فصل من تلك الحياة
kohl2.jpg
كنت أنتظر قدومها من موسم إلى أخر. فتاة جميلة هجرت الهرمل إلى مدينة بعيدة. يومها، وأنا في السابعة من عمري، كانت بعلبك التي تبعد عنا 60 كيلومتراً، إحدى هذه المدن، ومعها زحلة التي نقطع مائة كيلومتر لنصل إليها. شخصياً لم أزر بعلبك ولا زحلة إلا بعد أن قطعت الخامسة عشرة من عمري، يوم أصبت بالربو.
لنعد إليها، إلى بشرتها البيضاء الصافية وشعرها الكستنائي الفاتح. لم تعد ذاكرتي تسعفني بأكثر من تخيلها بـ"جينز" مع "تيشرت" مفتوحة على صدرها، وحقيبة يد صغيرة وأخرى أكبر على ظهرها، طالما فكرت أنها بيتها.
كنت أنتظرها، أراقب كيف تتغير الفتاة حين ترحل بعيداً. كانت على عجلة من أمرها. تأتي "خطف" وتغادر كأنها على موعد. مسألة واحدة لم تعجبني وما زالت في كل انتظاري لها: تلك الحمرة الواضحة الفاقعة على شفتيها.
زادتها أحاديث نسوة الحي غموضاً عندي. عندما أسمع اسمها أقترب فتنخفض أصواتهن. يتوشوشن. وعندما أقترب أكثر يغيرن الحديث. وأتى يوم اختبأت فيه تحت حوض الورد عند جارتنا حيث اكتشفت سرها، لأقل سرهن.
لم يكن مسموحاً لأي فتاة أن ترافقها. تلك الأحاديث كانت للنيل من "سُمعتها"، السُمعة نعم، ذلك المفهوم الذي يعدم فتاة ويحييها في مجتمعاتنا المحافظة، سواء كانت في الريف او في المدن، لها مفهومها الخاص عما تسميه "سمعة" الفتاة.
لاحقاً، في مراهقتي، هدتني فاطمة، ابنة خالتي، إلى الحقيقة. فاطمة التي اكتسبت منها تصحيحات عن مفاهيم عدة. فاطمة اشتغلت بالسياسة والأحزاب وقضايا النساء والحرب. وفاطمة نفسها التي اكتسبت مصداقيتها من "سمعة متل الدهب" كما كانوا يقولون.
إلى أن جاء ذلك اليوم: وشوشات كثيرة، مشاورات، وأخذ ورد، ومحاولات مستميتة من قبلي لأعرف ما يدور من حولي.
وحده، صديق طفولتي الذي كنت أخرج معه فجراً لصيد عصافير "بو التين"، اخبرني: "قتلوا صديقتك". هي لم تكن صديقتي. لم يحصل أن تحادثنا. كنت أملّي نظري منها وأتخيل حياة الفتيات المستقلات البعيدات، وأتلمس ملامح المدن البعيدة وحيواتها. قال لي وكنت ألطي بقربه تحت شجرة تين ننتظر رفوف العصافير التشرينية "بتعمل إشيا مش منيحة مع الشباب، هيك قالت أمي". يومها عدت إلى البيت وسألت أمي إذا كان خروجي مع حسام إلى الصيد "شي مش منيح". ويومها ربطت نفوري من لون الحمرة "الفاقع" بما ربتني عليه أمي فرنجية: "المكياج "القوي" ما بليق بالبنت المحترمة".
وحدها فاطمة أخبرتني الحقيقة المُرّة. حقيقة صوبت الكثير. كانت "صديقتي" المقتولة ابنة عائلة فقيرة جداً. ابتلى المرض أمها وأباها. اضطرت مع شقيقاتها للعمل في المنازل. جميلة تعمل في المنازل. قصة تقليدية عن تعرضها للتحرش من قبل الأقارب حتى. يومها قال لي حسام "سمعت أمي تقول هن بالأول دقو فيها". لم نكن قد تعرفنا على معنى التحرش بعد. قالت فاطمة رداً على استسفاراتي "عشان هيك فلت من هون". حينها علمت لماذا كانت تغادر على عجل. جاء من يُخبر أنها كانت تعمل في منزل إحدى العائلات الزحلاوية، وكانت ربة المنزل تمنحها يوم عطلة يتيم في الأسبوع شكل في النهاية مقتلها.
في أحد أيام العطلة هذه استدرجوها، وقتلوها. لاحقاً علمت تفاصيل لا أعرف حتى اليوم صحتها من عدمها. قيل أنها تركت بوحشية لتموت وحيدة في كهف تعجز عن الخروج منه. بعضهم قال أنها دُفنت حية، وحده قلبي المكسورعليها حتى اليوم، ما زال يجتر مأساتها.
لاحقاً، حين فاتحت أمي بقصتها، أخبرتني عن فتاة لم أعرفها ولم أنتظرها، لكنها صارت جارتها في قلبي (جارة "صديقتي" المقتولة).
كان ذلك قبل مقتل "صديقتي" بأكثر من عشرين عاماً. فتاة في الثالثة عشرة من عمرها تركها أهلها لسبب ما مع رجل يكبرها بأكثر من ثلاثين عاماً. كانت هناك وحيدة "وجها بوجه". انتهى بقاؤها معه بحملها. في النهاية، لم يفعلوا سوى قتلها مع جنينها، متحررين من مسؤوليتهم في اغتصابها. دفنوها بصمت، ووسط تواطؤ الجميع، في أرض بعيدة. أما هو فقد "نفوه" خارج البلدة. نفي استمر لأعوام قليلة عاد بعدها ليستأنف كامل حياته.
حين طلبت مني غوى، ومنذ أكثر من عام، أن أكتب ل "كحل" نصاً يقع في إطار ما أسمته "النسويات الريفيات"، مع أني، في عمقي، أنحاز إلى تصنيف نفسي حقوقية في مقاربتي النسوية كخصوصية. تصنيف أكرسه متسلحة بكل تلك القضايا التي تقض مضجعي، وتنسحب على مجتمع كامل بـ"أمه وأبيه"، ولا تقتصر على نسائه، رغم أني اعلم أن النساء يقعن في صلب هرمه. انسقت لا إرادياً، مع طلب غوى، إلى حكاياهن كمدخل لادرك انهن لم يغادرن وعيي السياسي الحقوقي النسوي يوما. انسياق وضعني أمام مساءلة نفسي، لنقل إلى نبشها. نعم نبشها. وجدتني أنبش نفسي. أنا التي طالما عززت "تورطي" النسوي بانحيازه إلى الإنسان عامة بغض النظر عن الجندر. مساءلة أخذتني إلى رؤيتي الأساس "لا حقوق ولا حرية ولا مساواة للنساء إلا بتحرر الإنسان نفسه، رجلأً وامرأة". هل أسعى في لا وعيي إلى تحرر الرجل كشرط لتحرر النساء، وعليه أكون نسوية حتى العضم؟ هل مهم فعلاً إلى هذه الدرجة ان اكشف كيفية نسويتي وجذورها؟ أي أن أحسم انحيازي لتحرر الإنسان؟ ولصالح من؟
ربما في الصوت-الصرخة الذي ما زال في رأسي بعض اجابة.
يومها، سمعت صرخة كانت أشبه بصدى طلق ناري، تنبعث من جارتنا، تبعها أنين لم يكلف أحد نفسه ليعرف مصدره أو سببه. مع الوقت عرفت أن جارنا عضّ زوجته في أذنها. جارتنا ذاتها لم تعد نفسها بعد ذلك الصوت. ازدادت كآبة وانطواءاً. لزمني سنوات عدة لأعلم أنها لم تعد ترتدي أقراط الأذنين. أسرت لي ابنتها، رفيقة الطفولة، أن أمها صارت تكره أذنها المشوهة التي بقي جزءاً منها في فم زوجها.
كنت في الصف الرابع ابتدائي حين خلعت حجابي الذي ارتديته غصباً عن أخوتي لأربعة أشهر. صعدت الجبل العالي فوق بيتنا. نظرت إلى السماء وقلت له، ل "الله" الذي أعتقد بوجوده، "لماذا تتركهن وحيدات؟". لماذا ترك "صديقتي"، وابنة الثلاثة عشرة ربيعاً، وجارتي وأذنها، وحيدات؟
مؤخراً، حين قاتلت بشراسة من موقعي كصحافية وناشطة مدنية في سبيل إقرار قانون حماية النساء من العنف الأسري، مع من قاتلن من جمعيات ونساء ورجال، قال لي أحد نواب اللجنة البرلمانية الفرعية التي درست اقتراح القانون:"هيئتك متعرضة للعنف كتير". بغض النظر عن محدودية فهمه للنضال وأسبابه، لكن استنتاجه أعادني أيضاً إلى مراجعة الذات، ذاتي.
هل فعلا كنت معنّفة؟ وهل على العنف ان يكون مباشرا ليترك ندوبا؟ والا كيف نجوت؟ هل لأنه، لأن أبي، أراد أن يعتقد برأسي؟ أي أن يعزز ما كان يعتبره "ذكائي" رأس مالي، كوني كنت الاقل "جمالا" بين شقيقاتي وفق المعايير النمطية للجمال.
كنت في الثالثة من عمري ربما، أو أقل بقليل، عندما قال لي أبي "إنت محشية ذكا". أجبته "أنا مش توساية لكون محشية". قلت "توساية"، أي كوساية (من الكوسى) لأني لم أكن ألفظ كافة الأحرف بعد، وهو ما يدفعني للإعتقاد أني كنت لم أبلغ الثالثة من عمري.
ظل أبي ولسنوات طويلة يناديني كلما زاره ضيف، وكانوا كثراً على بيتنا. يناديني، وعندما أحضر يقول أمام ضيوفه "عندي هالبنت محشية ذكا"، فقط لأجيبه "أنا مش توساية لإنحشى". حادثة كانت اللبنة الأولى لثقتي بذكائي، ولفرحه بنجاحه في بناء هذه الثقة لاستثمارها لاحقا.
لاحقاً عندما كنت أسابق في الركض على بطولة الهرمل والبقاع الشمالي لأحتل المركز الأول، كان يقول لي: "إنت فرس البيت"، الفرس التي كان يخصها كل صباح بكوب حليب وملعقة عسل يعزّ في بيت فقير كبيتنا. بوعيي الجردي، كنا حين نرحل من مرجحين، جردنا، إلى الهرمل، نترك الفرس الأصيلة هناك برغم قسوة الشتاء ونزول الوحوش البرية وخصوصاً الذئاب، ونصطحب معنا الجحش إلى السهل. كان أبي ينزع رسن الفرس الأصيلة ويتركها. مع كل شتاء كان يقول "الديب ما بيقدر ع الفرس الأصيلة بس تكون حرّة بلا رسن". واقعة أسست في وعيي معنى أن يصفني بـ"فرس البيت". فرس أصيلة حرة لا، ولن تقدر عليها الوحوش. إحساس ملأ وحده رئتي كمراهقة بالأوكسيجين.
وكان أن صرت على أبواب الرابعة عشرة من عمري. كان الوقت خريفاً وكنت قد نزلت لتوي من الجرود حين أخذ جسدي شكل الصبية. في ذلك العام صرت بالطول الذي أنا عليه اليوم. كان أبي على مصطبة بيتنا في الهرمل حين خرجت ببنطال رياضي من أمامه في طريقي إلى الركض نحو الوادي البعيد بمسافة 10 كيلومترات. سألني "ليش رايحة تركضي ببنطلون مش بالشورت؟". مددت ساقي، التي اعتبرتها طويلة كفاية لأسترها ببنطال، وقلت له "شايف ساقي قديش صار؟ صرت صبية، ما بقى فيي بيّن سيقاني". قطّب حاجبيه وأمرني بالعودة لأرتدي "شورتي". مع نموي لم يكن لدي "شورت" على قياسي الجديد. نادى على أخي الذي يكبرني يثماني سنوات "جيب لها شورتك". لا أنسى ذاك "الشورت" الخاص بلاعبي الفوتبول: لونه أحمر يزين أسفله زيف أبيض رفيع وكان قصيراً إلى رأس الفخد. قصر يكشف في بعض جنباته حافة المؤخرة. قال لي "روحي اعملي رياضة". أجبته وانا انظر إلى الشورت "بس الناس رح يحكوا عليي". ما زال جوابه يرن كالذهب في أذني "ل بيقلك شي بتلبطيه ع بوزه وبتجي بتخبريني أنا بشوف شغلي معه". وخرجت واثقة، أستقوي بالرجل الذي لم يحد يوماً، حتى وهو يزفني من قلب الهرمل إلى ارتباطي برجل من غير ديني، عن فكرته الأساس التي زرعها فيي "الفرس الأصيلة الحرة بلا رسن، ما بتقدر عليها الوحوش".
نعم، ساهم أبي في تنشئتي جوهرياً، فرساً حرة بلا رسن، فرس لم تقدر عليها الوحوش، بقدر ما استطاعت إلى مواجهتها سبيلا. أبي نفسه الذي اختلفت وإياه في محطات كثيرة. اختلافات وجدني فيها عنيدة الرأس وأحياناً قاسية. أبي الذي صار بعيداً اليوم، أبي الذي لم أقل له ذلك يوماً: نعم، كان الشرط البنيوي ربما لهذا التحرر، إن كنا كنساء نتمكن فعلياً أن نكون متحررات وسط مجتمعات ما زالت تقاتل وبشدة لكبح جماح ذكوريتها.
حرة؟ ربما لا، طالما أني لم أتجرأ لغاية اليوم على كتابة قصصهن بالأسماء كضحايا مع الجلادين.