلةً دافئة، والقدرة على السفر، والعمل، يرى الآخرون أنّ حياتي قد تبدو حلمًا لأشخاصٍ لا يمتلكون هذه الامتيازات، فكيف يمكن لشخصٍ "مثلي" "بهذه الرفاهية" أن يعاني؟ تلك المعاناة التي كانت تمتدّ وتتفاقم مع الأخبار المستمرّة والواقع المرّ الذي نعيشه في منطقتنا العربيّة.
دوّامة الضغوط النفسية والإهمال الرسمي في الأردن
يشكّل المرض النفسي في مجتمعاتنا العربيّة وصمةَ عار؛ إذ ينأى المرضى عن الاعتراف بأمراضهم أو الإفصاح عن تلقّيهم العلاج، في حين تُستخدم كلمة "مريض نفسيّ" كإهانةٍ لدى البعض وقد تصل للوصم والشتيمة. في الأردن – كما في العديد من الدول العربية – ما يزال الناس يخشون زيارة الطبيب النفسيّ ويعتقد البعض أنَّ الأدوية الموصوفة هي عبارة عن مخدّراتٍ للألم، فيما ترتفع كشفيّة الأطباء النفسيين في القطاع الخاص إذ تصل إلى 70 دولاراً لكلّ زيارة ويحصل المؤمَّنون طبّيًا على علاجٍ نفسيّ شبه مجانيّ في القطاع العام بعد انتظارٍ لأكثر من 5 ساعاتٍ في كل زيارة وقد يحالفهم الحظّ بطبيبٍ جيّد، وقد لا يفعل.
أمَّا النساء، فيُتّهمنَ بـ"الدلع" أو "النكد" إذا ما بكينَ كثيرًا أو تحدّثنَ بسلبية عن أحوالهنّ، ومن الصعب التفكير أنَّ هذا يرجع لإصابتهنَّ بأمراض نفسيّة وحاجتهنَّ لمعرفة ما أصابهنَّ وكيف أصابهنَّ، وإذا ما فكّرن بالعلاج فإن أول ما يُقال لهنَّ "كيف بدّك تتجوزي بكرا؟" أو "شو يقولوا الناس؟".
إلا أنَّ مراكز العلاج قد لا تكون مؤهلةً لتقديمه أو استقبال النساء فيها، ففي عام 2020 بثّ1 برنامج "نبض البلد" على فضائيّة "رؤيا" الأردنيّة تحقيقًا استقصائيًا وثّق انتهاكاتٍ بداخل المركز الوطني المعروف شعبياً بـ"مستشفى الفحيص"، و يُعدّ هذا المركز المؤسسة2 الحكومية الوحيدة في الأردن المتخصصة في علاج الأمراض النفسية والعقلية، ويضمّ عدّة أقسام، منها القسم القضائي الذي يستقبل المرضى المحوَّلين من الجهات القضائية، وقسم "الكرامة" للتأهيل النفسي، وقسم تأهيل المدمنين. ووثّقت بعض التحقيقات3 ظروفًا صعبة في القسم القضائي في المركز، مثل الاكتظاظ في الغرف؛ إذ يقيم في كل غرفة من 8 إلى 10 نزلاء، مما يؤدي إلى نقص الخصوصية وتدهور الحالة النفسية للمرضى. كما أن بعض الغرف تفتقر إلى التهوية الجيدة، مما يؤثر سلبًا على صحّة المرضى. فيما تمّ توثيق حالات اعتداء جسدي ومعنوي على المرضى داخل المستشفى، بما في ذلك سَحْل مريضات أمام أعين الممرّضات وبإشرافهن. ورغم الضجّة الإعلامية التي رافقت نشر تلك التحقيقات إلا أنَّ المشفى ما يزال يعمل ويستقبل المرضى الذين يتعرّضون لسلسلةٍ من الانتهاكات تُغطّى بجلباب الوصاية الطبيّة على المرضى وتقييم حالتهم ومعرفتها والوصاية الاجتماعيّة بأن هؤلاء "غير مدركين" أو "مجانين".
ويواجه مجال الصحّة النفسيّة في الأردن تحدّياتٍ متعددة تتداخل فيها العوامل الاجتماعية المرتبطة بالوصمة الاجتماعية المتعلّقة بالاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى معاناة القطاع الصحيّ من نقصٍ في الكوادر المتخصصة والموارد المالية، مما يؤثر على جودة الخدمات المقدَّمة وغياب الوعي المجتمعي حول الحالات المرضية وكيفية التعامل معها. كما أدّت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، مثل ارتفاع معدلات البطالة خاصة بين الشباب، إلى زيادة مستويات التوتر والقلق والاكتئاب. كما تظهر4 بيانات صادرة عن "المركز الوطني للطب الشرعي" التابع لوزارة الصحة الأردنية ارتفاعاً في حالات الانتحار خلال عام 2024؛ إذ سجّل الأردن 166 حالة وفاة انتحاراً بينها 16 وفاة لأفرادٍ دون سن 18 عاماً.
من أبرز الصعوبات التي يواجهها الأردنيون النقص الحاد في الكوادر المتخصصة؛ ووفقًا لـ"خطة العمل الوطنية للصحة النفسية والإدمان" (2022–2026)، يبلغ5 عدد الأطباء النفسيين في البلاد حوالي 92 طبيبًا، بمعدل أقلّ من طبيب واحد لكل 100 ألف شخص، في حين لا يتجاوز عدد الممرضين النفسيين 13 ممرضًا، أي بمعدل 0.13 لكل 100 ألف شخص. هذا العجز في الموارد البشرية ينعكس سلبًا على قدرة النظام الصحّي على تلبية الاحتياجات المتزايدة. كما أن محدودية التغطية التأمينية للعلاجات النفسية تزيد من صعوبة الوصول إلى الخدمات، إذ هناك 56 عيادة نفسية تابعة لوزارة الصحة في مختلف مناطق الأردن بالإضافة إلى "المركز الوطني للصحة النفسية" لكن التأمين الصحّي لا يغطي الأمراض النفسية، باستثناء بعض الشركات العالمية الباهظة التكلفة.
ومع وصول6 معدلات البطالة في الأردن إلى 41.7% لعام 2024، ونقص فرص العمل والتحديات الاقتصادية المتزايدة وارتفاع7 الأسعار، تبدو الأرقام بخصوص انتشار حالات الاكتئاب والقلق وغيرها من الأمراض النفسية غير مستبعدة. وتشير التقديرات إلى أن نحو 46.1% من القوى العاملة تعمل خارج الإطار الرسمي، مما يعني أن شريحةً واسعة من العاملين لا تتمتع بحماية قانونية أو اجتماعية خاصة في قطاعات الزراعة والبناء والخدمات المنزلية، ومن جهة أخرى، تتسع الفجوة بين مخرجات النظام التعليمي واحتياجات سوق العمل، ويستمرّ تدفّق الخريجين من تخصصات مشبَعة. أما فيما يتعلّق بالحدّ الأدنى للأجور،8 فقد ظل ثابتًا عند 290 دينارًا (نحو 408 دولارًا) منذ ثلاث سنوات رغم ارتفاع تكاليف المعيشة. ويُقدَّر خطّ الفقر الوطني للفرد الواحد في الأردن بنحو 168 دينارًا شهريًا (236 دولارًا)؛ مما يعني أن الحدّ الأدنى للأجور لا يراعي الكرامة المعيشية، ولا ينسجم مع الالتزامات الدوليّة للأردن في مجال حقوق العمّال.
إضافةً إلى أعباء الأزمة المعيشية المتفاقمة، تأتي أزمة الحريات واختناق الحياة السياسية في الأردن لتزيد من حدّة الضغوطات، وكان آخرها حملات الاعتقالات9 التي قادتها السلطات الأردنية على خلفيّة المظاهرات الداعمة لغزّة في الأردن، وقمع السلطات10 الاحتجاجات السلميّة المكفولة بمقتضى الدستور، والتضييق على حريّة التعبير والرأي. وقد أصدر11 "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" ورقة سياسات في عام 2023 تدعو السلطات الأردنية إلى إلغاء القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير، بما في ذلك النصوص القانونية التي تُستخدم لتقويض هذه الحريات. وأشارت الورقة إلى تذبذب منسوب حرية التعبير في الأردن، حيث يتراوح بين السماح بانتقادٍ محدود للسلطات والتضييق المباشر على الأفراد والكيانات. من جهتها مارست جامعات أردنية التضييق على طلابها عقب تضامنهم مع غزة خلال الإبادة الجماعية المستمرّة. وبالمجمل لم تقتصر الاعتقالات على المشاركة في التظاهرات بل امتدّت لتشمل استدعاءات أمنية لأسباب تتعلق بالهتافات أو التغريدات على موقع "إكس" (تويتر سابقًا). وقد وجّه المدعي العام في تلك الفترة لمعظم المعتقلين تهمتَي "التجمهر غير المشروع" و"إقلاق الراحة العامة".
وتتعاظم تلك الضغوطات وتزداد حين تكون الفاعلة-المُستهدفة هي امرأة، فيغدو من "العيب" أن تشارك بالمظاهرات أو أن ترفع صوتها بالهتاف أو بالحديث والنقاش… حتى يغدو خروجها من المنزل بحدّ ذاته "عيبًا!".
هذه العوامل كلّها وغيرها ساهمت بزيادة الضغوط النفسية على سكّان الأردن وبالتالي تزايد الاضطرابات النفسية وسط منظومةٍ تفرض علينا كيفيّة التشافي حتى لو لم يكن ذلك يتسّق معكِ ومع أفكاركِ أو حتى لو كان "الشفاء" الطبيّ يعني أن تُنتَزعي من جسدك وأن لا تؤمني به!
المؤسسة الطبيّة وخذلان النساء
رغم ادّعاء وزارة الصحّة الأردنية توسيع خدمات الصحّة النفسية وزيادة الوعي المجتمعي حولها، يبدو أن الإنفاق المالي ما زال يُستخدم كذريعة لتجاهل فروق الجنس في التشخيص والعلاج. فاضطرابات مثل الاكتئاب والقلق وثنائي القطب تؤدّي، من منظور الدولة، إلى فقدان الإنتاجية وغياب العمّال عن وظائفهم، وزيادة تكاليف الرعاية الصحية، واستنزاف الموارد العامة، ما يجعلها تشكّل عبئًا ماليًا كبيرًا على الاقتصاد لذا يبقى التركيز الرسمي الفعلي منصبّاً على خفض التكاليف ودعم النمو الاقتصادي على حساب توفير علاج متكامل يلائم خصوصيات الأجساد النسائية، التي لطالما أُهملت داخل النظام الطبّي الأبويّ. إذ إنّ العلاجات المقدَّمة كثيرًا ما تعتمد على الأدوية المهدّئة بدلاً من التدخّلات النفسية النوعية. هذه المقاربة القائمة على المنطق الاقتصادي لا تُعالج الفجوات المعرفية حول صحّة المرأة، ولا تعترف بالتمييز الدائم ضد أجسادهن في الأبحاث والدراسات الطبّية. فما دامت الأرواح تُقاس بالأرقام، ستظلّ النساء عرضةً لتلقّي علاجات غير مناسبة، وهذا يتطلّب مراجعة جذرية لنظامٍ يتعامل مع المرأة كحالة اقتصادية أكثر منها كإنسان تستحقّ رعاية حقيقية.
هذا كلّه يقودنا للحديث عن النظام الطبيّ وأصله وتعامله مع أجساد النساء. شكّل الطب، منذ القرن التاسع عشر، أداة سلطة تُخضِع بها الدولة والفكر الاستعماري الأجساد؛ فقد صُنِّفت12 مقاومة المستعبَدين، مثل محاولات الهرب، كـ"اضطرابات عقلية"، وأُجريت تجارب طبّية قسرية على السود والسكّان الأصليين تحت ذريعة "خدمة العِلم" بدعوى امتلاكهم عتبات ألم أعلى أو أدمغة أصغر. ويرى ميشيل فوكو13 أن الطبّ الحديث لا يكتفي بعلاج الأجساد، بل يُخضِعها عبر الخطاب والتقنيات، فتتحوّل المستشفيات والعيادات إلى فضاءات انضباط، وفي هذا السياق، تشرح الفيلسوفة ميشيلا مارزانو14 أن الجسد "المقبول" اليوم هو الجسد المنضبط والمسيطَر عليه بالكامل، ما يعكس علاقات السلطة التي تشكّل الرعاية الصحية المعاصرة وتبقى النساء في قلب هذا الصراع، كأجساد خضعت للرقابة والتطبيب القسري منذ دراسة "بطانة الرحم المهاجرة" وحتى خطاب التجميل الحديث.
ما هو الشِفاء؟
حين أخبرتُ الطبيب أنّني أتألّم من تناول الدواء أو أنام كثيرًا، أبدى استغرابه من الأمر لأن الجرعة التي أتناولها قليلة وقد رأى أنني "حسّاسةٌ كثيرًا" تجاه هذا النوع من الأدوية، ولم يبدُ غريبًا، رغم أنه كذلك ـ استهانة الطبيب بأعراض الدواء، فالأطباء غالبًا ما يمارسون سلطة المعرفة والفوقيّة المعرفيّة على المرضى وكأنّهم يملكون أجسادهم وكأنّهم هُم العارفون بأحوالها، ولا يُشفى الجسد إلّا إذا قال الطبيب إنه شُفي، حتى لو كان المريض ما زال يعاني.
ولهذا، حين أسأل نفسي؛ ما هو الشفاء؟ أجد أن الإجابة أكبر من قدرتي على التحديد، الشفاء ليس فقط رحلة فردية بيني وبين جسدي، بل هو علاقة معقّدة مع دولة ونظام صحي ومجتمع وثقافة تُصعّب علينا التعافي قبل أن نبدأه.
فهل يمكن للمرضى النفسيين في الأردن أن يشفوا بينما المنظومة الطبّية غير جاهزة أصلًا لاستقبالهم؟ كيف نُشفى في بلدٍ يعتبر العلاج النفسي رفاهية، ويجعل الوصول إلى طبيبٍ نفسيّ فعلًا اقتصاديًا، لا حقًا أساسيًا؟ كيف نُشفى وسط بطالةٍ خانقة وضغوطٍ معيشية، ووسط منظومة سياسية تُضيّق على الحريات، وتُنذر الناس أنّ التعبير عن مشاعرهم قد يجرّهم للتحقيق أو الاعتقال؟
أواجه مرضي في بلدٍ يطلب منّا الصمت، ويعلّم النساء خصوصًا كيف يختبئن داخل أجسادهن، ويُقنعَنا أنّ الألم النفسيّ ليس "حقيقيًا" ما دام لا يُرى، وفي كلّ زيارةٍ للطبيب، أشعر أنّ السلطة الطبّية لا تقلّ قسوةً عن السلطة السياسية؛ كلاهما يريد تعريف جسدي نيابةً عنّي، وكلاهما يريد تحديد ما إذا كنتُ "صالحة" أو "مريضة".
لقد تعلّمتُ أنّ الشفاء ليس عودةً إلى "الطبيعية" كما يعرّفها الطبّ، ولا كما يفرضها المجتمع، الشفاء بالنسبة لي هو أن أفهم جسدي، وأن أقبل أنّ المرض جزءٌ منّي، وأنّ التعايش معه ليس فشلًا.
لذا؛ باعتقادي، فإن الشِفاء لا يتمّ إلّا إن شعرنا بأننا قادرات على التعايش مع الأمراض أو التأقلم معها دون اهتمامٍ بالآخر وآرائه، وإذا استطعنا فهم أجسادنا والتأثيرات الواقعة عليها وكيف يمكنها التشافي والشِفاء، أو ربّما يكون عن طريق الدعم النفسيّ الذي نتلقاه من دوائرنا المحيطة والمقرّبة.
ولمَ علينا أصلًا الشفاء من الأمراض طالما كنّا قادرين على العيش معها؟ لمَ أقنعَنا الطبّ بـ"كذبة" الشِفاء بينما ندرك كمرضى نفسيين أنّ هذا الخيار غير متاح وأنَّ المرض استوطنَ أجسادنا وسرى في عقولنا وشكّل شخصياتنا حتى أصبحنا لا نعرفنا!
والشفاء يُعرَّف بأنه مسار تغيير شخصي يهدف إلى تحسين الصحّة والرفاهية، إذ يعيش الفرد حياة مدفوعة ذاتيًا ويسعى لتحقيق إمكاناته الكاملة، وليس مجرد زوال الأعراض المرضية، ويتضمن – بحسب الطبّ – أربعة محاور رئيسية وهي؛ الأمل، والتمكين، والاستقلالية، والاندماج الاجتماعي ضمن المجتمع، فهل سيسمّي الطبّ العيش مع المرض ضمن كل هذه العوامل وتقبّلنا له، شفاءً؟ وهل يكون الشفاء في الدماغ حتى لو كان الجسد يتقطّع؟
وإن كان يمكن ملاحظة الشفاء عند ظهور مؤشراتٍ ملموسة في الحياة اليومية، مثل القدرة على ممارسة الأنشطة الاعتيادية بفاعلية، واستعادة الثقة بالنفس، وتكوين علاقات اجتماعية داعمة، فماذا لو كنّا قادرين على المضيّ دون كلّ هذا؟ ومَن قال إنَّ علينا استعادة الروابط الاجتماعيّة لنكون بخير؟ هل تكون العلاقات دليلًا على التحسّن حتى وإن كانت في معظمها السبب في الانتكاسات!
لمَ علينا إذًا أن نصل للشفاء طالما نحن فاعلاتٌ في حياتنا وقادراتٌ على النهوض صباحًا دون التفكير بالموت؟ هل لأن الطبّ قرّر أنَّ هذا هو التشافي والخروج من المرض؟ لمَ لا أبقى في داخله؟ طالما هو حريتي من التخلّص من كل تلك القيود والوصم، وانعتاقي الوحيد نحو ذاتي وجسدي الذي مهما أضعفه المرض فهوَ يعرفني ويسعى إليّ.
مع كل هذه الأفكار بتُّ أتحدّث مع أصدقائي ومن حولي بصراحة عن التجربة النفسية بكل تعقيداتها، وأشجّعهم على الاعتراف بما يمرّون به دون خوفٍ أو خجل، أشاركهم ما تعلّمته عن جسدي ومشاعري وحدودي، لا باعتباري خبيرة، بل باعتباري شخصًا يحاول التعافي عبر الفهم والتجربة والمواجهة، وبأن يُنصت لنفسه في اللحظات التي بدا فيها ذلك أقرب ما يكون إلى المستحيل.
ربما يكفي أن نعيش، أن نتنفّس، أن ننهض كل صباح رغم كلّ شيء، ربما يكفي أن نملك لحظات نصدّق فيها أجسادنا بدل أن نُخضِعها. وربما يكون المرض – كما اكتشفت – المكان الوحيد الذي أمتلك فيه حرّيتي كاملةً، حرّيتي بأن أكون نفسي، بلا رأي المجتمع ولا وصاية الدولة ولا مقاييس الطبّ.
- 1. https://www.youtube.com/watch?v=lhRLYq0YUyg
- 2. https://petra.gov.jo/Include/InnerPage.jsp?ID=127199&lang=ar&name=news&utm
- 3. https://arij.net/investigations/mental-health-jordan/
- 4. https://www.khaberni.com/news/702637-%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A
- 5. https://www.moh.gov.jo/ebv4.0/root_storage/en/eb_list_page/national_mhsu_action_plan_2022-2026_%28english%29_%282%29-0.pdf
- 6. https://www.cia.gov/the-world-factbook/field/youth-unemployment-rate-ages-15-24/country-comparison/
- 7. https://www.almamlakatv.com/news/167819-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%A3%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%BA%D8%B0%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86-%D8%A8%D9%86%D8%B3%D8%A8%D8%A9-18-%D9%84%D9%84%D8%B1%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%85%D9%86-2025
- 8. https://ammannet.net/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86-35-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%B9%D9%8A%D8%B4%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%AD%D8%AA-%D8%AE%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%B1
- 9. https://arabi21.com/story/1672985/%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84-%D9%86%D8%A7%D8%B4%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86-%D8%B9%D9%82%D8%A8-%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%83%D8%AA%D9%87%D9%85%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%A4%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%B4%D8%A7%D9%87%D8%AF
- 10. https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2024/04/jordan-stop-cracking-down-on-pro-gaza-protests-and-release-those-charged-for-exercising-their-freedoms-of-assembly-and-expression/
- 11. https://euromedmonitor.org/ar/article/5611/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86..-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%87%D8%A7%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%B1
- 12. https://www.pbs.org/wgbh/aia/part4/4h3106t.html
- 13. https://democraticac.de/?p=92168
- 14. https://alantologia.com/blogs/70843/
