الحديث عن الجنس كضرورة
أنا لا أضاجع. ليس بعد الآن. ليس في كثير من الأحيان على الأقل. ليس مع معيارية غائيّة دخول وخروج أو صعود وهبوط، ببطء، بحسّية، بشكل مسعور. ليس عندما يتطلّب ذلك عفوية وانعدام التّوقع، مثل عاصفة رعدية مفاجئة في حرارة أغسطس، يكاد يكون حادثا. ليس عندما تُلخّص الأجساد التّي تلمس، تقرص، تصفع، تجرّ، تسحب، تضغط، تلك التّي تؤذي وتتأذّى، عندما تُلخّص العقول التّي تحقّق، تستفسر، تُخرّب وتلتهم، إلى تحسينات ملتوية لجماع إجباري. أنا لا أضاجع رغم رغبتي في المضاجعة – رغبة تُخفّف حتمًا إلى شعور عامّ من الانزعاج غير المُلزم بعد رهزتين هزيلتين، عندما يصبح اشباعها يقينًا. أنا لا أضاجع ولكنّني أمارس الجنس. تفاعلات جنسيّة أخطّط لها وأتفاوض عليها – إذ لست من متحمّسات “مفاجآت” – بنفس الدقة التي يتطلّبها تحرير نصّ. أنا أُثار بـ/ (على) التفاصيل.
جنسى ليس راديكاليّا.1 هو ليس تخريبيّا، على الرّغم من عدم تلقّيه للاحترام. هو ليس كذلك عندما تُصبغ بالاكزوتيكيّة، عندما يُنتج كعلامة تقدُّمٍ أو كتمظهر جريء يُشاد به – لا وجود لشيء ثوريّ عن موقعي، إلّا في الخيالات التّي ترى العالم في ثنائيات. ليس عندما تتلقّفه مخاوف مُشفقة لأولئك/تلك الذّين/اللّواتي يريدون/ن إنقاذي من رغباتي، أو عندما تقابله غبطة الذّين/اللّواتي يسيل لعابهم/نّ لاحتمال تطبيبه بالكاد مخفيّة، أو هزء الذين/اللّواتي يسعون/ين إلى النّأي بأنفسهم/نّ عن انحرافاته القذرة. وليس حتّى عندما أسمح لنفسي بالتّفوّه عرضا أنّني “على دورتي الشّهريّة” أو أنّ “فحص المسح المقرّر أجله قريب” في تجمّع عائلي، تحت النّظرات المرعوبة والصامتة للحضور.
تروق لي تسلية نفسي من خلال تخيّل إلى أيّ مدى سأسقط خارج خطّ الجنس المحترم لـِ غايل روبين،2 المتجسّد في هيكل مفروض لجدار من الطوب. تذكّرنا بصريّته الواضحة بقراءة سارة أحمد للجدران3 على أنها “ما تصطدم/ين به، […] اتصال جسدي، لقاء حشوي” (136). على مرّ السنين، من خلال ذلك “التسلسل الهرميّ للجنس” الفاصل بين الجنس الجيّد والجنس السيّء، و”الطبيعي” مقابل”غير طبيعي،” و”الصحي” مقابل “المريض،” مع “منطقة انعدام التّوافق” الرّماديّة بينها (روبين 154)، لم أستطع إلّا أن ألاحظ أنّ موقعي في مواجهة الجدار لم يكن ثابتا أبدًا. وعلى الرّغم من أنّ أنماطي كانت غير منتظمة، وأنّها شُكّلت من خلال لقاءات وتعديات وتقلّبات، فلم يمكن لي العبور أبدا. ذات مرّة، كان جنسي قريبًا جدا من خط الجدار، قريبًا جدّا إلى درجة أمكنني معها تصوّر ما سيشعرني به عبور حاجز الاحترام. كان بإمكاني استنشاقه تقريبًا، وعد “التّعقيد الأخلاقي” بدلا ممّا يُفترض أنّه مأزق “طاغ تماما وخال من كلّ الفروق العاطفية” (152) يغزو رئتيّ. كنت في حركة ثابتة، لكنّ الجدار نفسه بدا غير قابل للتغيّر، في “ماديّة تبيّن كيف يصبح التّاريخ ملموسا” (أحمد 136)، أكثر مادّية من أن يخضع لتآكل ملحوظ. بالنسبة للبعض منّا، جنسنا، مفهوم كمرض دائم، هو أكثر حزما وتعقيدا في طابعه النّسائيّ، غير الثّنائي، الكويريّ، “المنحرف،” من أن يفسح لنا الجدارأيّ مجال.
ومع ذلك، ما زلت أجد نفسي قادرة على الحديث عن جنسي، في المجال الخاصّ، في المجالات شبه العامة، في المحادثات العامة، في نصوص منشورة أدوّنها تحت اسمي. لا يزال بإمكاني اللعب مع حدود ما هو مقبول والدّفع بردود الفعل للسّماح بتحدٍّ وتفكيك أفضل. لا يزال بإمكاني نحت المساحات والحميميّات لنفسي في مجتمعات خارجة عن جدار الاحترام. إذا كان جنسي لا يزال يسمح لي بالتنقل بين الأماكن في جميع المجالات، رغم غموض هذا التّنقل في بعض الأحيان، إذا لم تزل “وساخته” غير قادرة في أن تتسبّب بمشكلة الفهم الاجتماعي السياسي لما هو “نظيف” و “مقبول،” فذلك يعني وجود أبعاد أخرى معنيّة. بإمكاني أن أتحدث بإطناب بشأن الموافقة المطلوبة في كل منعطف، ولكن لا وجود لشيء راديكاليّ جوهرانيّا في جنس إحداهنّ، مطابقة للجندر، من الطبقة الوسطى، متمتّعة بالـ”مواطنة” وغير مهاجرة، بغضّ النظر عن مدى عدم معياريّته. في كثير من الأحيان، يصبح جنسي خروجا “مؤسفا” عن الطبيعة السّويّة، ولكن خروجا يُمكن التغاضي عنه لأنّ خطوط الاحترام الأخرى تشفع له. في إرجاع لصدى سارة أحمد، “ما هو مطبات عادية بالنسبة للبعض، هي الجدران بالنّسبة للآخرين/ات” (181). في مناوراتنا حول جدران مختلفة من الاحترام، تجعل تقاطعاتهم العبور صعبا. عندما لا نواجه الجدران في كل منعطف، تصير بعض الجدران نفاذية لأخرى. إذا “يصبح جدار ما ضروريا لأن الأجساد الخاطئة بإمكانها العبور” (145)، فإنّ الأمر يتطلّب أكثر من مجرّد جنس غير معياري لتجسيد جسد “خاطئ.”
جنسنا ليس راديكاليّا. ليس لدى وجوده في فراغ سياسي، وليس عندما يطمح إلى التّحرك “في اتجاه الاحترام” (روبين 152). ليس عندما يصبح العبور غايته الوحيدة. وفي هذا المعبر الخطي أحادي الاتجاه، في هذه الرغبة في نقل جنسنا من “القذارة” إلى “الاحترام،” نترك الثّنائيّات غير ملموسة؛ نبحث عن الهياكل التي يسهل علينا اختراقها. في أفعال العبور المزدوجة هذه، نترك الآخرين/الأخريات وراءنا بمساميّة نعدهم/نّ أن تشملهم/نّ في نهاية المطاف، أنّ الجدران قابلة للنّفاذ بالنسبة لنا ستكون كذلك بالنسبة لهم/نّ أيضا، فقط في صورة تعاطفم/نّ مع فئاتنا الخاصّة من أجل الوحدة. لا يمكن غسل القفزة من الجنس إلى الميل الجنسيّ، من الرغبة إلى الهويّة، بضمان قبول يشمل الجميع. بغضّ النّظر عن الشرعية، لا يمكن ولا ينبغي للهويات القائمة على جنسنا أن تصبح علامات عالمية للتّماثل. إذا كان جنسنا هو العامل الوحيد الذي يجمعنا معا، وإذا اعتبرت الجدران الصّلبة والعصيّة على بعضنا وهميّة وإن قلّل من قيمتها، إذا تمّ تجاوز صراعات الآخرين/ات وإن تمّ تمريرها لصالح شارة الاحترام المرغوبة، فكيف يمكننا تشبيك أذرعتنا في الكفاح من أجل العدالة والتغيير؟ الهويات التّي تعمل في الثنائيات تدفع نحو أن يُعترف بها: فهي تسعى جاهدة لتمثيل التنوع ولكنّها تدعوا إلى الوحدة السياسية؛ هي تدّعي الاختلاف لكنّها تطالب بدخول حيّز الاحترام. وعندما يصبح هذا الحيّز الهدف، يصبح التواطؤ سلعته. يجب أن نعمل على تفكيك الجدران كأشياء هيكلية ونظامية، وليس كعقبات للتّغلب عليها. وفي هذا السّياق، يجب أن نخلق لغة جديدة؛ يجب أن نتصوّر طرقا جديدة للعيش في عالم يعترف بأنّنا لا نصارع نفس المعارك، حتّى لو بدا أنّ جنسنا يتقاطع في ظاهره.
ضمن هذا السباق من أجل عبور خط الاحترام المؤطّر كتقدّم، يتمّ التّنصل من جنس البعض منّا، سواء سرّا أو بشراسة. وفي الأوقات التّي كان جنسنا يعيق فيها هذا السّباق، إذا فعل، وُصمنا كعاهرات على عدم توافق جنسنا مع ثنائيّة العلاقات غير الأحاديّة وطويلة الأمد؛ وُصمنا مرّة أخرى على ممارستنا “المبالغة” للجنس كعاهرات، وكمتصنّعات للحياء إن كان جنسنا “قليلا.” تمّ تشييئنا بسبب اختيارنا عرض أجسادنا، وبدورها، أصبحت أجسادنا ساحات عامّة لهرسلة تمّ تبريرها على أنّها “غير محفّزة بالرّغبة.” وقد وُوجِهْنا بالقرف على شاذّياتنا،4 بالسّخرية على عمر شركائنا/شريكاتنا، بالازدراء على جعلنا الجنس عُمْلتنا، وبالتّحفظ على صحة النّفسية لدينا. وربما بسبب تشابهنا المفترض يصبح هذا التنصل مكان صدمة ومقاومة. وربّما بسبب ذلك يفقد تكوين الجنس والرغبة والحميمية مرونته تحت عبء الهويات الثابتة. ولكنّ الجنس لا يكون دائما مرادفا للمضاجعة. والرغبة لا تؤدّي دائما إلى سلوكات جنسيّة أو تشكيلات هويّاتيّة، والحميميّة ليست دائما جنسيّة أو رومانسية. إذا لم يكن جنسنا راديكاليّا كممارسة قائمة بذاتها، فإنّنا بحاجة إلى الحديث عن انهيار ثالوث الجنس والرغبة والحميمية.
الجنس ليس ترفا،5 وليس الحديث عنه ترفا أيضا. ولكنّ تلك منّا اللّواتي يحاولن إضفاء خطاب معرفيّ على الجنس، غالبا ما يُدحضن مع ادعاءات قائلة بأنّ الوقت غير مناسب. “الآن ليس الوقت المناسب،” كما قيل لنا، كأنّ حيواتنا ليست متعددة الأبعاد ومعقّدة، كما لو أنّ جنسنا لا يتقاطع مع المشاريع التّحريريّة الكبرى، كما لو كان علينا الجلوس المرتخي على الهوامش، في انتظار أن يُسمح بإلحاقنا في التحرّر، بينما البعض مشغول بجعل العالم مكانا يصلح لأن نسكنه، على الرغم من أننا لم نُدلِ برأينا في قابليّته للسّكن. غير أن مطالب النساء والأفراد غير نمطيّي/ات الجندر أكثر إزعاجا من أن تُعامل على أنها مشروعة، وأكثر تعقيدا من أن يُناسبها الوقت، وأكثر إلحاحا من أن تُسمع. وإنّ هذا التفكك في الصراعات، وهذا التّرتيب للأولويّات السّياسة، وهذا التصنيف المسلّم به للاحتياجات، مسؤولون عن خفض الجنس إلى الاستهلاك المترف والمساعي غير الجديرة بالاهتمام. هكذا يصير إضفاء صبغة كويريّة على الجنس، كشغل ورعاية وعمل عاطفي، كجنس عرضيّ وقذر وشاذّي، في تقاطعه مع العنف والطبقة الاجتماعية والعرق ووضع الهجرة، ضرورةً،6 وموقعَ نضال.
نادرا ما يكون الجنس المصوّر على أنّه غير محترم وغير مناسب للوقت سؤالا بحثيًّا جديرًا. على الأقل حيث تكون سياقاتنا معنيّة – وهي تركيز مشروعي، يجري البحث عن “النّبل” في جنس مُغذّى بتشكيلات الهوية. يتمّ تقليص البحوث المتعلقة بالجنس بشكل كبير إلى البحوث المتعلقة بالهوية، مع توفير هذه القفزة من الجنس إلى الهوية الإطار اللّازم لقضية جديرة لا تُبنى سوى في مواجهة نظيرتها غير الجديرة والأكثر وساخة. وبالتالي، فإن تعقيم الجنس يحافظ على خط الاحترام في البحوث والأكاديمية، مما يزيد من تصلّب الجدران والتّواريخ والأجساد التّي تبقى معزولة. يحتاج هذا المحو التّنظيفي المرسّخ في نظرة الذّكور نحو الجنس والمعابر والتحرير إلى أن يُطعن ويُقتلع من توقه الثّنائيّ والإصلاحيّ. وإلى أن يتمّ الأخذ بتواريخنا المكتسبة بشقّ الأنفس، سنثابر في الكفاح من أجل جنسنا القذر ورغباتنا الشّاذة وحميميّاتنا المنحرفة، وخروجها المتعدّد عن الاحترام.
- 1. المعنونة “جنسك ليس راديكاليّا.” كما تستخدم ياسمين ناير العبارة في مدوّنتها.
- 2. Rubin, Gayle S. “Thinking Sex: Notes for a Radical Theory of the Politics of Sexuality.” Culture, Society, and Sexuality: A Reader, edited by Richard Guy Parker and Peter Aggleton. Psychology Press, 1999, pp. 143-178.
- 3. Ahmed, Sara. Living a Feminist Life. Duke University Press, 2017.
- 4. عُرّبت هنا مفردة “كينك” الدّالة على الممارسات غير النّمطيّة ذات الطابع الجنسي كالتّقييد والتّأديب، والهيمنة والخضوع، والسادومازوخيّة، ضمن أخرى
- 5. اللّاترف والضّرورة كما تستخدمهما أودري لورد في: Lorde, Audre. “Poetry Is Not a Luxury.” Sister Outsider, 1984. Polity Press, 2007, pp. 36-39.
- 6. ما سبق.