نرفع القبضات، يهزون الأصابع: حفظ ذاكرة الثورات النسوية

السيرة: 

غوى صايغ كاتبة كويرية آناركية، وناشرة مستقلة ومؤرشفة. هي المحرّرة المؤسِّسة لمجلّة "كحل" ومؤسِّسة شريكة لـ"منشورات المعرفة التقاطعية". حصلت على ماجستير في الدراسات الجندرية من جامعة باريس 8 فينسين - سانت دينيس. إنها شغوفة بنظرية الكوير، والمنشورات الدورية العابرة للحدود القومية، والتاريخ المتخيل أو المجهول. أودري لورد وسارة أحمد هما ملهمتاها.

اقتباس: 
غوى صايغ. "نرفع القبضات، يهزون الأصابع: حفظ ذاكرة الثورات النسوية". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 5 عدد 3 (18 ديسمبر 2019): ص. 1-1. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 25 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/we-raise-fists.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

نور يوسف هي نسوية من لبنان عملت مع العديد من المنظمات النسوية مثل راديكال، ورشة المعرفة، مشروع الألف، حول القضايا المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية، تاريخ النساء الشفهي، وحقوق الطلاب.

bomb_field-page-001.jpg

كلارا شيدياق

 

في الصباح الباكر من يوم الأحد، 15 كانون الأول (ديسمبر) 2019، تعرض رائد ياغي، أحد المحتجين، للضرب على رأسه على أيدي شرطة مكافحة الشغب في بيروت. نتيجة ذلك، فقد ذاكرته. لم يكن العنف الجسدي استثنائياً؛ لقد مارسه جهاز أمن الدولة بشكل روتيني ضد المتظاهرين/ات على امتداد الجغرافيا اللبنانية، منذ 17 أكتوبر 2019. لكن فقدان الذاكرة القسري ضد الصحوة الجماعية للشعب، كما وصفه الكثيرون في الشوارع خلال الثورة، يُبرز على القمع الوحشي للنظام – وهو النظام الذي يدفع المنشقين/ات إلى العودة إلى غير المحكيّ، التعتيم الجماعي، ومسح التاريخ من الأسفل. بهذا المعنى، لا يمكن لهذه الصحوة أن تُختزل باعتبارها يقظة بعد سبات عميق. – لا نحتاج إلى "يقظة" لندرك حقيقة واقعنا، لأن الشعب عندما يرفض النسيان، يحيل التذكر إلى فعل مقاومة. إذن كيف نبقي ذاكرتنا الجماعية على قيد الحياة، لا لترسيخها في التاريخ البعيد وحسب، بل من أجلنا نحن، من أجل ثوراتنا، الآن وهنا.

لم نصبح ثوريين/ات. والأهم، لم نصبح ثوريين/ات بين عشية وضحاها. كبرنا في الثورة وإليها، ونمت نحونا. لقد ولدت في بيروت أثناء الحرب الأهلية، في ليلة صعبة للغاية؛ حيث كانت الصواريخ تسقط كزخّ المطر، وعلى الرغم من أنني لا أتذكر، إلا أنني أرى العواصف في منامي قنابل وركام ودمار. "عوضت" سوليدير أجدادي عن منزلهم في وسط بيروت عبر أسهم منخفضة القيمة، لا تزال مرارة طعم انتزاع ملكيتنا حاضرًا في ذاكرتي، الغضب المكتوم بهيئة كعكات الحليب التي كانت جدتي تصنعها. في المسيرات الجماعية، كنّا نسير في الظلام تحت المطر الغزير، غارقات حتى الركب في مياه الصرف الصحي التي تفيض كل شتاء، لنصرخ للنسوية والتحرر، وبعد سنوات، وجدنا بعضنا البعض مرة أخرى في شوارع بيروت، مهزوزين/ات ولكن متحدين/ات، فتفاجؤ بلقاءات محمّلة بالتاريخ تدعونا من جديد إلى التنظيم معاً.

يمكن للانتفاض تعطيل السلطة، عرقلة مسارها، ورفض الامتثال إليها. يمكن للانتفاض أن يواجه، يتمرد، ويطيح. يجهل اعتبار ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر داخل الدولة اللبنانية مجرد ردة فعل على التدابير الاقتصادية والتخفيضات التي اتخذتها الحكومة عن كيفية عمل الثورات ومساراتها. الثورات متشعبة وكثيرة. لها أن تكون صامتة، أو تتراكم لسنوات قبل أن تتفجّر. إنها ما نعرفه في حياتنا اليومية، وفي انعدام تألّقنا، وفي سخافاتنا. يحيط بنا واقع مع موارده لا يمكن أن تكون مستدامة – مالية وبشرية وعاطفية؛ نحن مهددون/ات بالخسارة، ومساراتنا محكومة بالتعب نتيجة الاقتصادات غير المستدامة والمشروطة. لذلك نحزن. فاليأس، لاالأمل، هو قوتنا الثورية. إنها تمرد ضدّ اللامبالاة والنسيان. يصعب تجاهل منحاها الشخصي، لأنها شخصية وعلائقية وجماعية. الثورة هي الشعور بالانسلاخ والاستمرارية في آن. الثورة هي نجاتنا من النظام حتى ننجو من بعضنا البعض.

ما رأيناه منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) في دولة لبنان الوطنية، إذن، هو مجرد مظهر مادي لثوراتنا العديدة – مكونها المرئي. في ظهيرات كثيرة فترات من أيام الأحد، شققت طريقي عبر الأزقة المزدحمة بوسط بيروت، مطاردة الذكريات التي كان ينبغي أن تكون طفولتي. لم تعد سوليدير مدينة أشباح، لقد أعيدت إلى الحياة فصارت البلد، تزينه الأنوار والهتافات وفن الشارع، وأكشاك الطعام، والكتب المستعملة. كان الخوف نديم صباحاتنا، ومحركنا للانضمام إلى الحركة الجماعية التي لم تعد بحاجة إلى تجييشنا. لقد شعرت أن كل فعل مقاوم قادني إلى هذه اللحظة التي نسجها تاريخنا. كان للثورة وتيرتها الخاصة. شيئاً فشيئاً، ومع إعادة فتح الطرقات واستئناف العمل، أصبح العنف ضد المتظاهرين/ات طبيعياً، فاندمجت حياتنا اليومية مع الثورة. ولكن كيف يمكن أن نعود إلى الحياة الطبيعية عندما تكون الحياة الطبيعية هي المشكلة؟

***

ليس من قبيل المصادفة أن تندلع حركات احتجاجية مماثلة في جميع أنحاء الجنوب العالمي، مما أشعل إضرابات العمال لفترات طويلة، والثورات كما نشهدها: ارتفاع أسعار الغاز، وانخفاض العملات المحلية، وزيادة الحكومات في إجراءات التقشف والضرائب، والأنظمة المصرفية التي تخدم الأغنياء وتقيّد الفقراء، وكل ذلك يعتمد على العمود الفقري للأنظمة الفاسدة والحكومات التي ظلت في السلطة لعقود. ليس من قبيل الصدفة أن يميل الشمال النيوكولونيالي إلى اليمين المتطرف، خوفًا من التمرد الأجنبي. لكن هذه ليست حكاية عن الشمال والجنوب. إن الأمر يتعلق بالاقتصادات التي تقودها الدولة والبنوك، والتي تواصل تطبيق السياسات النيوليبرالية ومراكمة الديون. إنه يتعلق بتكديس الثروات من قِبل القلة التي استنفدت ونهبت الأغلبية حتى النخاع، بما يتجاوز سبل العيش المعقولة. عندما تصبح تعود كراهية الأجانب غير كافية لإبقاء "المواطنين/ات" تحت الضبط ولشرح سبب الافتقار إلى التشغيل الآمن والوصول إلى الموارد والخدمات، سيتعين علينا مواجهة السوق النيوليبرالية في جميع آلياتها – الدول والبنوك والصناعات والشركات. نحن ندرك أن النظام نفسه غير مستدام، وأن انهياره مسألة وقت وحسب، وكيف له ألّا ينهار؟ حينها ستكون الكلفة التي سنتكبدها مهولة.

نحتاج أن نبدأ في كشف الاحتيال العالمي الذي تمثله الأنظمة البنكية (المصرفية). على مدار الأسابيع القليلة الماضية، وقفت وعدد لا يحصى من الناس في طابور الانتظار في البنوك لساعات، فقط للحصول على الحد الأقصى البالغ مائتي إلى ثلاثمائة دولار نقدًا في الأسبوع. يُطلب منا إما التعامل مع المعاملات الالكترونية/الآلية التي تخضع لضريبة عالية الآن، أو استبدال أموالنا بسعر أقل، "بالسعر الرسمي" للّيرة اللبنانية، بينما يرتفع سعر السوق نتيجة ارتفاع سعر الدولار. عملياً، نتعرض للسرقة. لذا، نحتاج إلى النظر إلى الدول القومية على أنها مشاريع فاسدة. الحدود التعسفية التي من المفترض أن تسقط وتنظم في ظل سلطات قضائية مستقلة ينتهي بها المطاف إلى أن تكون آلات الانضباط والسيطرة والقمع التي تديم نفسها عن طريق تقسيم الناس بين محليين/ات ووكلاء للخارج، وبين "الطبقات المتحضرة" والطبقات العاملة، لصالح الانتماء الوهمي لهوية وطنية أصيلة و"محترمة". بصفتنا نسويات في الثورات الدائمة، نتحدث من وعن سياقاتنا لأن هذا ما نعرفه. هذا النصليس استثناءً. أعود إلى الصور والأمثلة من الثورة المستمرة في الدولة القومية اللبنانية. لكنني الآن أتساءل عما إذا كان هذا هو ما يُسمح لنا بمعرفته. أنا أحلم بالتنظيم عبر الوطني، عبر المناطق الجغرافية، وتحرير ثوراتنا من النطاق المحدود للدول القومية. كيف يمكننا أن نفهم هذه اللحظة التنظيمية عبر الحدود المفروضة التي تسعى لإبقائنا تحت المراقبة والسيطرة؟ يجب أن يحدث التآكل على نطاق عالمي.

عندما كنت طفلة، حماني والداي ممّا يسمونه بالسياسة. فيما يتعلق بالمعرفة، لم يكن هناك شيء محرم، باستثناء تاريخ وحقائق المكان الذي نشأت فيه. أدركت أنها علامة على امتياز الطبقة الوسطى. بطريقة ما، لم يكن من الضروري أن أكون مرتبطة بأي صراع يتجاوز نجاتنا الفردية. لكنني تعلمت السياسة من الأشياء العادية واليومية. مع مرور الوقت، كنت قد ألغيت الاحترام من تفكيري. كان ذلك ثورة.

إن الشيء الذي يتعلق بسياسة الاحترام هو أنها لا تنطبق إلا على المنشقين/ات والمتمردين/ت وأولئك الذين واللواتي يرفضون الامتثال للمعايير. يقيّم المتظاهرون/ات وفقًا لمعايير غير واقعية من "التّحضّر". إنهم يضبطون لإهانتهم/نّ حكامهم/نّ. هم يشيطنون لقطع الطرقات. يتم نزع شرعيتهم/نّ بسبب أي ظاهرة للعنف، سواء كان ذلك الألعاب النارية أو الحجارة أو العجلات المحترقة. يستخدم حكامنا الذين تحولوا إلى ظالمين خطاباً يفرق بين متظاهرين/ات مسالمين/ات "المحترمين/ات" يحملون مطالب مروضة، وأشخاصاً مثيري/ات الشغب وغير المهذبين/ات "غير المتعلمين/ات"، الذين واللواتي تمّ تصويرهم/نّ على أنهم/نّ موجودون/ات في دوامة من الفوضى من أجل الفوضى. ولكن بعيدًا عن استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، فإن عنف النظام على مواردنا، وعلى سبل عيشنا، وعلى أجسادنا، هو حرب يومية. لم يسقط نظام نتيجة مطالب مهذبة. إن هذا المنطق الأمر يبعث على الجنون: أي حكومة فاسدة إلى الحد الذي لم تعد قادرة على إعطاء شعبها أمواله، تقوم بتأديب "رعاياها" على الخروج خارج الحدود الضيقة للكيفية والمكان والأسباب الدّاعية للاحتجاج. إن أصابعهم الممتدة تهديداً وأبوية تعتبر نفسها خيّرة، ومطلقة تحذيرات وتهديدات باهتة على غرار "انظروا إلى ما جعلتموني أفعل"، قوبلت بقبضات مرفوعة، وهي رمز نسوي للتحرر.

***

نريد أن تكون الثورات لحظات تتقارب وتلتقي فيها الصور الجماعية. نحن نرى رومنسية في وجودنا في الشوارع في الحركات الجماهيرية والاحتجاجات، فنصرخ ونسترجع ونقاوم. وبالطبع، فهذا الأمر منطقي: ركوب موجة تتحدى الخيال من خلال تغيير المشهد الذي نعرفه، ماديًا ومجازيًا، هو بحد ذاته عاطفة قوية. نشعر أننا نتجاوز الهياكل، نعتقد أنه يمكننا القضاء على أنظمة القمع في طريقنا. ولكن عندما تتبدد النشوة، عندما يتسلل إلينا اليأس مرة أخرى، يجب علينا القيام بالعمل الصعب.

الثورات ليست مجرد فعلاً هائل الأثر. بل ما تبقى من هزيمة هذا الفعل. إن أداء المجال العام يرتبط بمشاكل المرئيّة ومعاملتها الفردية. ننسى أولئك الذين واللواتي لا يمكن أن يكونوا/يكنّ في الشوارع لأسباب صحية، جسدية أو نفسية أو بسبب أسرهم/نّ أو أرباب عملهم/نّ أو لأنهم/نّ مرهقون/ات ومهلكون/ات. نحن ننسى اللاجئين/ات والمهاجرين/ات الذين واللواتي يتقاسمون حدود الخوف من الدولة القومية، لكنهم/نّ يختبرونها بمزيد من العنف دون التخفيف عبر الغضب الوطني، ومن لدى الثورات مخاطر مختلفة عليهم/نّ. لتذكرهم/نّ، لا يكفي وضعهم/نّ في فكرة؛ يجب أن نعمل على الابتعاد عن الهياكل التي نتواطؤ معها، بدءًا من أدوات السيد: "اللبنانيّة" والقومية. وهكذا، يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ما الذي نحجبه ومن الذي نحجبه في الأعمال الفردية التي يشاد بها على أنها "بطولية". وفي السياق ذاته، فإن الخطاب قادر على مواجهة نخاع هذا النظام وبنيته المتجذرة، مما يحقق إمكانيات إنتاج رؤية مشتركة. لذلك، فإن تجسّد الثورة هو مساحة للحديث مع الآخرين/ات بدلاً من التحدث على عنهم/نّ، والتنظيم مع الآخرين بدلاً من تنظيمهم/نّ.

تتخلل ليالي بيروت غزوات الغاز المسيل للدموع وصفارات الإنذار تشنها صفوف الجيوش والمناصرين الملثمين. كان المحتجون/ات يواصلون الانتصار والعودة من وراء الدخان، ليتقدموا مرة ويتراجعوا أخرى. لقد كسر النظام قدسية أجهزته العسكرية. أخيرًا، يمكننا تناول العسكرة والدولة البوليسية في خطابنا السياسي. في تاريخ التجنيد، تعتبر المؤسسة العسكرية، بالنسبة للكثيرين، المنفذ وفرصة العمل الوحيدة الذي يتمتع بشرعية ودعم الدولة. تلعب العيوب والتناقضات الإقليمية دورًا كبيرًا في تعزيز توازن القوى هذا. إليكم هذا التحذير: الدول القومية تستغل الفقر، وتمتصه في مؤسسات تحمي مصالحها وتبقي الفقراء فقراء، ولكن مع التقدير الإضافي، والإغاثة قصيرة الأمد، والشرف الوطني المجرّد. الطبقة الحاكمة، فعلياً، تحصن نفسها داخل بنية تحتية تؤدي عملها القذر. وهكذا، لا يمكننا إلا أن نعتبر جهاز الدولة الأمنية بمثابة ثالوث من النخبة الحاكمة، والشرطة والمؤسسات العسكرية، وأنصار غير رسميين منظمين في الميليشيات (ولكنهم لا يعملون دائمًا على هذا النحو)، والمعروفة باسم "البلطجية". من خلال إبقاء المتظاهرين/ات منشغلين/ات بمواجهة عنف أجهزته التي تحرف انتباههم/نّ عن القضية الأساسية (سقوط النظام)، النظام الذي يريد أن يبدو خيّراً، يكشف وجهه الحقيقي المتمثل في قمع الشرطة.

كيف لا يزال النظام صامداً بعد شهرين من الثورة التي أبطأت حركتها إلى حد المعاناة؟ معرفة حجم هذه الآلية المتوحشة أمر شاق. إذن يصبح السؤال: كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ تمتلك النخبة الحاكمة معظم ما نعرفه، بما في ذلك جميع المؤسسات العامة، التي خصخصت بعضها لتعظيم أرباحها. لا يكفي أن تسقط الحكومة، في هيكلها البرلماني وأعضائها. لا يكفي أن يستقيل الوزراء. هؤلاء ليسوا سوى ملحقات، تقريبًا من مواقع سلطة فخرية لأوليغارشية قاحت. إن صورة ومكانة الزعيم، التي تعتمد عليها سبل عيش الناس، هي أساس جهاز الدولة الأمني الثلاثي. عندما يتهم الزعماء الثورة بأنها تسببت في الأزمة الاقتصادية، فإنهم يصورون المتظاهرين على أنهم يشكلون تهديدًا لكسب العيش هذا، وهو حاجز من لحم والدم بين أنصارهم وخبزهم اليومي. نظام من الواسطة الذي أصبح شائعاً ومألوفاً، والذي تسميه مايا ميكداشي "اقتصاد المعروف" في عمل لم يتم نشره بعد، جعل الزعيم مرتاحًا جدًا. النظام مرتبك من قبل أشخاص يرفضون العودة إلى ديارهم. إنه مهووس بالرغبة في التفاوض مع قادة الثورة؛ ترفع الأصابع مرة أخرى، وتسأل عن وثائق المطالب. فالنظان غير قادر على فهم حركة شعبية يمكن أن تنظم من الأسفل مع عدم وجود قيادة واضحة أو خبراء استراتيجيين، لا على استيعاب استمراريتها على الرغم من قمعها عبر كافة الاستراتيجيات المتاحة.. ولكن كيف يمكننا نحن، الناس، تجويع النظام؟

***

التفاوض على الإصلاحات هو وسيلة لتغذية النظام. إن تعريفي للإصلاح هو تحديد أولويات إلغاء أو تعديل أو إقرار قانون أو سياسة أو هيكل، وتقديم تنازلات في المقابل، مع تحول المجتمعات المهمشة إلى أوراق مساومة. هذا العمل قاده جزء من المجتمع المدني وآليات الأمم المتحدة، وعلى الرغم من الأهمية التاريخية، فقد تغيّر المشهد. لا يمكننا ولن نتفاوض مع القوى التي نسعى للقضاء عليها. يعد الاشتراك في الإصلاح، الذي تم تعبئته كخيار "أفضل من لا شيء"، أحد أشكال الإدماج التي تبقي النظام على حاله، لكنه يوسع نطاقه بما يكفي لخدمة مصالح الطبقات الوسطى. بطريقة ما، الإصلاحات هي مشروع برجوازي.

نحن بحاجة إلى التخلص من شخصية الزعيم، بقايا النظام، في مجتمعاتنا، واختبار طرق جديدة للتنظيم. دائمًا ما نتعرض للتهديد بسياسات الشح والحرمان، من جانب من هم في السلطة، من قبل مناصريهم، من قبل وسائل الإعلام، وأيضاً من جانب جزء من المجتمع المدني، وحتى في بعض الحالات، من قبل مجتمعاتنا وأنفسنا. قيل لنا إننا قلة قليلة، فالنقد والخلافات تصبح غير مثمرة. لكننا الكثيرون/ات. نحن في كل مكان؛ ونحن بحاجة إلى أن نقوم بهذه المحادثات.

وبهذه الروحية جاء هذا العدد في اللحظة الأخيرة من كحل، ليكون مساحة مفتوحة للتوثيق، وإفساح المجال للتناقضات والخلافات، وبالتعاون مع جهود التوثيق التي يبذلها الآخرون/ات الذين واللواتي نتعاون معهم/نّ في الصراع. الأرشيف الثوري هو أرشيف ذاكرة. لا تشبه مواردنا موارد النظام، لكن المضطهدين يخشوننا لأننا نتذكر ما وراء أنفسنا؛ نتذكر بطريقة جماعيّة، عابرة للحدود، عابرة للزمن، عابرة للتاريخ. والذاكرة هي المقاومة والثورات اللامتناهية.

 

ملحوظات: