مأزق نظريّة ما بعد الإستعمار: التفاوض أم الرفض؟

السيرة: 

شيرين أبو النجا أستاذة لغة إنجليزية وأدب المقارنة في جامعة القاهرة، وهي ناقدة أدبية. وقد نشرت كتب (عربية وإنجليزية) ومقالات أدبية نقديّة في مجلات علمية، مع التركيز بشكل خاص على الجندر. واعية بموقعيّتها في العالم الثالث، أبو النجا تنظر إلى العالم من منظور النسوية الاشتراكية. خلال دراسة اللقاءات بين/عبر ثقافيّة في الأدب والفنون، في ذروة العولمة والاستياءات التّي تتبعها، تعكس موقفها، وتضيف إلى حقل الدراسات الثقافية/الجندريّة. هي مهتمّة بقراءة مظاهر النظام الأبوي الجديد والليبرالية الجديدة التّي من شأنها أن تعجّل ظهور"النص الجديد"، علامة مقاومة قوية.

‫ ‫الملخص: 

إنّ موجة الهجرة التي يشهدها العالم حاليًا والاستياء الذي تثيره يتحدّى بعض الجوانب التي تشكّل ركيزة نظريّة ما بعد الإستعمار، من خلال الكشف عن عدم فاعليّة وبطلان كافّة المعطيات السّابقة، فالحدود الجغرافية الخاضعة للمراقبة تجعل من الهجنة والأفق مفهومين غير صالحين. لم تنجح محاولة التملّص من سياسات الاستقطاب في تخطّي الممارسات الخطابيّة والماديّة الموجهة للكثير من الذوات المرحّلة قسرا. بالتالي، فإن “منطقة التماس” التي لطالما كانت مصدر فخرٍ للغرب استنادًا إلى افتراض الهجنة، تتضاءل الآن إن لم تكن تتلاشى، وما كان يُفترض به أن يكون تفاوضًا ثقافيًا بات إنكارًا ثقافيًا. يقرأ هذا المقال وضع النساء طالبات اللّجوء والمُحتجزات في “مركز يارلز وود” (Yarl Wood’s Centre) في المملكة المتّحدة كمثالٍ على الانتهاكات الصارخة التي تُمارَس ضدّ المهاجرين/ات واللاجئين/ات بشكلٍ عام، وفي حال النساء، كمثالٍ على تحويل الجسد الأنثويّ إلى ميدانٍ تُنقَش عليه علاقات القوّة المتنازعة. لكن الهدف الرّئيس لهذه القراءة هو إثبات فشل نظريّة ما بعد الإستعمار في التعامل مع العودة الشّرسة للحدود، الماديّة منها والرمزيّة. وفي سبيل تحقيق ذلك، يفترض هذا المقال أن قصص حيوات هؤلاء النساء تمثّل نصًا/ سرديّةً تُقدّم نفسها للتحليل.

الكلمات المفتاحية: 
Borders
Female Body
Horizon
Contact Zone
Cultural Authenticity
Hybridity.
اقتباس: 
شيرين أبو النجا. "مأزق نظريّة ما بعد الإستعمار: التفاوض أم الرفض؟". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 2 عدد 2 (2016): ص. 219-233. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 22 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/the-cul-de-sac.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (554.85 كيلوبايت)
ترجمة: 

لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".

على الرغم من كافّة التعقيدات والقيود والصّدمات والقصص المأساويّة عن الموت في البحر الأبيض المتوسّط، لا تلوح في الأفق أيّ إشاراتٍ على نهايةٍ قريبةٍ لموجات الهجرة الحاليّة. وإذ تتنوّع أسباب هذه الإستمراريّة وتتّسم بالألم، فإنّها تشترك في خاصيّةٍ واحدة: هؤلاء المهاجرون/ات يتركون دولًا فاشلةً، ومساحاتٍ مستعمَرةً سابقًا أو ما بعد كولونياليّة دمّرتها الصّراعات على السّلطة، بسبب التفاعل بين القوى الداخليّة والخارجيّة المحكومة بالسّيطرة على الموارد البشريّة والاقتصاديّة، متوجّهين/ات إلى ما يفترضون أنّها دول الرفاه الاجتماعي، وأماكن طوباويّةً من ناحية الإحساس بالأمان وغياب التهديد. إذًا، تمثل مسألة القوّة ضرورة في هذا السّياق، فهي الركيزة التي لم تكن من دونها الموجات الضّخمة من الحركيّة والهجرة والنزوح لتحدث. وبينما تُعتبر الحركيّة العابرة للحدود في مختلف أشكالها – أي حركيّة الناس، والثقافة، والسياحة والخدمات – علامةً من علامات العولمة (Bauman, 2000; Appandurai, 1996)، فلا شكّ في أنّها فقدت مؤخرًا تعريفها الجوهريّ البرّاق في عالمٍ أعاد تعزيز الحدود الوطنيّة، حيث أصبحت مصمتة.

بالتالي، إنّ فعل عبور الحدود اليوم لابد وأن يُعيد تعريف وضع العابر(ة) من ناحية المواطنة. مبالطّبع، لا ينطبق هذا التغيّر في المواطنة على جميع من يعبرون الحدود، فأنا أقصد بالتحديد الأشخاص “المجبَرين/ات” على العبور، أو بالأحرى على الهروب من الظّروف المريعة ومن الحروب الأهليّة، كالعراقيّين/ات والسوريّين/ات والليبيّين/ات والفلسطينيّين/ات. ما إن يعبر هؤلاء المواطنون/ات حدود بلدانهم/ن الأم – وهي رحلةٌ شاقّةٌ في حدّ ذاتها – حتى يتوقّفون عن كونهم/ن مواطنين/ات. يغدون “لاجئين/ات.” يفقدون كلّ حقوق المواطنة، ويكتسبون لا إراديًا وضع “اللّا موجود/ة” الذي يشرحه “ألان باديو” كأحد أنواع الدّولة السياسيّة في حدّ ذاته. يقول “باديو”: “كلّ غرضٍ، يُعتبر في كينونته تعدّدًا صافيًا، يتّسم بوضوح بعنادٍ بحقيقة أنّه بظهوره في هذا العالم، كان من الممكن كذلك ألا يظهر” (2009, p. 322). بمعنًى آخر، حوّلت الحركيّةُ القسريّة المواطنةَ إلى وضعٍ عَرَضيّ. وبالرغم من أن فعل الهجرة دائما ما يشمل نقطتَين، (أي مكان المغادرة ومكان الوصول بالمعنى المجازيّ بما أنّ الفعل الرحلة تتضمّن أحيانًا أكثر من نقطةٍ واحدة،) اللّتين تؤدّي الحدود دورًا أساسيًا فيهما، واللّتَين تعملان في الوقت عينه كمدخلٍ وكمخرج، إلا أن الأساس هو أنّ فعل عبور الحدود له غائيّةٌ تُرجَأ باستمرار. لا تتحقّق أبدًا نقطة الوصول المُتخيّلة ، لذا فإن ثنائيّة المغادرة والوصول غير ثابتةٍ على الإطلاق، وكون المكان “الآخر” المُتخيّل – غير المخيّمات أو السّجن أو الترحيل – مُرجأٌ ومؤجّلٌ دائمًا، فهو يشكّل تحديًا قويًا لاستقرار المعنى.

يكفي أن نفكّر في الأزمة السوريّة وأن نشاهد سيل الصّور التي يتداولها الإعلام، إذ تجهد كثيرٌ من القوى لـ”حلّ” المسألة السوريّة من خلال قصف “الأشرار” والعكس بالعكس، لندرك أنّ عبور الحدود بات أمرًا منقذًا للحياة، ولو مؤقّتًا، حتى وإن كانت المخيّمات هي كلّ ما ينتظر المهاجرين/ات على الضفّة الأخرى. وبينما يمثّل السوريّون/ات النسبة الأكبر من اللاجئين/ات حاليًا، فإنّ الكثير من شعوب دول العالم الثالث مازالت تمثّل عددًا كبيرًا منهم/ن كذلك. بمعنًى آخر، ما يسود المشهد اليوم هو إرث الحوكمة الاستعمارية \السّابقة معطوفًا على المزيج السّام من الاقتصاد النيوليبراليّ، وصعود الأصوليّة الدينيّة والرغبة في السّيطرة. إنّه الجانب الإستبداديّ لأنظمة العالم الثالث الذي يسحق شعبه ويدفع بناسه إلى قاربٍ يمكن أن ينقلب في أقلّ من نصف ساعة. لكن حتّى في مثل هذه الأزمات لا تتحقّق المساواة، فبينما يفرّ الرجال والنساء من الحروب الأهليّة، والأوضاع الاقتصاديّة المريعة، والتعذيب الجسديّ، والاعتقالات العشوائيّة والقتل الجماعيّ، على النساء أن يواجهن خطرًا مضاعفًا. فلننظر إلى النساء الإيزيديّات كمثالٍ، وإن لم يكن المثال الأوحد. في أثناء الهرب من نظامٍ مستبدٍّ وفي ظلّ كافّة التبِعات التي تنجم عن ذلك، يُضاف إلى النساء بعد آخر يستدعي الهروب، وهو كل الأهوال التي تقع عليهن لمجرد كونهن نساء. يٌفضي هذا البعد الجندري إلي احتمالية المعاناة من الإغتصاب، والتحرّش الجنسيّ، والزواج القسريّ، والإحتجاز في المنزل، والإجهاض القسريّ، والتشهير والتحوّل القسريّ إلى ديانةٍ أخرى. ويمكن لنا أن نفكّر في النساء الإيزيديّات اللّواتي أُخذن “سبايا” وأُجبِرن على التحوّل إلى الإسلام فقط ليصبحن جواري لدى رجال “الدّولة الإسلاميّة في العراق والشّام” أو “داعش” (مثل نساء الترفيه في الحرب العالميّة الثانية). وتضمّن التقرير الصّادر في شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2014 عن منظّمة “نساء من أجل النساء اللاجئات” 1 (Women for Refugee Women) أرقامًا وقصصًا صادمة:

قالت 33 امرأة أو 72% من النساء اللّواتي تحدّثنا إليهنّ أنّهن تعرّضن للإغتصاب كجزءٍ من محاكمتهنّ على محاولة الهرب. على سبيل المثال، إعتُقلَت امرأةٌ على يد القوّات الحكوميّة في شرق “جمهوريّة الكونغو الديموقراطيّة” على خلفيّة الشّك في كونها ثائرةً، واحتُجزَت في سجنٍ حيث صُفّدَت رجلاها متباعدتَين عن بعضهما البعض، واغتُصبَت بشكل متكرّرٍ من قبل الجنود طيلة أسابيع (Detained, 10).

على الرغم من أنّ هذه الأرقام تُعتبر مؤشّرًا على الوضع، لا توجد في الواقع أرقامٌ دقيقةٌ أو محدّدةٌ عن المهاجرين/ات، ما يجعل معرفة نسبة الرجال إلى النساء والأطفال أمرًا غير ممكن. وتتعامل معظم التقارير مع عيّناتٍ وشهاداتٍ عشوائيّةٍ تثبت أنّ الناس ينجون لكنّهم/ن لا يحيَون. ما هو مؤكّدٌ أنّ نساء العالم الثالث يهربن من إرث الفساد، والوحشيّة، والتدابير الإستبداديّة التي تفاعلت معها نظريّة ما بعد الإستعمار منذ زمنٍ بعيدٍ على نطاقٍ واسعٍ، كما يهربن من البطريركيّة التي أولتها مُنظّرات النسويّة ما بعد الإستعماريّة اهتماما خاصا. لكن دراسات ما بعد الإستعمار اشتبكت وتفاعلت مع مختلف الأوضاع الماديّة التي شكّلتها العواملُ التاريخيّة والسياسيّة في لحظة مغايرة تماما للحاضر.

وكما أثبت الوضع السياسيّ الحاليّ على الحدود في بلدانٍ مثل اليونان ومقدونيا وهنغاريا والنمسا، تهرب النساء من بطريركيّةٍ معيّنةٍ لتلاقيهنّ بطريركيّةٌ أخرى، متخفّيةً في شكل تدابير قانونيّة. بالطّبع، يشمل اللّجوء سيرورةً قانونيّةً، لكن هناك المزيد لنبحث فيه، إذ لا يمكننا تجاهل العوامل الثقافيّة والاجتماعيّة – الاقتصاديّة والسياسيّة التي تحكم السّيرورة “القانونيّة” لمنح اللّجوء، والتي تضع هؤلاء النساء ليس فقط “تحت الأعين الغربيّة” بل أيضًا تحت رحمة الرأسماليّة العالميّة وبُنى السّلطة السياسيّة. ينصبّ اهتمامي في هذا المقال على خصوصيّة الهجرة القسريّة، وهو شكلٌ من الهجرة المستندة إلى معادلة “إمّا/ أو،” حيث الخيارات غير متوفّرةٍ والوكالة الذاتيّة منفيّةٌ حتمًا. تقول “أليس” الآتية من الكاميرون والتي احتُجزت عند وصولها إلى الممكلة المتحدة: “ليس من قانونٍ في الاحتجاز. تشعرين أنّ الحرّاس يطبّقون القانون بحسب مزاجهم وتحيّزاتهم. يفرضون مشاعرهم على النساء هناك وليس من رادعٍ يردعهم. “يارلز وود” هو مكانٌ خارجٌ عن القانون” (Detained, 18-19).

إنّها لحقيقةٌ قائمةٌ أنّ تجاهل الاختلافات لطالما شكّل ميدان صراعٍ للنظريّة النسويّة ما بعد الإستعماريّة، لذا عمدت كافّة المساهمات النظرية إلى الاشتباك مع نزعة النسويّة الغربيّة الليبراليّة نحو فرض التجانس تحت مسمّى “الأختيّة،” كما برزت كلٌّ من “تشاندرا ت. موهانتي،” و”أودري لورد” و”أوما نارايان” كرائداتٍ في هذا الحقل. لكنّ السّؤال يبقى: كيف يمكن لهذا الكمّ الهائل من أدبيات نسويّة ما بعد الإستعماريّة المساهمة في حلّ وتفكيك بُنى القوّة الهرميّة المعقّدة التي تُحبَس فيها النساءُ المُجبرات على الهجرة؟ وإذ لا يدّعي هذا المقال تقديم الحلول – بما أنّ الوضع يتعلّق بشكلٍ رئيسيّ بالسّياسات المضادّة للهجرة والمنظّمات الرأسماليّة الربحيّة – فإنّه يعكف على الاشتباك مع بعض المفاهيم ما بعد الإستعماريّة السّائدة التي لطالما احتُفيَ بها وجرى تبنّيها كمقارباتٍ منهجيّةٍ في الدّراسات الأكاديميّة عن منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا.

نظرًا لتخصّصي في حقل الأدب والنقد الأدبيّ، من المفاجئ بالنسبة إليّ أن أرى عدد الأطروحات التي تكاد تقدّس، وهنا أجازف بالقول، المفاهيمَ الكلاسيكيّة لنظريّة ما بعد الإستعمار، مع غيابٍ تامٍ لأيّ مراجعةٍ أو إعادة تقييمٍ لصلاحيّة تلك الفرضيّات 2. من المعروف أن تبنّي النظريّة النسويّة ما بعد الإستعماريّة كمنهجيّةٍ للمقاربة يساهم في التركيز على الخطر المضاعف واستعمار النساء الظّاهر في شكل التهميش والتنميط. إلا أن البحث المُنتج حاليًا في المجال الأكاديمي العربي لا يشتبك مع الطبيعة المتغيّرة للزمن ولا يعالجها كإشكاليّة. ومن المقلق جدًا “تطبيق” نظريّة ما بعد الإستعمار والنظريّة النسويّة ما بعد الإستعماريّة من دون أيّ مراجعة اشكالية. بالطّبع، يمكن لهذه النظريّة العمل بشكلٍ رائعٍ مع نصٍّ لـ”أتشيبي” (Achebe)، أو روايةٍ لـ”أديتشي” (Adichie) أو ظهورٍ أوّلٍ للـ”زيّات.” لكنّ ترك المقدار الأكبر من النظريّة مُصانًا يجعلها صالحةً لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وهو أمرٌ بعيدٌ عن الحقيقة. هنا يكمن مأزق نظريّة ما بعد الإستعمار.

إذا ما اتّفقنا أنّ النظريّة تستجيب لسياقٍ اجتماعيّ – سياسيّ – ثقافيٍ معيّنٍ، لا يمكن عندها تجنّب أو تأجيل سيرورة مساءلة الأسس النظريّة. ومن أجل شرعنة سيرورة مساءلة وفحص صلاحيّة النظريّة، لا بدّ من وجود خلفيّةٍ تُستخدَم لقياس ذلك. بالتالي، سوف يتحرّى هذا المقال قضيّة النساء المُحتجَزات في “مركز يارلز وود” في المملكة المتّحدة 3، من خلال قراءة شهاداتهنّ التي تمثّل في حدّ ذاتها نصًا سرديًا. لا يتمثّل هدفي هنا في كشف حياد نظريّة ما بعد الإستعمار (وعميها) بشأن مسائل الجندر، بقدر ما يتمثّل في معارضة المسار الراسخ الذي بات جزءًا لا يتجزّأ من الحقل السّائد. وبما أنّ نظريّة ما بعد الإستعمار تتضمّن العديد من المفاهيم، سوف أنتخب ثلاثةً منها لتكون محور تركيزي هي: الحدود، والهجنة (hybridity) والأفق (horizon)؛ وسوف أعمد إلى قراءة وضعٍ محدّدٍ ماديًا من خلال هذه المفاهيم بغرض تحديد جوانب القصور الحالية في النظريّة.

 

الحدود: ما فائدتها؟

تقف الحدود الجغرافيّة عائقًا أولًا على المهاجرين/ات التعامل معه سواء بشكلٍ شرعيٍ أو غير شرعيّ، كما تمثّل في الوقت عينه الترسيمَ الرمزيّ بين الذّوات والذّوات الأخرى، وقد اعتمدتها النظرية بوصفها مساحة ليست هنا ولا هناك. نظريًا ومثاليًا، على الحدود أن تكون “أرضًا مشتركةً” (Mohanty, 1989, p. 21)، أو بالأحرى أرضيّةً وسطيّةً كما نظّرت لها “غلوريا أنزالدوا” إلى حدٍّ كبيرٍ (Anzaldúa, 1987) في كتابها المعروف على نطاقٍ واسعٍ “أراضي الحدود/ لا فرونتيرا” (Borderlands/ La Frontera). بالطّبع، يبدو تنظير التشيكانا (المكسيكيّة) هذا جذّابًا وفاتنًا، لكن الواقع مختلف تماما، فقد صار التحكّم في الحدود مؤخّرًا أولويّةً سياسيّةً، كما هو مذكورٌ أعلاه. الحدود هي الحاجز، والمصفاة، والدّرع، والحماية ورمز القوّة. لكن ما يفوق ذلك أهميّةً، هو أنّ الحدود في حدّ ذاتها غدت منطقةً لتطبيق القانون (إغلاق الحدود، ترحيل اللاجئين/ات إلى المخيّمات، منع الدّخول، إلخ.) لأسبابٍ أمنيّةٍ ترتبط بمكافحة الإرهاب. تبعًا لذلك، يثور بقوّةٍ خطاب حقوق الإنسان في ما يتعلّق بحقوق اللاجئين/ات. وبينما تحفل السّاحة العالميّة بتقارير تصدر بانتظامٍ عن “المفوضيّة العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” (UNHCR) على سبيل المثال، وتُستتبع فيها الأرقام بالتوصيات، لا يتغيّر الواقع المؤلم للاجئين/ات. تغدو الحدود موقعًا للخطابات المتنازعة حيث الغلبة الفوريّة للجانب القانونيّ بهدف مركَزة اللّا موجود/ة، والدّخيل/ة، والغريب/ة والمختلف/ة. وبسبب ذلك، صارت الحدود المنطقة الأولى التي تُفحص فيها ذاتيّات المهاجرين/ات، وتُجابَه وتُشكّل وتُحوّل.

باتت الحدود المنطقة التي تقع فيها المواجهات المتكرّرة بين المهاجرين/ات وقوّات الأمن، وتطفو فيها على السّطح مجدّدًا أسطورة النقاء والأصالة الثقافيّة، بالإضافة إلى المصطلحات القانونيّة، فقط من أجل تبرير العنف وإقامة الحواجز. بالطّبع، يعود كلّ ذلك إلى بُنى ونزاعات القوّة الرأسماليّة التي يمثّل فيها اللاجئون/ات ورقة تفاوضٍ، كما يظهر على سبيل المثال في مصير السوريّين/ات ممّن هاجروا/ن إلى أوروبا عبر تركيا، ثم اضطرّوا/ن إلى العودة إلى تركيا نتيجة اتّفاقٍ بينها وبين الإتّحاد الأوروبي. وكلّما ازداد وقوع هذه المواجهات، استُثيرَت ذكريات الماضي الإستعماريّ، وأُعيد تأسيس الثنائيّات: المركز/ الطّرف، والعالم الأوّل/ العالم الثالث، والأبيض/ غير الأبيض والبيضاء/ غير البيضاء. هكذا يمسح الجانب القانونيّ انتهاكاتِ حقوق الإنسان. لقد سارعت أوروبا لتسدّ حدودها إلى حدّ أنّ المحلّل السياسيّ “تيموثي غارتن آش” علّق في صحيفة “الغارديان” قائلًا: “ما نراه اليوم في العام 2015 هو عكس أوروبا 1989” (Ash, 2015). يشرح “آش” أنّ هدم السّتار الحديديّ بدأ بقصّ الأسلاك الشّائكة بين هنغاريا والنمسا. اليوم هي هنغاريا نفسها، وتحديدًا رئيس حكومتها “فيكتور أوربان،” يدعو إلى إبقاء المهاجرين/ات المسلمين/ات خارجًا، من أجل “الحفاظ على أوروبا مسيحيّةً” (Puhl, 2015). في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2015، منعت الشرطة المقدونيّة المهاجرين/ات من عبور الحدود إلى اليونان، ونتج عن ذلك أربعون جريحًا وجريحة (Alderman, 2016).

بقدر كارثيّتها الآن، غدت الحدود جزءًا لا يتجزّأ من الحقيقة الماديّة الضّاغطة التي تدفع بالعالم إلى سيرورةٍ معقّدةٍ من إعادة رسم الخرائط، والتي تغيّر معنى أماكن الاحتجاز لتشمل المخيّمات والمراكز والمناطق المعزولة. يُحتجَز المهاجرون/ات في الوسط (حرفيًا ورمزيًا)، أو بالأحرى يقعون بين الثنائيّات: الاستقرار مقابل الارتحال، والحرب مقابل السّلام، واليقين مقابل الاستجواب، والعالم الطوباويّ مقابل العالم المختلّ والتماثل مقابل الاختلاف. لكن الأهمّ هو أنّ المنطقة الحدوديّة مزدوجة الوجه: فهي ترمز إلى الجذور المتروكة في الخلف، و إلى التقاليد والعادات والمسارات المتداخلة ثقافيًا التي تُعتمَد بهدف الانتقال إلى ثقافةٍ أخرى (Clifford, 1992). إنّ الوصول إلى الحدود أو عبورها يؤشّر إلى بداية سلسلةٍ طويلةٍ من السّياسات الثقافيّة، فسواء سُمحَ لهم/ن بالدخول شرعيًا، أو هُرّبوا/ن بطريقةٍ غير شرعيّةٍ، سوف يظلّ المهاجر/ اللاجئ والمهاجرة/ اللاجئة في وضعٍ من الشّمول والاستبعاد (inclusive-outness). إذ أنهم/ن يُجبرون باستمرارٍ على إعادة التموضع وإعادة النظر في موقعهم/ن ليس فقط جسديًا وسياسيًا، بل أيضًا نفسيًا. إنّ الحدود مسكونةٌ بالفعل بالمواطنين/ات السّابقين/ات، أي “اللّا موجودين/ات” الذين واللّواتي وإن سُمح لهم/ن أو مُنحوا/ن الحقّ في الإقامة، يظلّون مشمولين/ات ومستبعدين/مستبعدات في آنٍ معًا. هنا، أقتبس هذا المفهوم عن “جون ن. إرني” (Erni, 2015) الذي يفصّله كما يلي:

ليس الهدف القول أنّ الشّمول مُتخيّلٌ أو زائفٌ تمامًا بالنسبة إلى الأشخاص ممّن نجحوا/ن في المطالبة أو المطالبة المضادّة بأوراق المواطنة خاصّتهم/ن من منظور القانون. بل الهدف القول بالأحرى أنّه لبعض الوقت، باتت إدارة المواطنة تُمارس من خلال وضعٍ من الشّمول – والاستبعاد العام، وهذا يغيّر ما كان يُسمّى سياسةً برمّته (كما كلّ ما يمكن لنا فهمه كنظرٍ في حقوق المواطنة عبر/و السياسة والعكس بالعكس (ص.5).

ما يقصده “إرني” هو أنّ إدارة المواطنة في حدّ ذاتها تتّسم بهذا الوضع من الشّمول –الاستبعاد ، أي في حين مازال الشّكل الكلاسيكيّ للتحكّم الحدوديّ والتدابير القانونيّة قائمًا، وإن بصيغٍ أكثر تقييدًا، فإنّ مفهوم “الإنتماء” (ص.6) بات غير مستقرٍّ وضبابيّ، وبالتالي صار يفرض الكفاح من أجل البقاء في كافّة الأوقات. لذلك من المهمّ قراءة شبكة سياسات الهويّة التي يختبرها المهاجرون/ات ما إن يعبرون أو يتجاوزون الحدود الجغرافيّة. ولا بدّ لنا أن نتذكّر أنّه بقدر ما يلتزم المهاجرون/ات بإحداث التغيير في العالم الذي ينتقلون إليه، فهم/ن أيضًا يتغيّرون سواء عن طريق القوّة، أو الاحتواء، أو الاندماج أو حتّى الثنائيّات المفروضة. باختصارٍ، إنّ الحركة المستمرّة وسيرورة الحركيّة تشكّلان عالم اليوم المتغيّر، وتصوغان ما نُظّر لها كلحظةٍ حداثيّةٍ/ ما بعد حداثيّةٍ هجينةٍ (Friedman, 1998)، أو ما سمّاه “أرجون أبادوراي” بثقةٍ “المشهد الإثنيّ العالميّ” (Appandurai, 1996, p. 48)، أو ما سمّاه “بومان” “الحداثة السّائلة” (Bauman, 2000). إلى أيّ درجةٍ تصلح هذه المصطلحات اليوم؟ إنّ الوضع الحاليّ بكلّ تبعاته وتعقيداته يستلزم إعادة التدقيق في النموذج النظريّ ما بعد الإستعماريّ برمّته.

إنّ عبور الحدود الجغرافيّة ليس نهاية الحكاية، بل هو حتمًا البداية. العبور جغرافيًا لا يضمن العبور الثقافيّ أو الشّعور المستتبّ بالانتماء. ويعود هذا إلى أنّ الأفق الكامن خلف عمليّة العبور يجعل مسألة الهجنة والاستقبال أكثر تعقيدًا، نظرًا إلى كلّ الاحتمالات الممكنة التي إمّا تُستثمَر أو تُهدَر. إنّ المساحات ما بَين بَين، التي ليست هنا ولا هناك، منطقة التّماس – وكلّها مسمّياتٌ لمفهوم الحديّة – تعمل كموقعٍ لطقوس التدشين. في هذا الموقع بالتحديد، حيث يقع الأفق قدمًا و”الوطن” في الخلف، أو بالأحرى حيث تقع الجذور والمسارات (Clifford, 1992)، هناك يحدث التفاعل الأوّل. وعلى امتداد تلك المسارات يغدو المواطنون/ات ذوو/ات التجارب والتواريخ المعيّنة لا موجودين/ات؛ وبدلًا من أن يكونوا ذواتًا فاعلةً يصبحون مُخضَعين/ات لأنظمةٍ معيّنةٍ من القوّة والتمثيل. لقد اتّخِذت مساحة اللّقاء الثقافيّ هذه كمساحةٍ للإنتاج والتوليف؛ وهي مساحةٌ تسمح بظهور تشكلات ذ بتشكيلاتٍ جديدةٍ للذات. تشرح “فريدمان” (1998( بوضوح كيف يتخطّى الأمر “حلمًا يُشتهى أو يُقاوَم، ويتجاوز وقائع القوّة. إنّ منطقة التّماس حيث تتلاقى الاختلافات هي حقيقيةٌ وهامةٌ بقدر التشكيلات الثقافيّة، بما فيها تشكيلات الهويّة، كمساحاتٍ للاختلاف” (ص. 104). وفي ضوء عودة كلّ الثنائيّات الفرعيّة الكلاسيكيّة (والإستشراقيّة) إلى البروز، يدرك المرء أنّ “فريدمان” تشير إلى ماضٍ طوباويّ.

على الرغم من أنّ معظم منظّري/ات نظريّة ما بعد الإستعمار أكّدوا/ن الأثر الإيجابيّ لمثل هذه اللقاءات Bhabha, 1994; Gilroy, 1993; Clifford, 1992; Appadurai, 1996))، إلا أنني أري أنّ عبور الحدود مؤخرًا قد قاد إلى لقاءٍ بالغ العنف وحافلٍ بخطاب الثنائيّات الإستعماريّ الكلاسيكيّ: القامع/ المقموع، والنقاء الثقافيّ/ المزيج الثقافيّ، بالإضافة إلى الثنائيّة الأهمّ الذّكر/ الأنثى. يبدأ العنف والإعتقال والرفض لا التفاوض حتى قبل عبور الحدود، سواء تلك الجغرافيّة أو الثقافيّة. وترتكّز حجّتي على مفاهيم معيّنةٍ تشكّل ركيزة نظريّة ما بعد الإستعمار، وتتقاطع مع نظريّات الشّتات (diaspora) والهجرة، وهي: أولا الأراضي الحدوديّة، وثانيا الأفق “كمبدأٍ لا يستغني عن الحدود برمّتها بل يسكنها، ويستعملها ويشملها يدمجها بطريقةٍ مختلفة” (Ashcroft, 2001, p.184)، وثالثا أشكال الهجنة. وفي ما يتعلّق بأشكال الهجنة، فإنّي أتّفق تمامًا مع “روبرت يونغ” (1995) أن “ليس من مفهومٍ واحدٍ أو صحيحٍ للهجنة” (ص. 26). وإذ تشكّل الطبقة والعرق حتمًا أسس أزمة المهاجرين/ات، فإنّ الجندر وأجساد النساء هي أيضًا عوامل أساسيّة في تحليل وفهم كيف تقوم علاقات القوّة بإعادة نحت ما يسمّيه “إرني” (Erni, 2015) الشّمول – اللّا شمول الاستبعاد. إن تفعيل هذا الوضع من خلال الجسد الأنثوي لهو المفتاح نحو اثبات قصور نظريّات ما بعد الإستعمار في تفسير الأحداث الحاليّة. وبالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، فإنّ الممارسات الخطابيّة المُجندرة من قبل اللاجئين/ات والمهاجرين/ات وعنهم/ن، قد دفعت بالرؤية النظريّة ما بعد الإستعماريّة إلى المأزق.

 

إنسداد الأفق

تتضح اشكالية الحدود واللقاء بين الثقافات في السرديّات؛ أو لنكن أكثر دقّةً، هي لا تغدو مشكلةً إلا عندما تُسرَد كقصّة. إذ لا يمكن إطلاق الإفتراضات النظريّة من دون الإستناد إلى حدثٍ محسوسٍ يصبح بدوره قصّة. بالتالي، ومن أجل التفكير ماديًا في مأزق العقل النظريّ ما بعد الإستعماريّ، يتعامل هذا المقال مع قصص حيوات بعض النساء المحتجَزات في “مركز يارلز وود،” كسرديّةٍ تقدّم مثالًا واضحًا على تفاعل علاقات القوّة المُشرّعة، من قبل من هم/ن في الداخل والخارج، من خلال الجندر. وتمثّل هذه السرديّة خطابًا مُجندرًا يعزّز مفهوم المشمولين/ات – اللّا مشمولين/ات، كما توضح كيف صار الجسد الأنثويّ ساحة المعركة الرّئيسة التي يُنقش عليها الإنتماء والإقصاء.

يقع “مركز يارلز وود” ذو السمعة السيئة في بدفوردشير (Bedfordshire)، في المملكة المتّحدة. وهو واحد من بين ثلاثة عشر مركزًا مخصّصًا للأجانب والأجنبيّات قبل ترحيلهم/ن من المملكة المتّحدة أو منحهم/ن اللّجوء، ولطالما شكّلت النساء النسبة الأكبر من قاطنيه. في العام 2015، أصدرت المنظّمة غير الربحيّة “نساءٌ من أجل النساء اللاجئات” تقريرًا (2015) تضمّن شهاداتٍ لـ38 امرأةً من المُحتجَزات سابقًا في المركز. وأشارت شهادات النساء إلى تعرّضهن للإعتداء الجنسيّ على يد الموظّفين الذّكور في المركز، وإلى انتهاك خصوصيّتهنّ عن طريق وسائل المراقبة غير الإنسانيّة، كالتفتيش والملامسة من قبل الرجال، أو مشاهدتهنّ عارياتٍ في الحمّام. هؤلاء النساء الناجيات سابقًا من الإغتصاب والعنف الجنسيّ، كنّ قد أتَين إلى المملكة المتّحدة سعيًا للحصول على الحماية، لينتهي بهنّ الأمر مُحتجزاتٍ في هذا المركز. وتذكّر تجارب النساء وشهاداتهنّ بمعتقلي “خليج غوانتانامو،” حيث كانت المراقبة الشّديدة جزءًا من عمليّة الإذلال والضّغط، من خلال وضع السّجناء في الأقفاص. ولعلّ الأمر برمّته يعود إلى إرث “فوكو” عن الإشتمال (panopticism)، ومفاده أنّ الشفافيّة التامّة وغياب الخصوصيّة تعنيان السّيطرة المطلقة. على سبيل المثال، قالت إحدى النساء: “عندما كنت أخضع للمراقبة وأنا في المرحاض، كنت أشعر بالخوف الشّديد. الغضب الذي كان يعتريني في تلك الأثناء جعلني أشعر بإحباطٍ كبير”؛ كما أكّدت أخرى هذا الشّعور قائلةً: “لم يكن بوسعي فعل شيء. كان أربعة رجالٍ يراقبونني بينما كنت عارية. كانوا يرفضون تغطيتي. كنت هشّةً جدًا” (WFRW, 2015, p. 12).

تُظهر هذه الشّهادات أنّ الجندر يبقى الديناميّة الرّئيسة التي تُبنى عليها علاقات القوّة. ولابد من التأكيد هنا أن القول بمسؤولية الصور النمطية عن وقوع هذه الانتهاكات لهو تبسيط مخل بالمعني. وإذ أجادل هنا أنّ الموقعيّات (positionalities) المتعدّدة الناتجة عن علاقات القوّة قد سدّت احتمالات الأفق، فعلى أيّ حالٍ، ولّد هذا الإنسداد “مساحةً ثالثةً” (Bhabha, 1994) سُنّت على أجساد النساء من خلال ما سمّته “شارون ماركيوز” “القواعد المُجندَرة للعنف” (1992, 392). ومازالت الحاجة قائمةً للبحث في ما إذا كان هذا التلاقي في الأفق المنبثق قد أفضى إلى الرفض أم إلى التفاوض. لسخرية القدر، يلمّح مفهوم “المساحة الثالثة” كما قدّمه “هومي بابا” إلى نتيجةٍ إيجابيّةٍ لهذا التلاقي. وبحسب “بابا،” إنّ المساحات غير المُعرّفة الموجودة ما بين مواقع الذّات، هي التي يُحتفى بها كموضعٍ لتعطيل وإزاحة السرديّات الإستعماريّة المُهيمِنة عن البُنى والممارسات الثقافيّة (Bhabha, 1994 & 2000). ويقدّم “بابا” الهجنة كشكلٍ من أشكال الحديّة أو المساحات ما بَين بَين، ويذهب بعيدًا إلى حدّ القول:

من أجل تحقيق ذلك، علينا أن نتذكّر أنّ “البينيّة” (inter) – أي الحدّ القاطع بين الترجمة والتفاوض، الما بَين بَين، مساحة البَين (entre) التي فتحها “ديريدا” في الكتابة نفسها – هي التي تحمل عبء معنى الثقافة. فهي التي تجعل من الممكن البدء بتصوّر تواريخ “الشعب” الوطنيّة والمضادّة للوطنيّة. في تلك المساحة، سوف نجد تلك الكلمات التي يمكننا التحدّث بها عن أنفسنا وإلى الآخرين/ات. ومن خلال استكشاف هذه الهجنة، هذه “المساحة الثالثة،” يمكننا الإفلات من سياسات الإستقطاب، والإنبعاث كآخَرين وأخرياتٍ لذواتنا (2006, p. 157).

إن “مركز يارلز وود” هو شكلٌ من أشكال السّجن حيث تُحتجَز النساء ويُمنَعن من التواصل مع العالم الخارجيّ، فيبدو الأمر كما لو أنهنّ لم يعبرن أيّ حدود. للمفارقة، صار مركز الإحتجاز هو منطقة التماس. في الوقت عينه، يمثّل المركزُ الحدّ الفاصل بين أولئك النساء “المشكوك فيهنّ” من جهةٍ، والمجتمع السّاعي إلى حماية أصالته وأمنه وموارده الإقتصاديّة من جهةٍ أخرى. بالتالي، بات المركز شكلًا من أشكال شيطنة “الآخر/ الأخرى،” وهو المثال الأكثر فجاجةً على ترسيم الحدود. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ النساء المُحتجَزات في هذا المركز يُحرَمن من فرصة توكيد أيّ شكلٍ من أشكال فاعلية الذات التي قد تدفع “باتّجاه وعيٍ جديدٍ” (La conciencia de la mestiza) (Anzaldua, 1987, p. 77)، ما قد يسمح بصياغة ذاتيّةٍ مزدهرةٍ من دون حدود. إنّ حقيقة وجود هذا المركز تؤشّر إلى أنّ اللّقاء الثقافيّ الذي كان من المُفترض أن يحدث، قد ولّد بشكلٍ فوريٍ سيرورةً من الرفض.

تكشف شهادات النّساء عن سيرورةٍ معقّدةٍ من تشكيل الذاتيّة. بعد الإنتقال إلى المملكة المتّحدة، تعيش (أم تُحتجَز؟) المرأة في مكانٍ لا يسمح بأيّ اتصال أو تفاعل . هي غير قادرةٍ إذًا على اختبار الموقع المشترَك الذي هو بحسب ستيوارت هول (Stuart Hall, 1990) أحد المرتكزات التي تشكل الهويّة الثقافيّة وفقًا له، أي “اكتشاف، ونبش، واستخراج والتعبير عن” (223) التجارب التاريخيّة المشترَكة التي تمنح “الشّعب الواحد” (223) أطرًا مستقرّةً ومستمرّةً من المعنى المعرفيّ. بدلًا من ذلك، ما يُختبَر هو التمزّق والانقطاع ونظامٌ مفروضٌ من التمثيل، ما يدلّ ضمنًا على السلطة. إنّ التفاعل التحاوريّ الذي تقارنه سوزان فريدمان (1998) باللّعبة الفرويديّة “fort-da” (أي ذهبت/ عادت) – وهي لعبةٌ تشكل بدايات منظومة الدلالة لدى الطّفل/ة – غائبٌ تمامًا. في الواقع، الضّرر هنا ذو حدّين، إذ ليست النساء فقط من يُحرَمن من التبادل، بل الذّوات الأخرى أيضًا. كلا الطّرفَين (وأفضّل تسميتهما بالذّوات والذّوات الأخرى بدلًا من الذّات والآخر 4 ( يُحرَمان من فرصة “الاكتشاف” و”النبش” بحثًا عن منطقةٍ مشترَكة؛ ما يتبقّى إذًا، هي أجساد النساء اللّواتي يُخضَعن لأنظمةٍ جديدةٍ من السّلطة.

يبدو جليًا أنّ الحواجز التي تُحتجَز خلفها هؤلاء النساء تعمل على حفظ الاختلاف بدلًا من التفاوض على المماثلة التماثل . منذ وقتٍ طويلٍ، ذمّت “هينرييتا مور” هذه الحواجز لكونها “وحشيّةً ودمويّة” (Moore, 1994, p.1). ونظرًا لكون هذه الحدود/ التخوم/ الحواجز غير نافذةٍ ولا مَساميّة، بل مصمتة يغدو الاختلاف مؤشّرًا على التفوّق، ما ينتج عنه رفضًا وغيابًا للتوفيقيّة (syncreticism). إنّ السّيرورة الأصليّة التي لطالما حلم/ت بها منظّرو/ات ما بعد الإستعمار ومهّدوا/ن لها الطّريق، هي إقامة الحدود التي تتبعها بشكل تلقائي طوعي سيرورة من التحلل ، كما تغدو الأراضي الحدوديّة مساحةً للطّاقة إذ تدفع باتّجاه مساءلة الثّوابت وإطلاق التغيير (Ashcroft, 2000; Pratt, 1992). في “تحوّلاتٌ ما بعد إستعماريّة، نظّر “بيل آشكروفت” (2001) لسيرورةٍ من التحوّل الذي سيؤثّر حتمًا في خطاب القوّة من الداخل. بالطّبع، قام الواقع بنزع الوهم عن كلّ هذه النظريّات. في العام 2014، أطلق “منتدى الإحتجاز” في المملكة المتّحدة حملةً بعنوان “كسر الإحتجاز،” كان هدفها إعلاء صوت المُحتجَزين/ات وكشف المعنى “الحقيقيّ” للاحتجاز أمام البرلمان الذي قرّر إطلاق أوّل تحقيقٍ في احتجاز المهاجرين/ات في المملكة المتّحدة (Ohtani, 2015). تقول “إِري أوهتاني،” عضوةٌ في الحملة، أنّ التحقيق المدعوم بمئتَي دليلٍ جُمعَت من مدنٍ وبلداتٍ مختلفة، كشف على نحوٍ غير متوقّعٍ أنّ “الاحتجاز لا يتوقّف عند بوّابات مركز الإحتجاز، بل إنّ تأثيره يستمّر لوقتٍ طويلٍ بعد أن يُطلَق سراح الأشخاص” (Ohtani, 2014). بالطّبع، لا يعني الإحتجاز الإعتقالَ الجسديّ فقط، بل يتجاوز ذلك، فكسر الرّوح والعوَز هي من بديهيّات تجربة الإحتجاز، لاسيّما في حال النساء اللّواتي سبق أن اختبرن المعاناة في بلدانهنّ. وشهدَت بعض النساء على شعورهنّ بالإذلال: “لم أشعر قطّ بالأمان، إذ سبق أن تعرّضتُ للإغتصاب في بلدي. كنت خائفةً من أن يحدث لي الأمر ذاته مجدّدًا. كنت خائفةً جدًا حتّى أنّي كنت بالكاد أغادر غرفتي”؛ بينما ذكرت امرأةٌ أخرى الشّعور بفقدان الأمل على وجه التحديد: “لم أكن أشعر بشيء. فقدت الأمل والشّجاعة، لقد حُطّ من قدري حتى غدوت في هذه الحال. كان جمعٌ من الناس يشاهدونني” (I Am Human, 2015, p. 12). وعلى نحوٍ صادمٍ، كانت هاتان المرأتان موضوعتَين تحت المراقبة الخاصّة بالنساء المعرّضات لخطر الإنتحار (I Am Human WFRW, 2015, p. 11).

في داخل نموذج نظريّات ما بعد الإستعمار، تُقاوَم الحدود بشكلٍ دائمٍ وتُتجاوَز أو تُعبَر باستمرارٍ للوصول إلى ما يسمّيه “آشكروفت” (2001) “الأفقيّة” (horizontality). يرتبط الأفق بالتمدّد مقابل الإنقباض، وبالإمكانيّة مقابل الإستحالة. بالتالي، “الأفقيّة هي الطّريقة الوحيدة لمقاومة هيمنة الحدود في الفكر الغربيّ” (Ashcroft, 2001, 183). إن الإمكانات – بما فيها إمكانات الإنتماء – التي تنتظر النساء المُحتجزات حاليًا أو سابقًا، مطموسةٌ وضبابيّةٌ نظرًا لكونها عالقة في شبكةٍ من علاقات القوّة، التي لسوء الحظّ تُعيد الخطاب النظريّ ما بعد الإستعماريّ إلى نقطةٍ تسبق نشر كتاب “الإستشراق” في العام 1978، أي قبل عشر سنواتٍ فقط من إصدار كتاب “أنزالدوا” (1987). لنشرح الأمر، هناك أفقٌ داخليّ يتجسّد في هذه الحال في المركز المعزول والمقصيّ، حيث يحدث التحرّش والإعتداء الجنسيّ. أما الأفق الخارجيّ فيقع في السّياق الأوسع الذي استدعى إنشاء مراكز الإحتجاز من حيث المبدأ. يغدو المركز علامةً أو حتّى ممارسةً خطابيّةً للسياسات المناهضة للهجرة. هنا، لابد من الاختلاف مع “آشكروفت” الذي يصف الأفق بثقةٍ على أنّه “جانبٌ دائمٌ ومسلّمٌ به من علاقتنا بالعالم،” ولذلك فإنّ “الإصرار الثقافيّ على الحدود هو الذي يبدو شاذًا ومفروضًا فرضًا، لا مفهوم الأفقيّة” (2001, 185)، فبحسب الواقع المادّي، إنكار الأفق هو الوضع المبدئيّ، ما يتّسق مع سياسات الشّمول والإقصاء. إن النساء المُحتجزات هنّ مشمولاتٌ – مقصيّاتٌ بامتياز. بالتالي، “آشكروفت” محقٌ تمامًا في افتراضه أنّ عدم القدرة على معارضة الحدود المفروضة سياسيًا “يقوّض مشروع المقاومة ما بعد الإستعماريّة،” وهو يكرّر أنّ “الإقرار بالقوّة التنظيميّة والوظيفة الخطابيّة للحدود هو أساسٌ ضروريٌ لتطوير أفقيّةٍ ما بعد استعماريّة” (2001, 186). أعتقد أنّ هذا “الإقرار” السياسيّ والمعرفيّ هو ما يجب للنظريّة العمل عليه أكثر في الوضع الحاليّ.

إذ أن إنّ تجاهل أهميّة هذا الإقرار حتى الآن، حوّل أجساد النساء إلى ساحةٍ متنازعٍ عليها وإلى موقعٍ صداميٍ تُنقش عليه كافّة سياسات الإقصاء، حتّى وإن كان الشّمول هو الوضع الرسميّ. في التقرير الصادر عن “نساء من أجل النساء اللاجئات” في كانون الثاني/ يناير من العام 2015، تشارك النساء المُحتجزات سابقًا في “مركز يارلز وود” شهاداتهنّ، وعلى الرغم من أنّ كلّ القصص والشّهادات تثير الأسى، فإنّ قصّة “ريتشيل” بالتحديد، تحكي الكثير عن الإذلال الناتج عن الإحتجاز. أتت “ريتشيل” من سانت فينسنت وتعيش حاليًا في ليدز في المملكة المتّحدة، وقد قضت ثمانية أشهرٍ في “مركز يارلز وود.” تعرّضت “ريتشيل” للإغتصاب في بلدها الأمّ على يد عصابةٍ أرادت تلقين والدها درسًا بشأن أموال المخدّرات، ثمّ قدمت إلى المملكة المتّحدة حيث أمضت عقوبة السّجن 12 شهرًا قبل أن يُطلق سراحها، ومن ثمّ تُعتقل مجدّدًا وتُجبر على دخول “مركز يارلز وود” حيث بدأت محنتها الجديدة:

أُصِبت باكتئابٍ شديدٍ هناك، وشُخِّصت باضطراب الكَرب التالي للتّروما ومتلازمة صدمة الإغتصاب. بقيت في “يارلز وود” لمدّة ثمانية أشهرٍ كانت حافلةً بالخزي والعار التام. ظننت أنّ السّجن كان سيّئًا، لكنّ “يارلز وود” دفع بي إلى حدّ الرغبة بالإنتحار. أصبحت ألحق الأذى بنفسي. كنت أؤذي نفسي كي أتمكّن من التعامل مع الأمور. عانيتُ من انتهاك الأشخاص لمساحتي. يدخل مأمورو الشّرطة غرفتك من دون معرفتك، ويفتّشون سريرك وملابسك الداخليّة، وكلّهم من الذّكور. شعرتُ بأنّي اغتُصِبتُ مرّةً جديدة. عندما كنت هناك، أخبرتُ الطّبيبة أنّني تعرّضت للإغتصاب في سنّ الـ15، فأجابتني بأنّ الأمر مسألةٌ شخصيّة. شعرتُ بالحاجة إلى إنهاء حياتي. أشعرني “يارلز وود” بأنّ الحياة في حدّ ذاتها غير جديرةٍ بالعيش. الإيمان وحده أبقاني حيّةً، بالاضافة إلى أنّني كنت في غرفةٍ مشتركة، وإلا لما كنتُ حيّةً لأسرد هذه القصّة اليوم. كنت لأكون امرأةً ميتة. كانت تزورني طبيبةٌ لمعاينتي وتقييم حالتي ومن ثم إرسال تقريرٍ إلى الشّخص المسؤول عن ملفّي لتخبره بخضوعي للمراقبة في “يارلز وود” وبتأثير ذلك عليّ، إلا أنّه كان يتجاهل الأمر. نُصِحتُ بأن أسلّم نسخةً من التقرير إلى قسم الرعاية الصحيّة في “يارلز وود،” فتجاهلوا الأمر أيضًا بينما كانت صحّتي تتدهور. عليّ أن أتوجّه بالشّكر إلى القاضي الذي أطلق سراحي بعد أن كنت كتبت رسالة انتحارٍ استعدادًا لقتل نفسي. لا أتمنّى لأيّ إنسانٍ أو حتّى كلبٍ أن يكون في مكانٍ كذلك المكان. الأمر غير إنسانيٍ، إنّه أمرٌ خاطئٌ ويترك ندوبًا مدى الحياة. لا أعرف كيف أشفى من التعذيب الذي تعرّضت له. (I Am Human, 2015, p.13).

تثبت قصّة “ريتشيل” أنّ الإنتهاكات التي تُمارس ضدّ النساء المُحتجزات في “مركز يارلز وود” يمكن تفسيرها على خلفيّة علاقات القوّة حيث يتبدّى التفوّق بحسب العرق، والإثنيّة، والطبقة، والدّين، والعامل الأكثر أهميّةً الجندر. بالإضافة إلى ذلك، فقد تلاشي الأفق تماما إذ كان المركز يشكل كمكانٍ معزولٍ بواسطة القوّة. إنّ إدانة العنف ضدّ النساء والإعتقال غير العادل يشكلان حجّةٍ تتّسم بالصّواب السياسيّ. لكن علينا أيضًا مساءلة المعنى الكامن في تلك الانتهاكات، وللقيام بذلك، علينا تذكّر تحذير “إيلا شوحط” من أنّ “الاحتفاء بالتوفيقيّة والهجنة في حدّ ذاتهما، إن لم يُصغ بالتزامن مع طرح الأسئلة عن الهيمنة وعلاقات القوّة النيو-كولونياليّة، فإنّه يجازف بالظّهور كأنّه يكرّس للعنف الإستعماريّ” (Shohat, 1992, 109). هل يمكننا المجازفة بقبول حضور “علاقات القوّة النيو- كولونياليّة” في هذا السّياق؟ هنا، يمكن لفهم المكوّنات الخارجيّة للأفق أن يدفع بالنقاش إلي الأمام.

في توليفةٍ غوغائيّة، من المحتمل جدًا أن يفضي اشتداد العوامل الإجتماعيّة – الإقتصاديّة، والعرقيّة، والسياسيّة والإثنيّة إلى جعل المساحة الجديدة “قوّةً نيو-كولونياليّةً،” مع وجود مفهوم الشّمول –الاستبعاد في قلب المشهد. ومصطلح “مساحة” لا يعني المكان، أي المركز، بل كلّ المحاور الجيوسياسية التي تؤلّف مجتمعًا معيّنًا، وحيث تُستحضَر أسئلة القوّة. المساحة “ليست جوهرًا جامدًا أو فارغًا، بل هي بالأحرى التنظيم المساحيّ للمجتمعات البشريّة، والمعاني الثقافيّة والمؤسّسات التي تُنتَج تاريخيًا ومن خلال مواقع مساحيّةٍ محدّدة” (Friedman, 1998, 109). إذًا، تشكّل المساحة الجيوسياسية الأفقَ الخارجيّ حيث تُحتجَز النساء. المركز بكلّ نشاطاته، ليس مجرّد مساحةٍ بل هو أيضًا نتيجة الخطاب اليمينيّ الحاليّ الذي يصِم المهاجرين/ات على نحوٍ طائشٍ وخطير. وبقدر ما يتّسم هذا الأمر بالخطورة، فإنّ تحويل أجساد النساء إلى مساحةٍ يتجسّد فيها الخطاب لهو أمرٌ كارثيّ بالقدر ذاته. لمزيدٍ من التحديد، تصدّرت أجسام النساء المشهد – وإن محتجزةً – كوسيطٍ يتفجّر اللّقاءُ بقوّةٍ من خلاله. إنّ الخطاب الذي يضع النساء في وضع المشمولات – المستبعدات – والذي هو في حدّ ذاته جزءٌ من نظام التمثيل – قد ساهمَ بدرجةٍ عاليةٍ في إخراج هذه الأزمة إلى الضّوء.

للأسف، سقطت بعض الحركات النسويّة الأوروبيّة في فخ الثنائيات القطبية التي ازدهرت بفعل الشعور الوطني، وهي حقيقةٌ دفعت بـ”إِنغا إنغولفسن” (Inga Ingulfsen) إلى طرح سؤالٍ مفارق: “لماذا لا تُجادل النسويّات الأوروبيّات ضدّ اليمين المناهض للهجرة؟،” مجيبةً بأنهنّ “يواجهن ضغطًا هائلًا من الغواية المزدوجة للأصوليّة الثقافيّة والنسبيّة الثقافيّة،” وموصيةً بما يلي:

حان الوقت لصياغة حركةٍ مختلفةٍ وأكثر شمولًا، حركة لا تخشى الانخراط في حواراتٍ صعبةٍ عن الثقافة. إنّ التخلي عن التعدّدية الثقافيّة ومغازلة اليمين المتطرّف لن تحقّق سوى تكريس مفهوم أنّ النسويّات الأوروبيّات يرين المساواة كامتيازٍ ثقافيٍّ حصريٍّ لهنّ، وإذا كان التاريخ قد علّمَنا شيئًا، فهو أنّه حين تفشل النسويّة في أن تكون شاملةً وتقاطعيّةً، يُستَولى عليها بسهولةٍ من قبل القوى السياسيّة المحافِظة، وتُستعمَل لشرعنة السّياسات التمييزيّة (Ingulfsen, 2016).

إفتُتِح “مركز يارلز وود” في العام 2001، وأشرفت شركة “سيركو” على تشغيله بالتعاقد مع وزارة الداخليّة البريطانيّة منذ العام 2007. و”سيركو” هي شركةٌ عالميّةٌ ربحيّة توفّر مجموعةً من الخدمات من بينها إدارة السّجون ومراكز الإحتجاز. وبعد تصفّحٍ سريعٍ لموقعها الإلكترونيّ (www.serco.com)، يبدأ المرء بالاقتناع بأنّ الشّركة “تحوم حول العقود الحكوميّة الخارجيّة” بحسب وصف “جون هاريس” (Harris, 2013). هي المرادف للقضيب الرمزيّ الذي يعمل عمل “الدّال الذي يهدف إلي تعيين تأثيرات المدلول بالإجمال” (1996, 77). النساء كـ”مدلولٍ،” أصبحن “الآخر” اللّواتي يمنح موقعهنّ للذّاتَ الذكريّة – أي الحرّاس – درعًا يمثّل “القوّة النيو – كولونياليّة”. في تلك اللّحظة، غدت أجساد النساء موقعًا لمعارك كلّ المشمولين/ات – اللّا مشمولين/ات، بحسب ما تحدّده القوّة. بطريقةٍ ما، ترمز النساء إلى جسد الدّولة الهامشية: تعتبر النساء عادة حاملاتٍ رمزيّاتٍ للأمّة، لكنهنّ يُحرَمن من أيّ علاقةٍ مباشرةٍ بالفاعلية الوطنية” (Anne McClintock, 1997, 90). هكذا يُستعاد الإرث الكامل للإستعمار.

أيّ نوعٍ من الهجنة يمكن أن يحدث ضمن إطارٍ إستقطابيٍّ كهذا؟ بالطّبع، يبدو نوع الهجنة الذي يحكم الوضع برمّته بين شركة “سيركو” والنساء المُحتجَزات اقتصاديٌّ بحت (الدّافع الأصليّ للإستعمار). وفي الوقت ذاته هناك بعدٌ جيوسياسي لا يمكن تجاهله، وهو أنّ الهجرة وعبور الحدود يحدثان في لحظةٍ تاريخيّةٍ معيّنةٍ تنزع أيّ توازنٍ بين الجذور والمسارات من جهةٍ، وتجرّد المهاجر/ة من أيّ مواطَنة من جهةٍ أخرى. هكذا، تذهب أدراج الرّياح توقّعاتُ وتنظيرات “جيمس كليفورد” (1992)، و”هومي بابا” (1994)، و”ستيوارت هول” (1990)، و”بول غيلروي” (1992) و”أرجون أبادوراي” (1996)، نظرًا لتحويل الجسد الأنثويّ في “المركز” إلى موضع صدامٍ وتجاوزٍ وعدائيّة. وإذ يُحوّل الجسد الأنثويّ إلى ساحةٍ تُنقش عليها الإختلافات، فإنّ مفهوم الهجنة المُحتفى به والمسّلّم به، ومعه كل بديهيّاته، يصل إلى مأزق. الهجنة كمفهومٍ ليس “مُحتفًى به ولا متميّزًا كنوعٍ من أنواع الذكاء الثقافيّ المتفوّق بفضل ميزة البينيّة (in-betweenness)، أي لقاء ثقافتَين والقدرة الناتجة على مفاوضة الاختلاف” (Hoogvelt, 1997, 158). الأفق مسدودٌ، حتّى وإن فُتِح مجدّدًا عبر تحقيقاتٍ رسميّةٍ في أيٍّ من حالات الإعتداء الجنسيّ.

 

المأزق مقابل المخرج

لقد أعاد المشهد المحموم للهجرة القسريّة إلى الواجهة مسألة الهويّة في تجلّياتها الأكثر كلاسيكيّةً: التماثل والاختلاف. فقد أنتج كلٌّ منهما الآخر بدون أي تفاعل حقيقي. في خلال العقدَين الماضيَين، دارت نظريّة، أو بالأحرى نظريات ما بعد الإستعمار حول مفاوضات الهويّة ونقل المفهوم المعرفيّ الأحادي للقوّة إلى مساحةٍ متّسمةٍ بالتعدّدية، حيث يمكن لأشكالٍ جديدةٍ من المواطَنة أن تزدهر. إلا أن الفشل المفاجئ وغير المتوقّع لأنظمةٍ عدّةٍ في العالم الثالث، أدّى ليس فقط إلى أزمةٍ إقتصاديّةٍ، بل إلى إهمالٍ صارخٍ لحقوق الإنسان العالميّة. وبينما يمكن سماع أصواتٌ ديموقراطيّةٌ كثيرةٌ ترفض كافّة التدابير ضدّ المهاجرين/ات، وتعمل جاهدةً من أجل التخفيف من حدّة ضبط الحدود ومراقبتها، مازال الخطاب المضادّ محتفظًا بقوّته لكونه يوظّف حجّة الأزمة الإقتصاديّة وضبط الأمن في تدعيم منطقه. بالتالي، ينجم عن ذلك رفض الإختلافات وإغلاق الحدود الماديّة والرمزيّة. وهي نتيجة تقف علي الطرف المناقض لما نادي به روبرت يانج (1995) عن الهجنة التي “حيثما برزت، تطرح استحالةَ الجوهرانيّة” (26). وفي ظلّ إعادة حفر ترسيخ الحدود – مُراقَبةً ورمزيّة – تغدو الهجنة، أو بالأحرى “حديث – الهجنة” (Friedman, 1998, 92) مجرّد ممارسةٍ خطابيّةٍ غير فاعلةٍ، تخفي مشروعًا سياسيًا مهيمِنًا جديدًا يُعاد فيه ترسيم خرائط الحدود وترسيخ علاقات القوّة.

بالطّبع، يدفع الرجال والنساء ثمنًا باهظًا في مثل هذه الأزمات العالميّة. لكن النساء يدفعن دومًا ثمنًا مضاعفًا على أساس الخلط ما بين الجنس والجندر. لقد كشفت الأزمة، من بين ما كشفته، أنّ النساء مازلن يُعتبَرن حاملات مؤشّر الهويّة، بحيث يغدو الجسد ساحةً تُسجّل عليها كافّة الموقف. وواقع أنّ كون الإختلافات والنزاعات وعلاقات القوّة برمّتها تُسنّ على أجساد النساء عند الحدود وما بعدها، يُثبت أنّ على نظريّة ما بعد الإستعمار البدء بعمليّة تقييمٍ ذاتيّةٍ، وربّما نقدٍ ذاتيّ. تبرهن سرديّة النساء المُحتجَزات في “مركز يارلز وود” عجز نظريّة ما بعد الإستعمار كمقاربةٍ تحليليّة. تبدو النظريّة في حاجةٍ ماسّةٍ إلى مراجعة الأشكال الجديدة من الحركيّة التي ظهرت نتيجة الرأسماليّة العالميّة، التي بدورها حوّلت اللاجئين/ات إلى لا موجودين/ات، وإلى مواطنين/ات مشمولين/ات – مستبعدين ومستبعدات في وضعٍ لامتناهٍ من الركود الخامل. وإذ تقع مسؤوليّة التفاعل مع النظريّة على أقسام الإنسانيّات الأكاديميّة، من الهامّ جدًا أيضًا إيجاد مقاربةٍ بديلةٍ للأزمات الحاليّة، وإلا ستُحال نظريّة ما بعد الإستعمار التي لطالما عملنا بها إلى مجرد مرحلة في تاريخ أفكار ما بعد البنيويّة، وستُستذكر فقط ضمن جدران قاعات التدريس. ما نشهده اليوم هو مأزق نظريّة ما بعد الإستعمار، يبرز في هيمنة الرّفض وغياب المُثاقفة. أما المخرج، فيتطلّب إعادة نظرٍ ومراجعةٍ عابرةٍ للنظريّة الثقافيّة ولدراسات الهجرة.

 

  • 1. “نساء من أجل النساء اللاجئات” هي منظّمةٌ غير حكوميّةٍ مركزها المملكة المتّحدة، تجابه الظّلم الذي تختبره النساء اللّواتي يعبرن الحدود بحثًا عن الأمان. لقراءة وصفٍ مفصّلٍ لعمل ونشاطات المنظّمة، تمكن زيارة الموقع الإلكترونيّ الخاصّ بها:
    www.refugeewomen.co.uk
  • 2. في أقسام اللّغات في مصر، ولاسيّما في أقسام اللّغة الإنكليزيّة، بعض جوانب نظريّة ما بعد الإستعمار كالهجنة، والمقاومة، والتحوّل والاستيفاء من بين مفاهيم أخرى، تُعتمَد بأسلوب النسخ واللّصق بغرض استخلاص التحليلات الأدبيّة لعددٍ من الروايات والقصائد والمسرحيّات المكتوبة بالإنكليزيّة. ومازال علينا انتظار مقترح أطروحةٍ يُسائل صلاحيّة هذه الجوانب في القرن الواحد والعشرين.
  • 3. إفتُتح “مركز يارل وود” في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2001 (بعد شهرٍ من هجمات 11 أيلول/ سبتمبر). وعلى الرغم من تسليم إدارة المركز في العام 2007 إلى “سيركو” (Serco)، وهي شركةٌ نيو- رأسماليّةٍ بامتياز، إستمرّ المركز في كونه مكانًا إشكاليًا. لسخرية القدر، بينما يعتبر المركز نفسه “مركزًا سكنيًا مضبوطًا تمامًا يحوي نساءً راشداتٍ وأسرًا راشدةً في انتظار التصريح بالهجرة،” هو في الواقع مركز احتجازٍ. لمزيدٍ من التفاصيل عن المركز، تمكن زيارة الموقع الإلكترونيّ الخاصّ به:
    www.yarlswood.co.uk
  • 4. إنّ مفهوم الذّات/ الآخر واسع الاستخدام، وقد غدا ثنائيّةً شائعةً في حقل سياسات الهويّة. لكن هذه الثنائيّة لا تدلّ فقط على الغيريّة بل تعزّزها، بحيث يُضفى الإمتياز على أحد طرَفَي الثنائيّة. أما استخدام الذّات والذّوات الأخرى بدلًا من ذلك، فيدلّ على الإنصاف ويمنح الطرفَين ذاتيّةً مستقلّة.
ملحوظات: 
المراجع: 

Alderman, L. (2016, 10 April). “Macedonian Police Use Tear Gas to Stop Migrants at Border.” The New York Times. Retrieved from URL: http://www.nytimes.com/2016/04/11/world/europe/macedonia-greece-migrants-refugees.html

Anzaldua, G. (1987). Borderlands/La Frontera: the new mestiza. San Francisco: Aunt Lute Book Company.

Appadurai, A. (1996). Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. University of Minnesota Press, Minneapolis.

Ash, T. G. (2015, 29 November). “Europe’s walls are going back up: it’s like 1989 in reverse.” The Guardian. Retrieved from URL: https://www.theguardian.com/commentisfree/2015/nov/29/europe-2015-walls-1989-paris-refugee-crisis

Ashcroft, B., Griffiths, G., and Tiffin, H. (2000). Post-Colonial Studies: The Key Concepts. (2nd edition). London: Routledge.

Ashcroft, B. (2001). Post-Colonial Transformation. London & New York: Routledge.

Badiou, A. (2009). Logics of Worlds: Being and Event II. (Alberto Toscano, Trans.). London: Continuum.

Bauman, Z. (2000). Liquid Modernity. London: Polity.

Bhabha, H. K. (1994). The Location of Culture. London, Routledge.

—. (1996). “Cultures in Between,” in S. Hall and P. Du Gay (Eds), Questions of Cultural Identity. London, Sage Publications.

—. (2006). “Cultural Diversity and Cultural Differences,” in B. Ashcroft, G. Griffiths, and H. Tiffin (Eds.), The Post-Colonial Studies Reader (pp. 155-157). New York: Routledge.

Clifford, J. (1992). “Traveling cultures,” in L. Grossberg, C. Nelson, and P. Treichler (Eds.), Cultural Studies (pp. 96-116). London: Routledge.

Erni, J. N. (2015). “Citizenship Management: On the Politics of Being Included-out.” International Journal of Cultural Studies, 18(2): 1-18. DOI: 10.1177/1367877915573772

Friedman, S. S. (1998). Mappings: Feminism and the Cultural Geographies of Encounter. Princeton, New Jersey: Princeton University Press.

Gilroy, P. (1993). The Black Atlantic: Modernity and Double-Consciousness. Cambridge: Harvard University Press. .

Hall, S. (1990). “Cultural identity and diaspora,” in J. Rutherford (Ed.), Identity: Community, Culture, Difference. (pp.155-157). London: Lawrence and Wishart.

Harris, J. (2013, July 29). “Serco: the company that is running Britain.” The Guardian. Retrieved from URL: https://www.theguardian.com/business/2013/jul/29/serco-biggest-company-never-heard-of

Hoogvelt, A. (1997). Globalization and the Postcolonial World: The New Political Economy of Development. Baltimore: The John Hopkins University Press.

Ingulfsen, I. (2016, February 18). “Why aren’t European feminists arguing against the anti-immigrant right?” Open Democracy. Retrieved from URL: https://www.opendemocracy.net/5050/why-are-european-feminists-failing-to-strike-back-against-anti-immigrant-right

Lacan, J. (1966). Ecrits: A Selection. (Alan Sheridan, Trans). New York: W.W. Norton & Co, 1977, 77.

Marcus, S. (1992). “Fighting Bodies, Fighting Words: A Theory and Politics of Rape Prevention,” in J. Butler and J. W. Scott (Eds.), Feminists Theorize the Political. London and New York: Routledge.

McClintock, A. (1997). “‘No Longer in a Future Heaven’: Gender, Race, and Nationalism,” in A. McClintock, A. Mufti, and E. Shohat (Eds.), Dangerous Liaisons: Gender, Nation, and Postcolonial Perspectives (pp. 89-112). Minneapolis: University of Minnesota Press.

Mohanty, S. P. (1989). “‘Us’ and ‘Them:’ On the Philosophical Bases of Political Criticism.” Yale Journal of Criticism 2.2. pp. 1-31.

Ohtani, E. (2014, December 15). “Detention Knows No Borders.” Open Democracy. Retrieved from URL: https://www.opendemocracy.net/5050/eiri-ohtani/detention-knows-no-borders

—. (2015, March 3). “Immigration detention: ‘expensive, ineffective and unjust.’” Open Democracy. Retrieved from URL: https://www.opendemocracy.net/5050/eiri-ohtani/immigration-detention-expensive-ineffective-and-unjust

Pratt, M. L. (1992). Imperial Eyes: Travel Writing and Transculturation. London: Routledge.

Puhl, J. (2015, 15 September). “Fortress Hungary: Orban Profits from the Refugees.” Spiegel Online. Retrieved from URL: http://www.spiegel.de/international/europe/viktor-orban-wants-to-keep-muslim-immigrants-out-of-hungary-a-1052568.html

Shohat, E. (1992). “Notes on the Post-Colonial.” Social Text 10:2-3 (31-2). pp. 99-113.

Women for Refugee Women (2014). Detained.

—. (2015). I Am Human.

Young, R. J. C. (1995). Colonial Desire: Hybridity in Theory, Culture and Race. London: Routledge.