العُشّة
باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.
kohl-5-revolt-ar.jpg
تشير لفظة "العُشّة" بالعربية إلى الخيمة ونحوها، وتشير أيضاً في المغرب إلى خيم التظاهر والإضرابات والاعتصامات العمّالية. زرت عششاً مختلفة في معرض دراستي البحثية في سوس ماسة جنوبي المغرب. خلال تلك الفعاليات، كانت النساء تخرج للمطالبة بحقوقهن في ظروف عمل عادلة أو تعويضات مناسبة حين تعرضهن للفصل. إلّا أنّ تسميات "الاعتصام" و"التخييم" لا تعبّر بدقّة عن تفاصيل إعادة تشكيل الفضاء العام الذي تنطوي عليه تلك الممارسات. لذا اخترت نقل لفظة العُشّة إلى الإنكليزية عوضاً عن ترجمتها. فللكلمة مغزىً خاص عند العاملات، كما أنها شعار متكرّر في عديد من الحراكات المشابهة في المنطقة: "الحق كيجي غير بالعشة" (حقوق عمّال المزارع لن تأتي سوى عبر العُشّة).
العُشّة هي فضاء مادي لانخراط النساء في الفعل السياسي. في شرحهما لظواهر احتلال الجموع رجالاً ونساءً للفضاء العام خلال ثورات المشرق والمغرب، تشير فرنسِس حصّو وزكية سليمه (2016) إلى إحدى أهمّ سمات العُشّة وهي مركزية احتلال عاملات المزارع الريفيات للشوارع والميادين العامة. احتلّت هؤلاء النسوة الشوارع والأرصفة والطرقات بشكل غير مسبوق.
تظاهرت النساء ليلاً ونهاراً، فخلقن علاقة جديدة مع بعضهن البعض ومع محيطهن، وبنَين مجموعات متآلفة تتخطى الاختلافات فيما بينهن. أعَدْن تشكيل أجسادهن وهوياتهن عبر تجمهرهن في الشارع. تكمن هنا أهمية العُشّة في ضحدها انطباعات الفضاء العام كمساحة مذكَّرة مرتبطة بالسلطة، والفضاء الخاص كمساحة مؤنّثة لا سلطة فيها. كما أنها تسلّط الضوء على العمليات الاجتماعية والسياسية التي تحدّد ما هو مقبول من الأجساد والممارسات والأصوات في مساحات وأوقات معينة. وبالنظر للعلاقة بين الجسد والفضاء (حصّو وسليمه 2016:4)، تمثل مادية العُشّة طرقاً مختلفة "لتقويض وخلخلة الأعراف المعيارية".
بناء العُشّة ليس ممارسة تختصّ بها عاملات المزارع بشكل حصري، إلا أنه وفي جميع المواقع التي زرتها والاعتصامات التي جاء ذكرها خلال مناقشاتنا ومقابلاتنا، كانت النساء في الغالب هنّ مَن حافظن عليها وأبقينها. واظبت النساء على الدفاع عن اعتصامهن ومنع السلطات أو أصحاب العمل من تفكيك الخيام. لم تؤسس هؤلاء النسوة شكلاً للاجتماع البشري داخل هذه المساحات فحسب، بل عملن أيضاً على تغذيته بشكل واعٍ. عبر فعل الطهي وبناء الروابط مع الجيران، نسجن مساحات من التواصل والدعم، "وتخطّين الحدود بين الفضاء الخاص والعام عبر ‘بَيْتَتة‘ الفضاء العام" (غوكاريكسل 2016:224).
فضلاً عن ذلك، حوّلت النساء المعتصمات المكان إلى منزل مؤقت من خلال نصب الخيام وفرش السجاد والوسائد لتوفير أماكن للنوم. كانت كل عُشّة ارتجالاً معمارياً فريداً تتحوّل فيه الخردة إلى أسرّة ويعاد فيه تدوير الأعلام واللافتات كستائر. غذّت هذه المساحات المعيشية العارضة وعياً قوياً بالعيش المشترك. ولم يقتصر ذلك على احتلال هؤلاء النسوة الطرقات والأرصفة فحسب، إذ أعاد محض وجودهن الجسدي تشكيل مادية هذه الأماكن نفسها. ففي تلك الخيم تتجلّى الطرق التي لا تنحصر فيها السياسة بدوائر العمل والمنزل، بل تتجاوزها وتنقلها من المجال الخاص إلى العام، والأهمّ، من الأرياف المهمّشة إلى الحضر. بعبارة أخرى، تُظهر نساء العُشّة أن السياسة – وفي هذه الحالة، المطالبة بالحقّ في العمل الكريم – غير محصورة بجدران النقابات وسياساتها التنظيمية.
تستمدّ العُشّة، التي هي فضاء مادي للظهور، قوتها من التقاء أجساد النساء الريفيات وقدرتهن على الاستمرار بدعم بعضهن لبعض. ومع ذلك، تكمن حدودها في حقيقة أن أجساد النساء الريفيات نفسها غالباً ما تكون ممحوقة ومحرومة ومهجورة. تمثل العُشّة على وجه التحديد أجساد أولئك "المنفصلات عن الجمع" والطرق التي يطرحن بها مطالبهن في الفضاء السياسي. كما أنها تُمكّننا من فهم أولئك القابعات خارج السياسة ممن ليس بوسعهن الانخراط ضمن "فعل سياسي متضافر" (بتلر 2011). على الأرصفة وفي الطرقات، بينما يعلو صوت العاملات بالاحتجاج على تسريحهن قسراً، يمثل حضورهن الجسدي، من خلال الطهي والحفاظ على المكان، بياناً سياسياً بحد ذاته. فباحتلالهن هذا المكان وإصرارهن على هذا الاحتلال، يمثّلن تحدياً جسدياً. فلا يعود تعبيرهن عن آرائهن السياسية مقتصراً على اللغة المنطوقة أو المكتوبة، بل يمتد ليشمل أجسادهن أيضاً. وبهذا المعنى، تمثل العُشّة صوتاً جامعاً للعديد من الأجساد ينطلق تحديداً من الهشاشة المشتركة لتلك الأجساد.
العُشّة هي كذلك نوعٌ من العصيان يتجاوز الإطار القانوني للإضرابات النقابية. يقدّم تناول فيرونيكا غاغو (2020) للإضرابات النسوية في الأرجنتين نظرةً ثاقبة للطبيعة الراديكالية لمثل هذه الممارسات. تسلّط غاغو الضوء على جوهر هذه الإضرابات عبر حثّنا على التساؤل ليس فقط عمّن نعصيه، متجاوزين شخص ربّ العمل، بل أيضاً عن ما ومَن نحاول هدمه، في ما وراء هرمية القيادة. بشَقّ عصا الطاعة الرأسمالية، تخلق هذه الإضرابات مساحةً للتفكير في أنماط بديلة للوجود. تشجّعنا غاغو على استكشاف تعقيدات آليات السلطة، وتدفعنا إلى إعادة النظر في نسيج أطرنا المجتمعية. في هذا الصدد، ومن خلال مناقشاتي العديدة مع عاملات المزارع والفاعلات في المجتمع المدني وممثلات النقابات، فهمت أن التعامل مع "أدوات الصراع"1 هو أمر طبيعي خلال الاحتجاجات العمّالية، وهو تكتيك سياسي يعود للظهور بشكل كبير في سوس ماسة. تمثّل العُشّة طوراً جديداً وموقعاً لالتقاء مختلف الاحتجاجات والحراكات العمّالية. كآلية احتجاجية، تقتفي العُشّة أثر التحوّلات الطارئة على الدولة وعلى الرأسمالية، فيما يبدو كتكيّفٍ للحراك الجماعي إزاء الصراعات بين المحتجّين والسلطات وأرباب العمل. بالتالي، أصبحت العُشّة روتيناً متكرراً في الاحتجاجات العمّالية. فبالنسبة لهؤلاء العاملات في سوس ماسة، تمثّل العُشّة شكلاً من أشكال المقاومة التي تسمح لهن برفع مطالبهن لمن هم في السلطة. وعبر الانخراط في هذا الحراك، تقول العاملات إنهن لن يعدن إلى منازلهن حتى تتحقق مطالبهن. العُشّة هي أيضاً لحظة تخرج فيها عاملات المزارع ومحطات التعبئة والتغليف للانخراط في مواجهة مطلبية لا تقتصر على رب العمل، بل تتجاوزه بحثاً عن إمكانيةٍ للتفاوض مع السلطة السياسية.
- 1. يستخدم تشارلز تيلي (2002) مفهوم "أدوات الصراع" repertoires of contention للتنظير للوسائل والأدوات المستخدمة في الحركات الاجتماعية أو موجات الإضرابات أو حروب العصابات أو الثورات أو صراعات التحرّر الوطني أو حركات التحوّل الديمقراطي.
Butler, Judith. 2011. Bodies in Alliance and the Politics of the Street. transversal texts. https://transversal.at/transversal/1011/butler/en
Gago, Verónica. 2020. Feminist International: How to Change Everything, trans. Liz Mason-Deese. London: Verso Books.
Gökarıksel, Banu. 2016. Intimate Politics of protest : Gendering Embodiments and Redefining Spaces in Istanbul’s Taksim Gezi Park and the Arab Revolution. In Freedom Without Permission: Bodies and Space in the Arab Revolutions, eds. Frances S. Hasso and Zakia Salime. Durham: Duke University Press, 222–277.
Hasso, Frances S. and Zakia Salime. 2016. Introduction. In Freedom Without Permission: Bodies and Space in the Arab Revolutions, eds. Frances S. Hasso and Zakia Salime. Durham: Duke University Press, 1–24.
Tilly, Charles. 2002. Event Catalogs as Theories. Sociological Theory, 20(2): 248–254.