المشاهد العديدة لدمشق الكويريّة
يعاين هذا المقال المساحات الكويريّة المتعدّدة التي تؤلّف المشهد الاجتماعي – المساحيّ الكويريّ في مدينة دمشق، من شارع السّوق، إلى الحانة الصّغيرة، ومنتزهات التعارف، والحمّامات العامّة والإنترنت. يعبر الرجال عن قصدٍ الحدودَ التي تفرّق لكن في الوقت عينه تصِل بين هذه المساحات، من البيئة الماديّة إلى التواريخ الشخصيّة والاجتماعية، والرموز والشّبكات الاجتماعية المُتضمّنة في تلك المشاهد. إستنادًا إلى دراسةٍ إثنوغرافيّةٍ أُجريَت بين عامَي 2010 و2011، ينظر هذا المقال في كيف تنتج الحركةُ بين هذه المساحات الصّناعة الجماعيّة للذاتيّات الكويريّة المتغايرة، وأركّز فيه على الحركة من أجل استكشاف الطّرق التي تتشكّل فيها الأجساد والذاتيّات الكويريّة كتأثيراتٍ للعلاقات بين هذه المساحات المتجاورة، بينما يعبرها الرجال ويمكثون فيها. ليس من جنسانيّةٍ موحّدةٍ في دمشق، إنّما هناك أنواعٌ متعدّدةٌ منها تتجاور وتتسرّب إلى بعضها البعض وتجتمع بطرقٍ معقّدة. الحركة هي شكلٌ من أشكال التعبير وصياغة المطالبات بعلاقاتٍ معيّنةٍ تجعل الكويريّة بائنةً في المساحة المدينيّة في دمشق. ويبني هذا المقال على الأدب الذي يتناول الجغرافيا والإثنوغرافيا الكويريّة عن الإنتاج الاجتماعي للمساحة الكويريّة، بغرض التفكير في إطار عمل الحركة التي من خلالها يسرد هؤلاء الرجال مختلف أشكال الذاتيّة الكويريّة ويعبّرون عنها.
لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".
أراني “باديغ” 1 شارعَ “الشعلان،” لكنّه رفض أن يدخله. هو مكانٌ شعبيٌ تتسكّع فيه مجموعاتٌ متنوّعةٌ من الرجال الذين يعرّفون عن أنفسهم كمثليّين، كما كان أيضًا الشّارع الرّئيس لـ”حيّ الشعلان.” وكان “علي” أوّل من اصطحبني إلى هذا الشّارع، وعرّفني إلى رفاقه الذين يجتمعون هناك في عطل نهاية الأسبوع، فيتسكّعون معًا حتى تهدأ جلبة الشّارع، ومن ثمّ ينتقلون إلى مكانٍ آخر أو يفترقون. “الشعلان” هو بيئةٌ اجتماعيةٌ صاخبةٌ تحوي مجموعةً من الترتيبات والممارسات. وكان “علي” أيضًا أوّل من عرّفني إلى المنتزه القريب المعروف بكونه مكانًا للتعارف بين الرجال. كان بعض الرجال يتمشّون في المنتزه ببطءٍ بينما كان آخرون يجلسون على المقاعد يتحدّثون بهدوءٍ إلى الغرباء، أو يشاهدون المارّين بالقرب منهم. كان المنتزه أكثر هدوءًا وكتمانًا، وبدا ساكنًا ضمن منظومة القواعد الخاصّة به. كان “علي” يتحرّك بسهولةٍ تامةٍ بين الأماكن، ناضحًا بالألفة والرّاحة.
في هذا المقال، أستكشف المساحات التي يرتادها الرجال من ذوي الرغبة المثليّة، والتي تؤلّف (قبل الحرب الأهليّة السوريّة، بين عامَي 2010 – 2011) الجغرافيا الكويريّة في دمشق: الشّوارع، والمنتزهات، والحانات، والمقاهي والحمّامات حيث يجتمع الرجال 2. تتجاور هذه المساحات، ليس ماديًا، إنّما مفهوميًا واجتماعيا. الحدود بين هذه المساحات هي منظوماتٌ من الإختلافات المتجاورة للأجساد والممارسات الكويريّة التي تتداخل ضمن خريطة المشهد الكويريّ في دمشق.
يطرح تنصُّل “باديغ” وسهولة الحركة لدى “علي” أسئلةً عن هذه المساحات الكويريّة بصفتها متضمّنةً عناصر عاطفيّةً قويّةً قادرةً على إثارة مثل هذه المواقف الذاتيّة المختلفة. أكثر من مجرّد مساحاتٍ، أستخدم مصطلح “مشهد” للتفكير في هذه المساحات بصفتها متضمّنةً أنواعًا متعدّدةً من العلاقات والمعاني الاجتماعية – الثقافيّة. بالنسبة إلى “ويل سترو” (Straw, 2004)، “يدلّ المشهد على كتلٍ محدّدةٍ من النشاط الاجتماعي والثقافيّ من دون تحديد طبيعة الحدود التي تحيط بها” (412). وتُرسَم هذه الحدود بحسب الموقع، أو نوع الإنتاج الثقافيّ أو النشاط الاجتماعي المشترك واسع التعريف الذي تكتنفه (Straw, 2004). أما بالنسبة إلى “بينيدكتو” (Benedicto, 2014)، فالمشهد هو “تشابك الصّلات المحتملة، وتوليفةٌ تتلاقى مع بعضها البعض … ]هو[ في آنٍ معًا جزءٌ من المدينة ومنفصلٌ عنها” (4). ليس للمشاهد بدايةٌ أو نهاية؛ حتّى عندما تكون فارغةً من الرجال ليلًا، فإنّها تبقى طريقةً لرسم خريطة المعرفة عن أنواع الكويريّة المختلفة والمتواصلة.
يفتح مفهومُ المشهد المساحةَ للتفكير في التداخل والتفريق في ما بينها، كما في نوع الخياطة التي يتحدّث عنها “سالتر” (Salter, 2012) بغرض تعليل مساميّة الحدود. هو يتخلّى عن الخطّ الذي يفرّق بين الحدود من أجل “غرْزةٍ” تصِل ما بين الداخل والخارج، كما ينظر في مكان وكيفيّة ارتباط أو اصطدام العناصر المتحرّكة ببعضها البعض. وإذ يمتلك كلّ مشهدٍ ميزاته وسماته الخاصّة، فإنّها لا تقتصر على مشهدٍ واحدٍ فحسب، بل هي أفعالٌ كويريّةٌ عابرةٌ وتعبيراتٌ متوفّرةٌ بحريّةٍ عن التركيبات الكويريّة. مجتمعةً معًا، تشكّل هذه المشاهد خريطةً أكثر اكتمالًا لتعقيدات المجال الكويريّ ذي المعنى الاجتماعي في دمشق. هنا، أنظر في كيفيّة قيام الجغرافيا الكويريّة لتلك المشاهد – وهي تتّسم بالحدود إنّما بالتداخل أيضًا – بتشكيل مصفوفةٍ (matrix) من المساحات التي ترسم خريطةً للأنواع المتغايرة من الممارسات والأجساد والذاتيّات الكويريّة.
من خلال سلسلةٍ من اللّحظات الإثنوغرافيّة، أهدف إلى إظهار أوضاع مختلف المشاهد والعلاقات في ما بينها. وإذا كانت الحدود بين المشاهد تخيط تركيباتٍ كويريّةً مساحيّةً، فإنّ الحركة بين هذه المشاهد هي فعل إنتاجٍ للذّات الكويريّة وتعبيرٍ عنها. أركّز على الحركة بين حدود هذه المساحات بغرض استكشاف كيف تتّخذ الأجسادُ والذاتيّات الكويريّة شكلَها في أثناء المرور والمكوث في أنواعٍ متعدّدةٍ من المساحة الكويريّة. ماذا يحدث للأجساد والذاتيّات الكويريّة بينما تعبر الحدود الماديّة والرمزيّة – المفتوحة إنّما المتشنّجة – للمشاهد الكويريّة المختلفة؟
تعبر الحركةُ بين هذه المشاهد مختلفَ الجغرافيّات المكوّنة من منظوماتٍ معقّدةٍ من الماديّة والرّموز والعلاقات (Whatmore, 2002; Ingold, 2008). وإذ يستحيل فصل هذه التشابكات، فإنّنا نعيش ونتحرّك ضمن العلاقات الديناميّة في ما بينها. وكما يكتب “فانّيني” (Vannini, 2015): “الحياة هي الحركة – الحركة الجغرافيّة والوجوديّة. الحركات بمختلف أنواعها هي على نحوٍ عميقٍ أنشطةٌ اجتماعيةٌ تتّسم بإدراكها العالم، وبتوليده وتحويله في آنٍ معًا” (3). وإذا كانت حياة العناصر توجد في الشّروط المتشابكة، فذلك يعني أنّ هناك أوضاعٌ متعدّدةٌ قائمةٌ في الأساس، تنتظر تحريكها إلى تركيباتٍ من خلال الأفعال والحركات. تلك هي الشّروط التي تسمّيها عالمة الأنثروبولوجيا “كاثلين ستيورات” (Stewart, 2008) “الحصول على الحياة،” أي “إقحام نفسك في أمرٍ ما، أو إخراج نفسك من أمرٍ ما كنت قد أقحمت نفسك فيه، والمضيّ قدمًا إلى الأمر التالي” (72). بالنسبة إلى “ستيورات،” الأشياء، والمجرّدات، والفئات، والأحداث والأجساد هي بعض عناصر الحياة متشابكةً ضمن المشاهد التي تتركّب، وهي مشروطةٌ بالتاريخ إنّما سهلة التأرجح والتبدّل. أتبع هنا أفكارها عن “النظريّة الضّعيفة” كإدراكٍ، متسائلًا أين يمكن للأشياء والأحداث أن تذهب لدى التقائها بأشياء أخرى. إنّها نظريّةٌ علائقيّةٌ تضيف الحركة إلى الحياة، بحيث تشرع الأشياء بالتحرّك من خلال الإلتقاء والحركة، والإرتباط والإنفصال. “هي نمطٌ من الإنتاج الذي من خلاله يقوم شيءٌ ما مولّدًا شعورًا ما بتوليف نفسه بنفسه. هي فتحةٌ تفضي إلى شيءٍ ما، وترسم خريطة أدغالٍ من الصّلات التي تربط بين عناصر مبهمةٍ إنّما قويّة ومؤثّرة” (Stewart 2008: 72). أضع تحليلي في قلب هذه الفكرة: ينتج الرجال ممارسات وذاتيّات الحياة الكويريّة في دمشق، من خلال الحركة بين المشاهد الكويريّة المساحيّة – الثقافيّة المفصولة بالحدود إنّما المترابطة في ما بينها، والتي تحتوي على العلاقات الاجتماعية والشّروط والماديّات المَرسومة بكثافة.
الجغرافيّات الكويريّة ودمشق
في “بين الرجال السوريّين،” يستخدم “غاري ماكدونالد” (MacDonald, 1992) شخصيّة “زوزو” المتأنّث الذي يجوب شوارع دمشق بحثًا عن شريكٍ جنسيٍ فاعلٍ، مموضِعًا بذلك الكويريّة في الشّوارع 3. ويصف “ماكدونالد” هذا العالم الكويريّ كعالمٍ مليءٍ بالوحدة، والجنس العابر، والخيبات، والإنسحابات والعزلة، مصوّرًا هؤلاء الرجال أبدًا كمتصيّدين في “موطنهم الطبيعيّ: الشّارع” (45). متّسمًا بالعنصريّة والإستشراق، يصف “ماكدونالد” هذا العالم كعالمٍ يفتقر إلى نموذج الحميميّة والألفة الكويريّة، في تضادٍّ مع النماذج الغربيّة للحياة الكويريّة.
إذ يمثّل الشّارع محيطًا مشتركًا لخرائطنا الكويريّة، أودّ التصدّي لصورة “ماكدونالد” عنه كعالمٍ وحدانيّ، وناقصٍ، وخليعٍ وفاجر. وأطرح في هذا المقال “الشارع” كمنتِجٍ (بصفته متضمِّنًا عدّة محالٍ عامةٍ وشبه عامّةٍ خارج المجال الخاصّ). تاريخيًا، لطالما كانت الشّوارع العامّة والمنتزهات والمساحات الخارجيّة مواقع كويريّةً هامّةً للحصول على الجنس والتعارف في الشّرق الأوسط كما في الغرب (McGlotten 2005; McCormick 2006; Merabet 2014; Zaki 2014). تضمّ المساحات الكويريّة مختلف الشّروط الماديّة والرمزيّة التي تشكّل (إعادة) إنتاج الهويّات والعلاقات الاجتماعية (Valentine 2002). وتتحدّى المساحات الكويريّة أعراف المكان من خلال مزاحمة العلاقات المساحيّة المهيمِنة، وفي بعض الأحيان الإستيلاء عليها لأغراضٍ كويريّة (Binnie 1997; Merabet 2014)، على نحو “المتسكِّعة المثليّة” 4 (Lesbian Flâneur) لدى “مونت،” التي تسعى إلى تحقيق الإدراك من خلال حركاتها المساحيّة، وهو نوعٌ من محاولة فهم “التماهي المؤقّت، والمتزامِن والمتعدّد المَرسوم في لحظاتٍ…” (Munt 2002: 258)، كما أنّها “ثقافةٌ فرعيّةٌ جُعِلَت غير مرئيّةٍ من قبل الثقافة الأمّ، تلجأ على نحوٍ منطقيٍ إلى صناعة المساحة بمخيّلتها الجماعيّة. إنّ الحركيّة ضمن ]صناعة المساحة الكويريّة[ بالغة الأهميّة، لأنّ الحركة تمهر باستمرارٍ أراضي جديدةً برمز الملكيّة” (Munt 2002: 253). بالإضافة إلى ذلك، تحتوي المساحات الكويريّة على حريّةٍ وظهوريّةٍ (نسبيّةٍ) للرغبات الجنسيّة والأداءات التي تصدّق على الاجتماعيات والممارسات الكويريّة ضمن مساحيّةٍ محدّدةٍ (Davies 2013; Sibalis 2004)، بالإضافة إلى مساحات الجنس التي تنتهك سيرورات الحَوكمة التي تنظّم الجنس من خلال القانون، وسياسات الدّولة والتنظيم الليبراليّ للحياة (Bell & Valentine 1996; Ingram et al. 1997). إنّ إحدى ثغرات الأدب هي تركيزه الأساسيّ على مَفهَمة المساحة كأنواعٍ مفردةٍ – أي الحانات، والنوادي، والمنتزهات، والحمّامات العامّة والأحياء – بدلًا من مَفهَمتها كطوبوغرافيّاتٍ كويريّةٍ مفصولةٍ بالحدود إنّما مترابطة في ما بينها.
إنّ النماذج المساحيّة المنبثقة عن هذا الأدب لا تناسب دمشق بسهولةٍ نظرًا إلى تباينات الحركات التاريخيّة الغربيّة الخاصّة بالتحرّر الجنسيّ، والفخر المثليّ، والظهوريّة والنضال من أجل تحقيق القدرة السياسيّة على المطالبة بالمساحات المتاحة للمطالبة (McCormick 2006; Georgis 2013; Merabet 2014). تُنتَج المساحة الكويريّة في الشّرق الأوسط بالعلاقة مع منظوماتٍ مختلفةٍ من سياسات الهويّة التي تطالب بالمساحات، كالسّياسات الجندريّة والطائفيّة (Merabet 2014; Zaki 2014).
تتوفّر أعمالٌ إثنوغرافيّةٌ قليلةٌ عن المساحة الكويريّة في الشّرق الأوسط. من القاهرة، كتب “زكي” (2014) عن المشاهد الكويريّة كمواقع اجتماعيةٍ – مساحيّةٍ للكويريّة المتخثّرة في المنظر المدينيّ، والتي يلحظها الرجال كمواقع للتعارف البديل السّائل والمتقلّب. ومن بيروت، المدينة التي تجاور دمشق وتشاركها التاريخ، ينظّر “مرابط” (2014) لـ”المجال المثليّ” كمجالٍ اجتماعي غير محدّد الملامح، تشكّله طرق اللّباس، والموضة، والذّوق، وأداءات الذّكورة والإستهلاك الطبقيّ في بيروت. “نطاقات اللّقاء” هي تلك المساحات في بيروت وحولها حيث يلتقي الرجال الكويريّون، وتحديدًا الحانات والمقاهي (وقد أغلق بعضها بتدخّلٍ من الدّولة)، بالإضافة إلى مناطق التعارف العامّة مثل الكورنيش الباطونيّ على شاطئ البحر المتوسّط (Merabet, 2014). ويتقاطع الإنتاج الاجتماعي لهذه المساحات مع سياسات الوصول الطبقيّ، والأداءات الجندريّة للذّكورة والتواريخ الطائفيّة التي تتبدّل وتتحرّك. وبإنتاج المساحة الكويريّة من خلال “الممارسات الجسديّة الأدائيّة للجَندرة لدى الشبّان اللبنانيّين بينما يصوغون فهمهم لمعنى “الوجود” ضمن خرائط جسديّةٍ وذهنيّةٍ عديدة” (Merabet, 2014: 3)، يتحدّى الرجال الثوابتَ المرمّزة والمعاني المساحيّة التي يصادفونها، ويستملكونها ويتجاوزونها، كما يستخدمونها في بعض الأحيان بطرقٍ تتخطّى الهدف الذي وُجدَت لأجله. إنّ عبور الرّجال هذه المساحات المختلفة والمكوث فيها يعنيان اجتياز أوضاعٍ موجودةٍ في الأساس.
مازالت المساحات الكويريّة جزءًا من الهويّات الطائفيّة والدينيّة والاجتماعية التي تسِم المساحة الاجتماعية على نحوٍ أوسع، مشكّلةً ديناميّاتٍ تسمح لعلاقاتٍ عديدةٍ بالاستيلاء على بالأماكن العامّة على نحوٍ أقوى (Salamandra 2004; Seidman 2012; Merabet 2014). إنّ عبور المساحات الكويريّة يعني أيضًا عبور مختلف العلاقات الاجتماعية التي تصوغ الممارسات الكويريّة التي هي في طور التشكّل من الداخل. وعبور هذه الحدود يؤدّي إلى تركيباتٍ معقّدةٍ من المساحة الكويريّة التي تعيد في بعض الأحيان إنتاج الرّموز الاجتماعية – المساحيّة المعياريّة السّائدة، أو تستملكها و/أو تتجاوزها.
الكويريّة في دمشق
في الشّرق الأوسط، أضفت المنظّماتُ غير الحكوميّة والنضالُ العابر للحدود على الجنسانيّة الكويرية سياساتِ الظهوريّة المبنيّة على الخطابات الليبراليّة القائمة على الهويّة والحقوق والتقبّل (Moussawi 2015)، ما حوّل النضال إلى مهنةٍ تعتمد الإستراتيجيّة، ومقاييس كتابة التقارير، والتمويل والهرميّة المؤسسيّة (Markowitz & Tice 2002; Wehbi & Lahib 2007; Butterfield 2016). يجادل “بول عمار” (Amar 2013) أنّ الخطاب عن الجنسانيّات الكويريّة في القاهرة ينتج من القلق الناجم عن العَولمة سريعة الإيقاع وإعادة تشكيل الأجهزة الأمنيّة، بينما تُحشد المنظّمات غير الحكوميّة ضمن إطار “حوكمة الإنسان – الأمن” (7). بالنسبة إلى “عمار،” كان الأرخبيل الأمنيّ بذاته الذي “عمل، منذ الثّمانينات على الأقلّ، من أجل توليد هذه الذّوات “مُعَولمة الجنسانيّة” بصفتها الآخر/ى” (75, as quoted in Qubaia, forthcoming).
في خلال الأعوام الأخيرة، تمثّل الإهتمام الرّئيس للحقل بنقد “جوزف مسعد” (Massad 2007) للهيمنة الجنسيّة الغربيّة التي استعمرَت الذاتيّات الكويريّة الشّرق أوسطيّة، موجدةً هويّاتٍ جنسيّةً مستلهَمةً غربيًا حيث لم تكن موجودة. أما الآخرون/ات (Georgis 2013; Mourad 2013; Hamdan 2015)، وبينما يقرّون بمشكلة الهيمنة الغربيّة، فيدحضون مزاعم “مسعد” على أساس وجود سيروراتٍ من التبنّي والترجمة أكثر تعقيدًا. بالنسبة إلى “دينا جرجس” (2013)، تبحث مزاعم “مسعد” عن نظامٍ جنسيٍ معرفيٍ أصيلٍ سابقٍ للإستعمار، متجاهلةً العلاقات المعقّدة بين قوى الموضَعة المحليّة، والبُنى الاجتماعية – السياسيّة المحليّة، والموجات العالميّة، والتفاعل بين التقاليد والأصالة والحداثة. وتجادل “جرجس” (2013) أنّ التنظيم الإستعماريّ للجنسانيّة خلق أثرًا ما بعد استعماريٍ هو الشّعور بالخزي من الجنسانيّة غير المعياريّة، ما يصوغ إلى حدٍ كبيرٍ المعارف العربيّة الكويريّة. ويقف هذا الخزي الإستعماريّ في توتّرٍ مع الترويج المعاصر للفخر المثليّ من قبل “المثليّة العالميّة” (Altman 1996)، ما يمنع الكويريّين/ات غير الغربيّين/ات من التعامل مع آثار الخزي الجنسيّ الإستعماريّ.
تسافر الجنسانيّاتُ، وغالبًا ما تندسّ في حقول التشكيل المحليّة والتاريخيّة في فتراتٍ زمنيّةٍ مختلفة. إنّ قراءة النصوص (الأدبيّة والسياسيّة والدينيّة) من حقبتَي ما قبل وما بعد الإستعمار، توضح الآليّات القانونيّة والخطابيّة والسلطويّة التي صاغت الجنسانيّة (Bouhdiba 2001; El-Rouayheb 2005; Habib 2007; Massad 2007). لقد نظّمت التقاليد اللاهوتيّة الممارسات الجنسيّة غير المعياريّة، من التصنيفات اللغويّة للأفعال الجنسيّة (مثل لوطي، التي تعني الشّخص المتلقّي للولوج الشرجيّ)، إلى تصنيفات أنواع الرغبة كالولَه الشغوف/ الرغبة الجنسيّة، بالإضافة إلى التمييز الهرميّ بين الأفعال الجنسيّة (El-Rouayheb 2005). وتجادل “حبيب” (2007) أنّ الإعتراف بالمثليّة الأنثويّة لطالما كان حاضرًا تاريخيًا في النصوص القروسطيّة، لكنّ تغيّر مفاهيم الجنسانيّة بدّل أحكام النقاش المعاصرة وأعاد صياغتها.
حاولت الأعمال التي تناولت التركيبات الكويريّة في الأدب العربيّ ما بعد الإستعماريّ إعادة النّظر في التوتّر القائم على خلفيّة “التقسيم بين شرقٍ أوسط ما قبل حداثيٍّ مقابل شرقٍ أوسط حديثٍ غربيّ – الميل” (Al-Samman & El-Ariss 2013: 205). مؤخرًا، بدأ الناشطون/ات يبتكرون مصطلحاتٍ للإشارة إلى الجنسانيّات غير المعياريّة، وهي مصطلحاتٌ غير منتقاةٍ من الماضي أو مستمدّةٍ من المعرفيّات التاريخيّة، ولا مقترنة بمعرفيّةٍ جنسيّةٍ غربيّة: مثليّ ومثليّة مصطلحان يشيران إلى المثليّة الجنسيّة، وهما يلقيان قبولًا في الإعلام اللبنانيّ على الأقلّ. كذلك استعاد بعض الناشطين/ات مصطلح شاذّ/ة أو نقلوا “كوير” (queer) إلى العربيّة بحرفيّتها كدلالةٍ سياسيّة (Mourad 2013). إنّ الإنشغال المزدوج لنموذج الدّراسات المناطقيّة التي تجمع ما بين الشّرق الأوسط والكويريّة في آنٍ معًا، يميل إلى ابتكار أغراضٍ وخطوطٍ تتجاهل الحركات بين التاريخيّ والمجرّد في الموادّ البحثيّة. وتوجد أعمالٌ معاصرةٌ تعاين آثار الكويريّة تاريخيًا، معتمدةً الحركة لا الإنقطاع بين النّصوص – لاسيّما ديناميّات الموادّ والأمثلة الكويريّة المندفقة – لتفسير الجنسانيّات الكويريّة المتبدّلة ما بين الحضور والغياب.
يدرس الأدب الحديث الشّروط المُعاصِرة لتشكيل الجنسانيّة الكويريّة، من خلال تتبّع انبثاق مختلف الخطابات والظّروف عبر تاريخٍ يخلخل اللّقاء الإستعماريّ بالدّرجة الأولى، بغرض النّظر في اللّحظات والأوضاع الأخرى (Babayan & Najmabadi 2008; Habib 2009). وتتتبّع بعض الباحثات/ين خيوط العواطف والرّغبات الكويريّة بين شقَّي هذا التباين، بالإضافة إلى الكلاسيكيّ والحديث، والأدب والسّياسة. وتكشف هذه القراءات ظهورًا كويريًا تاريخيًا متعدّد المستويات في التاريخ الفكريّ في المنطقة. ويستخدم هؤلاء العواطف كوسيلةٍ لتتبّع هذه التركيبات من خلال معاينة الخزي، والشّهوة، والرغبة، والصّمت، والجنون، والرّعب والتعاطف وغير ذلك، “كمواقع تحويليّةٍ لبروز التماهيات الكويريّة” في المنطقة (Al-Samman & El-Ariss 2013: 206). إنّ تتبّع خيوط العواطف المختلفة – أي بروزها ودورها في إنتاج القوالب الكويريّة – يسمح لهذه الأعمال بالكشف عن شروطٍ اجتماعيةٍ وتاريخيّةٍ وسياسيّةٍ محدّدةٍ خاصّة بالمنطقة، تصوغ الجنسانيّات الكويريّة فيها.
في سوريا، تُجرّم الجنسانيّات الكويريّة، إذ تجرّم المادّة 520 من قانون العقوبات السّوري الجنسَ المحرّم المُعتبَر مخالفًا للطّبيعة. وتُعاقب المجامعة الشرجيّة بين الرجال بالحبس حتّى ثلاث سنين. ويُظهر الأدب أنّ الدّول تطبّق السّياسات والآليّات المختلفة لإنتاج المواطنين/ات المُجندَرين والجنسيّين/ات (Joseph 2010; Maktabi 2010). وتجبر أدواتُ الدّولة والشّرطة السريّة المنتشرة الناسَ على التصرّف بسريّةٍ نسبيّةٍ خوفًا من انكشاف أمرهم/ن. وشهدت دمشق اعتقالاتٍ لرجالٍ ضُبِطوا يمارسون الجنس مع بعضهم البعض، لكن على العكس من لبنان ومصر، كانت المداهمات والإعتقالات الجماعيّة غير شائعة. وجلبت العوامل الاجتماعية – الإقتصاديّة، والحركيّة المتزايدة، والسّياحة والإعلام تأثيراتٍ جديدةً وثقافةً كويريّةً أدّت إلى مطالباتٍ كويريّةٍ جديدةٍ وبروز اختلافاتٍ بين الرجال الكويريّين.
تمكّنت العين الإثنوغرافيّة خاصّتي من التقاط خمسة مشاهد كويريّة 5. يرتبط “مشهد شارع الشعلان” بمنطقة التسوّق الرّئيسة بالقرب من وسط دمشق، وتمكث فيه مجموعاتٌ من الرجال الذين ينسبون أنفسهم إلى الإستهلاك طبقيّ الأساس والهويّات المثليّة. أما “مشهد المنتزه،” فيشير إلى المنتزهات العامّة حيث يتجوّل الرجال في ظلامٍ نسبيٍّ، بهدف التعارف والمغازلة بشكلٍ رئيسٍ، وممارسة الجنس إذا ما سمحت الظّروف بذلك. قال لي أحد الأصدقاء في دمشق مرّةً: “حيثما يوجد منتزهٌ عامٌ، يوجد رجالٌ يتجوّلون بهدف التعارف،” لكن المكان الأكثر شهرةً – وموضوع هذا النقاش – هو “منتزه المنشيّة” الواقع بالقرب من فندق “فور سيزونز” (Four Seasons Hotel). ويوجد مشهدان متشابهان في النّوع هما “مشهد الحانة” و”مشهد الحمّام.” وعلى الرغم من أنّ هذه الأماكن ليست كويريّةً حصرًا، إلا أنّها مؤسّساتٌ خاصّةً تُعرف بالتعارف والجنس الكويريّ. أخيرًا، هناك “مشهد الإنترنت” الذي يضمّ المواقع الإلكترونيّة المخصّصة للتعارف المثليّ، ولاسيّما “منجم” (manjam.com) و”غاي روميو” (gayromeo.com). ويشمل هذا المشهد رجالًا من كافّة المشاهد، لكنّه يجتذب أيضًا رجالًا يتفادون المشاهد الأخرى. وعلى الرغم من أنّ الرجال الكويريّين كانوا يحتلّون أماكن متعدّدة المواقع على امتداد المدينة (منازل خاصّة، منتزهات أخرى، ومقاهٍ ومطاعم)، فإنّي أسمّي هذه المساحات بالتحديد لكونها أماكن شهيرة تستضيف ممارساتٍ وأداءاتٍ كويريّةٍ متباينة. وعُرِّفتُ إلى هذه المساحات كأماكن يتجمّع فيها الرجال بطرقٍ معيّنةٍ، وبالتالي ينقلون معرفتهم بها كمساحاتٍ كويريّة.
إنّ مجرّد وجود هذه المشاهد الكويريّة ليس الملاحظة الأبرز لهذا المقال، بل فوران الكويريّة البارز إلى سطح المساحات المدينيّة. هذا الفوران الذي يُشبع المساحات باجتماعيات كويريّةٍ جماعيّةٍ، يسِم التركيبات الثقافيّة الفرعيّة في مكانٍ يُعتبر في الغالب خاليًا منها. وإذ يُعدّ مصطلح “كوير” مفيدًا للدّلالة على مروحةٍ من الرغبات الجنسيّة المثليّة في دمشق، ومن دون منح الإمتياز لنمطٍ واحدٍ من الممارسة الجنسيّة غير المعياريّة، أستخدم هذا المصطلح أيضًا للمعاني السياسيّة التي يتضمّنها. بحسب “باتلر” (Butler 1993)، الكويريّة هي أيضًا “موقعٌ للتحدّي الجماعيّ، ونقطة انطلاقٍ لمنظومةٍ من التأمّلات التاريخيّة والتخيّلات المستقبليّة … ]التي[ يجب أن تبقى … من دون أن تُمتَلَك أبدًا، بل أن تخضع حصرًا ودومًا لإعادة الترتيب واللّيّ والتشذيذ (queered) عن الاستخدام السابق لها، وفي اتّجاه أهدافٍ سياسيّةٍ طارئةٍ ومتمدّدةٍ” (228).
المشي كمنهجيّةٍ وموقعيّة
يستند هذا المقال إلى فترةٍ قضيتها في دمشق بغرض تعلّم اللّغة العربيّة. وصلتُ إلى المدينة – للمرّة الثانية مقترًا كما يفعل السّواح في العادة – حاملًا معي فقط نتائج بحثٍ سريعٍ أجريته عبر الإنترنت عن المساحات الكويريّة فيها. لكنّي تعرّفتُ إلى هذه المشاهد من خلال المشي حولها وعبرها مع الأصدقاء الجدد. وبالإضافة إلى ملاحظة المشارِك، إنخرطت في الممارسة المنهجيّة للمشي. يجادل “دي سيرتو” (De Certeau 1984) أنّ حركة المشي توضح نصًا ذا معنًى مؤلّفًا من الإمكانيّات، والرّموز، والشّبكات، والصّلات، والمسارات، وأسماء الأماكن والشّوارع المعبورة وغير المعبورة. المشي يحرّك الشّروطَ والعناصرَ التي تصفها “ستيوارت” على أنّها حاضرةٌ ومتوفّرةٌ دومًا لتتركّب في مشهدٍ، مستخدمةً الدّلالات المساحيّة ومانحةً إيّاها الشّكل بالعلاقة مع أمورٍ أخرى تحدث. ويمكن لهذا، بحسب “دي سيرتو” (1984)، أن يخلق جغرافيا شاعريةً من المساحات الجديدة المفتوحة من خلال الحركة عبر مساراتٍ أخرى. ويمكن للمساحات داخل هذه الجغرافيا الشاعريّة أن تتشكّل على نحوٍ مختلفٍ، مع استمرار خضوعها لقوًى أخرى ترتّب وتصنّف العلاقات الاجتماعية – المساحيّة. هي مساحاتٌ مصنوعةٌ من التفاعل بين العناصر محدّدة النطاقات وتلك التي في طور البروز.
أشترك في هذه المنهجيّة مع “مرابط” (2014) الذي يقول أنّ المشي يوظّف كافّة الحواسّ لإدراك طاقة المساحات الاجتماعية “على تنسيق رغبات أولئك الذين واللّواتي يسكنونها،” من خلال الأحداث واللّقاءات والرّموز الخافتة (Merabet 2014: 2010). ضمن العناصر الدّقيقة وغير المستقرّة للمساحات الكويريّة، ليس المشي مجرّد نمطٍ من رسم خريطة العلاقات والمشاهد، بل هو نمطٌ للمفاوضة على الوصول والتوجّه في داخلها (Whatmore 2002). لقد أتاح لي المشيُ ملاحظة اللّحظات العاديّة كلحظاتٍ هامّةٍ، إذ إنّها اللّحظات التي من الممكن أن يتشكّل ويحدث فيها شيءٌ مختلفٌ أو كويريٌ، مهما كان بسيطًا.
كرجلٍ كويريّ، طوّرتُ مساراتي الخاصّة حول تلك المساحات، وبين المجموعات الاجتماعية، والمقاعد، والممرّات، والطّاولات وغيرها من العناصر الموجودة في تلك المساحات الكويريّة. ويجدر بحركتي الخاصّة ضمن هذه المشاهد أن تفسّر موقعيّتي لجهة كيفيّة احتلالي المساحات. إنّ تجاربي مع هذه المشاهد تصوغ تأطيري للموضوع، بما فيها اللّحظات والعلاقات مع المُحاوَرين (Pace 2012). أجعل نفسي حاضرًا في السرديّات، لكنّي أتفاعل مع المُحاوَرين بما يتجاوز الذّات (Pace 2012). بحسب “ماديسون” (Madison 2005)، الإثنوغرافيا النقديّة هي “التقاء جوانب متعدّدة في لقاءٍ مع وبين الآخر(ين)، لقاء يشتمل على المفاوضة والحوار بغية التوصّل إلى معانٍ جوهريّةٍ وصالحةٍ تُحدث فرقًا في عالمِ الآخر” (9).
كراوٍ لهذه المشاهد، أصف الصّورة الإثنوغرافيّة العامّة منتقاةً من فترة قيامي بملاحظة المشارِك، ومستقطعةً بلحظاتٍ مع المُحاوَرين. وعلى الرغم من انقضاء الزمن، تُعاد هذه المشاهد مسكونةً بمروحةٍ من الأفراد واللّحظات الجماعيّة ذات المعنى بالنسبة إلى السرديّات الشخصيّة للمُحاوَرين. وتقع هذه الأحداث ضمن زمانٍ ومكانٍ محدّدَين، وبين أطرافٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ وحيواتٍ متباينة. وتشتمل هذه المنهجيّة على نظرةٍ إثنوغرافيّةٍ للإنتاجات الاجتماعية – المساحيّة، من معرفةٍ مموضَعةٍ ضمن سياقٍ مساحيّ – زمنيّ مُعطًى، إلى سيولة المساحة والذاتيّة (Haraway 1988).
التّفريق بين حدود المشاهد: تنصّل “باديغ”
كان “باديغ” و”علي” أوّل من عرّفني إلى مشهد “الشعلان،” إنّما بطريقتَين مختلفتَين؛ فبينما شدّد “باديغ” على الحدود التي تفصل بين تلك المشاهد، أراني “علي” مساميّتها ونفاذيّتها. إلتقَيت بالرّجلَين عبر “مشهد الإنترنت” – وتحديدًا موقع “غاي روميو” الإلكترونيّ 6 – وعرض كلاهما عليّ اصطحابي في جولةٍ في المدينة. بينما كنت أمشي في حيّ “باديغ” (الذي أصبح حيّي في ما بعد)، شرح لي سبب تفاديه “شارع الشعلان”: “في خلال عطل نهاية الأسبوع، تأتي مجموعاتٌ من الشبّان للتسكّع في الشّارع. لا أنضمّ إليهم لأنّهم مكشوفون على نحوٍ واضح، وبما أنّني أعيش هنا، لا أريد أن أُربَطَ بهم.” هو يفضّل إبقاء حياته الكويريّة محصورةً بمواقع التعارف الإلكترونيّة حيث تبقى ارتباطاته أكثر خصوصيّةً، وحيث يمكنه تلبية تفضيله التواصل مع رجالٍ أجانب في المدينة. كان لـ”باديغ” مجموعةً من الأصدقاء المثليّين الذين التقى بهم جميعًا عبر الإنترنت. وصارت تلك المجموعة شريان حياةٍ له للانخراط في مختلف أشكال الاجتماعيات الكويريّة خارج شبكاته الاجتماعية الأخرى. وكانت تلك المجموعة من الرجال تتفادى “شارع الشعلان” بسبب أشكال الظهوريّة والكويريّة التي يحتويها. كان الرجال في ذلك الشّارع لافتون للنّظر، وكانوا يتباهون بأنفسهم بصخبٍ، من دون نسيان النّميمة والثرثرة اللّتين تسِمان المشهد 7.
من خلال عدم مرافقته لي إلى المكان، كان “باديغ” يمارس فعل صنع الحدود بين المشاهد، وبينه وبين تلك المشاهد في الوقت عينه. وكانت الحدود التي صنعها مبنيّةً جزئيًا على الأرض المادّية – فحياته الكويريّة تأخذ به إلى أماكن أخرى غير “الشعلان” – كما على الموادّ الاجتماعية والرمزيّة التي تحتويها تلك المشاهد. وكانت الحدود بين مشهدَي “الشعلان” و”الإنترنت” مصنوعةً من منظوماتٍ جوّالةٍ من الرّموز والمعاني، أو الأفعال والرغبات الجسمانيّة (Vaughan-Williams & Parker 2009) التي كان “باديغ” يصوغها ويمنحها المعنى من خلال توصيفه للشّارع وتنصّله منه في آنٍ معًا. لم يكن “باديغ” قلقًا فقط من الظّهور بمظهرٍ كويريٍّ في الشّارع، بل أيضًا من ارتباطه أو تأثّره بتلك الأنواع من الاجتماعيات الكويريّة التي تحدث ضمن “الشعلان،” إذ لم يكن يرى نفسه في ذلك النوع من الكويريّة. ويلاحظ “كريستوفر بولن” (Pullen 2012) أنّ عبور الحدود يعني تنمية “التكافؤ وقابليّة التمييز في تشكيل أو مطابقة النّماذج الهويّاتيّة” (28). كان عبور “الشعلان” يعني أنّ على “باديغ” تبنّي الصّيغ المعتمدة في الشّارع، وأن يغدو قابلًا للتمييز من خلالها. على نحوٍ مساوٍ، كان تنصّله بمثابة استملاكٍ لذاتيّةٍ كويريّةٍ ولممارساتٍ كويريّةٍ مختلفةٍ عن تلك الموجودة في “الشعلان.”
يتيح “مشهد الإنترنت” طرقًا إضافيّةً للتّواصل خارج هذه المشاهد: أي في المنازل الخاصّة، ومقاهي الإنترنت والمؤسّسات التجاريّة 8. هكذا، يتواصل الرجال مع الآخرين على نحوٍ أسرع وأوسع من خلال ملفّات المستخدِمين (user profiles). كان “مشهد الإنترنت” مكانًا معقدًا يشتمل على عناصر وأفرادٍ من مختلف المشاهد، لكنّه كان يتفرّد أيضًا بضمّه أولئك الرافضين للمشاهد الأخرى، والباحثين عن نموذجٍ مستمدٍّ من الغرب للحميميّة الكويريّة كان قد تسلّل بقلقٍ إلى السّياق المحلّي “منظّمًا بـ… المفاهيم والممارسات المحليّة للتجسيد والمخالطة الاجتماعية” (Povinelli & Chauncey, 1999: 442). على سبيل المثال، إلتقيتُ بـ”سليم” في مقهًى أوروبيّ الطّراز في إحدى مناطق الطّبقة العليا في دمشق، وهو موظّفٌ تلقّى تعليمه في أوروبا وينتمي إلى أسرةٍ ميسورة الحال. أعلمني “سليم” بتنصّله من معظم المشاهد قائلًا: “عبر الإنترنت، يمكنني الالتقاء بشبّانٍ يماثلونني فكريًا، وقد أعثر هناك على شيءٍ أكثر معنًى.” كان “سليم” يبحث عن علاقةٍ مستقرّةٍ مع شابٍ، تماثل النموذج الغيريّ المعياريّ للزّوج المحترم بدلًا من الجنس العابر، لاسيّما ذلك الذي يحدث في الأماكن العامّة. بالإضافة إلى ذلك، كانت شبكة الإنترنت تتيح لـ”سليم” التحرّك بمجهوليّةٍ والتحكّم بظهوريّته وتفاعلاته. وكان تنصّله من المشاهد الأخرى جزءًا من استملاكه ذاتيّته الكويريّة المُناصِرة لخصخصة الجنسانيّة، ولاعتماد نموذجٍ للحياة الحميمة يقوم على مفهوم الزّوج والعيش الخاصّ الذي يتعارض مع الشّارع كموقعٍ للكويريّة.
تتجاوز هذه المُطالباتُ أشكالَ المحاكاة لتمثّل ما يسمّيه “بولستروف” (Boellstroff 2005) “دبلَجة الثّقافة،” بحيث “تُجلَب العناصر مع بعضها البعض في توترٍ منتجٍ من دون توقّع حلّها إلى عنصرٍ واحدٍ” (5). ونتج عن هذا التوتّر بروزُ تلك المشاهد وتفريقها بطرقٍ مختلفةٍ عن التلميحات القلِقة وغير المتماثلة لمختلف الأشكال الثقافيّة. كلا الرجّلَين ادّعى موقفًا عاطفيًا تجاه مشهدٍ معيّنٍ على حساب الآخر، معبّرًا عن عدم ارتياحه أو نفوره من أحد المشاهد وتفضيله آخر. وتُختبر التجلّيات العاطفيّة في العلاقة بالعوامل البيئيّة (Navaro-Yashin 2012)، متحدّيةً التقسيم الذاتيّ – الموضوعيّ من خلال المجادلة بوجود قوًى عاطفيّةٍ خارج تأويلات الفرد (Brennan 2004). بمعنًى آخر، إنّ الحسّ بالذّات الكويريّة لدى الرجلَين مرتبطٌ بقوّة تعقيد البيئة المحيطة بهما، وبتفاعلهما مع كثافة العناصر المترابطة ضمنها.
التنقّل بين المشاهد: مواقف “علي” و”عبد” المختلفة تجاه المشاهد ذاتها
إصطحبني “علي،” وهو شابٌ من المنطقة الدرزيّة في دمشق، إلى “شارع الشعلان” ليعرّفني إلى رفاقه (وهم جميعًا شبّانٌ ينتمون إلى خلفيّاتٍ دينيّةٍ وطبقيّةٍ مختلفة). يرتبط هؤلاء الشبّان ببعضهم البعض عبر بنيةٍ رمزيّةٍ من القرابة أموميّة النسب المرتكزة إلى شخصيّة الأمّ، أي الفرد الذي عرّف كلًا منهم إلى المجموعة. ويعرّف هذا الترتيبُ المجموعاتِ ضمن الشّبكة الأوسع في “الشعلان.” ضمن هذه البنية، “الأخوات” هم الرجال الذين أحضرتهم الأم الواحدة إلى المجموعة، أمّا “الجدّة” فهي الرّجل الذي عرّف الأمّ إلى المجموعة. عرّفت هذه البنية العلاقة الاجتماعية التي كانت تربطهم ببعضهم البعض، كما عرّفَت مجموعتهم الاجتماعية الأساسيّة، موفّرةً مرساةً عاطفيّةً لحيواتهم الاجتماعية ضمن المشهد. عرفتُ هذه المجموعة على مدى أشهرٍ (معظم أفرادها الآن في مدنٍ أوروبيّةٍ مختلفة)، ولم يكن الشّارع مساحتنا الوحيدة: فالمقاهي التقليديّة، والمنتزهات، والمدينة القديمة والجولات في السيّارة كانت كلّها مساحاتٍ اجتمع فيها ذلك المشهد. لدى دخولنا شارع السّوق الناشط، دلّني “علي” على الزوايا والمنتزهات الصّغيرة الواقعة في محيطه حيث تتسكّع مجموعاتٌ من الرجال. في أيّ ليلةٍ من عطلة نهاية الأسبوع، تتجوّل في الشّارع فرقٌ من الشبّان صعودًا وهبوطًا، ضاحكين ومتدافعين وملامسين بعضهم البعض، ومخالِطين مجموعاتٍ أخرى من الرجال. وتُلاعب حركاتُهم في المكان نظراتِ المعياريّة الغيريّة التأديبيّة الصّادرة عمّن يجاورونهم في الشّارع، وتنتهك تجسّدات المعياريّة الغيريّة من خلال المشي بتبخترٍ ودلالٍ، وتبادل الغزل على نحوٍ متباهٍ أو استخدام الضّمائر والألقاب المؤنّثة (وهي في العادة أسماء نجمات الغناء العربيّات المفضّلات لديهم).
وتستملك هذه الأداءاتُ درجةً من الظهوريّة العامّة، مجتذبةً الانتباه إلى حركات هؤلاء الشبّان الكويريّة وسط اجتماعيات المعياريّة الغيريّة التي تحدث في الشّارع. هكذا، يستملكون ويعارضون الرّموز المعياريّة الغيريّة التي تسكن الشّارع، ويحاولون تحدّيها بأجسادهم وإيماءاتهم وأحاديثهم الصّاخبة. عندما تتجاوز الأداءات الحدود، كأن تغدو بالغة الحسيّة أو الصّخب، يتدخّل أحدهم قائلًا “سابو! سابو! ،” وهو أمرٌ يُوجّه إلى المُتجاوِز للـ”التصرّف باعتدالٍ” كي لا تجتذب المجموعة انتباهًا عقابيًا، وهو أيضًا أحد المصطلحات السّائدة في “مشهد الشعلان.”
كانت الشّرطة وأجهزة الدّولة تنظّم المكان بشكلٍ مباشرٍ وتضبط النشاطات الإقتصاديّة فيه. بالتالي، كانت نظرة الدّولة تراقب الرّجال مولّدةً توتّرًا بشأن الدرجة التي يُسمح لهم فيها بتجاوز مساحة المعياريّة الغيريّة. كان “مشهد الشعلان” مكانًا لاستملاك وتحدّي الرّموز المعياريّة الغيريّة في أثناء عبور الشّارع. في غالب الأحيان، كان الرجال يمرحون في تحدّي حدود المكان، ويتراجعون عندما يغدو الوضع معرّضًا للخطر. كانت هذه الأفعال جزءًا من سيرورة تطوير حدود السلوكيّات العامّة وصيغ الكويريّة المقبولة 9. كان هذا فعل جسّ نبضٍ لحدود المدى المُتاح للأفعال الكويريّة في تجاوزها أعراف المساحة المعياريّة الغيريّة، أو في تحدّيها من خلال تجنّب الهويّات والممارسات القابلة للتمييز ضمن العلاقات المساحيّة في إطار المعياريّة الغيريّة، والتي – خلافًا لذلك – قد يقدم عليها الشخص في أثناء عبور حدودٍ جديدة (Pullen 2012).
في اللّيلة ذاتها التي اصطحبني فيها “علي” إلى “الشعلان،” رافقني في جولةٍ في منتزه التعارف الذي يبعد خمس دقائق عن “الشعلان.” يتألّف “مشهد المنتزه” من منتزهَين مُزيّنَين يواجهان شارعًا رئيسًا، ويفصل بينهما فندقٌ يشبه مربّعًا مرتفعًا ومجمعٌ تجاريّ. يضمّ المنتزه ممرًا متعرّجًا ومقاعد مثبّتةً على حافّتَيه. لم يبدِ “علي” نفورًا من دخول المنتزه، على عكس باقي أفراد شبكة “الشعلان” الذين كانوا يربطون المنتزه بنوعٍ من الرجال السّاعين فقط للحصول على الجنس، والذين لا يجسّدون أنواع التمثيلات والممارسات الكويريّة التي يجسّدونها هم. في تلك اللّيلة، مررنا بالمنتزه كمقدّمةٍ فقط، ولم تُتَح لي معرفة المنتزه على نحوٍ أفضل إلا لاحقًا، بعد أن تعرّفت إلى “عبد.”
التقيت “عبد” بعدها بوقتٍ قليلٍ، وجَمَعنا هدفُ استكشافِ المشاهد الأخرى. كان “عبد” انتقل قبل بضع سنواتٍ من الخليج العربيّ إلى “دمشق” مع عائلته، وكان متحمّسًا لاستكشاف المدينة. في غالب الأحيان، كان يستخدم “مشهد الإنترنت” لإدارة حياته الكويريّة الحميمة، وكان يشمئزّ من “مشهد الشعلان” لسطحيّته ومآسيه العاطفيّة. غالبًا ما كان “عبد” يشير إلى الرجال في “الشعلان” بـ”الشخصيّات عظيمة الشأن” (VIPs)، نظرًا لكونهم محطّ رغبةٍ كبيرةٍ بوجوههم الفاتنة على نحوٍ تقليديٍّ وأجسادهم بارزة العضلات. كان يقول أنّ الصّداقات في “الشعلان” لم تكن دائمًا مخادعةً، لكنّها كانت تتشكّل من أجل هدفٍ سطحيٍّ: هو التعرّف إلى رجالٍ فاتنين من ذوي العضلات. كانت علاقة “عبد” بـ”الشعلان” متوتّرةً، لكنّه كان مستعدًا لدخول مشاهدَ أخرى كان يرفض الآخرون دخولها.
كنت أتردّد إلى المنتزه برفقة “عبد” في الأمسيات، وفي إحدى المرّات، بدأنا حديثًا مع رجلٍ كان يجلس وحيدًا متفرّجًا علينا. كان الرجل متوسّط العمر، متزوّجٌ وله أولادٌ ويعيش في الضّواحي، وأخبرنا أنّه كان يزور المنتزه أحيانًا بحثًا عن الإرضاء الجنسيّ في دورة المياه 10. قدّم لنا الرّجل تعريفًا موجزًا عن المنتزه: يتجوّل الرجال في ممرّات المنتزه المتعرّجة ويسترقون النّظر إلى الرجال الآخرين إما خلسةً أو بتباه. يُعدّ بعضٌ من التواصل البصريّ دعوةً للجلوس والتحادث ضمن حلقاتٍ من المشي والجلوس. بالإضافة إلى ذلك، ذكر الرّجل أن الجالسين في الأماكن جيّدة الإنارة هم في العادة أكثر جاذبيّةً من أولئك الجالسين في الأماكن الأكثر ظلمةً (مع الإشارة إلى أنّ الأمر يتعلّق غالبًا بالقدرة على الحصول على تلك الأماكن). حارس المنتزه – الجاثم على قمّة منحدرٍ في الجهة الخلفيّة من المنتزه – يسمح بالتعارف لكن مع احترام قاعدةٍ واحدة: الملامسة في العلن ممنوعة. بدلًا من ذلك، يتسلّل الرجال خلسةً أحيانًا إلى دورة المياه للحصول على المتع الجنسيّة. يلتزم الرجال السريّة بشأن علاقاتهم في المنتزه، وغالبًا ما ينكرون المشاركة فيها، أو يتفادون التعرّف إلى معارف من مشهدٍ آخر بينما يتمشّون في المنتزه. في أحيانٍ قليلة، قد يطوّر المرء صلاتٍ اجتماعيةً مع آخرين ممّن يتردّدون إلى المنتزه بانتظامٍ، لكن على عكس “الشعلان،” لا تنمو هذه الصّلات إلى شبكاتٍ تجمع الرجال في مجموعاتٍ اجتماعية.
في الصّمت النسبيّ الذي يخيّم على المنتزه، تمتزج الظهوريّة والأداء الكويريّ بمنظر المنتزه. الحركة الجسديّة بطيئةٌ وخافتةٌ، وهي تُؤدّى بغرض أن يكون المرء ظاهرًا، لكن في الوقت عينه غير ظاهرٍ لكلّ من في المكان (كالجنديّ أو أحد سكّان المدينة ممّن يمرّون بالمنتزه آتين من موقف الباصات الناشط أو من المساكن العسكريّة المجاورة للمنتزه). هكذا، يُعبّر عن الرغبة خلسةً من خلال استراق اللّمحات والإيماءات الصّغيرة كهزّ الرأس، وحركة العين، والجلوس والمشي. هنا، يتّسم الجسد الكويريّ بالحركات البطيئة والرّقيقة والطّفيفة التي تشير إلى الانجذاب الجنسيّ. هنا، الأداءات والحركات الجسديّة الصّاخبة التي تحدث في “مشهد الشعلان” تُعدّ غير مناسبةٍ، أو بالغة التباهي بالنسبة إلى نوع الممارسات الكويريّة التي يولّدها المنتزه وينظّمها.
بالإضافة إلى المنتزه، كان “عبد” يتردّد إلى حانةٍ صغيرةٍ في وسط دمشق يجلس فيها الرجال لتناول الشّراب ومشاهدة التلفاز، كما يتبادلون الغزل وينخرطون في تبادل تلميحاتٍ جنسيّةٍ مبطّنةٍ كالنظرات وإيماءات الرأس عبر الطاولات. كما المنتزه، الحانة هادئةٌ ومتواضعة. من الطّابق الثاني، تطلّ الحانة على المنطقة التجاريّة النشيطة التي تبعد بضعة أمتارٍ عن “سوق الحميديّة،” وهو أحد المداخل الرّئيسة إلى المدينة القديمة. يتّسم التصميم الداخليّ للحانة بطراز السّبعينات، وتُغطّى طاولاتها بأغطيةٍ قماشيّةٍ حمراء داكنة، وتتوزّع فيها مقاعد الفينيل المنجّدة، بينما تلمع أرضيتها المبلّطة. في العادة، يعرض التلفاز ذو الشّاشة الكبيرة والمسطّحة إمّا الكليبات الموسيقيّة العربيّة أو مباريات كرة القدم. وتقدّم الحانة الويسكي والبيرة الرّخيصة، وهي مشروباتٌ نادرة التوفّر خارج الأحياء المسيحيّة في دمشق القديمة. وما بين التحادث وتناول الشّراب ومشاهدة التلفاز، يختلس الرجال النّظر لاستقصاء درجة الاهتمام الاجتماعي أو الجنسيّ الصّادر عن نظرات الآخرين من حولهم. في أحيانٍ قليلة، تتحوّل اللّمحات والمغازلات العابرة للطاولات إلى إيماءاتٍ بالرأس تشير إلى الرغبة باللّقاء في الحمّام. في إحدى اللّيالي، كان “عبد” يغازل رجلًا آخر من خلال تبادل النظرات خلسةً عبر الغرفة. بعد بضع نظراتٍ لتوكيد الانجذاب، أومأ الرجل برأسه نحو دورة المياه، في إشارةٍ إلى “عبد” للّحاق به. بعد بضع دقائق، خرج الرجلان، ومن ثمّ أخبرني “عبد” أنّ كلًا منهما رأى/ أظهَر عضوه للآخر أمام المبولة. استساغ “عبد” التجربة، على الأرجح كالمغامرة بفعلٍ لم يكن معتادًا على القيام به: المغازلة الجنسيّة العرَضيّة في مساحاتٍ شبه خاصّة. كانت تلك لحظة اختبارٍ للرغبات الجنسيّة الكويريّة من دون اضطرار “عبد” إلى استملاك ارتباطاتٍ معقّدةٍ من الذاتيّة الجنسيّة إلى جانب الممارسات والمعاني والاجتماعيات التي تتضمّنها المشاهد، ومن دون الحاجة إلى استملاك الظهوريّة.
كان “عبد” أكثر ارتياحًا للجلوس على المقعد في المنتزه وتبادل الحديث والغزل مع أحد الزوّار الدّائمين. كان أكثر ميلًا إلى المساحات التي تتّسم بالحركات والرغبة والجنس المُختلَس، إذ كانت توفّر له نوع الحياة الكويريّة التي أراد. في استكشافه أشكال الجنس والمخالطة الاجتماعية في تلك المشاهد، كانت ذاتيّته الكويريّة تفلت من أنواع الاحتواء الهويّاتيّة للمساحة الكويريّة وعلاقتها بالذاتيّة والتعبير الجنسيّ. كانت ذاتيّته الكويريّة تُشكّل في الأفعال والحركات حول المساحات الكويريّة، وباختياره الجلوس على مقعدٍ أو إلى طاولةٍ في الحانة بدلًا من تملّق شبكات “الشعلان” الكثيفة والمُصدِرة للأحكام المسبقة.
الجنس، وحدود المشاهد والحداثة
كما المنتزه والحانة، كان الحمّام يُعرف أيضًا كمساحةٍ للحركة، والنّظر، والتحديق، والملامسة والجنس. يتجوّل الرجال في غرف الحمّام مرتَدين المناشف، يحدّقون في بعضهم البعض، ويقرؤون الانجذاب الجنسيّ ويستهلكون الأجساد من حولهم. هي مشهديّةٌ شهوانيّةٌ من الجنسانيّة الفجّة التي تُشعل الشّهوة الكويريّة لدى المرء، بغضّ النظر عمّا إذا كانت اللّقاءات الجنسيّة ستحدث فعلًا أم لا. وعلى العكس من التباهي الذي يسِم المساحة العامّة في “الشعلان،” تنخرط مشاهد المنتزه والحانة والحمّام في طريقةٍ من أداء الكويريّة في شكل لمحاتٍ ونظراتٍ وإيماءاتٍ ولقاءاتٍ مختلَسة. يحدث الجنس في مشاهد المنتزه والحانة والحمّام إمّا في الأماكن شبه الخفيّة في تلك المساحات، أو ضمن خصوصيّة الفنادق، ومنازل العائلات أو الأصدقاء ممّن يمتلكون بيوتًا خاصةً بهم. أما بالنسبة إلى الرجال في “مشهد الشعلان،” فالتعارف بهدف الجنس يحدث بشكلٍ رئيسٍ من خلال اللقاءات العرَضيّة مع آخرين من الشبكات الاجتماعية المختلفة، أو عبر “مشهد الإنترنت.”
توسَم المشاهد بسياساتٍ جنسيّةٍ تقسيميّة، فبشكلٍ عامٍ، ينظر مشهدا الإنترنت و”الشعلان” إلى مشاهد المنتزه والحانة والحمّام كمواقع تتّسم بالكبت الجنسيّ والتخلّف، وتعجّ بالرجال “غير الحديثين”: رجالٌ مكبوتون جنسيًا، ينتمون إلى الطبقات الدنيا ويفتقرون إلى إمكانيّة دخول حلقات الثقافة ورأس المال. في المقابل، كان الرجال في مشاهد المنتزه والحانة والحمّام متحفّظين بشأن تحويل حيواتهم الكويريّة نحو الشّبكات الاجتماعية في “الشعلان،” نظرًا إلى أنواع الأداءات التي تسِم الظهوريّة الكويريّة في تلك المساحة، والشّبكات الاجتماعية الكثيفة التي تحتويها. ويُعبّر عن هذا التوتّر بين الأشكال اللّائقة وغير اللّائقة من الأداء الجنسيّ في الطّرق التي يستخدم فيها الرجال مصطلح “شرموطة” كإهانةٍ (وأحيانًا على نحوٍ خبيثٍ أو بقصد الاستفزاز الودّي)، وكتعليقٍ على السّلوك الجنسيّ للشخص المعنيّ. في هذا السّياق، يشير مصطلح“شرموطة” إلى “الطّبجي” (مصطلح مهينٌ يعني المثليّة) الذي يمارس الجنس مع الرجال ثم يغادر من دون إبداء أيّ عواطف، أو شغفٍ أو حسٍّ بالارتباط بالكويريّين الآخرين. هنا، تتمدّد اللّغة لتطال سياسات الجنس والاحترام والظهوريّة، ولترسم الحدود بين الفرد والعلاقات الجماعيّة.
ترتبط أشكال الجنس والجنسانيّة بالإنتاجات الجنسيّة الكويريّة المُتداوَلة عالميًا، وبنماذج الجنس والحميميّة التي ترسم حدًا في دمشق بين النماذج الكويريّة الغربيّة الأكثر تقدّميةً من جهةٍ، والنماذج الأكثر “تقليديّةً” التي تمنح الأهميّة للعائلة والهويّات الدينيّة ولا شخصيّة الجنس الكويريّ من جهةٍ أخرى. ترتكز العلاقات الاجتماعية على نموذج الأسرة المعياريّة الغيريّة كمصدرٍ للدّعم الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ما يعني ضرورة الحفاظ على المعياريّة الغيريّة سليمةً (Georgis 2013). وكما يُظهر “ماكورميك” (McCormick 2006) بشأن الرجال المثليّين اللبنانيّين، تشجّع هذه العلاقات الأسريّة الرجالَ على عيش مثليّتهم الجنسيّة بسريّةٍ نسبيّةٍ، من أجل تفادي المجازفة بخسارة الدّعم الاقتصاديّ الذي توفّره الأسرة في العادة. واستُخدمَت هذه الثنائيّة في بناء العلاقات بين مختلف هذه المشاهد، وتصنيف بعضها أكثر ابتغاءً من غيرها بحسب نوع الكويريّة الذي يرغب المرء بتبنّيه.
ارتبطتِ التوتّرات بين المشاهد بنوع الفروق الطبقيّة التي برزت نتيجة التحوّلات الاقتصاديّة والمساحيّة في دمشق في خلال التسعينات ومطلع الألفيّة. في تلك الفترة، ارتخت قليلًا سياسات الدّولة لجهة السّيطرة على موجات الإعلام العالميّ ورأس المال الوافدة (لخيبة أمل السوريّين/ات ممّن كانوا يأملون بإصلاح قانون الأحزاب السياسيّة والقانون الانتخابيّ من أجل فسح المجال للسياسات المعارِضة)، ممهّدةً الطريق لبناء المطاعم، والفنادق، ومحال الثياب العالميّة وأماكن الترفيه. وفي تلك الفترة، ظهرت أشكالٌ جديدةٌ من الثقافة العامّة وأنماط الاستهلاك والأذواق والسلوكيّات، لتصوغ الفروقات الاجتماعيّة المدينيّة – الاستهلاكيّة التي ميّزت بين طبقاتٍ اجتماعيّةٍ نخبويّة وأخرى غير نخبويّة (Salamandra 2004). هكذا، ارتبطت ممارساتٌ وهويّاتٌ مدينيّةٌ جديدةٌ بهذه التحوّلات، واخترقت تدريجيًا مشهدَي الإنترنت و”الشعلان” بأنماط الاستهلاك المتعلّقة بحداثة الرأسماليّة المُعولَمة، التي ترسّخ الممارسات الكويريّة في استهلاك آخر صيحات الموضة والموسيقى والإعلام. في ضوء هذا، يلتزم الرجال بأحدث صيحات الموضة، ويرتادون المقاهي أوروبيّة الطّراز والمطاعم الفاخرة. وكانت سياسات الوصول الطّبقي والاستهلاك عامل تفريقٍ بين تلك المشاهد، جاعلةً من الاستهلاك والوصول الطبقيّ علامةً تفرّق بين الممارسات والذاتيّات الكويريّة.
لطالما كان التداول العالميّ لأشكال الثقافة الكويريّة يوضع في توتّرٍ مع الشّروط المحليّة، مولّدًا حدودًا حادّةً ومتبدّلةً بين الصّيغ والممارسات الكويريّة التي تُعدّ تقدّميةً، وتلك التي تُعدّ “تقليديّةً” وغير حديثةٍ وغير لائقة (Georgis 2013; Massad 2007). وكما تشير عالمة الأنثروبولوجيا “إيفلين بلاكوود” (Blackwood 2006)، تُنتَج ثنائيّة التقليديّ/ الحديث في تداول المعرفيّات الجنسيّة الغربيّة من خلال محو الجنسانيّات التي لا تنسجم مع الهويّات المثليّة الحديثة المعتمدة لدى حركات التحرّر في الغرب، ومن خلال تعزيز الافتراض بأنّ أولئك الأفراد مُهمَلون/ات ومهمّشون/ات وبحاجةٍ إلى التثقيف كي يصبحوا/ن ذواتًا كويريّةً متحرّرة. هناك تفاعلٌ معقّدٌ بين قوى الإستعمار والعولَمة وتبنّي العناصر في الحقول المحليّة السياسيّة – الاجتماعيّة (Povinelli & Chauncey 1999). ولطالما كان استبطان الجنسانيّات المثليّة غير متماثلٍ، مانحًا وزنًا أكبر لقوّة الهويّات المستمدّة من الغرب والمتجسّدة في سياسات المُثُل الليبراليّة كالظّهوريّة والحقوق والمجال العام (Altman 1996; Massad 2007). إنّ تداول الخطابات الكويريّة عن الحداثة والحريّة الجنسيّة ولّد “خطابًا كويريًا عابرًا للحدود القوميّة … ومصاغًا وفق تباينات العرق والطبقة والجندر، وهو خطابٌ يُعاد تكوينه في شكل ذاتيّاتٍ محدّدةٍ لا تناسب بدقّةٍ فئات الهويّات المُعرّفة غربيًا” (Blackwood 2008: 482). وينتج عن ذلك حقلٌ اجتماعيٌ قائمٌ ضمن خرائط متشابكةٍ على نحوٍ معقّدٍ للمساحات التي تُجعل متمايزةً، من خلال الخصائص شديدة الترابط التي تكوّن البنية المساحيّة – الاجتماعيّة عبر ثنائيّة التقليد/ الحداثة.
التأثّر بالمشاهد الجديدة: مغازلة “فيليب” في المنتزه
أتناول الآن قصّة “فيليب” بغرض تفسير ما يحدث عندما يتحرّك المرء عبر المساحات جسديًا وعاطفيًا. تعرّفتُ إلى “فيليب” للمرّة الأولى بصفته صديقًا لـ”علي” في “الشعلان.” “فيليب” – الذي غالبًا ما كان يبدو حساسًا ومفطور القلب – كان دعامةً في مشهد “الشعلان” إلى أن نبذته مجموعتُه الاجتماعيّة، وهو أمرٌ يعيده هو إلى افتقاره للعضلات ورأس المال الإيروتيكيّ. كان “فيليب” يرغب بعلاقةٍ رومانسيّةٍ وبالحصول على الاكتفاء العاطفيّ، لكنّه لم يتمكّن من العثور على ذلك بين الرجال في “الشعلان.” في العادة، كان يرفض دعواتي له لمرافقتي إلى المنتزه والحانة، لأنّه كغيره، كان يعتبر تلك المشاهد أمكنةً كويريّةً غير مرغوبٍ بها لاتّسامها بضعف الرّوابط الاجتماعيّة، وبالخفوت والسريّة والشّبق الجنسيّ (على عكس أولئك ممّن توفّر لهم هذه الشّروط نوع الحياة الكويريّة الهادئة التي يبتغون). لكن في إحدى اللّيالي، اصطحبتُه معي إلى المنتزه.
كنا جالسَين على أحد المقاعد نتبادل الحديث، بينما كان أحد الرجال يتفرّج علينا من دون انقطاع. بدأ الرجل بالمشي في ممرّ المنتزه المتعرّج، محدّقًا بـ”فيليب” كلّما مرّ بنا. مفتونًا باهتمام الرّجل به، بدأ “فيليب” بتبادل النّظرات معه. بعد بضع جولاتٍ، انضمّ الرجل إلينا وبدأ يتحادث مع “فيليب،” وانتهى بهما الأمر إلى تبادل أرقام الهاتف. “لم أعتقد أبدًا أنّ هذا قد يحدث هنا!” قال لي بابتسامةٍ عريضة، مزهوًا بالقليل من الاهتمام الذي حظيَ به. “الحصول على الاهتمام هنا أسهل منه في الشعلان.” بدأت ارتباطاته بمشهد “الشعلان” تتحوّل بفعل تجاربه العاطفيّة الخاصّة وتفاعلاته الاجتماعيّة التي أتاحت له حسًا جديدًا بالذاتيّة الكويريّة في المنتزه. إنّ تحوّل “فيليب” من مشهدٍ إلى آخر، وكذلك من نوعٍ من التواصل الاجتماعيّ إلى آخر، يقترح نمطًا من التأثّر يخلخل الصّلات التي كان يراها بين الهويّة الكويريّة اللّائقة والمساحات التي على المرء بالتالي المكوث فيها. إنّ فعل المغازلة بما هو حركةٌ جسديّةٌ حول المنتزه، أتاح لـ”فيليب” إمكانيّةً حميمةً في مشهدٍ جديد.
منذ تلك اللّيلة، تغيّر “فيليب” قليلًا، لعلّه غدا أكثر زهوًا بعد أن كان قانطًا في غالب الأحيان، لكنّه تغيّر أيضًا لجهة حسّه بالذّات الكويريّة. تجربة “فيليب” حرّكته (عاطفيًا وجسديًا من مساحةٍ مدينيّةٍ إلى أخرى) بطريقةٍ حرّر فيها ذاتيّته الكويريّة من مرساتها في “الشعلان،” إلى شكلٍ آخر من الكويريّة في المنتزه. لا أقصد هنا أن “فيليب” أصبح شخصًا آخر غير الشخص الذي كان، لكن تلك اللحظة خلخلت نمط مشهد “الشعلان” الذي كان عالقًا فيه على نحوٍ مضطرب. كان “فيليب” يرى نفسه جزءًا من مشهد “الشعلان” لا من المشاهد الأخرى، لكنّه تحرّك بفعل عبوره الحدود الاجتماعيّة والعاطفيّة التي تفصل بين مشهدَي “الشعلان” و”المنتزه.” كانت هذه التجربة حدثًا ذا صلةٍ بالصّيرورة الدولوزيّة: “فعل تماسٍّ بحيث… تُكشَف الفئات لكونها إلى ما لا نهايةٍ غير ما هي عليه” (Dave 2014: 448). كان يُمكن لكويريّة “فيليب” أن تكون شيئًا آخر (ولو للحظةٍ، إذ يمكن للّحظة أن تكون عالمًا موجزًا) غير كويريّة المشهد الذي رفضه. كان يمكنها أن تتّسع أكثر؛ وكان بإمكانه أن يغدو شيئًا أكثر ممّا كان عليه.
الحركة والحياة الكويريّة
يقول “دايفيد روفولو” (Ruffolo 2009) عن السّياسات ما بعد الكويريّة: “ليس من موضوعٍ واحدٍ أو موقعيّةٍ ثابتةٍ في السياسات النقديّة للصّيرورة، لأنّ كلّ شيءٍ مترابطٌ على نحوٍ خلّاقٍ من خلال آلات الحياة” (40). هكذا، صُنِعَت الحياة الكويريّة في دمشق بفعل كثافة الترابطات بين اللّحظات العاديّة التي تتولّد فيما يتحرّك الرجال حول المشاهد الكويريّة. تجتمع المساحات الكويريّة التي استكشفتُها في دمشق في ممارساتِ رسم خرائط الجغرافيا الكويريّة، وفي العلاقات الاجتماعيّة والذاتيّات المتمايِزة على نحوٍ معقّدٍ إنّما مترابط. ويكشف وصف خصائص وسِمات المشاهد كيف يموضِع الرجال أنفسهم ضمنها، وكيف يجتازون التشابهات والاختلافات بين المشاهد. كما في الأدب المتوفّر عن الحركة والحدود والمساحات والحياة (Ingold 2008; Stewart 2008; Merabet 2014)، تصوغ الحركيّة والعلاقات بين الحدود الأجسادَ والذاتيّات الكويريّة (وتشكّل بالتالي التركيبات المساحيّة) في وجودها في مختلف تلك المشاهد وبينها.
إنّ الانضمام إلى هذه المشاهد الكويريّة يعني عبور الحدود. وكما تظهر الأمثلة، إمّا في تنصّل “باديغ،” أو في ارتياح “علي،” أو في تحوّل “فيليب،” فإنّ عبور تلك الحدود يعني شيئًا ما، ويمكنه إنتاج أشياء جديدة. يتّخذ الجسد شكلًا، ويتبنّى حركاتٍ وإيماءاتٍ هي بمثابة الإيمائيّة الخاصّة بالمشهد: من المشي والحركات الجسمانيّة المتباهية التي تتحدّى الرموز الجسمانيّة المعياريّة، إلى المشي البطيء والمنتظِم في دوائر، إلى إيماءات الرأس والنّظرات؛ هي كلّها أشكالٌ جسمانيّةٌ تسِم مشاهد معيّنةٍ على نحوٍ مختلفٍ عن غيرها. المشاهد هي عوالم اجتماعيّةٌ تؤثّر في من هم بداخلها مستخرجةً أشكالًا معيّنةً من الكويريّة، كما تحوي الشّروط المستعدّة لإنتاج وإعادة إنتاج الحياة الكويريّة في المدينة. إنّ الحركة هي أثر التفاعل الشخصيّ مع الحدود والمعاني الخارجيّة.
- 1. كافّة الأسماء المُستخدَمة في هذا المقال هي أسماءٌ مُستعارة.
- 2. منذ اندلاع الإنتفاضة السوريّة، بات الوصول إلى المساحات الكويريّة العامّة أصعب وأكثر تعقيدًا نظرًا إلى انتشار الحواجز حول المدينة. بالإضافة إلى ذلك، غادر معظم المُحاوَرين دمشق متوجّهين إلى أوروبا أو إلى الخليج.
- 3. قد يكون عمله قديم العهد وغير كافٍ نظريًا وبحثيًا، لكنّي أستخدمه هنا نظرًا لقلّة الأعمال المتوفّرة عن الحياة اليوميّة للرجال الكويريّين في دمشق.
- 4. في سياق هذا المقال، تنفرد “المتسكّعة المثليّة” كشخصيّةٍ كويريّةٍ بكونها تتجاوز أيضًا الحتميّة الذكريّة في الشّارع، وهي حتميّةٌ يمكن للرجال في دمشق اجتيازها.
- 5. من خلال تسميتي هذه المساحات كمشاهد، أحمّلها معانٍ معيّنةً متّصلةً بالعلاقات الاجتماعيّة، كما أحمّلها روابط مساحيّة – زمانيّةٍ لأنواع الممارسات والأداءات التي تحدث ضمنها، وتنعكس في الطّرق التي يفهم الرجالُ هذه المشاهدَ وفقًا لها، ويتحدّثون عنها ويتحرّكون بينها.
- 6. كان هذا الموقع شائعًا بشكلٍ أساسيٍّ بين الرجال الأوروبيّين والرجال المحليّين ممّن يبتغون الالتقاء بأجانب. أما موقع “منجم” فكان أكثر انتشارًا بين الرجال المحليّين. كان هذا الموقع يضمّ قلّةً من المستخدِمين، لكنّه كان مفيدًا في العثور على أشخاصٍ يساعدون المرء على الاستقرار في المدينة.
- 7. في مرحلةٍ ما، ظهر ملفٌ مجهولٌ على موقع “منجم” أخذ يتناقل النميمة عن الرجال في مشهد “الشعلان.” كلّ أسبوعٍ، كان مالك الملفّ يتّصل بأحد المُستخدِمين المحليّين عبر الموقع، ويجري لقاءً معه عبر MSN Messenger، ومن ثمّ ينشر النميمة الجديدة عن المشهد على صفحة ملفّه.
- 8. كان هذا قبل ظهور التطبيقات التي تحدّد الموقع الجغرافيّ في دمشق. حجبت السّلطات المواقع الإلكترونيّة، لكنّ الرجال كانوا يستخدمون وسيط “بروتوكول نقل النص المتشعّب” (HTTP Proxy) لتجاوز القيود. وكان الرجال، لدى تجمّعهم بالقرب من بعضهم البعض، يتواصلون لاسلكيًا من خلال إرسال الرسائل النصيّة وتبادل الملفّات عبر “بلوتوث.”
- 9. هناك تاريخٌ من قمع الدّولة والعنف واعتقال الأفراد الكويريّين/ات. وتحكي القصص عن جنودٍ حُكمَ عليهم بالسّجن بعد ضبطهم يمارسون الجنس في أثناء الخدمة العسكريّة، أو رجالٍ اعتُقِلوا بعد مداهمة حفلةٍ مثليّةٍ في إحدى الشاليهات خارج المدينة. أحيانًا، لا تُنشر أخبار هذه الحوادث، أو تُستخدَم لابتزاز المنخرطين في الفعل الجنسيّ.
- 10. في غالب الأحيان، يقطن الرجال من مختلف المشاهد الكويريّة مع أسرهم، فلا يستطيعون استضافة رجالٍ آخرين بغرض ممارسة الجنس.
Al-Samman, H., & El-Ariss, T. (2013). “Queer Affects: Introduction.” International Journal of Middle East Studies, 45(2): 205–209.
Altman, D. (1996). “Rupture or Continuity? The Internationalization of Gay Identities.” Social Text (48): 77-94.
Amar, P. (2013). The Security Archipelago: Human-Security States, Sexuality Politics, and the End of Neoliberalism. Duke University Press.
Babayan, K., & Najmabadi, A. (eds.). (2008). Islamicate Sexualities: Translations across Temporal Geographies of Desire. Harvard Center for Middle Eastern Studies.
Bell, D. & Valentine, G. (eds.). (1995). Mapping Desire: Geographies of Sexualities. London: Routledge.
Benedicto, B. (2014). Under Bright Lights: Gay Manila and the Global Scene. University of Minnesota Press.
Bingham, N., & Thrift, N. (2000). “Some New Instructions for Travelers: The Geography of Bruno Latour and Michel Serres.” In Thinking Space, M. Crang & N. Thrift (eds.). Routledge.
Binnie, J. (1997). “Coming Out of Geography: Towards a Queer Epistemology?” Environment and Planning D: Society and Space15: 223–37.
Blackwood, E. (2008). “Transnational Discourses and Circuits of Queer Knowledge in Indonesia.” GLQ: A Journal of Lesbian and Gay Studies, 14(4): 481–507.
Boellstorff, T. (2005). The Gay Archipelago: Sexuality and Nation in Indonesia. Princeton University Press.
Bouhdiba, A. (2001). Sexuality in Islam. London: Saqi Books.
Brennan, T. (2004). The transmission of affect. Cornell University Press.
Butler, J. (1993). Bodies that Matter: On the Discursive Limits of Sex. New York: Routledge.
Butterfield, N. (2016). “Professionalization in Sexual Politics and Activism in Croatia in the 2000s.” Southeastern Europe, 40: 54–80.
Dave, N. (2014). “Witness: Humans, Animals, and the Politics of Becoming.” Cultural Anthropology, 29(3): 433–456.
Davies, A.M. (2013). “(Un)stable Space(s): an Ethnography of a (sometimes) Gay Bar.” The Qualitative Report 18(16): 1–14.
de Certeau, M. (1984). The Practice of Everyday Life. University of California Press.
El-Rouayheb, K. (2009). Before Homosexuality in the Arab-Islamic world, 1500-1800. Chicago: University of Chicago Press.
Georgis, D. (2013). “Thinking Past Pride: Queer Arab Shame in Bareed Mista3jil.” International Journal of Middle East Studies45(02): 233–251.
Habib, S. (2007). Female Homosexuality in the Middle East: Histories and Representations. Routledge.
—. (2009). Islam and Homosexuality. Praeger.
Hamdan, S. (2015). “Re-orienting Desire from with/in Queer Arab Shame: Conceptualizing Queer Arab Subjectivities through Sexual Difference Theory in a Reading of Bareed Mista3jil.” Kohl: a Journal for Gender and Body Research, 1(1): 55-69.
Haraway, D. (1988). “Situated knowledges: the science question in feminism and the privilege of partial perspective.” Feminist Studies, 14(3): 575–599.
Ingold, T. (2008). “Bindings against Boundaries: Entanglements of Life in an Open World.” Environment and Planning A, 40: 1798-1810.
Ingram, G.B., Bouthillette, A.M., & Retter, Y. (eds.). (1997). Queers in Space: Communities, Public Places, Sites of Resistance. Seattle: Bay Press.
Joseph, S. (2010). “Gender and citizenship in the Arab world.” Al Raida, (129-130): 8–18.
MacDonald, G. (1992). “Among Syrian Men.” In Sexuality and Eroticism among Males in Moslem Societies, A. Schmitt & J. Sofer (eds.). Routledge.
Madison, D.S. (2005). Critical Ethnography: Method, Ethics, and Performance. Thousand Oaks, CA: Sage.
Maktabi, R. (2010). “Gender, Family Law and Citizenship in Syria.” Citizenship Studies, 14(5): 557–572.
Markowitz, L., & Tice, K.W. (2002). “Paradoxes of Professionalization: Parallel Dilemmas in Women’s Organizations in the Americas.” Gender & Society, 16(6): 941–958.
Massad, J. (2007). Desiring Arabs. Chicago: University of Chicago Press.
Merabet, S. (2014). Queer Beirut. Austin: University of Texas Press.
McCormick, J. (2006). “Transition Beirut: Gay identities, Lived Realities.” In Sexuality in the Arab world, S. Khalaf (ed.). Saqi Books.
McGlotten, S. (2005). Queerspaces and Sexpublics: Desire, Death, and Transfiguration. Dissertation: University of Texas, Austin.
Mourad, S. (2013). “Queering the Mother Tongue.” International Journal of Communication, 7: 2533-2546.
Moussawi, G. (2015). “(Un)critically Queer Organizing: Towards a More Complex Analysis of LGBTQ Organizing in Lebanon.” Sexualities, 1–25.
Munt, S. (2002). “Lesbian Flâneur.” In The Unknown City: Contesting Architecture and Social Space, I. Borden, J. Kerr & A. Pivaro (eds.). MIT Press.
Navaro-Yashin, Y. (2012) The Make-Believe Space: Affective Geography in a Postwar Polity. Duke University Press.
Pace, S. (2012). “Writing the Self into Research: Using Grounded Theory Analytic Strategies in Autoethnography.” TEXT Journal of Writing and Writing Courses, 16(1): 1–15.
Povinelli, E. A., & Chauncey, G. (1999). “Thinking Sexuality Transnationally.” GLQ: A Journal of Lesbian and Gay Studies, 5(4): 439–450.
Pullen, C. (2012). “LGBT Transnational Documentary ‘Becoming.’” In LGBT Transnational Identity and the Media, C. Pullen (ed.). Palgrave Macmillian.
Qubaia, Adrianna. Forthcoming. “Imagining Non-Normative Sexualities in Beirut.” Dissertation. Central European University.
Ruffolo, D.V. (2009). Post-Queer Politics. Ashgate.
Salamandra, C. (2004). A New Old Damascus: Authenticity and Distinction in Urban Syria. Indiana: Indiana University Press.
Salter, M. B. (2012). “Theory of the /: The Suture and Critical Border Studies.” Geopolitics 17(4): 734-755.
Seidman, S. (2012). “The Politics of Cosmopolitan Beirut: From the Stranger to the Other. Theory, Culture & Society, 29(2): 3–36.
Sibalis, M. (2004). “Urban Space and Homosexuality: The Example of the Marais, Paris’ ‘Gay Ghetto.’” Urban Studies 41(9): 1739–1758.
Skeggs, B., Moran, L., Tyrer, P. & Binnie, J. (2004). “Queer as Folk: Producing the Real of Urban Space.” Urban Studies 41(9): 1839–1856.
Stewart, K. (2008). “Weak Theory in an Unfinished World.” Journal of Folklore Research 45(1): 71-82.
Straw, W. (2004). “Cultural Scenes.” Society and Leisure 27(2): 411-422.
Thrift, N. (2007). Non-Representational Theory: Space, Politics, Affect. New York: Routledge.
Valentine, G. (2002). “Queer Bodies and the Production of Space.” In Handbook of Lesbian and Gay Studies, D. Richardson & S. Seidman (eds.). Thousand Oaks, CA: Sage.
Vannini, P. (2015). “Non-Representational Research Methodologies: an Introduction.” In Non-Representational Research Methodologies: Re-Envisioning Research, P. Vannini (ed.). Routledge.
Vaughan-Williams, N., Parker, N., et al. (2009). “Lines in the Sand? Towards an Agenda for Critical Border Studies.” Geopolitics, 14(3): 582–587.
Wehbi, S. & El-Lahib, Y. (2007). “Organising for Voting Rights of People with Disabilities in Lebanon: Reflections for Activists.” Equal Opportunities International, 26(5): 449–464.
Whatmore, S. (2002). Hybrid Geographies: Natures Cultures Spaces. Sage Publications.
Zaki, M.A. (2014). “And they say there aren‘t any gay Arabs…:” Ambiguity and Uncertainty in Cairo’s Underground Gay Scenes. PhD Dissertation: London School of Economics and Political Science.