الدليل الاختزالي
باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.
kohl-6-knowledge_epistemic_justice-ar.jpg
كنتُ قد اقترحت تسمية "الدليل الاختزالي" كمفهومٍ نسويٍ وكويريٍ مناهض للاستعمار لوصف كيفية قيام الكيانات المستعمِرة (من دولٍ ومؤسساتٍ وغيرهما) والفاعلين الاجتماعيين المتحالفين معها بتظهير عنصرٍ ما من المجتمع أو الثقافة المستعمَرين "كدليل" على الكلّ، وإضفاء الطابع الجوهراني عليه، وتوظيفه لاستعداء الآخر (باكيتا 2020). غالبًا ما يكون مضمون الدليل الاختزالي ممارسةً مرتبطة بالنوع الاجتماعي والجنسانية لدى قطاع محدود من المجتمع المستعمَر وليس الكلّ. الساتي في الهند (ماني 1998) وختان الإناث في "أفريقيا" (بركات 2019) والحجاب في "الشرق الأوسط" واستخدام الفلسطينيين للعنف في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي المجرم ونظامه القائم على الفصل العنصري والإبادة الجماعية، كلّها أمثلة على الممارسات الفئوية التي يتمّ تحويلها إلى أدلة اختزالية. أضع هنا كلمة "أفريقيا" و"الشرق الأوسط" بين مزدوجين للإشارة إلى تصوّرهما ككيانين متجانسين في الخطاب الاستعماري والاستشراقي. تعمل الأدلة الاختزالية داخل الكيان الاستعماري ولدى حلفائه كـ"حسّ مشترك" بالمعنى الذي قصده أنطونيو غرامشي (1934؛ 1991). وتتيح الصفة التمثيلية العامة التي تتخذها الأدلّة الاختزالية تبرير الممارسات الاستعمارية والرأسمالية والإمبريالية والعنصرية والتمييزية على أساس النوع الاجتماعي بالإضافة إلى رهاب المثليات والكويريات والعابرات. تحرّض الأدلة الاختزالية على الالتزام المعياري واسع النطاق داخل المجتمع الاستعماري-الإمبريالي. ويُعاد إنتاجها في النظريات والخطابات والممارسات النسوية والكويرية الساهية أو المتغافلة عن تاريخ الاستعمار والعنصرية.
لنأخذ ممارسة الساتي في الهند مثالًا لفهم البنية الاستعمارية-العنصرية وكيفية توظيفها لهذه الممارسة "كدليل اختزالي". يتمثل الساتي بإقدام الزوجة على إلقاء نفسها في محرقة جنازة زوجها المتوفى كي تُبعث معه. وقد قام البريطانيون بتفسير الساتي واستعراضه وتوظيفه لتبرير الاستعمار في الهند باعتباره مهمة تحضُّرية، علمًا أن ممارسته قبل دخول الاستعمار كانت تقتصر على شريحة صغيرة مَحظية من المجتمع الهندوسي، كما أن الأمر لم يكن مرتبطًا تاريخيًا بالنوع الاجتماعي بل بسلطة الدولة ومبدأ التقمص في اللاهوت الهندوسي لدى الطبقة (الكاست) العليا. فقد اعتقدت هذه الفئة من المجتمع بأن من يمارس طقس الساتي عند موت شخص نافذ و/أو محبوب يعود للتجسد معه، ويتحوّل الموقع الذي يتمّ فيه أداء الساتي في هذه الحالة إلى مكانٍ مقدّس. وكان الوزراء (ذكورًا وإناثًا) يُقبِلون على الساتي عند وفاة ملكهم أو ملكتهم. ولطالما انتقد المصلحون الهنود ممارسة الساتي (ماني 1998)، إلّا أنّ الإدانات البريطانية للساتي في ظل الاستعمار ساهمت في واقع الأمر في انتشار ممارسته كردّ فعلٍ قومي رافض. وبعد نيلها استقلالها السياسي عن بريطانيا عام 1947، لم تشهد الهند سوى حالات معدودة من الساتي بين السكان الذين ارتفع عددهم إلى أكثر 1.2 مليار نسمة. وقد سُجّلت آخر حالة ساتي عام 1984. ومع ذلك يستمرّ العالم اليوم في "تعريف" الهند من منظور الخطابات البريطانية عن الساتي. ثم إن هذه "المعرفة" لا تنتهي بانتهاء الاستعمار، وقد تحولت في عصر "مي تو" الحالي إلى تصوير الهند بطبيعتها واستثنائيتها كمهد للرجال المغتصبين والنساء الضحايا. إذًا، يتيح "الدليل الاختزالي" إدامة العلاقة الاستعمارية العنصرية إلى ما لا نهاية.
وكما هو الحال، يقدّم مفهوم "جرائم الشرف" العنصري الاستعماري دليلًا اختزاليًا لخدمة تصوّرات دول الشمال العالمي المهيمنة، في حين تفتقد لغات بعض المجتمعات التي يُفترض أنها مرتع "لجرائم الشرف" لمرادفٍ لغويٍّ يعبّر عن هذا المصطلح (طوغي 2007).1 "جريمة الشرف" هي إذًا أحد المصطلحات التي تستخدمها الكيانات الاستعمارية لتختزل المجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات قاتلة للنساء. علمًا أن الأرقام تثبت أن لا هوية قومية للجرائم الموجهة ضد النوع الاجتماعي، بل هي عامّة ومنتشرة على مستوى الكوكب. لكن وبالرغم من أن عدد جرائم القتل المنزلي ذات الطابع الموجه ضد النوع الاجتماعي في الولايات المتحدة يفوق نسبيًا تلك المسجلة في باكستان، بسبب سهولة الوصول إلى الأسلحة وارتفاع وتيرة أحداث العنف على أنوعها، إلا أن الخطاب العام يعمد إلى تخصيص الجرائم في باكستان وتحويلها إلى "دليل اختزالي" (لامبرت 2019). وللمفارقة، لا تقتصر الجرائم المتعلقة بالشرف في باكستان على النساء فحسب، بل يمكن أن يُقتل الرجال أيضًا بسبب تلطيخ أسماء عائلاتهم (أنيس 2022). ثم إن القتل الذي يستهدف النوع الاجتماعي في الولايات المتحدة أو غيرها من مواقع الشمال العالمي لا يحظى بتسمية خاصة ملفتة (مثلًا القتل على يد الثقافة الذكورية العنصرية) لأن التخصيص لا يطال سوى البلدان المستعمَرة والمعنصَرة. إذًا لا بد من إلغاء مفهوم "جرائم الشرف" من منظور نسوي مناهض للاستعمار لأن هذا المفهوم هو جزء لا يتجزّأ من الاستراتيجية الاستعمارية بل ويخدم الميزوجينية التي يدّعي مجابهتها. يصرف مفهوم "القتل دفاعًا عن الشرف" الانتباه عن كيف تُقتل النساء وغيرهن من الأشخاص المجنسنين والمهمشين بطرق أخرى مجنسنة سواء في باكستان أو الولايات المتحدة أو غيرهما، كما يعيق تحالفات نزع الاستعمار النسوية العابرة للحدود الوطنية.
لا تقتصر خطابات "الأدلة الاختزالية" على كونها مجرد وسيلةٍ لتشويه صورة مجتمعٍ معيّن بل تخدم أجندات سياسية بالغة التأثير. يتّضح ذلك في الادعاء النسوي الاستعماري الذي أطلقه جورج بوش في أعقاب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 عن اضطرار الولايات المتحدة لاحتلال أفغانستان بهدف إنقاذ النساء الأفغانيات من الرجال الأفغان (باكيتا وآخرون 2002). وقد استمدّ هذا الزعم معقوليته من مراكمة الخطابات الاستعمارية-الاستشراقية حول النساء المسلمات "الأكثر اضطهادًا منكِ" والرجال المسلمين "الأكثر ذكوريةً منكَ". وقد استلزم ذلك بالضرورة نسيان دور الولايات المتحدة في تحويل "طالبان" من حركة طلابية غير ذات شأن إلى حركة دينية سياسية مسلّحة في وجه الاتحاد السوفيتي. ومعنى تسمية "طالبان" في الأساس ما هو إلا "طالب". إذًا، قدّم بوش نفسه على أنه الأقرب إلى النسوية في وقت كان يعمل على إلغاء الإجهاض القانوني الذي يعدّ مكسبًا نسويًا أمريكيًا بالغ الأهمية. واكتسب ادعاء بوش صبغة "الحقيقة" نظرًا إلى انتمائه إلى الصورة الذهنية التي رسّختها الخطابات الاستعمارية عن المرأة المستعمَرة كضحية أبديّة لرجال مجتمعها ويتوجب على المستعمرين الذكور الأبطال تحريرها منهم. واقتضت سردية بوش تلك إغفال الأعداد الهائلة من القتلى والجرحى من النساء والأطفال والرجال وغيرهم من ضحايا الاحتلال والقصف العسكريين الأمريكيين، فضلًا عن أعداد لا تحصى من اللاجئين ودمار هائل للاقتصاد والدولة والبنية التحتية والبيئة في أفعانستان.
واليوم (2024) وفي معرض تبريرها للإبادة، تستخدم الدولة الإسرائيلية وحليفاتها من النسويات والكويريات الاستعماريات الأدلّةَ الاختزالية الاستعمارية الاستشراقية المكوّنة مسبقًا عن العرب والمسلمين باعتبارهم إرهابيين (بشكل عام)، وعن الرجال العرب والمسلمين كذكوريين (حتمًا) أكثر من غيرهم، وعن المجتمعات العربية والإسلامية كونها (دائمًا) مجتمعات أكثر رهابًا من غيرها. وتستخدم القوى الصهيونية الآن شتّى الأساليب لحشد هذه العناصر من الأدلة الاختزالية في إطار الحسّ الاستعماري المشترك. إذ تقوم دولة الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي بتصوير الإرهاب الشامل كنزعة عامة لدى جميع الفلسطينيين تهدد "الحضارة" لا بل الحياة (في الشمال العالمي)، لتبرير القضاء عليهم بشكل تام. وقد سخّرت توصيف "الأكثر ذكوريةً منكَ" لتصوير نشطاء "حماس" كمغتصبين منهجيين بهدف شحذ العواطف وحشد التأييد للإبادة الجماعية، في مقابل تجاهل عمليات الاغتصاب والتعذيب الجنسي الصهيوني للنساء والرجال وذوي الجنسانيات الأخرى من الفلسطينيين فضلًا عن حرمانهم من الرعاية الصحية والغذاء والماء والمأوى الملائم. وأخيرًا، تستخدم دولة الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي الصورة الذهنية عن الفلسطينيين كجماعة محكومة أبدًا برهاب الكويرية في حملاتها للغسيل الوردي كما في عدد من الممارسات القائمة على مبدأ "فرّق تسد" (محاولتها مثلًا إحداث الشقاق بين الكويريين/ات والغيريين/ات الفلسطينيين/ات ومحاولة ابتزاز الكويريين/ات). وردًا على ذلك، ترفض المجموعات الكويرية الفلسطينية بشكل منهجي فصلها عن باقي الشعب الفلسطيني وتطالب الكويرين/ات المتضامنين/ات معهم/ن من خارج فلسطين بتعبيرهم عن التضامن عبر إدانة الاحتلال الصهيوني أولًا.
في المحصلة، يمثل التعرّف على "الأدلة الاختزالية" وتفكيكها خطوةً بالغة الأهمية في التحليلات والممارسات ومساعي التضامن النسوية والكويرية المناهضة للاستعمار.
- 1. تشير فوزية طوغي (2007) إلى أن الأدبيات المتعلقة بـ"جرائم الشرف" في باكستان لا تأتي على ذكر الشرف أو القتل بل غالبًا ما تستخدم مصطلح "كارو كاري" (السندية: ڪارو-كاري، بالأوردو: ڪاروکاری) وتعني حرفيًا "الرجل الأسود" (كارو) و"المرأة السوداء" (كاري). يشير مصطلح "كارو-كاري" إلى الأشخاص ملوثي السمعة لارتكابهم فعلة الزنا على وجه الخصوص. وبمجرد إطلاق هذه التسمية يصبح جائزًا قتل الرجل والمرأة معًا، وليس المرأة وحدها.
Anees, Mariyam Suleman. 2022. ‘Honor Killings’ Continue Unabated in Pakistan. The Diplomat, July 28. https://thediplomat.com/2022/07/honor-killings-continue-unabated-in-pakistan/
Bacchetta, Paola, Sandeep Bakshi and Silvia Posocco. 2020. Decolonial Sexualities: Paola Bacchetta in conversation with Suhraiya Jivraj and Sandeep Bakshi. Interventions: International Journal of Postcolonial Studies, 22(4), 574–585.
Bacchetta, Paola, Tina Campt, Inderpal Grewal, Caren Kaplan, Minoo Moallem, Jennifer Terry. 2002. Transnational Feminist Practices against War. Meridians: Feminism, Race, Transnationalism, 2(2), 302–308
Barkat, Saida. 2019. Savoirs, Représentations & Pratiques d’intervention sur le Sexe altéré des Femmes Noires (France, XVIIe-XXIe siècle). Le dispositif biopolitique de la chirurgie des mutilations sexuelles : Technologies de genre, Race, Réparation et Soin. Doctoral Dissertation. École des Hautes Études en Sciences Sociales, Paris, France.
Gramsci, Antonio. 1991. Letteratura e Vita Nazionale. Rome: Editori Riuniti.
Gramsci, Antonio. 1934. Ai margini della storia: Storia dei gruppi sociali subaltern. Quaderni del calcere. Turin: Einaudi (2014), 25.
Lambert, Carol A. 2019. The Number of Women Murdered by a Partner Is Rising. Psychology Today, September 3. https://www.psychologytoday.com/us/blog/mind-games/201909/the-number-women-murdered-partner-is-rising
Mani, Lata. 1998. Contentious Traditions: The Debate on Sati in Colonial India. Berkeley: University of California Press.
Towghi, Fouzieyha. 2007. Scales of Marginalities: Transformations in Women’s Bodies, Medicines and Land in Balochistan, Pakistan. Doctoral Dissertation. University of California, Berkeley.