عقم الشرّ
editorspick1.jpg
"ما هو الجسم المتمسّك بالحياة؟ ما هو الجسم المتحدّي للموت؟ قويّةً وعملاقةً كنتِ، يا أمّي، والآن، لا يزال جسمك، رغم تجويعه، يُظهر قوّتك الرّاسخة حتّى في وجه أشدّ العلل وأقساها. يا للألم الذي تحسّه عيناي لدى رؤيتك تحت لحاف الموت، ضائعة في الوجع بصمت. أشعر بعقلي وروحي يكافحان للبكاء داخل جسدي. أريد فرَجًا لك، مهلةً لألمي كي لا يراك على هذه االحالة. سأفتقد وجودك، وإن كان مقصورًا على هذا الجسد العليل الخالي من الأحاسيس، إذ أنّ المرأى المختصر لظلّك وحده يجلب لي الهدوء. ما مدى صعوبة الحياة عندما تواجهك بأكثر الخيارات صعوبة؟ أريد السلام لك ولكني أريدك أن تبقي. سامحيني يا أمّي، أنا لا أطلب سوى راحتك، أنتِ عينيّ ونبضي وقلبي. البعض من الرّاحة لك والألم لي إلى آخر أيّامي، لأنّ ذاك هو مدى الذّنب المثقل لضميري. أمّي، أمّي، أمّي، حتّى أنفاسي الأخيرة".
***
ما الذّي يعنيه الحديث عن الكدح المطلوب من الموتى أو المحتضرين؟ أخبرتني أمّي أن جدّتي توفيت منذ سنوات. الكائن القابع في سرير المستشفى في الضواحي الجنوبية لبيروت، وهو شاغر العينين وفاغر الفم، هو مجرّد قشرة. لقد أخبرتني أنّ روحها قد غادرت منذ زمن طويل – على سبيل الأمل أكثر منه القناعة. يُحتفظ بجسدها على قيد الحياة وهو يحارب الانحلال. يحتجّ الجسد، يقاوم، يحشد القروح والطفوح الجلديّة، يكسّر العظام، بل ويطلق نفسه في الصّدمة الانتانيّة، لكنّه لا يفتأ يخسر في محاولات الحصول على وفاة كريمة.
إذ، في نهاية المطاف، توجد أموال للكسب من إجبار جسدها على التّحمل. توجد أموال للكسب، لا في إطفاء الحياة فحسب، بل وفي إجبارها على الاستمرار، مثل المخلوق الذّي صنعه الطّفل في "السّائرون بعيدًا عن أوميلاس" لـ"أورسولا لي جوين"، مختصر في قشرة مُصَفِّرة لكائن لم يعد إنسانيًا لكي يتسنى للآخرين العيش في وئام. أولئك الذي يجب أن يكونوا أمواتا أو أولئك الذين يريدون الموت مجبرون على الحفاظ على وهم الحياة – الزفير والشّهيق، التغوط والتبول – حتى يتمكّن أحبائهم تجنّب الشّعور بالذنب الذّي يفرضه عليهم رأس المال لأنه يقدم لهم فاتورة المستشفى بعد فاتورة الأدوية، ويخبرهم أنّ رغبتهم في ترك أقربائهم هي رغبة في الحفاظ على أموالهم. يقال إنه لا توجد راحة للأشرار، لكنّ الضّعفاء المهمَلين والذين تم تأطيرهم كقابلين للكبّ، يحرمون من الرّاحة، على سبيل المفارقة، حتى في الموت. أمّا رأس المال، فيرتاح، بمعنى أنّه ينحسر إلى الخلفية، وبينما يقوم بتقرير الحياة والموت، فإن العبء العاطفي عن مثل هذه القرارات يقع على عاتق أشخاص مثل أمي، غير المسؤولة عن هذا الأمر، ولكن الممتصّة لهذه المسؤولية في جسدها ونفسيّتها.
ينهار جسد أمّي بينما يقاوم جسد جدّتي. تعود من رحلتها الأخيرة إلى لبنان، مريضة. تستغرق وقتًا أطول من المعتاد للتعافي مما كان ينبغي أن يكون مرضًا بسيطًا. روحها ونفسها، أيضا، هشّتان للغاية. إنها سريعة الانفعال وحساسة ومصابة بخوف متلازم. يلتوي الذنب بداخلها ويتموّج مثل شيطان. لماذا لا تموت؟ هل من الخطأ أن تريدها أن تموت؟ لماذا لا تزال روحها معلقة؟ ما الذّي تنتظره؟
لكنّها ليست متشبّثة بالحياة، أليس كذلك؟ هي محصورة هنا، تلتفّ الأنابيب حول جسمها مثل السّلاسل، تسمّرها قطرات علاج الحقن كأنّها تصلبها، جاعلة منها قربانا غير راغب، وهْمَ أمّ مضحّية اختارت أن تعاني من الألم الجسدي من أجل تجنيب أطفالها وأحفادها ألم فقدانها ولكي تكون بالقرب منهم لفترة أطول. حتّى في الموت، تتحمّل النساء العبء. حتى في الموت يجب عليهنّ وضع الآخرين أوّلاً. ما هي الصرخات المخنوقة وراء أنبوب التغذية؟ ما هو الرّعب الكامن وراء تلك العيون الزّائغة؟ نحن نأمل في أن نصير عدمًا، حالة نباتيّة، جامودا، في وجه احتمالات أكثر رعبا، في وجه الوعي الذّي يدقّ بيأس على جدران الجسد العازلة للصوت.
ماذا عن الوكالة الذّاتية للجسد؟ ماذا عن جسم شديد الرّغبة في الموت إلى درجة مهاجمة نفسه مرارًا وتكرارًا بيأس، لكي يتمّ الافراج عنه ولكي يتحلّل بكرامة، لا في المستشفى الخالي من الألفة الشخصيّة، حيث ينظر إلى تعفنه باشمئزاز وتستّر وتطهير والتنقية – اللّدغة، عقاب على الجرأة في الخروج قبل الاستغلال الكامل. عقم الشّر.
بينما تنتظر وفاة جدّتي آملة أن تأتي راحتها قريبًا، كارهة نفسها لعدم قدرتها على تحديد ما إذا كانت رغبتها أنانيّة أو إيثاريّة، تقوم والدتي بتوفير الحاجيّات. فقط أفضل المنتجات – الشامبو والكريمات. تقوم بنزع الشعر عن ذقن جدّتي، وترتب شعرها – "كانت جدّتك ستكره أن ترى نفسها مهملة الهندام"، تقول لي. تمسك يدها وتخبرها أنّه لا بأس في المغادرة. تتوسّل إليها أن تتركها تنهي معاناتها. تخبرها أنّ التضحية ليست ضرورية، وأنّ الأطفال بخير وسيظلّون بخير، وأنّه بإمكانها أن تنظر إليهم من الأعلى وأن تجتمع أخيرًا بجدّي الذّي أحبّته كثيرًا إلى درجة آلمت جسدها.
ومع ذلك، في الأثناء، لم تستطع أمي قبول المقاومة التّي يقوم بها جسد جدّتي، ورؤيتها تتألّم. فتطلب ألّا يضيفوا لها المزيد من الأنابيب. وتطلب توقيع اتفاق عدم الانعاش. لكنّ كلمتها لا تعني شيئا. إنها مجرّد ابنة. إذ أنّ شراء الأدوية والكريمات وتدليك الأطراف المنمّلة والالتقاء بالأطباء لا يكفون لإثرائها بالسلطة. يستمرّ استغلال جسد جدّتي، كما يستمرّ استغلال احساس أمّي بالذّنب، فيتكاثر الأمران ويعاد انتاجهما، أحدهما في الآخر، في حلقة مفرغة، يستفيد منها رأس المال فقط. النيكروبوليتيك (سياسات الحياة والموت) هي كلمة متداولة لدرجة أنّها بدأت في فقدان معناها وكأنها دلالة فارغة، ولكنّ هذه هي سياسات الحياة والموت بكلّ اعتيّاديّتها.