طقس كويريّ
لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".
cover-issue-6-2.jpg
“لا أريدك
كي أملأ أجزائيَ الفارغة
أريد أن أمتلئ وحدي
أريد أن أكون تامّةً
لأضيءَ مدينةً بكاملها
ثمّ
أريد لنا أن نكون معًا
لأننا حين نجتمع سويًا
يمكننا
أن نشعل النار فيها”
– روبي كاور1
كان شهر آب قد حلّ في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. إنه زمن الربيع. اخترنا مطعمًا فاخرًا غنيًا بالأطباق العديدة وبنبيذ جنوب إفريقيا السلس، أحد ضروريّات الجلسة. لبسنا ثياب البالغات ومشينا يدًا بيد. وبينما كانت الشمس القرمزيّة تنساب فوقنا، رحنا نتأمّل السنة الماضية من علاقتنا. يومذاك، وصفتِها بـ”تجربتنا الحتميّة” في الحب الكويريّ.
كم كان جميلًا حين رحنا نتفكر نقديًا في هذا الذي صرنا نسمّيه بصراحةٍ وصدقٍ “حبًا”. عاد ذهني إلى تاريخٍ من العاشقات والعشّاق، وإلى تاريخٍ من الاجتهاد من أجل تحقيق توقّعاتٍ معياريةٍ غيريةٍ غريبةٍ عمّا يعنيه أن أكون المرأة المثاليّة، والعاشقة المثاليّة، وربّة المنزل وإلهة الجنس، كلّ ذلك في آنٍ معًا. لكنّنا قررنا أن نبنيَ شيئًا مختلفًا، شيئًا يعكس فكرنا السياسي في هذا العالم، من أسلوب كلامنا مع بعضنا البعض، إلى الطريقة التي نلمس فيها بعضنا البعض؛ وكلّ ما بين هذا وتلك. هكذا يمكن للحبّ الكويريّ أن يكون.
في تلك اللّيلة، وفي دفء اتّحادنا المحفوف بالخمر، أدركنا أنّ رحلتنا في الحب تسعى إلى مواجهة تلك الأسئلة عن الحب الكويريّ – إلى تسليط الضّوء عليها، والتعامل معها واحتضانها برقّة. في خلال العام الماضي، بدأنا بوعيٍ وبرويّةٍ نخلع عنّا طبقات التاريخ المتّسم بالمعيارية الغيريّة، ونكسر تلك الأصفاد غير المرئية.
إنّ أحد تحدّيات الحب الكويريّ هو التغلّب على الافتراضات التي ترافق كلمة “علاقة” في مجتمعٍ أبويٍ غيريٍ رأسمالي؛ افتراضاتٌ بشأن الشراكة الأحاديّة والاستمراريّة، وبشأن التملّك والإخلاص، وبشأن الوفاء والكبرياء. عن قصدٍ، فكّكنا تلك الكلمات ومنحناها تعريفاتٍ جديدة على عكس معانيها الشائعة في العالم، بل في تناقضٍ تامٍ معها أحيانًا.
أخرجتِ مسوّدة برنامج العشاء، ومررتِ على المواضيع المحتملة. كانت لائحة الحب الكويريّ خاصّتك تحتوي على مواضيع كالصحة، والثروة، والجنس، والعائلة والمستقبل وغيرها. وذكّرتني تلك اللائحة بأننا نضع كل شيءٍ على الطاولة كي ندعم بعضنا البعض، وكي نكبر معًا وكذلك كلٌ منّا على حدًى، وكي لا تبقى أمورٌ غير محكيةٍ وغير مسموعةٍ وغير محلومٍ بها. ثم انجرفنا في الحديث عن قرارنا بأن نلتزم بشراكةٍ أحادية. ناقشنا طبيعة القوّة وتعريفات الجمال وتأثيرها في كيفيّة قراءة العالم لنا. وتحدّثنا عن احتمال انجذابك إلى أشخاصٍ غيري، كما يمكن أن يحدث، واتفقنا على أن نناقش عندها علاقة القوّة – الامتياز- الرّغبة مرةً تلو الأخرى، حتى نعثر على عرفٍ جديد لنا، وإن كان الأمر صعبًا؛ فهكذا يكون الشعور بالحب الكويري.
طالت الأمسية لتصبح ليلةً، وبدأت النظرات الجانبية المتوقّعة من الطاولة المجاوِرة ومن النادل شديد التهذيب، تلك اللمحات التي تذكّرنا بأننا الأخريان. المزاج، والإضاءة ونظرات الحب، كلّها كشفَت موعدنا الرومانسي، تلك العلاقة الغراميّة الملتهبة، ذلك الموعد الكويري. لكن في تلك الليلة، كنا نشعر بالأمان، وكنا مغرمتَين، وكان يمكن للعالم أن يرانا – كان حبّنا عميقًا وجليًا، يمكن للكلّ أن يراه، ويشعر به، ويتذوّقه ويشهده. أتُرى تمكن مشاهدة كل العشّاق والعاشقات كما شوهِدنا نحن في تلك الليلة؟
جالسة على الطاولة قبالتك،
متجاوزةً السكاكين والشّموع،
تتلامس أصابعنا.بهدوءٍ أهمهِم، بين الرشفات الصغيرة،
“أحبّ كيف…”
تشتهين جسدي.
برقّةٍ أحيانًا، وبقسوةٍ أحيانًا أخرى.
أصوات ومشاهد اللّذة المتبادلة.“أحبّ حين…”
تشاركينني نضالك.
تتحدّين فكري وسياساتي.
متمسّكةً بموقفكِ بجرأةٍ وبلطف.“أحبّ أنّك…”
تحبّين نفسك.
(في معظم الأحيان).
تشعّين. تتشرّب ذاتُك الكلّية حبّي لحبّك.
في النهاية، ننتشي بالنبيذ ونثمل حبًا.
كان ذلك العشاء نموذجًا مصغّرًا للعام؛ ذاك هو مذاق الحب الكويريّ. تشاركنا مع بعضنا البعض قصص انتصاراتنا على “الرّجل،” وذكّرنا نفسَينا بالمرّات التي منحنا بعضنا البعض الشجاعة للصّمود، واحتفلنا بقيمنا ومعتقداتنا. في تلك اللحظات، وطّدنا أسُسَنا، وحصّنّا نفسَينا مرةً أخرى.
أنتِ التي قلتِ لي مرةً أن لا علاقة للحب الكويريّ بالميل الجنسي أو بالتمثيل الجندري لمن نضاجع، بل له كلّ العلاقة بمواجهة ومفاوضة وتسمية القوّة الكامنة في ما بيننا – في داخلنا – على امتداد مساحة الطاولة. معًا، واجهنا اختلافاتنا الطبقية والجندرية والجنسية، وحتى اختلاف خياراتنا في الأكل والشرب والتدخين. في تلك الليلة، عرّفنا القوة التي أحكمت رباط حبّنا.
تلك المرّة التي ارتفع فيها صوتي،
صرختُ، بعنفٍ،
وهجتُ ضدّك.تلك المرة التي نبذتُ فيها تجربتك الحياتية لأنها لم تطابق وجودي ذي الامتياز،
أو اتخذتُ قراراتٍ عن حياتنا المشتركة،
وحدي، في غيابك.مرسِّخةً قوتي،
نافيةً قوّتكِ.لا يُفترض بأحدٍ أن يتلقّى غضبي، وغيظي، وإحباطي وجهلي.
في تلك الأمسية، فكّكنا مفاهيم العنف وعلّمتِني أنّ صوتي سلاح، وأنّ كلماتي قد تجرح عميقًا حتى العظم، وأنّ نبراتي قد تخترق كل الدّفاعات. وأدركتُ أني لا أريد أن أكون عنيفةً تجاه أحد، لاسيما تجاهكِ أنت. لذا، كان عليّ أن أتعلّم النزاع من جديد. كان عليّ أن أتعلّم من جديدٍ كيف أريد أن أُحِب، فمن دون هذا الوضوح والاستعداد للتعلّم، يغدو الحب الكويريّ غير ممكنٍ، لأنّ الحب الكويريّ هو مشروعٌ جمعيٌ مشتركٌ – ولا يمكنه أبدًا أن يكون عملًا فرديًا.
أخيرًا، انتهى العشاء. لعقنا فتات الشوكولاتة عن ملعقتَي بعضنا البعض، وسدّدنا الفاتورة. وبينما كنا نتوجّه إلى بيتنا، ذلك البيت الكويريّ قيد البناء، قلتُ في قرارة نفسي:
مباركَتان نحن،
فلنرقص ببطءٍ على وقع موسيقى “سام كوك”
عبر البلاطات السوداء والبيضاء في مطبخنا
فلنحتفل
بطقسِ
هذا الحبّ الكويري.
- 1. Rupi Kaur, Milk & Honey, 2015. Andrews McMeel Publishing