النساء يثرن: بين المقاومة الإعلامية وترسيخ البنى الجندريّة القمعيّة
بعد أن سجّل أحد الفيديوهات بالصدفة حادثة تعرّضي لتحرّش جنسي على معبر رفح، تحوّل جسمي إلى حلبة تحاربت فوقها القوى الإيديولوجيّة الأكثر هيمنةً في غزّة. دفعني هذا الفيديو، ودفع صفتي كشخص، إلى الهامش، تحت ستار “حمايتي” كامرأة، الأمر الذي يُعدّ من البديهيّات و”حسّاً مشتركاً” في نظر المجتمع عموماً. أثبت الخطاب الإعلامي المرتبط بالحادثة تعدّد صراعات النساء في المجتمع الفلسطيني، كما الدّور المركزي الذي يؤدّيه الإعلام والبنى السلطويّة في تعريف بعض الخطابات المُهيمنة وترسيخها، كالأبويّة. لكنّ النساء قدّمن أمثلة لا تُحصى عن مقاومة يخضنها بشكل ظاهر وغير ظاهر من أجل استرداد دورهنّ كفاعلات قادرات على مواجهة القمع والذكوريّة. وفي حالتي أنا، فقد أتاحت لي أدوات التواصل الاجتماعي باسترجاع السياق الحقيقي لحادثة التحرّش الجنسي وفضح العادات الثقافية الذكوريّة التي تختصر النساء بأجسادهنّ وتُحِدُّهنّ وتُهمّشهنّ. كما نجحت في تمهيد الطريق للمزيد من النقاشات المفتوحة حول الانتهاكات التي تتعرّض لها النساء بشكل يومي في الفضاءات الخاصّة والعامة، ممّا فرض تحدّياً واضحاً للتابوهات الثقافيّة المحيطة بالعنف الجنسي المُمارَس على النساء.
Maya El Ammar is a feminist journalist and activist who has experience supporting civil society organizations in the field of media and communications, as well as leading training sessions on issues related to gender and feminism. Maya contributes to various media outlets as a journalist and translator. She currently produces her own feminist opinion videos and articles in collaboration with Daraj Media platform, in parallel to her full-time job as media campaigns manager at Crisis Action organization. She holds a BA in journalism and an MA in communications studies. She previously managed KAFA's communications department and led nationwide feminist media campaigns.
في أواخر صيف 2013، كان قطاع غزّة المشبَّه على نحو واسع بـ”السجن المفتوح” يعاني من أزمة سياسية وإنسانية آخذة في التدهور نتيجة الإقفال المستمرّ لمعبر رفح بين غزّة ومصر. تُمثّل هذه البوّابة خطّ حياة بالنسبة إلى سكّان غزّة بصفتها منفذهم الوحيد إلى العالم الخارجي. في تلك الفترة، كنت واحدة من بين آلاف الأشخاص المتروكين خلف البوّابة الحدوديّة لرفح، باحثة عن فرص علم أو عمل أو رعاية صحيّة في الخارج. في ذلك النهار، وأنا أنتظر بفارغ الصبر أن يُنادى اسمي ويُلبّى طلبي، أُعلن إقفال المعبر بقرار من الطرف المصري، فما كان من الحاضرين/ات إلا أن يفجّروا/ن مشاعر الغضب والإحباط المتراكمة في نفوسهم، لتتشكّل على الإثر تظاهرة عفويّة احتجاجاً على وضعٍ جرّد الناس من إنسانيّتهم على مدى أشهرٍ من محاولات بائسة لعبور الحدود.
في هذه المقالة، أتأمّل بتجربتي الخاصة خلال هذه التظاهرة، والتي تحوّلت إلى قصّة طغت على الخطاب الإخباري المحلّي في فلسطين. تتمحور القصّة حول فيديو تمّ التقاطه بالصدفة يُبيّن تعرّضي لتحرّش جنسي على يد شاب حينما كنتُ واقفة في الصف الأمامي للتظاهرة أمام بوّابة معبر رفح. تعرّض الخطاب المنبثق عن الفيديو لتلاعب واستغلالٍ حوّلا جسد المرأة المُتحرَّش بها إلى أرض معركة تحاربت فوقها الأطراف السياسية السائدة والمتناحرة، وتحديداً حماس وفتح.
إنّ أسلوب التلاعب والتجزئة الذي أطّر السرديّات الإخباريّة للحادثة لم يكشف عن الانقسامات السياسية بين الأطراف الفلسطينية وحسب، بل رسّخ القواعد والنظم الجندريّة القمعيّة ضمن المجتمع الفلسطيني. ليس في إساءة الاستخدام الاستراتيجية للفيديو في الأخبار المحلّية دلالة على موقع النساء في المجتمع الفلسطيني فقط، لكن أيضاً على تعدّد صراعاتهنّ في ظل جوّ الانقسام الذي يسود المشاريع المعادية للاستعمار، والأبويّة، والقوميّة. والنتيجة هذه، كما أحاول أن أبرهن، يعود سببها إلى تصوير النساء كرمز للوطن وشرف العائلة اللّذين يحيا ويموت الرجال لأجلهما.
في حالتي أنا، تمّ تغبيش صورة المرأة في الفيديو، وعمليّاً مَحوُها، الأمر الذي أخرج النقاش السياسي الذي نتج عن الحادثة من سياقه. وما أملى بشكل ضمني هذا المحو، كان الثقافة السائدة ذات الطبيعة الذكوريّة للمجتمع الفلسطيني التي تفترض أن نشر فيديو يظهر تعرّض امرأة لتحرّش جنسي سيجلب لها العار. في المقابل، تُوفّر الأدوات الإعلامية البديلة، كمواقع التواصل الاجتماعي، مساحة مقاومة يمكن أن تساعد في فضح بعض الممارسات الثقافية و/أو الاجتماعية التي تغدو “حسّاً مشتركاً” (غرامشي، 1999، ص 641). وقد سمحت لي أدوات التواصل الاجتماعي بتحدّي الخطاب الإعلامي المضلِّل لما جرى وإعادة تثبيت مركزيّة القضيّة الأساسية التي تمّ تهميشها: أن الاعتداءات الجنسية ضد النساء، بالإضافة إلى التابو الذي يشيّدها، يتيحها نظامٌ بطريركي.
بالاستعانة بكتّاب مثل دينيز كانديوتي ونيرا يوفال-دايفيس وبيار بورديو، أناقش أن الأبويّة ليست نظاماً مستقلاً بحد ذاته، إنّما هي منتشرة في كلّ الدوائر الاجتماعية، في المجالين العام والخاصّ. أستخدم نظريّة غرامشي حول الهيمنة لفهم الطبيعة المهيمنة للبطريركيّة التي يتمّ التطبيع في ظلّها مع “العلاقة الاجتماعية العاديّة بشكل غير اعتيادي،” حتّى من قبل النساء المُسيطر عليهنّ (بورديو، 2001، ص 1-3)، وشرح كيف تُؤسَّس، وتُرسَّخ، وتحظى “بالقبول العفويّ” (غرامشي، 1999، ص 145).
أخيراً، ومن خلال التأمّل بقصّتي الشخصيّة، أبيّن كيف أن التطبيع مع البُنى السلطويّة المهيمنة التي تواجهها النساء لا يعني بالضرورة أن النساء مجرّد متلقيّات سلبيّات يخضعن ببساطة للقمع. عوضاً عن ذلك، تواجه النساء دائماً طبقات القمع المتعدّدة بأشكال مختلفة من المقاومة يفاوضن عبرها ويفعّلن بها قدراتهنّ الذاتيّة ويتحدّين البُنى السلطويّة. والأمر ليس محصوراً بالمجتمعات الفلسطينيّة، بل ينطبق على معظم الصراعات القائمة على القوميّة ومواجهة الاستعمار.
متروكون/ات خلف المعبر الحدودي
ارتبطت استعارة “أكبر سجن مفتوح في العالم” بقطاع غزّة نتيجة حصره في غيتو من قبل الاحتلال الإسرائيلي. لم يبدأ المسار المُمنهَج لفرض الحصار مع التعاون بين إسرائيل ومصر والمجتمع الدولي، بل الحصار مستمرّ منذ عقود. فوفق المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، إنّ قطاع غزّة “سبق وطُوِّق بسياج كهربائي في العام 1994 خلال التحضير لعمليّة السلام مع الفلسطينيّين/ات، وتحوّل إلى غيتو في العام 2000 مع إعلان فشل عمليّة السلام” (بابيه، 2010، ص 192). وبعد استيلاء حماس على القطاع في العام 2007، استغلّت إسرائيل، بدعمٍ من مصر والمجتمع الدولي، الفرصة لتضييق الخناق على شعب غزّة من خلال فرض حصار غير قانوني وصفته معظم منظّمات حقوق الإنسان بأنه “عقاب جماعي” (تشومسكي وبابيه، 2010). فقد أدّى الحصار إلى احتجاز 1.8 مليون فلسطينياً/ة داخل غيتو غزّة، وإلى حرمانهم/ن من أبسط الحقوق، بما فيها الوصول إلى سائر الأراضي المحتلّة والعالم الخارجي.
يوم 29 أيلول 2013، كنت واحدة من بين أكثر من خمسة آلاف شخص يتوسّلون الرحيل وهم محتجزون خلف معبر رفح الحدودي، المنفذ الوحيد لغالبيّة سكّان غزّة الـ1.8 مليون منذ فرض الحصار رسمياً في العام 2007. وبعد الانقلاب العسكري في مصر في العام 2013 الذي أدّى إلى الإطاحة بالرئيس المُنتَخب، محمّد مرسي، اشتدّ التقييد على حركة الفلسطينيين/ات عبر المعبر. آلاف العابرين/ات المرخّصين/ات صارت مصائرهم/ن معلّقة لأشهر، ومعظمهم/ن حالات إنسانية من مرضى بحاجة إلى عمليّات طبيّة، وطلّاب يتطلّعون إلى متابعة الدراسة في الخارج، وعمّال توشك صلاحيّة رخص عملهم على الانتهاء. أمّا أنا، فقد منعني إقفال معبر رفح من ركوب الطائرة التي كانت ستقلّني من القاهرة إلى اسطنبول في 15 أيلول لإتمام الماجستير في تركيا بعد حصولي على منحة دراسيّة.
قريب منتصف النهار، عندما كنت والمنتظرون/ات مثلي تحت الشمس ننتظر مناداة أسمائنا، تقدّمت السلطات الفلسطينية المسؤولة عن معبر رفح بإعلان عبر مكبّرات الصوت. فقد أعلمتها السلطات المصريّة بإقفال المعبر حتّى إشعار آخر، وطُلب منّا على الإثر الرجوع إلى منازلنا ومعاودة الاستعلام حول المستجدّات. فجّر هذا الإعلان مشاعر الاستياء والغضب لدى الحاضرين/ات، ومعظمهم/ن طلّاب تكسّرت أحلامهم عند بوّابة معبر رفح، فبدأوا يسيرون باتّجاه البوّابة بشكل عفويّ دفاعاً عن حقّهم الطبيعي في السفر وإكمال دراستهم في الخارج.
كنت من بين النساء القليلات اللواتي قدن التظاهرة. كنت منهكة، نفسياً وجسدياً، من تكرار الروتين نفسه يومياً على مدى شهر تقريباً: أسافر مع أمتعتي بُعيد شروق الشمس من أقصى شمال قطاع غزّة حيث أقيم إلى أقصى جنوبه حيث معبر رفح، لأعود مع أمتعتي من جديد إلى المنزل مع أمل يخفت شيئاً فشيئاً مع الغروب. عند البوّابة، حين كنّا نهتف دفاعاً عن حقّنا في السفر ومتابعة دراستنا، احتشدت في المكان وسائل إعلامية محليّة ودوليّة لتغطية الأزمة. تجمّع المتظاهرون/ات في كتلة واحدة، في محاولة لاختراق البوّابة من خلال دفع عناصر الشرطة التابعة لحماس الذين كانوا يحرسونها ويعيقون تقدّم الناس. أخيراً، تمكّنّا من اختراق البوّابة وركضنا معاً باتّجاه الأراضي المصريّة مغمورين/ات للحظات بشعور تحرّرٍ خفت لدى اصطدامنا بآليّات الشرطة وهي تقطع طريقنا. كان الإعلام آنذاك يواكب هذه الأحداث.
حين كنتُ واقفة في الصفوف الأماميّة للتظاهرة، بين عناصر الشرطة وغالبيّة من المتظاهرين الذكور، تحسّسني شاب من الخلف. تردّدت في بادئ الأمر، مدركةً أن المكان مكتظّ بالناس، ومفترضةً أن أحدهم ببساطة لمسني عن غير قصد. بعد قليل، تيقّنت أن التلمّس تحرّش جنسي قصدي، إذ إن الرجل أعاد الحركة نفسها بعدائية أكبر. فالتفتّ إلى الوراء ودفعت بالمتحرّش بشراسة خلفي دفاعاً عن نفسي. لاحظ الشرطي الذي كان واقفاً أمامي ما حدث، فهاجم المتحرِّش واعتقله.
عدت إلى البيت، يعتريني إحساس بأني انتُهكت بالكامل: كإنسان/ة محروم/ة من أبسط الحقوق الإنسانية -حق التنقّل- وكامرأة اختُصر كيانها بجسد، بغرض جنسي. استرحت قليلاً، وبالكاد استفقت من قيلولتي حتّى دخلت إلى الصفحة الرسميّة لمعبر رفح على فايسبوك للاطّلاع على آخر الأخبار المتعلّقة بالوضع هناك، آملةً أن يكون اسمي مذكوراً على لائحة المسافرين/ات في اليوم التالي.
البوست الأوّل الذي ظهر على أخبار الفايسبوك أمامي كان فيديو على يوتيوب 1 وُصف بأنه فيديو عن تحرّش جنسي في معبر رفح. حين شاهدته، كان قد سبق وانتشر على صعيد واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، حاصداً عشرات آلاف المشاهدات. وكان قد بثّ أيضاً على مواقع إعلامية عديدة.
تجاوز حدود التلاعب والهيمنة
فلسطين اليوم، وهو موقع إلكتروني تابع لحماس، نشر الفيديو ضمن تقرير عنوانه “حقيقة ما حصل في معبر رفح من “تحرّش” 2، أمّا فيديو اليوتيوب الذي تمّ تحميله بنسخة بطيئة، فحَمَل عنوان “عنصر فتحاوي يحاول افتعال شجار في معبر رفح من خلال التحرّش بفتاة، وشرطي يلقّنه درساً.” 3 بحسب المواقع الإخبارية التابعة لحماس، فإن الفيديو بالنسخة البطيئة هو ردّ مفترض على اتّهامات وجّهتها الوسائل الإعلاميّة التابعة لفتح. كانت هذه الأخيرة قد عرضت صورةً جامدة تظهر تعرّض شاب للاعتداء على يد شرطي، لتتّهم مسؤولي حماس بممارسة الشدّة مع المسافرين/ات العالقين/ات. جلستُ أمام شاشة الحاسوب، عاجزةً عن أي كلام، أشاهد جسمي يتحوّل إلى حلبة تتصارع فوقها القوى السياسية المُهيمنة والمتنافسة على السيطرة.
السؤال الذي يُطرح هنا هو: ماذا تعكس المعالجة التضليليّة للحادثة عن الحياة السياسية الفلسطينية، وعن النظام الجندري في المجتمع الفلسطيني؟
لا يمكن فهم الفيديو بمعزل عن السياق الأكبر الذي وقعت الحادثة المُسجّلة في سياقه. فمنذ توقيع اتفاقات أوسلو، وما يُسمّى بعمليّة السلام الذي وصفها الراحل إدوارد سعيد بـ”صك استسلام فلسطيني ومعاهدة فرساي الفلسطينية” (سعيد، 1993)، اتّخذت الحياة السياسية الفلسطينية الداخلية شكل المنافسة على السلطة بين حماس وفتح. أصبحت حركة المقاومة الإسلامية، حماس، سلطة حاكمة بفعل فوزها بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2006، الأمر الذي لم تتقبّله بسهولة فتح التي تصدّرت المشهد السياسي الفلسطيني منذ العام 1969. تصاعدت الأزمة السياسية في حزيران 2007 لتتحوّل إلى خصام تامّ فصل الأراضي الفلسطينية بين قطاع غزّة الذي تسيطر عليه حماس والضفة الغربية التي تسيطر عليها فتح (الحروب، 2006) (لوفلي، 2013).
بدت المنافسة بين الفريقين واضحة في المعالجة الإخبارية لحادثة التحرّش الجنسي، وقد فادت طريقة المعالجة حركة حماس على المستوى السياسي من خلال ما تصفه جينيفر داريل سلاك بـ”طريقة تجهيز البنية ولعبة السلطة التي تستلزم علاقات سيطرة وخضوع” (سلاك، 1996). فقد أعادت حماس بناء سرديّة الحادثة مستخدمةً أدوات إعلامية، ولغة حزبيّة، ورموز ثقافية، وما يعتبره الناس “حسّاً مشتركاً،” من أجل تسهيل تماهي الناس مع القصّة، ولكن فعلياً، تعزيز موقع الهيمنة الذي تتمتّع به الحركة كالقوّة السياسيّة الأساسيّة المسيطرة على قطاع غزّة.
تبدو الهيمنة كـ”الحسّ المشترك” الذي يقود يوميّاتنا، وقد تمّ التطبيع معها في المجتمع كفهمٍ دنيوي للعالم. فهي نظرة إلى العالم، “تمّ توريثها من الماضي وتشرّبها من دون مساءلة،” وهي تميل إلى إعادة إنتاج نوع من “الهوميوستاتيس الاجتماعي” –أي الخلق الاجتماعي لحالة الثبات- أو “الهمود الأخلاقي والسياسي” (غرامشي، 1999، ص 641). والحالة التي نناقشها هنا تشكّل مثلاً يمكنه تبيان كيف يكون “الحسّ المشترك” تعبيراً عن البُنى الاجتماعية المُهيمنة. في الفيديو الذي نشرته المواقع الإخبارية التابعة لحماس، تمّ تغبيش صورة المرأة في الفيديو –يعني صورتي- على افتراض أن إخفاء الملامح يحميها أو يجنّبها الفضيحة. ولأنّه رُفض أن تظهر بالصورة، لم يعد لديها لا اسم ولا صوت.
بالإضافة إلى ذلك، بدت علاقات السلطة التي تضمنّتها طريقة تصوير الحادثة واضحة جداً، ليس في تصوير المرأة كفرد خاضع لا يمتلك القدرة على الفعل وحسب، إنّما أيضاً في ردّات فعل الجمهور. بشكل عام، تمّ تهميش التحرّش الجنسي والتركيز على الإشادة بالتدخّل “الحمائي” للشرطي التابع لحماس. وللمفارقة، وجّهت السرديّات الإخبارية انتباه الناس نحو تفاصيل غير مهمّة صارت مهمّة، مثل الانتماء السياسي للشرطي والمتحرّش. أمّا استعمال حماس الحادثة من أجل إعادة تثبيت صورتها، فلم يلقَ أي ردّ نقدي، باستثناء بعض الأشخاص الذين انتقدوا الأمر بعد ربط المتحرّش بانتمائه السياسي لحركة فتح. أمّا أنا، فقد دُفع بي إلى الهامش في المسألتين: التحرّش الجنسي الذي وقعت ضحيّته، والخطاب السياسي الذي أحاط به. لم يكن لي أي قول في الطريقة الاستغلالية التي استُخدمت بها سياسيّاً تجربتي المؤلمة والصادمة من قبل الخصمين- فتح وحماس.
تشير دينيز كانديوتي إلى وجود ميلٍ في المشاريع القوميّة ذات الطبيعة الأبويّة، كالصراع الفلسطيني ضد الاستعمار، لأن تكون النساء مهمّشات اجتماعيّاً وسياسيّاً، على الرغم من الجزم المتكرّر لمركزّيتهنّ بالنسبة إلى الأمّة، وهو جزم يُعبَّر عنه بشكل واعٍ أو غير واعٍ (كانديوتي، 1991). إنّ مركزيّة النساء “تُثبَّت بشكل واعٍ في السرديّة القوميّة حيث الأمّة نفسها تُصوَّر على أنها امرأة وجب حمايتُها أو، بشكل غير واعٍ، لدى الانشغال الشديد بالسلوك الجنسي الذي يليق بالنساء” (كانديوتي، 1991). غير أنّ النساء الفلسطينيات لطالما انخرطن في أفعال المقاومة اليومية، بشكل ضمنّي أو ظاهر، ضدّ القمع الإسرائيلي وضدّ النظم البطريركيّة القائمة والمتجذّرة في عُمقِ حركة التحرّر الوطني.
في الحالة التي نتحدّث عنها، تصدّرت النساء، وبموافقة من حماس، تظاهرة مثّلت مقاومة حالة قمعيّة تحرم الفلسطينيين/ات من حقوقهم/ن الأساسية. لكن حين تدخّلت القوى السياسية، قامت فتح بمصادرة حادثة معبر رفح بشكل هزّ صورة حماس. فردّت حماس بدورها عبر نشر الفيديو بنسخته البطيئة مبرّرةً عنف الشرطيّ التابع لها ومعزّزةً هيمنته. يقع استسهال الإقصاء السياسي للنساء في خانة “الطبيعي” و”المنطقي،” ويندرج ضمن الخطاب الذي يعتبر أن النساء، كما الأمّة، بحاجة إلى الحماية، لذا فإنّ كشف المرأة لهويّتها يسيء إلى سمعتها. هذا الحسّ الحمائي تجاه المرأة وسمعتها يكشف الثقل الذي تتحمّله النساء عندما توكل إليهن مهمّة تمثيل شرف الرجال والأمّة وحفظه.
لمّا لاحظت انتشار الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعي بشكل واسع، تضاعف شعوري بالصدمة التي كنت قد عانيت منها بسبب الإساءة الجنسيّة، كما القهر الجماعي الذي شهدته بشكل مباشر عند معبر رفح خلال محاولاتي الفاشلة لاجتيازه. شعرت بالسقم نتيجة مصادرة حماس للحادثة لتؤكّد هيمنتها كسلطة سياسيّة، ومن ردود الفعل غير النقديّة التي كانت انعكاساً للنظام الجندري المهيمن الذي تطغى عليه الأبوية. شعرت أن جسدي كان أداةً لحدود، مادية وسياسية، وأنه مسجون داخل نظم قمع متداخلة.
استعادة الرواية عبر مساحات التواصل الاجتماعي
ارتكز الفريقان على الإعلام الإلكتروني لبناء مواقفهما السياسية تجاه الحادثة وتعزيزها. كان من الصعب أن أبقى مكتوفة الأيدي أمام هذا الاستخدام السياسي والتلاعب بحادثة إساءة جنسية، وأمام التفاعل غير النقدي لمواقع الأخبار المحليّة ومواقع التواصل الاجتماعي. على الرغم من كونها تجربة شخصية، ومن كوني موضوع الإساءة، فالسبب ليس من أكون، إنّما السبب جندري. كان يمكن لأي امرأة أن تكون في مكاني. فمن خلال هذا الموقف، نستنتج كيف يتقاطع الشخصي، والجماعي، والسياسي في فلسطين. وانطلاقاً من ذلك، اعتمدت على أدوات التواصل الاجتماعي التي وفّرت لي مساحة لمواجهة الخطاب السياسي المضلِّل وفضاءات لإعادة البناء وموضعة الحدث في سياقه الفعلي.
كشفت عن هويتي عبر بوست على الفايسبوك لأعيد القضية الأساسية إلى المحور ولأشجّع النساء اللواتي تعرّضن لإساءة مشابهة من قبل رجال على رفع أصواتهنّ. رفضت بشكل صريح أن يكون جسدي أداةً تخدم الصراع السياسي بين فتح وحماس. تيقنّت من تأثير الثقافة والتقاليد، ومن مدى تعزيزها للأبويّة، ومساهمتها باستمرار الانتهاكات ضد المرأة من دون مساءلة. وفي النهاية، طالبت بنشر الفيديو على أوسع نطاق لأكسر النمط القمعي للمجتمع الأبوي الذي يروّج للصمت، ويحدّ النساء، ويلومهنّ حتى عندما يتعرّضن للقمع.
أظهر الفيديو الذي كان من بين الفيديوهات الأولى التي تعرض علنياً مضموناً مشابهاً المشقّات التي تعترض النساء في المجال العام، خاصة في ما يتعلّق بـ”النظام الجندري” حيث تتّسم العلاقات الجندرية باللا-مساواة والهيمنة الذكوريّة. مهّد الفيديو الطريق لطرح مسائل محظورة في المجتمع كالتحرّش الجنسي والعنف المنزلي. كما سمح بخلق حوار حول تلك المسائل ومناقشتها في المجال العام من أجل رفع وعي الرأي العام. وقد أعادت وسائل إعلام محلّية وعالميّة، مثل مجلّة القدس العربي 4، وموقع صوت الوطن 5، وتلفزيون فرانس 24 6، نشر منشوري في سياقه الأصلي. أمّا التفاعل على صفحتي على الفايسبوك، فقد أظهر آراءً متباينة.
تعرّضت لتعليقات عدائية من قبل جهات متباينة، تبدأ برسميّين ينتمون إلى حماس، ومن ثمّ جيران وأفراد من العائلة الممتدّة، وتصل إلى غرباء وجدوا في ما نشرته مضموناً غير لائق. يقول مثل شعبي تداولته الأجيال، أن “سمعة النساء كالزجاج، متى ما كُسرت، فلا مجال لإصلاحها.” هذا مجرّد مثل واحد عن العرف الثقافي الذي يؤطّر كيفية تلقّي المجال العام لهذه المسائل وتفاعله معها، مثل مسألة العنف الجنسي ضد النساء، ويعزّز ثقافة القمع من حولها. صدمتُ خصومي عندما رفضت الانجرار وراء الهيمنة الثقافية التي تتوقّع من النساء ألّا يحرّكن ساكناً عند تعرّضهنّ لانتهاك جنسي، لأن ذلك لا يلحق العار بالمرأة وحسب، بل بالعائلة بأكملها. لم يفهم الخصوم والمؤيّدين/ات كيف فعلتُ ذلك. لقد افترضوا/ن أن الانتشار الواسع للفيديو سيردعني. لكنني، رغم ذلك، كشفت عن هويّتي وقلت “لن أخجل من كوني ضحية إساءة جنسية.”
لامني كُثر، من بينهم/ن نساء، لأنني لم “أحتشم” في الأماكن العامة التي لا مجال فيها لتفادي الاحتكاك المباشر مع الرجال الّذين من “الطبيعي” أن تُثار غرائزهم الجنسية، في حين كذّبني آخرون/أخريات واعتبروا/ن أن كشفي لهويتي ما هو إلّا “محاولة وقحة لكسب الشهرة.” أولئك النساء، و”الحسّ المشترك” الذي يتبنّينه، يجسّدن كيف يمكن أن تكون الأبويّة كامنة في من هم/ن أكثر هشاشة بسبب طبقاتها المهيمنة. كخطاب مهيمن، تعمل الأبويّة بشكل يجعل مثل هذه “العلاقة الاجتماعية العاديّة بشكل غير اعتيادي” تبدو طبيعيةً ومُشرَّبةً كـ”حسّ مشترك” بديهي، حتّى لدى النساء الراضخات (بورديو، 2001، ص 1-3) (غرامشي، 1999، ص 641).
لكي نفهم ردّة الفعل العامّة حيال كشف هويّتي بشكل أفضل، علينا أن نتذكّر أن النظام الأبوي ليس نظاماً اجتماعياً مستقلاّ بذاته، بل متجذّراً ضمن المجالات الاجتماعية الخاصة والعامة كافة (يوفال-دايفيس، ١٩٩٧، ص .٧). في هذا السياق، تستنتج سعاد جوزيف أن “الحدود بين ثلاثية الدولة، المجتمع المدني، والنسب أو المجال الخاص، هي في غاية من المرونة،” وتبقى جذور التزامات الأشخاص في علاقات القرابة والجماعة ويحملونها معهم في الفضاءات الرسميّة والمدنيّة (جوزيف، ١٩٣٣، ص ٢٢-٢٦). من خلال قصتي، نلاحظ أن موقف شرطي حماس من المتحرّش وموقف محرّر الفيديو الذي غبّش صورتي يعبرّان عن العقيدة الثقافية التي يُربى عليها في جوّ خصوصية المنزل وتُمارَس في الحيّز العام. هكذا تصرّف المدير العام لمعبر رفح ماهر أبو صبحة كما جميع الرجال في السلطة، أي بما يتوافق مع هذا المعيار الثقافي. وبعد يوم واحد من رواج قصتي، قدّم لي أبو صبحة نصيحةً “كأب،” وقال “لو كنتِ أكثر تواضعاً في لباسكِ لما كنتِ تعرّضتي للتحرّش.”
الهيمنة، بحسب أنطونيو غرامشي، ليست حصراً نمطاً من السطوة المرتكز على القوّة. فهي، وإن كانت محميّةً من خلال القوّة، تتحقّق تاريخياً من خلال الثقافة، والمؤسّسات، والإقناع الممنهج، فيتمّ فرضها من خلال “الموافقة العفوية” للشعوب، والتي “تفرح بها الطبقة المسيطرة نظراً لموقعها ودورها في عالم الإنتاج” (غرامشي، ١٩٩٩، ص 145). تتحمّل مؤسّسات المجتمع المدني –الدين، والمدارس، ووسائل الإعلام الجماهيري- مسؤولية تشريع وإعادة إنتاج بُنى قوّة قائمة على العنصرية والتمييز الجندري. ففي حالتي مثلاً، تمّ التلاعب بالإعلام لتعزيز هذا الخطاب المهيمن.
لكن خطابات الهيمنة تُواجه دائماً، بطريقة أو بأخرى، كونها تمثّل شكلاً من أشكال السلطة (فوكو، ١٩٨٢). بالتالي، وخلافاً للطبيعة المُهيمنة للأبوية، لا يمكن اعتبار النساء مجرّد مواضيع سلبية ترضخ ببساطة للعلاقات الجندريّة كما يحدّدها الرجل. فالنساء قاومن وفاوضن مع الأبويّة لقرون (كانديوتي، ١٩٨٨)، ولطالما وُجدت حركات نسائية تدعو إلى المساواة السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وإلى الحقوق الاجتماعية للنساء. كما أننا نشهد تزايداً في استخدام الإعلام كحيّز للمقاومة والتعبير لكثير من المجموعات النسوية حول العالم.
أشعل كشفي لهويتي شرارة حراك وجد في قصّتي فرصةً للنزول إلى الشارع، والمقاومة، والإفصاح علناً عن التحرّش الجنسي ضد النساء، والمطالبة بالمساواة الجندرية والعدالة لضحايا العنف الجنسي. نساء كثيرات شعرن أنهنّ يمتلكن القوّة لمشاركة تجاربهنّ الشخصية مع الإساءات الجنسية. كان الحراك ضاغطاً لدرجة أنه أجبر الإعلام المحليّ على تغطيته 7. هذا الحراك أمدّني بأمل في أن إحداث تغيير في واقع الهيمنة الأبوية أمر ممكن.
تعرّضت النساء الفلسطينيات لأشكال عديدة من العنف، سواء أكانت من قبل الاحتلال الاسرائيلي، أو الثقافة الأبويّة الطاغية، أو القوى السياسية التي يسيطر عليها الرجال، وأهمّها حكومة السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية وحماس في قطاع غزّة. على الرغم من ذلك، لعبت النساء دوراً محورياً في قلب النضال الوطني، حتى قبل بروز القضية الفلسطينية أواخر القرن التاسع عشر إبان بناء أوائل المستعمرات الإسرائيلية. تكثر الأمثلة حول النساء الفلسطينيات اللواتي انخرطن في الفعل المقاوم ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية، مثل المجموعة النسائية المسلّحة زهرة الأقحوان التي أسّستها الأختان مهيبة وعربيّة خورشيد كمنظّمة اجتماعية في يافا عام ١٩٣٣. تبنّت الأختان الكفاح المسلّح ضد الاستعمار البريطاني بعد أن شاهدت مهيبة قنّاصاً بريطانياً يطلق النار على طفل وهو بين ذراعي والدته (السعفين ٢٠١٤). استخدمت النساء الفلسطينيات، كما في نضالات وطنية أخرى، الاضطرابات السياسية والمقاومة الشعبية من أجل المفاوضة على الأنماط الجندريّة السائدة. فهنّ، وإن لم يملكن أجندة نسويّة صريحة، مارسن بالفعل نسويّة أصيلة انطلقت من خصوصيّتهنّ الثقافية وبيئتهنّ الاجتماعية (فليشمان، ٢٠٠٠) (كانديوتي، ١٩٩١). شكّل الاضطراب السياسي في معبر رفح الواقع على حدود غزّة-مصر فرصة للفصائل السياسية، أي حماس وفتح، للتنافس في ما بينها، واستغلال حادثة الإساءة الجنسية التي وقعت في تظاهرة تقودها النساء ويسيطر عليها الرجال من أجل تحقيق مكاسب سياسية، ممّا خلق مزيداً من الاضطراب، ودفعني إلى الكشف عن هويّتي ومقاومة الخطاب التضليلي حول الإساءة التي تعرّضت لها، ومكانها، وسياقها الفعلي، وإلى فضح النظم الجندريّة القمعيّة وتجييش النساء لمواجهة العنف الجنسي.
على الرغم من إصرار النساء المستمرّ على إثبات قدرتهنّ الاجتماعية، لا يزال يُنظر إليهنّ كتابعات، كشيء من الواجب “حمايته،” أو كحافز “يموت ويحيا الرجال من أجله” (يوفال-دايفيس، ١٩٩٧، ص.٤٥). تعمل الأحزاب السياسية الفلسطينية، بصرف النظر عن انتماءاتها الإيديولوجية، سواء أكانت علمانية، أو ماركسية، أو إسلامية، على إعادة إنتاج الأنماط الجندريّة بشكل كبير، حيث تتّفق معظم المشاريع الوطنية على اعتبار المرأة “رحماً” خصباً دوره الوحيد هو إعادة انتاج الأمّة. (جاد، ٢٠١١، ص ١٨٠). كما تحمل النساء ثقل “التمثيل،” حيث تجسّد أجسادهنّ هويّة الأمّة الجماعية وشرفها وقدرها المستقبلي (يوفال-دايفيس، ١٩٩٧، ص 45-٤٧). في فلسطين، تجد النساء أنفسهنّ عالقات بين هاتين الإيديولوجيّتين اللتين تعتمدان على خطابات جندريّة مشابهة ترتكز على “الثقافة” العامة للمنطقة. مثلاً، اعتبر مؤسّس حماس، أحمد ياسين، أن النساء هنّ خط الدفاع الثاني، وأن دورهنّ يجب أن ينحصر في المجال الخاص كمنتجات لأجيال الأمّة وحاملات للحزن والأسى الناجم من فقدان أنسبائهن الذكور (حاسو، ٢٠٠٥، ص 31). لكن لطالما تمرّدت النساء الفلسطينيات على هذا الدّور التقليدي الذي قيّدهنّ بعلاقتهنّ الداعمة للرجال.
تكثُر الأمثلة حول النساء الفلسطينيات اللواتي شاركن بالفعل المقاوم، ومن ضمنه الكفاح المسلّح ضد المشروع الإسرائيلي الاستعماري. كما أنهن واجهن خرافة “الحامي-المَحميّة،” كما فعلت دارين أبو عايشة، ةدلال مغربي، وشادية أبو غزالة (يوفال-دايفيس، ١٩٩٧، ص.١١١) (حاسو، ٢٠٠٥، ص. ٢٣-٥١). ولكن، من الضروري أن نعي أن النساء في فلسطين عانين كما قاومن تاريخياً، إن كان على المستوى السياسي أو الاجتماعي؛ ولا بدّ من ذكر التقصير الحاصل في معظم المنظّمات النسائية الفلسطينية، وخاصة تلك المرتبطة بأحزاب سياسية، بحيث تقارب قضايا المرأة على أنها قضايا ثانوية مقارنةً بالنضال من أجل التحرّر الوطني. أنا مقتنعة بأنّه لا يمكن تحقيق التحرّر الوطني ضمن بنية أبويّة، وبأنّ تحرير النساء يجب أن يتحقّق بموازاة مسيرة التحرّر والمقاومة، وليس بعدها.
الخلاصة
تبيّن حادثة التحرش الجنسي التي تعرَّضتُ لها الصراعات المتعدّدة التي تخوضها النساء الفلسطينيات؛ فهنّ يواجهن أوضاعاً سياسيّة قمعيّة يفرضها الحصار الإسرائيلي والمصري والدولي على غزّة، مصحوب بقيادة سياسية ممزّقة ومنقسمة، وبُنى جندرية قمعيّة مهيمنة على المجالين العام والخاص. ففي حين كان جسدي مُكبّلاً على حدود معبر رفح–غزّة، وأنا أتظاهر مع مسافرين/ات فلسطينيين/ات مكبّلين/ات ضد حرماننا من حقّنا في حريّة التحرّك، تعرّض جسدي المأسور إلى إساءة جنسية من أحد المشاركين في التظاهرة. تلاعبت القوى السياسيّة –فتح وحماس- المتنافِسة، بالحادثة، وذلك بهدف الاستفادة من الإساءة الجنسية، الأمر الذي حجّم جسدي وأحاله ساحةً للقتال من أجل السلطة. شعرتُ حينها بأني منتهكة بكلّ الأشكال الممكنة، وبأني مأسورة على حدودِ تداخل نظم السلطة القمعيّة.
وقفت عاجزةً أمام معبر رفح الذي أُقفلت أبوابه في وجه آلاف المسافرين/ات. لم أستطع فعل شيء حيال تصرّف المتحرش العنيف، ولا حيال انتشار الفيديو الذي سجّل الحادثة عرضيّاً، ولا حيال الرواية المضلِّلة. ولكن، التظاهر أمام معبر رفح وضد إغلاقه كان فعلاً مقاوماً. كشف هويّتي رغم الانتشار الهائل الذي لاقاه التسجيل كان فعلاً مقاوماً. وفعل الإفصاح عبر وسائل التواصل الاجتماعي أمدّني بالقوّة، وأتاح لي الانخراط في النقاش السياسي القائم، وبالتالي، تصويب سياق حادثة الإساءة، وفضح الممارسات التضليليّة لكلّ من حماس وفتح، وصنع التغيير.
أصبح العنف الجنسي ضدّ النساء، باعتباره شكلاً من أشكال العنف الذي تسبّبه البنى الذكوريّة المهيمنة، محورَ نقاش، على الرغم من مقولات وحجج مبنيّة على أداء دور الضحية، يطلقها أسرى البنى الذكوريّة غير النقديّين. كما أن الإفصاح العلني فضح تلاعب القوّتين السياسيتين المتنافستين، حماس وفتح، بمسألة الإساءة الجنسية، وظهّر الانقسام الذي يفصل القيادة الفلسطينية عن مجتمعها ويجرف انتباهها عن المآسي التي يتكبّدها الفلسطينيون/ات في غيتو غزّة. فقد أدّى الإفصاح إلى ضجّة إعلامية هائلة حفزّت النقاش حول مسائل تُعدّ من المحرّمات في المجتمع الفلسطيني، كما أضاء على الأزمة الإنسانية التي تعيشها غزّة نتيجة إغلاق معبر رفح. إلى ذلك، قامت جهات سياسية رفيعة الشأن في حماس بالاتصال بي بعد يوم واحد من إفصاحي عن هويّتي، ليتم إطلاق سراحي خارج معبر رفح. صحيح أني تمكّنت من اجتياز الحدود الجغرافية، إلا أن غيري لا يزال ينتظر.
- 1. الفيديو على يوتيوب الذي يظهر حادثة تعرّضي لتحرّش جنسي:https://www.youtube.com/watch?v=1eExF-n7MJM
- 2. فلسطين اليوم كان الموقع الإلكتروني الأول التابع لحماس الذي نقل حادثة التحرّش الجنسي: http://paltimes.net/post/49459/بالفيديو-حقيقة-ما-حصل-بمعبر-رفح-من-تحرش
- 3. رابط لفيديو على يوتيوب حول الحادثة:https://www.youtube.com/watch?v=1nWwShzC3Ic
- 4. تقرير القدس العربي: http://www.alquds.co.uk/?p=89333
- 5. تقرير موقع صوت الوطن:http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2013/09/30/441728.html
- 6. تقرير فرانس 24: https://www.youtube.com/watch?v=dKIh6CGva3w
- 7. مقال نشر في موقع صوت الوطن الذي يحظى بنسبة عالية من القرّاء/القارئات في فلسطين بعنوان: ظاهرة أم حدث عابر… فتيات يشكرن “ضحية التحرّش بمعبر رفح” على جرأتها… ومواطنون يطالبون الشرطة بفضح أصحاب الغرائز الحيوانية” https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2013/09/30/441959.html
Al-Ali, N. S., 2002. Women’s Movements in the Middle East:Case Studies of Egypt and Turkey.
Available at: http://eprints.soas.ac.uk/4889/2/UNRISD_Report_final.pdf[Accessed 10 1 2015].
Alsaafin, L., 2014. The role of Palestinian women in resistance. Available at: https://www.opendemocracy.net/arab-awakening/linah-alsaafin/role-of-palestinian-women-in-resistance[Accessed 23 11 2016].
Bourdieu, B., 2001. Masculine Domination. s.l.:Polity Press.
Chomsky, N. & Pappe, I., 2010. Gaza in Crisis: Reflections on the US-Israeli War on the Palestinians. Chicago: Haymarket Books.
Filiu, J.-P., 2014. The Twelve Wars on Gaza. 44(1).
Fleischmann, E., 2000. Women’s Suffrage in the British Empire: Citizenship, Nation and Race. London: Taylor & Francis.
Foucault, M., 1982. “The Subject and power.” Critical Inquiry, 8(4), pp. 777-795.
Gramsci, A., 1999. Selections from the Prison Notebook. London: ElecBook.
—. 2007. Prison Notebooks. Volume 3, p. 168.
Hasso, F. S., 2005. “Discursive and Political Deployments by/of the 2002 Palestinian Women Suicide Bombers/Martyrs.” Feminist Review, Volume 81, pp. 23-51.
Hroub, K., 2006. “A ‘New Hamas’ through Its New Documents.” Journal of Palestine Studies, 35(4), p. 10.
Jad, I., 2011. “Islamist Women of Hamas: Between Feminism and Nationalism.” Inter-Asia Cultural Studies, Volume 12, pp. 176-201.
Joseph, S., 1993. “Gender and Civil Society: An Interview with Suad Joseph.” Middle East Report, Volume 183, pp. 22-26.
Kandiyoti, D., 1988. “Bargaining with Patriarchy.” Gender and Society, 2(3), pp. 274-290.
—. 1991. “Identity and its Discontents: Women and the Nation.” Millennium – Journal of International Studies, 20(249).
Katz, Y., 2013. The Role of the Press in the Unilateral Disengagement Plan of Israel from Gaza Strip. Open Journal of Political Science, 3(1).
Korn, A., 2008. “The Ghettoization of the Palestinians.” In: R. Lentin, ed. Thinking Palestine. London: Zed Books, pp. 116-130.
Løvlie, F., 2013. “Explaining Hamas’s Changing Electoral.” Government and Opposition, 48 (04 ), p. 578.
Li, D., 2006. “The Gaza Strip as a Laboratory: Notes in the Wake of Disengagement.” Journal of Palestine Studies, xxxv(2), pp. 38-55.
Pappé, I., 2010. The Killing Fields of Gaza, 2004-2009. Chicago: Haymarket Books, pp. 189-211.
Rose, D., 2008. The Gaza Bombshell. Available at: http://www.vanityfair.com/news/2008/04/gaza200804 [Accessed 15 09 2015].
Said, E., 1993. The Morning After. London Review of Books.
Slack, J. D., 1996. “The Theory and Method of Articulation in Cultural Studies.” In: D. a. K. C. Morley, ed. Stuart Hall: Critical Dialogues in Cultural Studies. s.l.:s.n., p. 113.
Stefano, P. D., 2014. Gaza and the politics of forgetting. Available at: http://rabble.ca/news/2014/07/gaza-and-politics-forgetting[Accessed 20 08 2015].
Tucker, J., 1993. “Introduction.” In: Women: Old Boundaries, New Frontiers. s.l.:Indiana University Press, p. vii.
Yuval-Davis, N., 1997. Gender & Nation. London: Sage publication.