32 لسحر مندور
هل ينتظرني صرصور ميت في ركن من أركان المنزل؟ […] يقلقني هذا الكائن أكثر ممّا تقلقني القنابل الإسرائيلية (35).
القراء المقاربون ل 321 لمندور كدراسة عن الحياة في بيروت قد يكونون في انتظار الصراع والغضب والاستياء. كلّ من هؤلاء الثلاثة موجودون بتدبير حسن، ولكنّ الصراع والغضب في كثير من الأحيان يكونان بين الرّاوية ونفسها، أو في شجارات سكرانة وغضب الآخرين على الطرقات. فالسّخط هو النّول الذي ينسج النص، ويشكّل حتّى لحظات الكتاب الأكثر سعادة حول القوى الخفية للصدمة والحزن، الذي لم تُكشف طبيعته السّياسيّة بشكل تامّ ولكنّها تحوم بشكل بارز في جميع الأنحاء، مثل ناطحات السحاب التّي تمقتها مندور.
تفتح 32 من خلال تبادل كوميدي بين الراوية وعاملة التنظيف، كوكو، وهي عاملة مهاجرة سريلانكيّة متزوّجة وحاملة لطموحات صاخبة كالعودة إلى وطنها من أجل شراء حافلة، وخلق مقرّ أعمال، وتربية طفلها على لغتها الأمّ. حول الكوكتيلات في حانات الحمراء، وفي شقق الأصدقاء، وفي رحلات السيارة المختلفة، تتناول الشخصيّة الرّئيسيّة حياتها وكتاباتها مع مجموعة من الأصدقاء الذّين يماثلونها في التفكير، ولكنّ لسبب ما يبقى الجزء الذّي لعبته كوكو البندول الذّي يحوم حوله كل شيء. كوكو، التي يقع عالمها خارج حدود بيروت المضطربة، هي الشخص الوحيد النّائيّ عن ارتباك المدينة: فهي تتطلع إلى الخارج، لا إلى الدّاخل، وتخطّط للمستقبل، وإن بدا غير وارد، بدلا من أن تتخبّط في الحاضر. فقط في المحادثة مع كوكو يجد القارئ لحظات من الهدوء، ومن خلال صراحة الصداقة الحرجة بين هاتين الإمرأتين يرى المرء الراوية تخرج من ذاتها. غير أنّ كوكو، كعاملة منزلية مهاجرة، مثل الكثير من الأمور في الكتاب، هي أمر سياسيّ.
انفجار في منطقة الروشة في بيروت يبرز منتصف الكتاب ويكون موقع تركيزه الحاد، فيدخل الوجه الخشن لهذا البلد الذي مزّقته الحرب منتظرا ومتوقّعا. لا توجد صدمة ولا رعب، ولكن بدلا من ذلك، قلق وتعب من الراوية وصديقاتها وهنّ يتأكّدن من سلامة ومكان وجود ذويهنّ ومن ثم يتآمرن للمزاح من دموعهنّ، ولإنتاج جماعي لمعان عن خفّة وعاديّة للإحتماء ضدّ معرفة أن “كلّ سيارة من حولنا يمكن أن تكون مفخّخة” (60). في دوامة في مكان الانفجار يأتي أجنبيّ، أحد المعارف من الخارج، والذي يظهر مع كاميرا على وركه، راغبا في مقابلة عائلة أحد ضحايا الانفجار. هذا المشهد (54-58) يذكّر بكثر مثله في بيروت. البيض الأوروبيّون أو الأمريكيّون الشماليون مفرطوا الحماسة، المسلّحون بمعدات باهظة الثمن، والقليل من العربية، وصليبية أخلاقية مشوشة ولا تقبل بالتّسوية. بيروت هي مدينة عامرة ب”صناع الفيلم الوثائقي” الأجانب و”الصحفيين” الذين يقوم وجودهم على هضم بيروت للعالم الخارجيّ: مكان مجروح ومعقّد وآسر من الهدوء النسبي على أحد أكثر خطوط الصدع إلتهابا في العالم. يصرخ شقيق المتوفّي على من يفترض أنّه رجل الكاميرا طالبا منه أن يتركهم وشأنهم، ورجل الكاميراالذّي يفترض أنّه لا يفهم العربية، أو ربما يتجاهل عمدا توسلاته، “كان الشقيق قد بادر إلى الصياح في وجه حامل الكاميرا، وأمره بالإبتعاد عنه وعن أمّه..قبل أن ينهار على الرّصيف باكيا، فيقفز الوافد حديثا من أوروبا بالكاميرا إلى جواره، مفترضا أنّه استسلم له، وليس لفقدان شقيقه” (58). بعد أن طلبت منه التوقف، ذهبت مندور وصديقاتها إلى حال سبيلهنّ.
هناك العديد من مثل هذه المشاهد التي تبتعد فيها الراوية عن نزاع محتمل، إلا أن الصراع المقموع المتماوج في حياتها اليومية في بيروت يصبح غذاء حوارها الداخليّ، مما يؤدي إلى ملاحظات وأفكار جميلة ولاذعة في آن واحد. في مرحلة ما، متحسّرة على تواصل بناء المباني السكنية الشاهقة في بيروت، تصف الراوية شاغلي هذه المباني بأنهم “نسبة أخرى رديئة النّوعيّة، تظلم وتسجن وتسيء المعاملة وتحدّد العطل وتوصل ليل الخدمة بنهارها وتقفل الثّلاجة، وتعتمد التّذمّر أسلوب كلام” (46)، بفظاظة تلبّي كلّ احتياجات المؤلف. وصفها للنّاس، والتفّاعلات، والمدينة حادّة ونقيّة، وتترك القارئ في نزهة عاطفيّة، حشويّة، ومذهلة في أحد العوالم الداخلية الدّيدالوسيّة لبيروت.
من المغري الترويج ل32 ككتاب حول بيروت، لأنه على مستوى ما ليس بشيء غير ذلك. لقد عشت هناك لمدّة سنتين (حالة أخرى من حالات الأجانب مبيّنة!) وكتابتها استنساخ حسّي موضعيّ مذهل للمدينة التّي أحببت، مرويّ من طرف ديوراما من الفرح والبؤس لدى امرأة واحدة. ولكن ستكون تلك قراءة ضيقة لعملها. بل قبل ذلك، هو كتاب عن النساء الشّابّات في المناطق الحضرية في أوقات عدم اليقين، عن قوة الصداقة وقيمة الصدق، وأكثر من أي شيء آخر، هو كتاب عن شبح الموت والفوضى. بهذا المعنى، فهي تقدم نافذة على المراهقة طويلة الأمد في القرن ال21، كسل وعفوية أن تكبر دون أي ضمانات عن العالم الذي تكبر فيه، دون معرفة ما إذا كانت التزامات من هذا العالم تستحق العناء، أو إذا كانت رحلة مرتجلة إلى الخارج أو تناول مشروب مع الأصدقاء في مكان مريح، كفيلان بجعل اليوم ينسكب بطريقة تسهل إدارتها في اليوم القادم. تتحدث مندور من داخل “جيل Y” في بيروت، أي النساء اللّواتي لا يوجد لديهنّ قالب سنّ رشد معيّن، لبنانيّ أو غيره، والذّي يناسبهنّ بطريقة تكفي ليستحّق ما تلزم خسارته من الحرية.
الأكثر سخرية من ذلك كله هو القول المأثور الذّي افتتحت به مندور الكتاب، والقائل: “هناك شيء ما في بيروت يبقي النّهاية ماثلة منذ البداية”. وذلك يؤكد على حقيقة أنه لا يوجد شيء عن بيروت وشعبها يجعل أي شيء واضحا، وحتى أقلّه أنّها تعطينا فقط لمحة عابرة على شخصياتها التّي تتحرك بسرعة السياقات، بما في ذلك بطلة الرواية، حيث يتمّ تركنا غير قادرات/ين على تخمين كيف يمكن لأيّ من قصصهنّ أن تنتهي. عندما يقترب الكتاب إلى نهايته، يصل الدرس الحياتيّ عندما تدرك الراوية أنّ “لشدّة خوفي من النّهايات، لطالما هربت منها، فبقيت قصص في حياتي معلّقة، بلا ختلم، كحرب لبنان الأهليّة” (165). فهي تتطوّر لتتغلب على هذا الخوف، ولكي تكبر بعيدا عن تشاؤمها، وأوّل من دعاها إلى ذلك هنّ صديقاتها، اللّواتي ذكّرنها ب”أننا نتعرّض للكثير ممّا لا تعترف به الحياة هنا علنا، ولذلك نخشاها. قالوا لي أنّ وضعي طبيعيّ” (166). وهذا هو التصريح الذي يجلب النهاية التي كانت واضحة طوال الوقت، وهي أنّ ممارسة النسيان والتظاهر الذّي يجعل المرء قادرا على المرور جنب السيارات المشبوهة والمتوقّفة في الشارع (وأن يخشى الصراصير بدلا من ذلك) ينهار بشكل دوري، وبعد ذلك نجتمع لتبادل هشاشاتنا ونبدأ من جديد.
- 1. وقعت ترجمة 32 إلى الإنجليزيّة من طرف ناشري جامعة سيراكوز سنة 2016.