المرأة كمكان / المرأة في المكان: إعادة تموضع أجسادنا وكتابة الجندر في المكان
يعاين هذا المقال المساحات الجندريّة المدينية التي تتشكّل تحت النظام الرأسمالي. تعيد المعايير المعماريّة خلق الهرميات الجندر والطبقيّة والعرقيّة. وفي المقابل، يعزز الإنتاج الثقافي المحلي مفاهيم محدّدة عن النساء كفضاء. ونتيجة لذلك، يتكرر إنتاج الثنائيات الجندرية بلا تحدي ويستمر الدعم لما “يٌفترض” على النساء أن يكنّ ويفعلن. وفي نهاية المطاف، يسعى هذا المقال الى تعطيل الثنائيّات والأنظمة الهرميّة عن طريق إعادة تموضع أجسادنا وإعادة كتابة الجندر في المساحات.
"كثقافة ماديّة، ليس المكان مخلوقاً ميتاً وجامداً أو مادّة هندسية، بل هو جزءٌ أساسيّ ومتبدّل من الحياة اليومية، مرتبطٌ بشكلٍ حميم بطقوس ونشاطات إجتماعية وشخصية"1.
بيروت. الشوارع المعولمة للمتسوّق/ة العالمي/ة. عبر واجهات المحال في شارع الحمراء، تظهر الثياب والأحذية، وأدوات التزيين، وتجهيزات المنازل، وصالونات الحلاقة. يُفتَحُ أمام الزائرة فضاء التسوّق بإمتياز، بألوانه الزهريّة والحمراء ونقشات الورود. تُفسِحُ تجربة المشي في الشوارع والساحات العامّة مجالاٌ أمام رؤية الهوية الجندرية للمكان. وتظهر هذه الأخيرة كأزمة بنيوية في عملية إنتاج المكان من قِبَل النظام المهيمن، فتَثبِتَ نفسها– كما نحاجج هنا - كممارسة سلطوية، مُختزِلة، ومعَمِّمة.
الطريقة التي تُصَمَمُ من خلالها هذه المساحات (شبه العامّة) – الألوان المستخدمة، المواد، النقوش، والأدوات المنثورة - كلّها تقترح، بشكلٍ أو بآخر، أن النساء كتلة متماثلة متشابهة محبّة للّون الزهري، من مراهقات وعاملات وربّات منازل. في المقابل، فإن الأزرق والأسود والألوان المعدنيّة تدلّ على مساحات مقتصرة على إستعمال الذكور، بحوافٍ قاسية مدينية (urban)، تجذب الذكر المسيطر الأحاديّ الشكل. تحت هذه الثنائية في المكان، يعيش النظام البطريركي وينمو محرّكاٌ المفاهيم الطبقية والجندرية.
في هذا البحث، سنناقش التمظهرات المكانية للثنائيات الجندرية، بينما نركّز على المقاييس الماديّة والسلوكية التي أنتجتها سيطرة الرجل الأبيض من خلال الموروثات الثقافية. عبر استكشاف الطبيعة المكانية للجندر في النظام الرأسمالي، سيعتمد هذا البحث على الملاحظة بالمشاركة(participant observation) ، كما سيعتمد على تحليل المقاييس المختزِلة للمكان وعلاقتها بالجسد.
إن الأماكن التي نتناولها هنا هي ذات ملكيّةٍ خاصّة، وعامّة، و"شبه" عامّة. الاماكن الخاصّة هي ذات ملكيّة واستعمال خاصّين (المنازل، البلاكين، الحدائق الخاصة، الأسطح، السيارات، إلخ.). الأماكن العامّة هي تلك المملوكة من الدولة (الشوارع، الحدائق العامّة، الساحات والكورنيش، المشاعات، النقل العام، إلخ). و"شبه العامّة" هي الأماكن ذات الملكية العامّة بينما إستعمالها شبه خاص، كالفنادق والمستشفيات والمقاهي والمطاعم والمسارح وأماكن العبادة والمقابر، إلخ.
وفي حين تظهر الملكيتان الخاصة والعامّة واضحتين في حدودهما واستعمالاتهما، فإن الفئة الأخيرة (التي أسماها مارك أوجي "لا-مكان"non-place 2) تبدو هامّة لجهة أنها تتشكّل بنيوياً عبر توحيد الحاجات، وأنماط الإستهلاك، وما ينتج عن ذلك من تسطيحٍ للمكان، وتوحيدٍ لشكله ومقاساته. وهذه ظاهرة تشكّل أساساً مساحاتٍ غير قابلة للتغيير، للإنتماء، أو للمصادرة3، ما يولّد نقصاً بإحساس الأمان، وجوّاً يقوّي ويدعّم ديناميّات القوة الموجودة من جهة، فتنتج عن ذلك طبيعةٌ بطريركية للمكان، من جهة أخرى. ويُسبّب الفرق في مستويات الخصوصية بين تلك الأمكنة (أيّ، الأعراف المُتّفَق عليها بالمسموح والمقبول داخل هذه الأماكن)، تظهيراً لعلاقات المكان بالجسد. فتبدو حاجات النظام البطريركي الضمنية واضحة في ذلك. في الحالة الأولى (المكان الخاص)، يحضر المكان الحميم ذو الطابع العمليّ، حيث الحياة اليومية والنشاطات الفرديّة والعائلية. الحيّز الثاني (المكان العامّ)، هو مكان النشاطات الأوسع للحياة الإجتماعية والمدنية. أمّا الأخير (شبه العام) فهو المكان الذي يشهد المناسبات الإجتماعية الأكثر خصوصية، والتي تمليها الأعراف المكانية - الإجتماعية المحليّة (الحيّ، المعبد، إلخ) أو المعولمة (فنادق، مطارات، إلخ).
تُصبَغ الأمكنة بالجندر. إذ يكون المكان نِتاج ثقافتنا، فيه نُظهِّرُ حاجاتنا الأكثر عُمقاَ، والظاهر من أيديولوجيتنا، والمخفيّ منها. وتؤكد مارتينا لو بأن "الجندر والمكان سواسية، هما نتيجة مشروطة لعمليّة مؤقّتة من الترتيب والتنظيم والعزو، تؤسّس وتعيد إنتاج التركيبات والبنى الموجودة"4. فالجندر والمكان متشابهان لجهة التركيبتين اللتين تعكسان المفاهيم الإجتماعية على الحياة اليومية.
وبينما يستعمل النظام الرأسمالي الفكر البطريركي كأداة لتبديل هرميات القوّة وإعادة تشكيلها، تُحدِّد الأوضاع الحالية النساء كالحلقة الأضعف. وتكون النتيجة الطبيعية إعادة الإنتاج المكانيّ لديناميّات القوّة: النساء يخضعن للمقاييس الإقتصادية والإجتماعية، فيتردّد ذلك في البيت والشارع والمقهى.
في محاولة لإدراك ماهية "المكان النسويّ / المصمّم"، جازفنا بخوض نقاشٍ غير رسميّ مع طلّاب العمارة والتصميم في إحدى جامعات بيروت. تركّزت الأسئلة حول الشكل المتوقَّع لهكذا فضاء، من ألوانٍ ونقشات، كما الميزة العامّة فيه. ظهر لنا بشكل مفاجئ أن جميع الأجوبة (من الإناث والذكور) توجّهت نحو وصف المكان المذكور باحتوائه على ألوانٍ زاهية (دافئة عامّة)، ويتيح استعماله الإنحناء والدوائر الضرورية، بالإضافة إلى ما يؤمنه المكان من شعورٍ بالحميمية والخصوصية يشبه تصوّر الرحم. تعبّر ليزلي كاينز وايزمان عن هذا الربط بقولها إن "النساء يقترنّ بميزات الحنوّ والتعاون والشخصانية والعاطفية والخيال، فيما يظهر "عالم الرجل" – وهو الفضاء العام حيث تعقد المناسبات والأحداث والأعمال "ذات المعنى" - بترابطٍ مع الموضوعية، واللا شخصانية والمنافسة والمنطقية"5.
دفع بنا هذا التمرين إلى بحثٍ أوسع في معنى "المكان / الفضاء النسوي والمستجيب لحاجات النساء" على مستوى إستعمال الفضاء المادّي واستخدامه / استغلاله من قبل النساء، وإلى الإبقاء على حساسيةٍ متأهبة تجاه تنميطٍ مُعَمِّم يمكن أن ينتجه هكذا بحث.وقد وجّهتنا الإستدلالات المستقاة من هذا البحث الأوليّ إلى ثلاث مؤثّرات أساسية في تشكيل هذا المكان: الجنس (جسد المرأة / الرجل) والإستعمال، الجندر أو النوع الإجتماعي (الحاجة) والإستعمال، والعلاقة بين الإنسان ومفهوم الإدراك الفلسفي للمكان. فنجيب عبر هذه المؤثّرات عل سؤال نراه أساسياً في بناء المكان: كيف "نكون" ككائنات ذات طبيعة جندرية، في المكان؟
تُعرَف المقاييس والأحجام المعتمدة عادةً لصنع الأشياء والفضاءات التي تتناسب وتتجاوب مع جسم الإنسان بالمقاييس الأنتروبومورفية. وهي لا تقوم على أحجام أعضاء الجسد الذكري فقط، بل على أعضاء الجسد الذكري الأوروبي. بدءًا من فيتروفيوس إلى ليوناردو دا فينتشي، مروراً بمودولور لو كوربوزييه، كان "الرجل" (الذكر) هو الشكل الإنساني الوحيد القابل للدرس والتمحيص، مختزلاً الأشكال البشرية الموجودة كلها بصورة الرجل الآري. إن النظر إلى أمثلة كفيتروفيوس ومودولور أنتج مقاييس موحّدة عن جسد الإنسان. وقد أعاد ذلك خلق الجسد البشريّ: ذكر، صحّي، بمقاييس تتناسق مع الشكل الأوروبي. وقد انطبعت حاجات الجسد الأحاديّ هذا على المكان، فأصبح مكاننا يحتوي ذلك الجسد، وذلك الجسد فقط. أما إذا ما وُجِدَ خارج المقاسات المقبولة لذلك الجسد، فهو يطوف في فضاءٍ أكبر من حاجته، أو مسحوقاً بين الحوافي.
تناقش مارتين لوو مبدأ "الكلّ المتجانس" (homogeneous whole) كجزءٍ لا يتجزّأ من المجتمعات الحديثة، يعمل لإبقاء الأخر - الأُخرى، الغريب/ة، المتنوّع/ة بعيداً/ةً. فتقول:
"إن إقصاء التنوّع من الممارسات اليوميّة والعمليّة الفكريّة ينطبع على بناء الدولة الحديثة، والمجتمع المتجانس، والهوية غير المبتورة، والجسديّة المغلقة، لإلخ. وهو يثبت بالضرورة في تفكيرنا بالمكان"6.
بناءً على ذلك، يمكننا أن نرصد مشاهد المساكن (خاصة)، والشوارع (عامّة) والمقاهي (شبه عامّة)، وكيفية عدم تجاوبها مع المستخدمة الأنثى والمستخدم الذكر "غير المطابق"7. ويمكننا أن نرى ذلك متجلياً بوضوح في مقاسات أحواض أو خزائن المطبخ مثلاً، أو في مستوى علوّ قبضات الأبواب في المراكز الكبرى والمحال (بعضها يصل إلى حدود كتف المستخدمة)، أو في مقاس المقاعد العامة المرتفعة حول البار، أو في مقاسات الأسرّة، إلخ. ولا تحول النتيجة دون الإستعمال المفيد للأشياء والأمكنة فقط، بل تقوم بشكلٍ لافت بكبت جسد المرأة (والرجل غير المطابق) في الفضاء: هذا الفضاء يحرم الجسد حقّه في الوجود في حالة الحركة أو الجمود، ويشدّد على عدم تطابقه كمذكّر مطلق مذكُّراً بشكلٍ مستمرّ بـ"إعاقته". يصبح جسد المرأة غير متكافئ أو متجانس، وأقلّ تطوّراً من نظيره الذكريّ المثاليّ.
وكما يكون المثال الذكريّ القويّ مهيمناً، فإن المثالين الأنثوي / النسائي من جهة والذكريّ الأقل "قوّة وعضلاتٍ مفتولة" من جهة أخرى، يبقيان أقلّ ظهوراً في الفضاء، أو على الأفلّ هما لا يجدان إستجابة لحاجاتهما. من دون تعميم أو تقزيم لكينونات كل ّمن الأنواع الإجتماعية واحتياجات كلّ منها، تجد النساء أنفسهنّ بحاجةٍ مثلاً إلى المزيد من الخصوصية أو الأمان في كافة الأماكن، العامّة كما الخاصّة، ولكن تبقى الأولوية للأماكن العامّة في هذا السياق، الشوارع القليلة الإنارة، الأنفاق / الممرّات / جسور المشاة، الفضاءات التي تمتدّ تحت الجسور، والتي يمكن أن تبدو عاديّة وبريئة للناظر، بينما تحمل أكثر من تجربةٍ ومخاطرة بالنسبة إلى النساء من مختلف الأعمار.فالبيوت المتراصّة في مشاريع الإسكان، الخالية من المصاعد، ذات الأروقة غير الآمنة، ذات الإنارة السيئة، قد تبدو كحلول مقبولة لمشاكل الإسكان الكثيرة. لكن، بالنسبة إلى النساء، فإن هذه المساحات هي فضاءات مفتوحة على التحرّش. ولأن النساء (من أمّهات أو عاملات منازل) هنّ اللواتي يهتميّن بالأطفال بشكل عام، فإن هذه الأماكن تصبح أيضاً منهكة، مصممة بطريقة غير عمليّة لإمرأةٍ تحمل طفلاً وأغراضاً أو تريد لطفلٍ/ةٍ أن يـ/تمشي فيها وحده/ا.
بالإضافة إلى ذلك، وفيما نتواجد في المكان كأشخاصٍ ذوي حقيقتين، جنسية وجندرية، تدفعنا هاتان الهويتان إلى الإعتراف بهذه العلاقة بين أجسادنا والمكان بشكلٍ سياسيّ بإمتياز. في مقاله "... شعرياً الإنسان يسكن..." )"… Poetically Man Dwells…"(8، يضع مارتن هايديغير المكان موضع الإناء الأوحد للجسد، خارجه. فلا يمكننا مطلقاً أن "نكون" خارج المكان أو نعرف معنى أن "نوجد" بمعزلٍ عنه. لذا، فإن العلاقة المبنية تنبع من تعلّقنا الغريزيّ بالمكان. ففي اللغة مثلاً، تكون العلاقة بين "المكان" و"الكينونة" والـ"كون" واضحة. فالكينونة مرتبطة عضوياً بـ"الوجود في المكان"، في "الكون". بينما يتأسّس في المكان، تصبح "كينونتنا" بكاملها مرتبطة جوهرياً بهذه التركيبة الإجتماعية (الجندر) لما يجب أن "نكونه". ما يعني أن "كينونتنا"، في الأوضاع الحالية، تصبح محدودة بما "نكونه" في المكان، عبر الإنتماء لهذا الجندر أو ذاك. ويمكننا عندئذٍ النظر إلى المفهوم الثقافيّ لفكرة "المرأة كمكان". ويظهر ذلك جليّاً في الثقافتين الكلاسيكية والمعاصرة، في الأدب والرسم والأغاني، كما في العديد من الإيحاءات الإجتماعية.
ونرى مثالاً عن ذلك في أعمال كلٍّ من الشاعرين محمود درويش (فلسطين) ونزار قبّاني (سوريا)، اللذين تحوّلت أعمالهما إلى أغانٍ متداولة، يردّدها الناس ويردّدون معها تموضع المرأة ذاتها كمكانٍ في علاقتها مع الرجل9. فتبدو المرأة كالحبيبة التي تحتوي الرجل. هي المتلقية لجسد الذكر، حضنها يستقبله ويحيط به من كلّ الجهات، يداها "موطنه"، ودورها يصبح أن تكون "مكاناً" لراحة المحبوب. فتصبح هي حينها، بكاملها، الحضن، الرحم، "الأرض"، أيّ المكان الذي يحصل فيه التبادل الحميم. وبينما تكون هي المكان، تُنسى – في الوقت ذاته - ككائنٍ "في" المكان، الذي يُصبح آنذاك مملكة الرجل الواحد.
تختفي، مظهّرةً بذلك المكان إن بشكله المادّي أو لجهة التوقّعات الإجتماعية الثقافية من الوجود داخل المكان بذاته. هي غائبة إذاً كعاشقة، بل هي خشبة مسرح تدور عليها الأحداث، ولا تعود لتظهر في المكان إلا في شروطٍ معيّنة.
ففي شكلٍ من الأشكال، يتمّ التفكير بجسد المرأة في المكان فقط لجهة الأدوار الإجتماعية المتوقّعة والمقبولة: في المطبخ، في الحمامات العامّة (قسم الأطفال داخل حمّام النساء)، وفي مراكز التسوّق الكبرى الموجهة الى النساء. قليلةٌ هي الأماكن التي تأخذ بعين الإعتبار جسد المرأة في مرحلة التخطيط للمكان العام، والخاص، وشبه العامّ، سواسية. يحضرنا هنا مثلاً خيار إستخدام قطع البلاط السميكة في رصف أرضية أرصفة الشوارع والساحات العامّة، علماً أن هذه البلاطات معروفة بكونها تؤسّس لسطحية مزعجة وغير مساعدة على المشي لمن يرتدين الكعب العالي. مع ذلك، نراها مستخدمة بكثرة، خاصة في بيروت.
ويبدو جانبٌ أخر من الأماكن ذات الهوية الجندرية واضحاً من خلال ثنائية العام والخاص والصفات التي نعزوها بها تبعاً لجندر مستخدماتها ومستخدميها. فتناقش سيتا لوو "نموذج الكتل المنفصلة"
( (“the paradigm of the ‘separate spheres’”الذي نشأ تحت البطريركية الرأسمالية. ويُعرّف هذا المفهوم بكونه "نظاماً هرميّاً يتألّف من فضاءٍ عامّ ذكوريّ مهيمن للإنتاج (المدينة)، وأخر نسائيّ / أنثويّ خاص خاضع، تابع، مُهَيمَن عليه، للتكاثر (البيت / المسكن)".10
من منظورٍ نسويّ، تًكمِل لوو معتبراً أن هذا التقسيم بالذات مأزوم بسبب الثنائية التناقضية الهرمية التي لا تنفكّ تعيد إنتاج نفسها عبر هذا المبدأ. ولا مفاجآت هنا، إذ أننا نعرف أننا نعيش في ظلّ نظامٍ رأسماليّ بطريركيّ يُملي علينا أدوارنا الإجتماعية، فإن وجودنا بكامله كأفراد يتمّ توجيهه بالكامل عبر فضاءاتٍ ذات هويّة جندرية محدَّدة تحمل رسائل هذا النظام وأوامره.
فيما نصبح واعيات وواعين للدور الذي يؤديه المكان في حياتنا، ولكيفية التلاعب به بحيث يقيّد حركتنا وتصرّفنا وإدراكنا لأجسادنا ويوجّهها، تصبح مقاومة هذه المكانيّة الجندريّة (بما يعنيه ذلك من تثبيت للهويّة الجندريّة في المكان) ممكنة على صعيدين: إعادة تموضع أجسادنا، وإعادة كتابة الجندر في المكان. وبينما تقتصر عمليّة إنتاج المكان حالياً على الأقلية البورجوازية المهيمنة (النظام الرأسمالي البطريركي)، يتوجب علينا أن نبدأ من القول بأن هذا الواقع يصبح ممكناً حين تتاح عملية الإنتاج هذه أمام شرائح أوسع من المستخدمات والمستخدمين. وترتبط الخطوات المرجوّة بمفهومنا للفضاء بمعناه الجسديّ كما الإجتماعيّ. نحن بحاجة إلى ربط المكان بأجسادنا، ننسبه إليها عبر المقاييس الماديّة في الحركة وجمودها / ثباتها. وبذلك، يحتاج نساء العالم الثالث ورجاله إلى إنتاج فضاءاتٍ تتجاوب وحاجاتهم/ن ومقاييس أجسادهم/ن، بدلاً من فضاءاتٍ تتبع في تصميمها مقاييس "عالمية" عامّة، من المفروض أن تناسب كافة الأعراق والأحجام والأجناس.
إن أحجام أعضاء أجسادنا مختلفة عمّا تعمّمه كتب الهندسة التي تتأسس على مقاييس "جسم" الذكر الأوروبيّ. يجب أن نكون قادرات على إنتاج مقاييس فردية ومحليّة وتطويرها، لنتمكّن من صنع أماكن وأدوات تتأقلم أكثر مع أحجامنا ومقاييسنا المتنوّعة.
إن المستوى الثاني من العمل يتطلّب إعادة كتابة الجندر في الفضاء. بما أن الشكل الذي "يجب" أن نكون به / نتصرّف على أساسه في المكان، هو شكلٌ مرسوم مادياً عبر حدود المباني والحدود الماديّة، فإن الأسئلة تصبح: "كيف يمكننا أن نعمل خلال فضاءٍ ما، ونجعله طيّعاً خارج التوقّعات الجندرية؟ كيف نستطيع أن نفاوض على البصمة المكانية لحقيقتنا الجندرية بطرقٍ تمكّننا من مجابهة الطبيعة البطريركية المهيمنة للمكان وتحدّيها؟". يتطلّب هذان المستويان أن يحصلا في المجال الخاص، والعام، وشبه العام للفضاءات: في الإستعمالات الحميمية اليومية، وفي الساحات العامّة التي تؤمّن الأمان والإستمتاع، وفي الحيّز شبه العام الذي يتوحب عليه أن يتأقلم مع حاجاتنا هذه.
إن الطبيعة الجندريّة للمكان قليلاٌ ما تبدو واضحةً جليّة. يعود ذلك لكون مفهومنا عن المكان عامّةً غير واعٍ لتأثير المكان على أجسادنا، ولوجود علاقة عضوية بين الفضاء وإستعمالاته المختلفة ونشاطاتنا فيه. وتعبّر وايزمان عن ذلك بالتشديد على المكان كأداة قوّة، وتناقش هنا الممارسة السياسية لما تسمّيه "الإنتماء إلى المكان واستخدامه". إن الفضاءات تملك قوّة منعنا عن أو دعمنا في ما نقوم به، فيصبح ضرورياٌ – حسبما تحاجج وايزمان - أن نتدخّل في كيفية دعم الفضاء وتصميمه بحيث يلائم النساء وحاجاتهنّ11.
حاليّاٌ، يتحكّم النظام الرأسماليّ البطريركيّ بإنتاج المكان. لذا، فإن الوسائل العامّة والفضاءات الخاصّة وشبه العامّة تردّد الشكل السياسيّ للنظام، جاعلةً الجندر (بالإضافة إلى العديد من المجالات الأَخرى)، طبيعة عضوية للمكان بذاته. بهذا المعنى، فإنّنا نستطيع أن نعي أن الخاصيّة الجندرية للمكان ليست "طبيعية" أو بريئة، بل هي نتاج هذا النظام، وبالنتيجة، هي ما يقود أجسادنا كما عقولنا ووعينا وأذواقنا.لذا، وعبر كسرنا لشكل الفضاء المفروض من النظام، نتمكّن من مقاومة أداة أُخرى من أدوات البطريركية ورأس المال التي تمتلكها بنى القوّة الموجودة.
- 1. Rendell, Jane. 2003, p.3.
- 2. Auge, Marc. 1995, p. 15
- 3. المصدر السابق
- 4. Löw, Martina. 2006, p.7. “Gender and space alike are a provisional result of an – invariably temporal – process of attribution and arrangement that both forms and reproduces structures.”
- 5. المصدر السابق
- 6. Löw, Martina. 2006, p.18 . “Exclusion of the heterogeneous from everyday practice and thought is reflected in the construction of the modern nation-state, of the homogeneous society, the unbroken identity, of closed corporeality, etc. It is also firmly anchored in our thinking on space”
- 7. غير مطابق لمقاييس الذكر الأبيض
- 8. Heidegger, Martin. 1951, p. 17.
- 9. ما يفرحني يا سيدتي\ أن أتكوّم كالعصفور الخائف \ بين بساتين الأهداب (...) أنت امرأتي الأولى \ رحمي الأول (...) طوق نجاتي من الطوفان (...)هاتي يدك اليمنى كي أتخبّأ فيها\ هاتي يدك اليسرى \كي أستوطن فيها \ (نزار قباني - حب بلا حدود)أنا آت إلى ظلّ عينيك.. آت \ أنت بيتي ومنفاي...أنت \ أنت أرضي التي دمّرتني \ أنت أرضي التي حوّلتني سماء \ (محمود درويش، أنا آتِ ألى ظلّ عينيك)وأنت الثرى والسماء \ ...وقلبك أخضر! \ وجزر الهوى فيك مدّ \ وإنّي طفل هواك\ على حضنك الحلو\ أنمو وأكبر (محمود درويش، تكبّر تكبّر)
- 10. Low, Setha M. 2003, p.4. “[A]n oppositional and an hierarchical system consisting of a dominant public male realm of production (the city) and a subordinate private female one of reproduction (the home).”
- 11. Kanes Weisman, Leslie. 2003, p. 7.
Auge, Marc. "Non-Places. Introduction to an Anthropology of Supermodernity." Verso, 1 Jan. 1995. Web. 15 Mar. 2015. http://www.acsu.buffalo.edu/~jread2/Auge Non places.pd
Darwish, Mahmoud. “Diwan al Sha’ir: Mahmoud Darwish.” Adab Arabic Poetry. www.adab.com/mahmoud.darwish
Heidegger, Martin. "...Poetically Man Dwells..." Poetry, Language, Thought. New York: Harper and Row, 1951. Print.
Kanes Weisman, Leslie. "Prologue." Gender Space Architecture: An Interdisciplinary Introduction. Ed. Jane Rendell, Barbara Penner, and Iain Borden. New York: Routledge, 2003.
Löw, Martina. "The Social Construction of Space and Gender." European Journal of Women’s Studies Copyright. SAGE Publications, 1 Jan. 2006. Web. 3 Apr. 2015. http://www.postcolonialeurope.net/uploads/Low, Martina_119.pdf
Low, Setha M. "Embodied Space(s): Anthropological Theories of Body, Space, and Culture." Sage, 1 Feb. 2003. Web. 5 March 2015. http://blog.lib.umn.edu/willow/estudio_seminar/sethalow-embodied Spaces.pdf
Rendell, Jane. "Introduction: ‘Gender, Space’." Gender Space Architecture: An Interdisciplinary Introduction. Ed. Jane Rendell, Barbara Penner, and Iain Borden. New York: Routledge, 2003.
Qabbani, Nizar. “Diwan al Sha’ir: Nizar Qabbani.” Adab Arabic Poetry www.adab.com/nizar.qabbani
---. “Unlimited Love.” Trans. Fisal. Transparent Language. http://blogs.transparent.com/arabic/nizar-qabbani-unlimited-love-part-ii/