“أنشودة غولزارينا” لطارق محمود
يمكن بسهولة أن تقرأ رواية تتمحور حول خطة مهاجر باكستاني لارتكاب عملية انتحارية في مانشستر، انكلترا، في أعقاب الحرب على أفغانستان، على أنها مأساة مألوفة بعد ال11 من أيلول. يمكننا أن نفترض أنها قصة عن التطرف، حيث تصل الشّخصية إلى نقطة الانهيار ردّا على سلسلة من الأحداث الجيوسياسية المؤسفة وغير العادلة. في ظاهرها إذا، تبدو "أنشودة غولزارينا" لطارق محمود كأنها تعليق سياسي رمزيّ، يمكن التنبؤ به، للتّحذير من القيود الأيديولوجية والعنف الإمبريالي. ومع ذلك، فكلّ من المؤلف والشخصيات يمتلكون وعيا ذاتيا حادّا بالطّابع المألوف لموضوع الرّواية، ويصرّون على التّشديد على الفروق الدقيقة في رحلة سليم بدلا من خطورة نهايته، وهذا ما يجعل الكتاب مقنعا.
القول بأن حياة سليم كارثية هو تقليل من هولها. تنتقل الرواية بين تحضيراته الحاليّة للانتحار وذكريات الماضي عمّا أوصله إلى هذا القرار. نشهد هجرة سليم كمدرّس من الطبقة العليا من قرية في باكستان إلى إنجلترا حيث يصير مهاجرا من الطبقة العاملة. يستخدم محمود تأمّلات بطله عن ماضيه لنسج خلفية تاريخية وسياسية تحبك القصة. من خلال رحلة سليم، يشهد القارئ على مأساة وعنف عدة لحظات تاريخية، بما في ذلك تقسيم الهند وقيام باكستان (ومن ثم، بنغلاديش)، والعنصرية الرجعية ضد تيار مستمر من المهاجرين إلى انجلترا سنة 1960، والخراب المبعوث بسبب الحرب الباردة في أفغانستان، و الحرب على الإرهاب، وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا وتحلل وعود التعددية الثقافية في إنجلترا ما بعد 11/9.
على الرغم من هذه الخلفية التاريخية تسيّر الرواية إلى حد ما، فإنها بالتأكيد لا تسيطر عليها. فمحمود يتجنب الوقوع في شرك كتابة ضحايا مظالم التاريخ والسياسة ذوي بعد واحد من أجل التعليق. بدلا من ذلك، شخصياته ناس لهم عيوبهم، في عالم لا يرحم، يصارعون باستمرار أوجه قصورهم بينهم وبين أنفسهم، وبين بعضهم البعض، في محاولة يائسة للتمسك بوكالتهم على أنفسهم، رغم المآسي الشخصية والسياسية التّي تتكشف خارجة عن إرادتهم.
الرّواية مشبعة بالحساسية في بلورة دوافع الشخصيات. لا تخفى عن القارئ سخرية موقف رجل باكستاني ملحد في السبعين من عمره في مهمة انتحارية شخصيّة، على الأقل من ناحية بطل الرواية نفسه. سليم ليس صاحب إيديولوجية عمياء، ولا يودّ تدمير بانتقام. بدلا عن ذلك، هو متردد ومحبط. شخصيته مظهر من مظاهر جفاء الشتات والضّبابية. في كثير من الأحيان لا يتمكّن من التحرك عندما مواجهة قرار، مولدا الكثير من السخط من نفسه وممّن حوله.
هذه النزعة مغلّفة في لقاء قريب من الموت يختبره سليم، عندما جبرت الالتزامات التّجاريّة سليم وابن عمه حبيب على مرافقة مجموعة من المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة عبر الحدود بين أفغانستان وباكستان. في طريقهم، يدخل المجاهدون افي معركة مع معسكر جنود سوفياتيّين في جبال أفغانستان، بينما سليم غير مستعد تماما للوضع. عندما اتّجه صاروخ روسيّ نحوه، أصبح مشلولا تماما، وكان على حبيب التدخل لإنقاذ حياته. في أعقاب الحادثة توجّه سليم بشكر مخز إلى ابن عمه: “أنت شجاع جدا”قال، “لست مثلي” (117). هذا التبادل هو تجسيد مدقع لعدة لقاءات مماثلة بين سليم والمقرّبين منه، حيث يكون مرهقا إمّا جسديا أو عاطفيا إلى درجة عدم التفاعل، وعندها يجب عليه أن يشهد عواقب قراراته (أو عدمها) على المحيطين به . تردّده، وكذلك اعتراف سليم نفسه بالجبن، هما نقطتان متكرّرتان من الإحباط والحرج من نفسه، الذّي لا يقدر معهما على شيء.
من خلال هذه التفاصيل تمكّن محمود من صياغة رواية عن شخصيّة ليست مجرد ضحية للأحداث التي تجري من حولها، إنما هي أيضا ضحية لنفسها. ردّ حبيب على امتنان سليم ” ابن عمّي، ليس من المفروض عليكم الغربيين أن تقتلوا في هذه الحرب” (117) يوضّح أنّه في محاولة للمقاومة، أصبح سليم صورة نمطية عن مغترب لا يمكنه البقاء قيد الحياة بنفسه “في الوطن.” السخط من عيش سرديّة مألوفة جدا، ومحاولات لمقاومة صورة نمطيّة معظمها غير مجدية، بلت الشخصيات الأخرى في الرواية أيضا، ولا سيّما النساء في الحياة سليم.
في بدايات الكتاب، تقدّم للقارئ نساء ثلاثة رئيسيّات في حياة سليم: زوجته ياسمين، ابنته عائشة، وعشيقته كارول. هنا أيضا، تأخذ قصة محمود الدور المألوف لرجل مهاجر يحدّه واجبه نحو زوجته في أرض الوطن، في حين أنه مغرم بامرأة “غربية” لا يمكنه أن يحمل نفسه على الالتزام بها. بدلا من اختيار الولاء الكامل أو تخريب هذا النموذج المعياريّ، اختار محمود كتابة شخصيات داعمة بحذق رقيق، لم يمسّ من تطوّرها. ياسمين وكارول تدركان فعلا أنّ السرديّة التي تتعرضان إليها مألوفة، وتتبيّن مقاومتهنّ لأن تصبحا صورتين نمطيّتين حيّتين، من خلال الحوار الكاوي والاستياء المبرّر الجيّاش من كليهما، وإن كانت تلك المحاولات غير مثمرة إلى حد كبير.
كلتا المرأتين على حد سواء تواجهان مرارا نفاق سليم المغترب وعدم قدرته على الالتزام الكامل بأيّ منهما. ومع ذلك، حساسية محمود بالطريقة التّي تجعل القوة تتخلل العلاقات بين الشخصيات، يجنّبه تحويلها إلى وحدّها بأمثلة “نساء ضُحك عليهنّ.” مرارة ياسمين تجاه عدم اخلاص سليم وهجرانه ليست مجرد مسألة حب. يظهر محمود للقارئ ما هو على المحك بالنسبة لياسمين: بالنسبة لامرأة من طبقة دنيا، اخلال سليم بوعده ألّا يصبح “مثل رجال القرية الذين يذهبون إلى فاليه، بريطانيا … [و] لا يمكنهم أن يقاوموا اللحم الأبيض” (11) يضعها في خطر النبذ والعنف، وهو واقع كئيب حتّى سليم لا يستطيع أن انكاره.
كارول تدرك على نحو مماثل دور العشيقة الأجنبيّة الذّي تجد نفسها تلعبه. في مواجهة مع سليم، سخرت منها وكانت تعني ذلك: “أنت تعتقد أنني لن أفهم، إيه؟ أنت تعتقد لا تفهم كثيرا غير أنّها تقوم بدور العشيقة، إيه؟ فقط انكحنا وتزوج من عذراوات قريتك. أليس الأمر كذلك فقط؟ “(56). إنّ معرفة كارول وازدراءها للصّورة النمطية التّي تعيشها هي وسليم على حد سواء، وعدم قدرتها على الانسحاب رغم معرفتها العقليّة بجدواه، تجعل من تجربة اكتشاف علاقتهما أكثر إيلاما. القارئ يشهد على غضب الشخصيات من الواقع ومن طبيعته التّي تبدو كأنّما لا مفر منها، سواء كانوا يلحقون ذل ببعضهم ببعض أو كان ذلك من قبل القوى الاجتماعية والسياسية الكبرى. إنّ الوعي الذّاتي البائس لشخصياته الذّي يجعل رواية محمود تتخذ منعطفا منعشا عن السرد المألوف.
من الهيّن قراءة أنشودة غولزارينا كحكاية عن انتقام كارثيّ، ولكنّ ذلك لن يحقّق العدالة للرّواية. أحد معارف سليم، من الذّين سعوا مثله إلى القصاص، ينصحه بعدم القيام بالتفجير الانتحاري الذي خطّط له: “لكن هذا السلام لم يدم سوى ليلة نومي، الألم لم يتوقف خلال النّهار. ألمك لن يزول مهما فعلت” (212). في وقت لاحق في حياته، خلال محادثة متوترة مع ابنته القاصية، يعيد سليم عليها أصداء هذه النصيحة: “هناك نحن وماضينا، يا ابنتي. لن يفعل هذا الألم غير أن يبقينا هنا” (194). سليم يدرك عدم جدوى الانتقام لماض مأساويّ، إلا أنه لا يزال يواصل التخطيط لتفجير انتحاري. بالامكان فهم مهمة سليم، إذا، كمحاولة أخيرة لرجل محطم في مواجهة عنيفة للأنظمة التي سبّبت فشله، ومحاولة آملة لرجل نادم على تقصيره من خلال تدبير نهايته.