الزراعة المقاومة
kohl-5-revolt-ar.jpg
"أدرك تماما أن المقموعين والمقهورين في هذه الدنيا لا يحلقون عاليا في غيوم المطلق السامي بل يحفرون عميقا في التراب بحثا عن جذر حي، ونبتة ممكنة وشجر يمكن أن يكبر ذات يوم".
- مريد البرغوثي، "ولدتُ هُناك، ولدتُ هُنا"
الزراعة المقاومة هي ممارسة تتحدّى الاستعمار الإستيطاني والنهج النيوليبرالي الذي يسلّع الأرض والموارد، إذ تركّز على المقاومة، والصمود، والأمل كسُبُلٍ لإعادة الجذور إلى الأرض وإعادة التوجيه نحو مستقبلٍ ومجتمعات محرّرة. تتميّز هذه الممارسة بتزايد المبادرات الزراعية التي يقودها الشباب والنساء، بما في ذلك التعاونيات والمزارع المدعومة مجتمعيًا (CSA)، والتي تعكس، على غرار الحركات الزراعية للشعوب الأصلية في الجنوب، مفاهيم العمل الكريم، والسيادة الغذائية والبذرية، والرفاه المجتمعي، والمقاومة. نشأت هذه المبادرات في سياق مشبع بترتيبات سياسية واقتصادية تسعى إلى جعل الإنتاج الزراعي الفلسطيني غير قابل للاستمرار مع تناقص الموارد. وقد أُجبر الفلسطينيون على العيش في مناطق حضرية شديدة الكثافة تنتج القليل وتستهلك الكثير، ما يؤدي إلى فقدان السيطرة المتبقية على الأرض ونظم الغذاء والاقتصاد والثقافة. يُعدّ نظام الإغلاقات الإسرائيلي جزءًا من أشكال السيطرة الاجتماعية والاقتصادية المستمرة التي تعتمد على تسليح الغذاء (لي 2006)، وقد أثّر ذلك على النساء اللواتي يقمن بمعظم العمل الزراعي في فلسطين. استجابةً لذلك، فإن التمسك بالأرض والعودة إليها ليس مجرد تأكيد على السيادة الغذائية،1 بل هو أيضًا تأكيد على حقوق أهل الأرض، وهويتهم، وممارساتهم المجتمعية لفكّ الارتباط عن النظام الاستيطاني الاستعماري والنيوليبرالي الذي يسعى إلى تحويل المُزارعين إلى عمّال مأجورين في المستوطنات الإسرائيلية.
الزراعة المقاومة تمثّل توجّهاً نحو زراعة الأراضي التي تعتبر غير قابلة للزراعة، مثل الأراضي الصخرية التي تتطلّب عادةً الكثير من أعمال التأهيل وإصلاح التربة وبناء أو إصلاح المدرجات الزراعية. غالباً ما تكون هذه الأراضي غير متصلة بمصادر المياه أو الكهرباء، وتفتقر إلى التحصينات التي تحميها من هجمات الخنازير البرية. وعادة ما تقع هذه الأراضي في المنطقة "ج" (Area C)،2 مما يجعل من شبه المستحيل حفر الآبار، جمع مياه الأمطار، أو بناء هياكل دائمة عليها. التفكير في الزراعة المقاومة يتطلّب فهمها كممارسة استعمارية مضادّة (decolonial practice)، فهي ليست فقط استجابة للتحديات المباشرة التي يفرضها الاحتلال، ولكنها أيضاً جزءٌ من نضال أوسع ضد البطش التاريخي والمستمرة للاستعمار. من هذا المنظور، تسلّط الزراعة المقاومة الضوء على أهمية حقوق الشعوب بالأرض والموارد، وإحياء المعارف التقليدية المحلية، وإنشاء مجتمعات مكتفية ذاتياً كأفعال مقاومة. إنها تعبّر عن رؤية أعمق تستهدف تجاوز الاستعمار البنيوي والممارسات النيوليبرالية التي تسعى إلى إقصاء أهل الأرض عن أراضيهم وطمس هويتهم.
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تمحورت المقاومة الفلسطينية بشكل أساسي حول مفهوم الصمود، حيث تمسّك الفلسطينيون بما تبقّى من أراضيهم في مواجهة التوسّع الاستعماري والاقتلاع القسري، بل واستطاعوا، رغم العنف الممارس ضدهم، أن يحققوا أشكالاً من الازدهار في ظل هذه الظروف القاسية (شحادة 1982). أدّى هذا الصمود إلى نشوء شبكات واسعة من المتطوعين الفلسطينيين، وخاصة من بين الطلاب الناشطين، الذين ركّزوا جهودهم على دعم العمل الزراعي (روبنسون 1997). مهّدت هذه الحركة التطوعية الطريق لتأسيس "اللجان الشعبية" التي انتشرت في المجتمع الفلسطيني خلال انتفاضة 1987. وقد جاءت هذه الجهود كردّ فعل على القوانين الإسرائيلية في السبعينيات التي سمحت بمصادرة الأراضي "غير المزروعة".3 كان الهدف الأساسي لهذه اللجان بناء اقتصاد فلسطيني بديل يقوّض التبعية الاستعمارية ويعزّز استقلال الفلسطينيين (نصّار وهيكوك 1990؛ طبر وسالامانكا 2015). ولهذا السبب تحديداً، اعتبرت إسرائيل هذه اللجان غير قانونية في عام 1988، ووصفتها بأنها تشكّل "جهازاً بديلاً" للحكم العسكري الإسرائيلي (روبنسون 1997:96). تضمّنت الأنشطة الرئيسية لهذه اللجان الإنتاج الاقتصادي، والمساعدات المتبادلة، والمدارس الشعبية؛ وأصبحت الزراعة، من خلال الزراعة المنزلية واستصلاح الأراضي المهملة، سمةً بارزة للمقاومة الفلسطينية المحلية. على المستوى الوطني، أقام المهندسون الزراعيون والخبراء الزراعيون، العاملون في المناطق الحضرية، روابط مع المزارعين في الريف لتقليل الاعتماد على المنتجات الإسرائيلية وتعزيز المشاريع التنموية الزراعية. توجت هذه الجهود بتأسيس عدة مؤسسات زراعية مثل لجنة الإغاثة الزراعية الفلسطينية (PARC) عام 1983، واتحاد لجان العمل الزراعي (UAWC) عام 1986، والمركز الفني للخدمات الزراعية (TCAS) في نفس العام (روبنسون 1997).
في العقد الماضي، واستجابةً للعمليات القمعية التي نفذتها سلطات الاحتلال وتجاهل السلطة الفلسطينية، قام العاملون الفلسطينيون في الأرض بتأسيس عدة مبادرات كمقاومةٍ ضدّ الظلم الاستعماري والحرمان من الأراضي. في قرى رام الله المحيطة، ظهرت تعاونيات زراعية يقودها الشباب والنساء، مثل تعاونية "أرض اليا"، مزرعة "أم سليمان" (CSA) تعاونية من التعاونيات – "الخط الغربي" (حضانة رمانة، الفلاح، مزرعة أم سليمان، وأرض اليا) – على أراضٍ لا يملكونها، قدّمتها المجتمعات المحلية أو ملّاك الأراضي للزراعة والحماية. تهدف هذه التعاونيات الزراعية بشكل رئيسي إلى: 1) الحفاظ على الأنظمة الغذائية الأصلية، وسيادة الغذاء، وسبل العيش الكريمة؛ 2) إعادة تفعيل شبكات التضامن المجتمعي والعمل؛ 3) تجربة أنظمة اقتصادية بديلة ومقاومة، رافضة التمويل الأجنبي كقيمة أساسية؛ و4) مكافحة مصادرة الأراضي من خلال القوة الجماعية (ماري 2023؛ كولبري 2022). بالإضافة إلى العمل في الأرض، تقوم هذه التعاونيات أيضًا بإعادة توجيه الخطاب حول الزراعة، والعلاقات بين المنتجين والمجتمع، ومصادر المعرفة، والممارسات الزراعية المحلية التي تمّ تصويرها على أنها أدنى من قبل الاحتلال. من خلال الاستفادة من المفاهيم التاريخية المحلية للعالم، يسعى هؤلاء إلى خلق مستقبلات تتجاوز البنى الاستعمارية الممكنة والمعقولة (إسكوبار 2004؛ ريتسكيس 2017). على سبيل المثال، يعيد البعض تركيز المعرفة الزراعية الأصلية التي انتقلت أساسًا عبر الأجيال المتعاقبة من النساء؛ والكثير منهم يعملون على الحفاظ على بذور وأصناف النباتات الوراثية؛ وتقوم تلك التي تقودها النساء باستعادة القوة الاجتماعية والاقتصادية التي سُلبت من خلال الأنماط الاستعمارية والأبوية. مثلما هو الحال مع التعاونيات النسوية الزراعية والإيكولوجية وحركات الفلاحين المعدمين في مختلف أنحاء العالم، مثل "فونداسيون إنتر ميخويرس" في نيكاراغوا، "لاس مارغاريتاس"، و"حركة عمّال الريف بدون أرض" في البرازيل، تمثّل هذه بعض الأمثلة الفلسطينية التي من خلالها تَعزَّز نماذج الزراعة المقاومة التي تتمعّن في السيادة الغذائية المتحرّرة من كيد الخلاص الفردي، ومتمعّنة بمفاهيم الكرامة، ورفاهية المجتمع، والعمل الشعبي، والمقاومة.
- 1. السيادة الغذائية هي حق المجتمعات في التحكم في إنتاجها الغذائي. ويشمل ذلك الحفاظ على الممارسات الزراعية المتوارثة عبر الاجيال الفلسطينية والتي تعتبر سر ديمومة هذا الشعب. إعطاء الأولوية لأصناف البذور المحلية وأساليب الزراعة التقليدية المفيدة مبدأ من مبادئ هذا المفهوم الذي يضع نصب اهدافه تحقيق سيادة البذور، والحفاظ على التنوع الوراثي الضروري لصمود النظم الغذائية.
- 2. "تشكل المنطقة (ج) 60% من الضفة الغربية وتحتوي على غالبية الأراضي الخصبة و80% من المياه الجوفية. في هذه المناطق، يُحظر على الفلسطينيين حفر الآبار، أو بناء هياكل دائمة، أو توسيع البنية التحتية، أو تجديد أراضيهم دون الحصول على إذن. عادة لا تمنح الأذونات لأكثر من 1% فقط من طلبات التصاريح، مما يعني أن غالبية البناء يخضع لأوامر الهدم، وعلى النقيض من ذلك، فإن 68% من المنطقة (ج) مخصصة لبناء المستوطنات الإسرائيلية مساحات مكتظة بالسكان تتقلص باستمرار، وتخنق المزارعين الفلسطينيين، الذين انتهى بهم الأمر محصورين في قطع أراضي صغيرة معتمدين إما على مياه الينابيع القريبة أو على شراء المياه من المستوطنات المجاورة.
- 3. "غير مزروعة" تعني إما الأراضي التي تركها "معطلة" لمدة 10 سنوات أو أكثر من قبل أصحاب الأراضي الفلسطينيين الذين لا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم أو الاعتناء بها، أو الأراضي المزروعة باستخدام تقنيات زراعة الأجداد وتستخدم في المقام الأول لإطعام الأسر ومجتمعاتهم، وبالتالي لا تساهم في اقتصاد السوق.
Barghouti, Mourid. 2011. I was born here, I was born there. Bloomsbury Publishing.
Escobar, Arturo. 2004. Development, Violence and the New Imperial Order. Development, 47(1), 15–21.
Li, Darryl. 2006. The Gaza Strip as Laboratory: Notes in the Wake of Disengagement. Journal of Palestine Studies, 35(2), 38–55. https://www.palquest.org/sites/default/files/The_Gaza_Strip_as_Laboratory_Notes_in_the_Wake_of_Disengagement-_Darryl_Li.pdf
Kohlbry, Paul. 2022. Palestinian Counter‐Forensics and the Cruel Paradox of Property. American Ethnologist, 49(3), 374–386.
Mari, Faiq. 2023. Youth Cooperatives: An Emergent Model for a Palestinian Resistance Economy. Société Suisse Moyen-Orient et Cultures Islamiques SSMOCI. https://www.sagw.ch/fr/sgmoik/actualites/details/news/youth-cooperatives-an-emergent-model-for-a-palestinian-resistance-economy
Nassar, Jamal R. and Roger Heacock. 1990. The revolutionary transformation of the Palestinians under occupation. In Intifada: Palestine at the Crossroads, eds. Jamal R. Nassar and Roger Heacock. London: Bloomsbury Publishing, 191–206.
Ritskes, Erik. 2017. Beyond and Against White Settler Colonialism in Palestine: Fugitive Futurities in Amir Nizar Zuabi’s “The Underground Ghetto City of Gaza.” Cultural Studies ↔ Critical Methodologies, 17(1), 78–86.
Robinson, Glenn E. 1997. Building a Palestinian State: The Incomplete Revolution. Bloomington: Indiana University Press.
Shehadeh, Raja. 1982. The Land Law of Palestine: An Analysis of the Definition of State Lands. Journal of Palestine Studies, 11(2), 82–99.
Tabar, Linda and Omar Jabary Salamanca. 2015. After Oslo: Settler Colonialism, Neoliberal Development and Liberation. Critical Readings of Development under Colonialism: Towards a Political Economy for Liberation in the Occupied Palestinian Territories. Birzeit University: Center for Development Studies, 10–32.