أسواق إعادة الإنتاج السوداء
kohl-9-solidarities-ar.jpg
رغم الحديث المتكرّر عن "التراجع الديمقراطي" وما يرافقه من آمال محطّمة في "الإصلاح الديمقراطي"، تبقى واحدة من أبرز التأثيرات العميقة والمستدامة لثورة تونس عام 2011 هي الانتقاد الجذري لنموذج التنمية المنحازة حيث تُمنَح الأولوية للمناطق الساحلية على حساب المناطق الداخلية من البلاد (أيوب 2011). تُعتبر هذه المناطق من قبل سكانها مناطق مهمّشة، تعاني من الإهمال المتعمّد من قبل الدولة، بينما أظهر تنظيم الشعب القدرة على تغيير هذا النموذج التنموي، مما خلق سوابق تاريخية ملهمة – مثل تجربة اقتصاد التضامن الاجتماعي في "واحة الثورة" – جِمنة (كرّو 2021). ومع ذلك، تظلّ الفوارق الإقليمية قائمة، لتلقي بظلالها على ما بعد جمنة (جنوب تونس). في الأقاليم التي لا تزال تئنّ تحت وطأة انسحاب الدولة، كيف يسعى الناس إلى تدبير شؤون حياتهم؟ مع تسليط الضوء على الأدوار المحورية للنساء في خلق واستمرارية أساليب العيش اليومية، تتناول هذه المقالة قصّة "مباركة"، المرأة الرائدة من منطقة قبلي الجنوبية، التي أطلقت مشروعًا صغيرًا للتجارة غير المشروعة عبر الحدود. تشارك في هذه الأنشطة نساء يقطنّ في أو يرتبطن بأُسر وأقارب في المناطق الحدودية الممتدة من الكاف إلى قبِلي. أستعرض هذه الأنشطة بوصفها سوقًا سوداء لإعادة الإنتاج الاجتماعي، وهو سوق يساهم في تعزيز سبل العيش المحلية، ويعبّر عن "ممارسة معارضة" (إسماعيل 2014) لمفهوم المواطنة. من منظورٍ مفاهيمي، يجسّد سوق إعادة الإنتاج الاجتماعي غير الشرعي هذا التداخل اليومي بين الحياة والعمل والدخل في الجنوب العالمي، حيث لا يُعتبر مجرد ناتج عن عمليات اقتصادية وجيوسياسية أوسع، بل هو جزء هيكلي لا يتجزّأ من تلك العمليات.
قابلتُ مباركة خلال إقامة بحثية في جنوب تونس في أكتوبر 2023. كانت هذه رحلتي البحثية الثالثة إلى الجنوب بعد فترتين من العمل الميداني المطوّل بين عامي 2017 و2021. مباركة، التي هي من أقارب ابن عمّ صديقٍ لي، كانت تعمل في محافظة قبِلي. في صباح أحد الأيام، كان من المفترض أن ألتقي بمسؤول عن مبادرات التنمية الإقليمية في المحافظة. لكنه لم يحضر، لذا مررت بمكتب مباركة لتناول القهوة. وبينما كنّا نتحدّث عن السياسة اللبنانية والإبادة الجماعية المستمرّة في غزة، دخل زميل لها ليعطيها 50 دينارًا مقابل مجموعة من أغطية السرير التي اشترتها. بشغفٍ كبير، قامت مباركة بإخراج هاتفها لتُظهر لي صفحة "الفيسبوك" التي أنشأتها لترويج أعمالها التجارية، حيث تتألّق فيها مجموعة متميّزة من المنتجات التي تعرضها، مثل أدوات المطبخ، وأطقم الشاي والقهوة، وأغطية السرير، والبيجامات، والمناشف، وسجّاد الصلاة، والستائر. استثمرَت في مشروعها من خلال مزيجٍ مُحكم من جمعيات الائتمان والادخار الدورية (ROSCAs) (حسين وكريستابيل 2022) والقروض الصغيرة، مما أضفى على أعمالها طابع الاستدامة. كان الزبائن في غالبيتهم من جيرانها وزملائها في المحافظة، إضافة إلى المعلمين الذين أطلقوا العديد من جمعيات الائتمان والادخار الدورية في منطقتها. ولم يقتصر دعم أعمال مباركة على التمويل المستقر فحسب، بل تمثّل أيضًا في قاعدة زبائن قوية، نابعة من شبكاتها الاجتماعية النسائية الموثوقة، حيث كانت مساعيها في العمل تجسيدًا بديعًا لتحويل رأس مالها الاجتماعي إلى منتج مُثمر (رانكين 2002).
دفعت الهواجس الاجتماعية-الإنجابية مباركة إلى بدء هذا المشروع الطموح، إذ كانت تطمح إلى تأمين تعليم رفيع الجودة لولدَيها في إحدى الجامعات الخاصة في تونس. فالتكاثر الاجتماعي، في جوهره، يُعبّر عن "التكاثر البيولوجي للقوى العاملة، سواء عبر الأجيال أو بشكل يومي، من خلال اكتساب وتوزيع وسائل العيش، مثل الغذاء والمأوى والملابس والرعاية الصحية" (كاتز 2001:711). لم تكن العناصر التي قامت ببيعها مجرد مواد تُستخدم لتحويل الهياكل الطينية والخرسانية إلى منازل دافئة أو لتوفير الرعاية للأطفال والبالغين فحسب، بل كانت أيضًا تجسّد الجهود الاجتماعية التي تبذلها النساء لدعم أُسرهن، حيث أسهمت الأرباح التي حققتها في تمويل تعليم أطفالها. وبالتالي، تكشف قرارات مباركة عن كيفية "تداخل العمل وضغوط الحياة في تشكيل مصائر العمّال والأسر والمجتمعات في أركان متباينة من الجنوب العالمي" (ميزادري وآخرون 2022:1789).
مباركة، التي تمكّنت من الحصول على السلع التي تبيعها عبر الحدود من وادي سوف في الجزائر، كانت تعيش تجربة تحمل بين طيّاتها الكثير من التحديات والمغامرات. كلّ أسبوعين أو ثلاثة، كانت تجمع مجموعة مكوّنة من أربعٍ إلى ستّ نساء، يقمن بدفع أجر أحد سائقي الفان الذين يتخصصون في التجارة عبر الحدود،1 لتنظيم الرحلة إلى وادي سوف. كانت الرحلة تستغرق أكثر من 24 ساعة بقليل، حيث كانت المجموعة تعاني من قلّة النوم أو تفتقر إليه تماماً. تتخلّل رحلة الذهاب والعودة إلى الجزائر تلك، التوقّف في نقاط التفتيش لدفع الرسوم المطلوبة لوكلاء الحدود، التي كان ينظمها سائق الفان، ووقت مخصّص لتلبية طلبات العملاء وتجديد مخزونهن من البضائع. في وادي سوف، كانت مباركة تشتري أيضاً بعض المواد اللازمة للاستخدام المنزلي. وعندما كانت المواد الأساسية مثل زيت الطهي والسكر والدقيق نادرة في تونس، كانت تسارع لشرائها عبر الحدود، بالإضافة إلى تخزين مستلزمات التنظيف وأكياس القمامة التي كانت تُباع بأسعار أرخص هناك. "طالما أن الحدود مفتوحة، سأستمرّ في العمل"، حسب قولها.
لم تكن التجارة العابرة للحدود، التي تشكّل شريان حياة للعديد من السكان في تلك المناطق الحدودية، بمنأى عن تأثيرات القلاقِل الجيوسياسية. فبعد سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا، تغيّرت شروط هذه التجارة على نحو كبير (مدّب 2016). قامت الحكومة الجديدة بقمع التداول غير المشروع للمخدرات والمسكِّرات والكحول، مما أثار اضطرابات شعبية (مدّب 2021). وغالباً ما يتمّ الخلط بين التجارة غير المشروعة العابرة للحدود، والتي أثرت التجار الكبار، وبين اقتصاد البقاء الذي يضمن لقمة العيش لسكان هذه المناطق الحدودية.
التضييق شدّ الخناق على التجّار الصغار – الذين نجوا لأنهم كانوا منخرطين في سوق سوداء وشبكات تهريب سلع ضرورية كانت النساء تَقدن العمليات فيها. تُظهر الأبحاث التي تستكشف التحليل الجندري للتجارة عبر الحدود في قبِلي أن ما حفّز النساء على الانضمام إلى التهريب لم يكن التراكم بل الضرورة لدعم الأبناء البالغين الذين، بسبب الظروف الاقتصادية الهيكلية، لم يتمكّنوا بعد من بدء حياتهم المستقلة (بن زينة وآخرون 2019). عند مناقشة أعمالهن، أصرّت المحاورات، مثل مباركة، على الطابع المشروع لأنشطتهن، والتي كانت الخيارات الوحيدة المتاحة لهن في مواجهة إهمال الدولة. أعادت السيادة الاقتصادية التي اكتسبنها بسبب مساهمتهن في أسواق إعادة الإنتاج الاجتماعي السوداء، تشكيل فهمهن للدولة، ولحقوقهن وواجباتهن على نحوٍ غير معياريّ. شكّلت هذه العمليات الاقتصادية البنية التحتية لظاهرة المواطنيّة المعارضة للسلطة بعد الثورة.
- 1. سائقو اللوّاج هم سائقون متخصصون في هذا النوع من التجارة عبر الحدود. باستخدام حافلاتهم الصغيرة، ينظمون رحلات لأربع إلى خمس نساء، مع ترك مساحة لتخزين البضائع. علاقاتهم مع وكلاء مراقبة الحدود على الجانبين التونسي والجزائري تسمح لهم بالتفاوض على مبالغ الرشوة المناسبة لضمان مرور البضائع بأمان. تتطابق رواية مباركة عن هؤلاء الناقلين مع روايات بن زينة وآخرين (2019).
Ayeb, Habib. 2011. Social and Political Geography of the Tunisian Revolution: The Alfa Grass Revolution. Review of African Political Economy, 38(129), 467–479. https://doi.org/10.1080/03056244.2011.604250
Hossein, Caroline Shenaz and P. J. Christabell, eds. 2022. Community Economies in the Global South. Oxford: Oxford University Press.
Ismail, Salwa. 2014. The Politics of the Urban Everyday in Cairo: Infrastructures of Oppositional Power. In The Routledge Handbook on Cities of the Global South, eds Susan Parnell and Sophie Oldfield. London: Routledge, 269–280.
Katz, Cindi. 2001. Vagabond Capitalism and the Necessity of Social Reproduction. Antipode, 33(4), 709–228.
Kerrou, Mohamed. 2021. Jemna l’oasis de La Révolution. Tunis: Cérès éditions.
Meddeb, Hamza. 2016. Smugglers, Tribes and Militias. The Rise of Local Forces in The Tunisia-Libyan Border Region. In Inside Wars: Local Dynamics of Conflicts in Syria and Libya, eds. Luigi Narbone, Agnès Favier, and Virginie Colombier. Robert Schuman Centre for Advanced Studies (European University Institute) and Middle East Directions, 38–43. https://doi.org/10.2870/461476
Meddeb, Hamza. 2021. The Hidden Face of Informal Cross-Border Trade in Tunisia After 2011. Malcolm H. Kerr Carnegie Middle East Center and X-Border Local Research Network. https://carnegie-production-assets.s3.amazonaws.com/static/files/Meddeb_XBORDER_Tunisia.pdf
Mezzadri, Alessandra, Susan Newman and Sara Stevano. 2022. Feminist Global Political Economies of Work and Social Reproduction. Review of International Political Economy, 29(6), 1783–1803. https://doi.org/10.1080/09692290.2021.1957977
Rankin, Katherine N. 2002. Social Capital, Microfinance, and the Politics of Development. Feminist Economics, 8(1), 1–24.
بن زينة، محمد علي، روضة القدري وآمال الفرجي. 2019. عندما تلتقي التجارة الموازية مع النوع الإجتماعي. تونس: جمعية نشاز.