انفجار بيروت: 4 آب 2020
قامت بترجمة المقال من الفرنسية إلى الإنكليزية سينتيا هان كما قامت بترجمة الرسالة شيريل تومان.
the_fire_helps-page-001.jpg
كنت أنا وعمّتي ملكة التي تبلغ من العمر 90 عامًا، وتيزتو العاملة الإثيوبية نقف على الشرفة وننظر إلى مرفأ بيروت. كان برفقتنا أيضًا ابن أخي دانيال الذي كان قد وصل للتو من الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن أنهى تدريب الاطفائي-المسعف، وجوني العامل الذي يقوم بالتصليحات في منزلنا. لحسن الحظ كانت صديقتي جوجو قد غادرت إلى منزلها مع الوسادات الجميلة التي تقوم قريبتها بتصنيعها، وهي تقوم ببيعها لكسب القليل من المال. كانت الساعة السادسة مساءً.
سمعنا دويّاً؛ ومن ثم صعد دخان رمادي داكن وانتشر فوق المرفأ. عندما بدأ يصل الدخان إلى الشرفة قلتُ لعمّتي إنّه من الأفضل لنا أن ندخل إلى المنزل، وأجلستها على كرسيها المفضّل الموضوع بين نافذتين محميّتين بحائط. لم أكن أعلم في تلك اللحظة أنني بذلك كنت أنقذ حياتها.
استمرّ الدخان باختراق المنزل فذهبت لأغلق النوافذ. بدأت بإغلاق نافذة المطبخ المواجهة للمرفأ. عند الساعة السادسة وسبع دقائق، كنت أغلق باب شرفة أخرى في المطبخ. وما إن مشيت نحو باب المطبخ الذي يؤدي إلى الممرّ والغرف الأخرى، حتى أسقطني الانفجار فجأة ورماني أرضًا فارتطم رأسي بالأرض وسط ضجيجٍ مدوٍّ.
صوت الصراخ، والدخان الأسود وأجزاء قِطَع من هيكل الألمنيوم وآلاف نثرات من زجاج النافذة المحطّم تناثرت. كل شيء تساقط فوقي.
أنا ميتة...
فجأة بدأت أستذكر المشاعر التي انتابتني بينما كنت أحضّر لعودتي من باريس إلى لبنان. حينها تملّكتني مشاعر من الألم، حتى أنني كتبت وصيّتي. شعرت بالاكتئاب وكأنني كنت متّجهة نحو حتفي. لطالما كنت أشعر بنوع من الخوف والقلق لدى عودتي إلى لبنان إلا أن الشعور هذه المرة كان أقوى. وكأنّ خطرًا مُحدقًا ينتظرني بينما كنت أوضّب حقائبي. وهناك على الأرض، شعرت بنهاية حياة من الصراع... سيكون هناك انفجار آخر، وستكون النهاية... وأخيرًا، الصمت، الراحة.
"قومي، انهضي، إيفلين، قومي إيفلين…" هكذا علا صوت جوني فوق صراخ تيزتو التي تأذّت بشدّة وكانت تنزف من كلّ مكان. كان صوته يناديني، يصرخ إليّ. إذًا أنا لست ميتة بعد كل هذا. الانفجار الآخر لم يحدث بعد...
زحفت نحو نثرات الزجاج التي ملأت الأرض، بينما أعماني دمي المالح والساخن الذي يقطر في كل مكان، خاصة من عين واحدة. كانت أسناني تؤلمني. وكنت أتنفّس بصعوبة بينما كنت أحاول الجلوس.
إذًا أنا لست ميتة؟ وَرَد إلى ذهني العمل الفلسفي "في مديح المخاطرة" (Éloge du risque) من تأليف آن دوفورمنتيل1. لماذا هناك وفي هذه اللحظة بالذات؟ شعرت بأنني مندفعة مع شعور قوي بالانتصار والتغلّب على الموت، وكأنني كنت مخدّرة بقوة خارقة للطبيعة.
عليّ أن أوقف النزيف. توجهت وتيزتو نحو المغسلة وغسلنا عنّا السائل السميك الذي كان يقطر من رأسنا. تمسّكنا ببعضنا الآخر واحتضنّا بعضنا.
سمعت صراخ عمّتي: كانت قد رُميت على درج خشبي عليه بعض من الزجاج والنفايات. تدمّرت المصاعد، تخلّعت الأبواب ولوحات الألمنيوم ملتوية. نحن في الطابق الثامن. ابن أخي كان يحمل امرأة من الطابق الأعلى كانت قد خسرت ساقيها. ثم عاد ليأخذ عمّتي التي رفضت أن ترحل. طلب مني جوني أن أجمع كل أوراقي وأموالي وممتلكاتي الثمينة وأضعها كلها في حقيبتي. أذنه مقطوعة. كان جوني وابن أخي يصوّران المأساة من غرفة أخرى من أجل خطيبة جوني التي كانت في الجبل. لقد نجا كلاهما لاحتمائهما بالستائر الكثيفة التي آوتهما وحمتهما كالكفن من الموت. عمّتي أيضًا احتمت بالحائط الموجود بين النافذتين اللتين تحطّمتا، وبمعجزة، مرّت قذائف في غرفة الجلوس فوق رأسها. أخبرتها أين وضعتُ أموالَها وأوراقَها. لم تُرد أن يحملها ابن أخي، وكان عليه إجبارها على ذلك وحملها على ظهره لينزل بها على الدرج. سمعتها تصرخ طالبةً أن تبقى في منزلها بينما كان ينزل بها على الدرج المغطَّى بالركام والزجاج المحطّم، وعمّتي النحيفة مثنية إلى نصفين على ظهره.
تشبّثتُ بتيزتو بينما كنّا ننزل الطوابق الثمانية، متمسّكين ببعضنا بينما كان الدم يسيل في كل مكان عندما كان الزجاج يتفقّع تحت أقدامنا. استغرقت رحلة النزول الأبدية... شعورًا بالسعادة كوننا ما زلنا أحياء... وحين وصلنا إلى الطابق السفلي، وجدنا أن زوجة الناطور قد أُصيبت بشدّة، وزوجها بالقرب منها يطلب منّا المساعدة... هل نستطيع أن نصل إلى مستشفى؟ ماذا علينا أن نفعل؟ كنت أود أن أساعدهم كثيرًا لكنني كنت عاجزة عن ذلك. بالكاد أقدر أن أقف على رجليّ. كنت أتحرّك مثل الزومبي. كانت الأجواء تُنذر بخطرها. خِفت أن يكون هناك انفجارات أخرى. لم أدرك تمامًا الخطر الذي عشناه. ظننتُ أن عمارتنا هي الوحيدة التي تأذّت. شعرت وكأنني وحيدة في هذا العالم رغم وجود الضحايا من حولي.
في هذه الأثناء كان ابن أخي دانيال قد أدخل عمّتي ملكة إلى سيارتي المضروبة والتي تحوّلت نوافذها إلى آلاف من القطع الزجاجية، وسقفها تعرّض لضربة قوية والمرايا مُمزقة. كيف استطاع دانيال أن ينظّف المكان الذي أجلس فيه عمّتي المنكسرة. من ثم لاحظت أنه انتزع السجادة ووضعها على المقعد لكي يحمينا. ثم بصعوبة جلسنا أنا وتيزتو بينما الزجاج يثقبنا ويحفر في جلدنا المُتشقق. واستطاع ابن أخي أن يشغّل السيارة، بمعجزة! لا أعلم كيف استطاع أن يقطع الشوارع التي كانت تزدحم بالسيارات، ويعلوها عويل الناس، وجَمع غفير من الناس يلوّحون بينما يحملون أطفالهم وشيوخهم إمّا على ذراعيهم أو على ظهورهم.
الوضع خطير. علِمنا للتو أن المستشفيات القريبة قد طالها الانفجار وتدمّرت. أي طريق سلكه جوني؟ أين علينا أن نذهب؟ في هذه الأثناء، اتصل ابن أخي مارتن بدانيال وأوصاه بأن يأخذنا إلى مستشفى في الجبل بالقرب من منزلنا العائلي. ثم رأينا جوني في سيارته وأذناه النازفتان تحتاجان إلى تقطيب. أكّد لنا أن أفضل حلّ هو أن نذهب إلى الجبل. كان مازال حجم الكارثة غير معلوم بعد. هواتفنا بالكاد تعمل. لم أعلم كيف استطاع ابن أخي أن يجتاز الطريق بشكل مُتعرّج بين السيارات ليصل بنا إلى الجبل. وإذ برياح دافئة ورطبة تضرب وجوهنا من خلال السيارة الخالية من النوافذ. أخذت نفسًا عميقًا وكنت فرحة بأنّي ما زلت على قيد الحياة، ومندهشة بأننا نجونا من المأساة التي لم نكن نعلم حجم أضرارها حتى تلك اللحظة.
فور وصولنا إلى طوارئ المستشفى تفاجأنا بالصف الطويل للجرحى الذين ينتظرون دورهم. ربما قرَّروا أن وضعي سيِّئ فأدخلوني أنا وتيزتو حيث انفصلت هي عنّي لاحقًا. أما بالنسبة إلى عمّتي فقد اختفت... لكن لاحقًا اطمأنيت عليها من خلال ابنة أخي سيسيل التي سارعت إلى غرفة الطوارئ مع أفراد من العائلة واهتمّت بها. ثم وجدني جوني ودانيال في إحدى ممرّات المستشفى حيث كنت أتلقّى الإسعافات الأولية من خلال تضميد جراحي لوقف النزيف. فقال لي جوني إنه سيذهب إلى مستشفى بالقرب من منزله لكي يقوم بتقطيب أذنه. وابن أخي دانيال أخذ الحقيبة لوضعها في مكان آمن وذهب ليستحم ويستريح في منزل شقيقة خطيبته الذي يقع بالقرب من المستشفى. والمرأة الجريحة التي كانت تجلس على كرسي بالقرب مني، كانت تتذمّر وتئن بشكل مستمر... لم أعرف كيف أتصرف. إنني أحاول مُهاتفة أصدقائي لكن هاتفي لا يعمل. الوقت يمرّ ببطء وأنا مُرهقة.
لماذا فكّرت في آن دوفورمنتيل مرّة أخرى؟ هذه الطبيبة النفسية كانت امرأة استثنائية وعلّمتني الكثير وقد اشتقتُ إليها كثيرًا، والتفكير فيها يمنحني القوة. إن كلمات آن: "المخاطرة هي دفع الذات نحو سياق جديد ومجهول. سياق ينقسم فيه الزمن إلى اثنين: الزمن الماضي والزمن الجديد. دائمًا ما تلعب الصدفة دورًا في تلك اللحظات. إنها المخاطرة، أي خسارة ما كنّا عليه سابقًا، عند نقطة اللاعودة". أنا على يقين أنني دخلت مرحلة في حياتي ستزعزع كل شيء. طبيبتي النفسية الرائعة دوفورمنتيل قد توفيت بينما كانت تخاطر لتساعد غيرها. بالنسبة لي، لقد نجوت... شعرت ببزوغ فجر جديد من الأزمة الصحية البالغة التي تسيطر عليّ.
ثم يظهر ابن أخ آخر، مارتن، برفقة زوجته ناديا، وقد اعتنيا بتيزتو التي تعرّضت لجروح بالغة. وجود مارتن أراحني. لطالما أُعجبت بأسلوبه الجاد، وكلماته الحريصة وتحليلاته وإسهاماته المدروسة. هو يتمتع بشخصية المفكّر، والمشارك بفعالية، صفات قلّ وجودها في الأكاديميا... كان ليكون لديّ ابن مثله... لا يتكلّم إلّا لأسباب وجيهة وهو جدير بالثقة. زوجته ناديا، جميلة ورصينة وتعرف الكثير من الأطباء في المستشفى. قبل أن تذهب لرؤية تيزتو طلبت من الأطباء أن يعتنوا بي بشكل سريع لأنني كنت أنزف وكنت أبدو شاحبة. لكن كل الغرف كانت مشغولة. فتقدّم إليّ بعض الأطباء وقاموا بتضميد جراح رأسي في إحدى الممرّات التي أصبحت غرفة مستشفى مؤقتة. قاموا بتقطيب جروحي من دون مخدّر. لحسن حظي أني كنت مخدَّرة بالألم والخوف. التقط مارتن بعض الصور وطلبت منه أن يقوم بتحميلها على الفايسبوك، مدركة أن البعض سيقلق عليّ... متخيّلة أن هذا القلق أخفّ من القلق الذي سبّبه اختفائي إلى الآن. بعدها عندما تمكّنت من دخول بريدي الالكتروني قرأت هذه الكلمات:
"عزيزتي إيفلين،
كانت الساعة 1:37 بعد الظهر بتوقيتنا و8:37 مساءً بتوقيت بيروت عندما أجابت بربرا على الهاتف.
مضت ساعة أو اثنتان دون إجابة. وأكّدت مونيك أنها لم تتلقّ إجابة على رسائلها. كل الذين أعرفهم في بيروت كانوا مفقودين... إلّا أنت. قرّرت أنا ومونيك تصفّح حسابات الفايسبوك التابعة لأفراد عائلتكر.في الواقع كان عليّ أنا أن أقوم بذلك، لأن مونيك لا تملك حسابًا على الفايسبوك… تلك كانت المرّة الوحيدة التي ندمَت فيها على قرار عدم فتح حساب هناك.
وها نحن على صفحة زوجة أخيك. لقد تأكّد الأمر. لقدأصبتِ... لكن لأي درجة؟ حمّلت بعض الصور من الفايسبوك وأرسلتها لمونيك عبر الواتساب... لم أكن أريد أن أكتشف ذلك لوحدي. أُصبنا أنا ومونيك بالذعر لأن الهلع كان باديًا من خلال الفايسبوك على زوجة أخيك ماري تيريزا وأخيك فيليب. التفصيل الوحيد الذي كنّا نبحث عنه أنا ومونيك كان مفقودًا. ظننا أن ذلك سيء للغاية. هل ما زلت حيّة؟ كان من الصعب أن نسأل هذا السؤال بصوت عالٍ.
هل فعلًا خسرناك؟ بلمح البصر؟ من دون أن يكون لنا الفرصة الأخيرة لنقول لك كم نحبك، بعد أن أضعنا لا أدري كم من السنين نبحث عن الكلمة الصائبة لنعبّر لكِ عن مكانتك لدي ... لدينا؟ فقط كلمة واحدة أو ربما كلمات كثيرة، لم أتمكن من إيجادها.
وأخيرًا... في منتصف الليل، عند الساعة السابعة صباحًا بتوقيت بيروت... وأخيرًا ثلاث صور لك وبضع كلمات مطمئِنة، إلا أن كل كلمة تساوي وزنها ذهبًا نظرًا لفداحة الحدث. اثنتان من الصور أظهرتا مدى شدّة إصابتك، إلّا أن الصورة الثالثة أظهرت الشرارة التي في داخلك، رغم أنك كنت مغطاة بالدم ورغم الصدمة والتعب اللذين كانا باديان عليك. أنا أتكلّم عن صورتك أنت وابن أخيك مارتن. كنت تبدين شابة في تلك الصورة... نعم، أنا أقول أنك تبدين شابة. اندهشت شخصيًّا. يقولون إن مأساة كهذه تُشيخ الإنسان... لكنني أقسم لك، أنظري إلى الصورة مرّة أخرى وستكتشفين ما أعنيه. شيء من الجمال، توهّج نابع من انتصار كبير. أعني ما أقول هكذا تبدين بالفعل. مازلتِ تتمتعين بابتسامة خافتة رغما عن كل ما حدث... ليست ابتسامة سعادة، بل ابتسامة المواجهة الحقيقية. لقد غلبت الموت وأكثر… هاتفتُ الجميع، في تلك الساعة المتأخرة (أو الوقت الباكر حسب مكان تواجدهم/هن).
"إيفلين حيّة"
الآن، حان دورنا نحن، أصدقاؤك. لدينا معايير عالية للإرتقاء إليها. ليس دورنا أن نسألك أن تعيدي لنا رواية الحادثة التي أرهبتنا للمرّة الألف. لا تدينين لنا بأي تفصيل لما تعرّضت له مساء ذلك اليوم من 4 آب في بيروت. لكننا سنكون جاهزين لنساعدك على تخطّي هذا الكابوس... نعم، سنكون متواجدين لنستمع إليك ويمكنك أن تقولي لنا ما شئت. لست مدينة لنا بشيء أكثر من ذلك. سنكون معك دائمًا لنصغي لما ستقولين لمجرّد أننا نحبك. لكن مع مرور الأيام أراك على طريق الشفاء. […] هناك غضب واضح يعمّ بيروت؛ وهذا السبب الرئيسي لكونك حيّة معنا اليوم... هذه فقط البداية.
مع كل محبتي،
شيريل"
هاتفي يرنّ، يا للمعجزة! إنها صديقتي العزيزة رولى:
- إيفلين، إن الناس يبحثون عنك، يحاولون الاتصال بك، يسألون عن حالك...
- لقد نجوت، عزيزتي رولى، أنا حيّة، لا يمكنني أن أوقف التفكير بـ 2L’éloge du risqué من تأليف آن دوفورمنتيل، هل قرأتها؟
إن الأدب خلاصنا، إنه منفذنا... ما زال لديك الكثير لتمنحيه للعالم. تقول لنا إعلينا أن نتقدّم: "لا يجب أن نخاف من التوجّه نحو المشاعر السلبية: الاتكالية، القلق، الحزن، الخوف ذلك لأنها حليفتنا، علينا أن نعمل على اكتشاف حدود ومناطق هذه المشاعر السلبية، علينا أن نواجهها ثم نعود إليها، وهذا ما يجعلنا نفرد أجنحتنا متّجهين نحو السعادة". تقول لنا آن دوفورمنتيل أن نجازف في حبنا وأن نبتعد عن الاتكالية.3
وتابعت رولى: "أرجو أن تتعافي عزيزتي إيفلين... سأتواصل مع كل الذين اتصلوا بي من فرنسا وأميركا لأطمئنهم/هنّ عليك وأقول لهم/هنّ إنك بخير، بل أكثر من ذلك إنّك تتحدثين بالأدب... سوف أعاود الاتصال بك حالما أتمكن من التواصل معهم/هنّ إذ إنهم/نّ قلقون/ات عليك".
إذًا، هل أنا ناجية؟ للمرّة الثانية: لقد سبق ونجوت من السرطان. هذه تجربة أخرى... سأتعافى على الرغم من رأسي الملطّخ بالدم وقطع الزجاج التي مزّقت جلدي في كل مكان، والدم الذي يسري فوق عيوني حتى يعميني، وبالرغم من الألم والمخاوف وكل معاناة الناس من حولي... أشعر وكأنني على تواصل معهم، أشعر أنني أنتمي أكثر إلى هذا البلد المجروح الذي تمزّق مجدّدًا (كنت لا زلت غير مدركة مدى قوة الانفجار)، والذي سحقته مسرحيات القوى العالمية، وتحكّم به رؤساء المافيا، وقادة حرب قد تحوّلوا إلى سياسيين طائفيين. أشعر بالغضب الشديد حيال أولئك الذي حكموا البلد بطريقة سيئة.
لكنني جزء من تركيبة هذا البلد. أحمله في قلبي. سنتعافى كلّنا... سنتّحد بوجه جميع اللاعبين المخطّطين، وبوجه الكراهية وبوجه الفيروس الذي يؤجّج الوضع، وبوجه القتل الهمجي، وبوجه الكارثة التي كان يتم التخطيط لها على مدى سنين. ما زلنا في حالة من الغضب وما زلنا في حالة من الثورة، لكن الأهم من ذلك هو أننا ما زلنا نتمتع بالحب والتعاطف والحنان...
أتت الممرّضات لإجراء مسح ضوئي لرأسي لكي يقمن بتقطيب الجلدة تحت عيني. لحق بهن مارتن فيما كان يدفع الكرسي المتحرّك الذي كنت أجلس عليه. وكانت زوجته ناديا تعتني بتيزتو التي كانت بحاجة إلى تقطيب في كل مكان. وقد خضعت تيزتو بينما كانت في ممر المستشفى إلى مئتي قطبة غرز. كم أنها شجاعة.
كنت أنتظر المسح الضوئي في الممر مع مُصابين آخرين. وكان أصدقاء أهلي وأخي الكبير يتّصلون بي لمعرفة أخبار العائلة. من المدهش أن ترى، مع مرور الوقت، روابط الصداقة بين الأشخاص الذين يعيشون في لبنان، والعلاقات التي تدوم على الرغم من اضطرابات الفوضى في أرجاء العالم. اشتدّت آلامي وطلبت مهدّئًا أو مسكّنًا للألم لكن لم يكن أيّ منها متوفّراً. كيف سأتحمّل ألم تقطيب الجلدة تحت عيني؟ أشعر بالإحباط.
رنَّ الهاتف للمرّة الثانية، إنها رولى: "كيف حالك الآن، إيفلين؟ لقد تمكّنت من التواصل مع الأصدقاء لأطمئنهم. وقد أرسلوا لك محبتهم وتمنياتهم بالشفاء. أصمدي إيفلين، اصمدي! نحن هنا بجانبك".
العزيزة رولى استطاعت أن تحدّثني عن كريستيان وجان كريستوف ومارك، كل الأصدقاء الذين استطاعت أن تتواصل معهم لتطمئنهم ولتدعوهم للبقاء بجانبي. يا لها من روابط صداقة قوية وسط الوضع المأساوي والأوقات العصيبة التي نعيشها.
نحن في منتصف الليل وما زلت أنتظر المسح الضوئي. وكان رأسي يؤلمني ولكن لم يعطني أحد مسكِّنًا. عادت ناديا إلى زوجها وطلبت من أحد الموظفين أن يعطني شيئًا لتخفيف الألم. وأخيرًا أعطوني جرعة من الباراسيتامول وأخضعوني للمسح الضوئي لتظهر النتيجة سلبية، إشارة جيدة إلى أنه لا يوجد أي إصابات في الدماغ.
تجاوزنا منتصف الليل، وما زال هناك الكثير من المُصابين يصطفون بانتظار تلقي العناية والخضوع لفحوصات. في هذه الأثناء رنَّ هاتفي، وبمعجزة، عاد الانترنت وسمعت صوت أخي فيليب من الولايات المتحدة وزوجته مري تيريزا. لقد أمرضه الخوف والقلق. وحاولت أن أطمئنه بأن العائلة كلها بجانبي وتدعمني في هذه الأوقات المأساوية والمؤلمة لي وللبنان. شعرت بتعاطفه حتى عن بُعد.
وضعني مارتن وزوجته على الأرض حيث أتت طبيبة عيون لطيفة للغاية لتفحصني وتعالج الجلد المتضرّر. هذه الطبيبة المتفرّغة كانت متواجدة منذ اندلاع الانفجار: جاءت من عيادتها بعد يوم طويل من المواعيد لتهتم بالمُصابين، حيث أن عددًا كبيرًا منهم قد فقدَ عينًا أو فقدَ بصره. وقد أكّدت لي أن هذا لا ينطبق على حالتي. ستبقى هذه الطبيبة هناك حتى ساعات الصبح الباكرة. وما كان مؤثر جدًّا هو وجود زوج الطبيبة بقربها ليدعمها. كان متواجدًا معها ومستعدًّا لمساعدتها ودعمها وسط مآسي المُصابين. لا أستطيع سوى أن أفكر مرّة أخرى كم أن الأشخاص الذين يعيشون في لبنان هم شجعان واعتادوا على مواجهة الجحيم والسيول الجارفة على مدى سنين. لمَ وُلدت في هذا البلد وليس في بلد آخر، ولِمَ على هذا البلد أن يعاني كثيرًا؟ كيف يمكن لشعب مضياف وذكي وشجاع أن يتعرّض للإرهاب والاضطهاد إلى هذا الحد؟ هذه الأسئلة مماثلة للأسئلة التي سألتها لنفسي حين أُصبت بالسرطان: "لِمَ أنا؟ ولمَ غيري ؟"
إنها الساعة الثانية صباحًا والمُصابون مع عائلاتهم مُلقَون الواحد فوق الآخر في ممر المستشفى. بحاجة إلى فحوصات أخرى. ويريدون أن يعطونا حقن الكزاز لكنها غير متواجدة. علينا أن نحصل على موافقة الطبيب لكي نستطيع أن نغادر المستشفى. بعد الساعة الخامسة صباحًا، جاء إيمانيويل برفقة سعيد وسيسيل مع ابنها ليأخذونا! مجدّدًا أنا متأثرة ومندهشة من أفراد عائلتي كبارًا وصغارًا، ممن حضروا ليقدِّموا لي كل الدعم الذي أحتاجه في المستشفى حيث أمضيت تسع ساعات طويلة في فستان ممزّق والدم المجمّد يغطيني وحطام الزجاج والدم المتخثر يملآن شعري وجسمي. هذه العائلة جاءت لكي تقدّم لي ولعمّتي الدعم المادي والنفسي والروحي. لم أكن لأتمكن من تخطي الصدمة لولا عائلتي وكل الاتصالات الهاتفية من قبل الأصدقاء وتعبيرهم/هنّ عن محبتهم/ن، ممّا جعلني أتخطى هذه المحنة. أود أن أشكرهم هنا...
هناك الكثير من الأسماء وأود أن أستذكرهم/هنّ: هوغيت التي غمرتني بإحساسها في اليوم التالي، حيث انتزعت كل قطع الزجاج الملطّخ بالدم من شعري، تلك الشظايا المتمرّدة التي استمرّت في إزعاج جلدي. ألينا اعتنت بجروحي وكان عليها أن تقلّني مجدّدًا إلى المستشفى لتقطيب جديد (هذه المرّة مع مخدِّر)، لأن رأسي كان ينزف. مونيك وجان بيار اتّصلا بي وتحدّثا إليّ بغصّة عن علاقة الصداقة القوية التي تربطنا سويًّا. اندريه وابنته رانيا أعارانا منزلهما الكائن في الجبل حيث شعرنا بالراحة، واستقبلانا بكل لطف وحنان؛ وابنه هادي أرسل لنا مبلغًا كبيرًا من المال لكي يغطي تكاليف التصليحات في المنزل. جورج وهلا كانا متواجدين كل الوقت لكي يشجعانا ويطّلعا على المستجدات. رولى انتقَت التعابير الصحيحة التي ساعدتنا على تجاوز المحنة. هيلين، قريبتي اللبنانية الرائعة؛ ماريا وإيفا وإليزابيث، صديقاتي من السويد؛ سيلفانا مُطمئنة ومُحبّة؛ حبيبي السابق جاي يتّصل يوميًّا من الولايات المتحدة الأميركية ليعبّر عن قلقه وحبه؛ أرماندا وبيث وجورج سيرّا وويليام وماري سيسيل وعزّة يتّصلون مرّات عدّة خلال الأسبوع ليسألوا عن المستجدات حول وضعي ووضع عمّتي؛ زهرة وريجينا ونيكولاس ودينا وجان كريستوف ينتظرونني على وجبة دافئة من الصداقة لدى عودتي؛ وفاء وسلمى ونورما وجانين وجان أيرلاند وإيفلين لافو وسيندي، مترجمتي الوفية والمُخلصة والحاضرة دائما رغم بُعد المسافة. زهري، سميرة وجهاد وعائلته، إيف ومانو وبيتينا وإيفلين كوكو؛ شيريل، التي كتبت لي الرسالة المؤثرة التي ضمّنتها في هذا المقال. ليلى ابنة أخي وابنتي؛ أمل، صديقتي التونسية المتواجدة في قلبي. كما أشكر النساء في منظمة "النساء بالفرنسية" (WIF) اللواتي كتبنَ رسائل دعم وأرسلنَ التبرّعات، ومن كنيسة العهد الجديد في شامباين (NCC)، اللواتي صلّين لأجلي وأرسلن التبرّعات. أشكر أختي جاكلين وزوجها فوزي اللذين صلّيا لي بشكل مستمر. الشكر موصول للمحرّرين الذين أعمل معهم، سبينيفيكس من استراليا ، والزملاء من مطبوعات لارماتان (Éditions L'Harmattan). أشكرهم/هنّ على رسائلهم/نّ الداعمة والمؤثّرة جدًّا. أشكر قريبتي نيكول وصديقتها ألسكندرا اللتين جاءتا خصيصًا من سويسرا لمساعدتي... كيف يمكنني أن أسمّيكم/نّ كلّكم/نّ؟
كيف يمكنني ألَّا أنسى اسمًا والأسماء كثيرة؟ كيف يمكن لأحد أن يفرّط بأي رابط صداقة حول العالم، والروابط تلك هي التي قد تسمح للبشرية بالبقاء على قيد الحياة.
ملهَمة وملهِمة، محبوبة ومحبة، إن هذه الكلمات قاصرة عن وصف آن دوفورمانتيل الفيلسوفة والمحللة النفسية، توفيت في في21 تموز/ يوليو 2017، أثناء قيامها بإنقاذ عدد من الأطفال من الغرق. كانت تتمتع بالقدرة النادرة على مزاوجة الفعل على الأرض مع خطاب لبق. عندما نشرت كتاب في مديح المخاطرة (Eloge du risque [Manuels Payot])، كتبت الصحفية دانييل لوفر هذه المقابلة الجميلة لمجلة بريما (Prima).
- 1. "المخاطرة دليل دامغ على الشجاعة والحرية". تكريمًا لـ آن دوفورمانتيل، من مقابلتها الجميلة: في مديح المخاطرة (L'Eloge du risque)
- 2. ترجمة عنوان الكتاب: في مديح المجازفة
- 3. Dufourmantelle, Anne. Éloge du risque. Payot et Rivages, 2011 (https://www.babelio.com/livres/Dufourmantelle-loge-du-risque/253675).