مقتطف من قصّة "القصر على التلّة العالية"

السيرة: 

وُلِد كريم قطّان عام 1989 في القدس، ويحمل دكتوراه في الأدب المقارن. صدر له عام 2017 مجموعة قصصية قصيرة بعنوان "مقدّمات لبستانٍ آتٍ" Préliminaires pour un verger futur، والتي وصلت إلى القائمة النهائية لجائزة بوكاس. أما روايته الأولى "القصر على التلّة العالية" Le palais des deux collines فقد حازت "جائزة القارّات الخمس للكتابات الفرنكوفونية" لعام 2021، بينما وصلت أحدث رواياته "عدن عند الفجر" L’Eden à l’aube إلى القائمة القصيرة لجائزة رونودو لعام 2024.

اقتباس: 
كريم قطّان. "مقتطف من قصّة "القصر على التلّة العالية"". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 11 عدد 2 (23 تشرين الأول/أكتوبر 2025): ص. 9-9. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 29 تشرين الأول/أكتوبر 2025). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/palace-higher-hill.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

مدير الترجمة في مجلة "كحل". تمارس الترجمة المكتوبة والتعاقبيّة مع تخصص في مجال السياسة والإدارة العامة وموضوعات الهجرة / اللاجئين والعلوم التربوية.

درست أمل الأدب الروسي ومارست عمل الترجمة لأكثر من 20 عامًا غطت خلالها طيفًا واسعًا من الموضوعات بما في ذلك الرياضة وأفلام الكرتون للأطفال والأفلام الوثائقية التاريخية والمسلسلات الدرامية والبحوث الإجتماعية والانثرويبولوجية وأما أبرز أعمالها فكانت في ترجمة البرامج السياسية التلفزيونية.

 

palace_higher_hill_ar.jpg

ميرا المير

المقتطف الآتي هو من رواية "القصر على التلّة العالية"، وقد كُتبت بالأصل باللغة الفرنسية، وترجمها إلى الإنجليزية جيفري زوكرمان وصدرت عن دار "فاوندري إيديشونز" في الثاني من نيسان/أبريل 2025 بعنوان The Palace on the Higher Hill. يمكنكم الحصول على القصة عبر الرابط التالي.

"بأسلوبٍ غاضبٍ مغموس بنَثر فصيح، يأخذنا كريم قطّان إلى فلسطين بحلّة حميميّة، تتشكّل في فضاء الخيال [...]. يمنحنا رؤية متأنّية بالغة التأثير، لمأساة الحرب. يرسم لنا صورةً عن وطنه تتبدّى للقارئ الناطق بالإنجليزية كأنّها انكشافٌ جديد لم يُرَ من قبل". أمّا المقتطف الذي اختير لهذا العدد من مجلة "كحل"، فيتناغم على نحوٍ عميق مع الحالة الجمعية المُثقلة بإحساس العجز، في خضمّ حرب إبادة تتوالى فصولها، وما تخلّفه من تنافرٍ واغترابٍ عن كل ما هو خارج معركة التحرّر وأهلها.

***

كانت تتراءى لي ثم تتلاشى، كطيفٍ يتردّد بين الظهور والاحتجاب، كأنّ سلكاً هوائياً خفيّاً تتقطّع صلته بالتردّدات الهوائية كلّما غضبت. أحسستُ أنّ وجودها هنا رهين أهوائها؛ فمتى استبدّ بها الغضب اضطربت تقاسيمها وتبعثرت، وحين يهدأ روعها عادت ملامحها الى انتظامها المعتاد. كان وجهها يزداد عتمةً كلّما علا صراخها، ثم يعود إلى شيءٍ من فتوره مع خفوت ثورتها. حتى صوتها لم يسلم من هذا التقلّب، يتردّد بين خشخشة متقطّعة وصفاءٍ نادر على امتداد النهار. ومع ذلك، مهما تبدّلت أحوالها، كان جليّاً أنّها من أهل هذا البيت؛ فقد كنت أستشعر أنّ بيننا الآن أو ربما كان بيننا صلة دم. 

ماذا كان عليّ أن أقول لها؟ لم يكن لي قول في أيٍّ من هذا: لا هذه الحرب، ولا التي سبقتها، ولا التي ستأتي بعدها. كانت قصة أسرتنا، في جوهرها، قصة عبثٍ وخيبة. كلّ من سبقوني كانوا، حرفيًا، بلا نفع ولا حيلة. ورثنا عنهم هذا البيت (القصر – أو بالأحرى مسخُ القصر!) كما ورثنا عبء عقمهم المطلق. لقد خسروا كلّ شيء، كلّ شيء بلا استثناء: حروبهم، معاركهم، منازلهم، بل وحتى شجاعتهم. أما أنا فاستسلمت لخيبتي ووجوديَ العقيم. لم أتوهّم يوماً أن يظهر ملاكٌ ليعتذر منّا ويعدنا بإصلاح ما كان. تاريخنا كلّه سلسلة طويلة من الكوارث، وأنا لست على استعداد لأن أغرق في كارثة جديدة تحت أوامر هذه السيدة العجوز. وإن كان هناك من يتحمّل مسؤولية وصولنا إلى هذا المصير، فهو أشخاص مثلها، ممّن باعوا أحلامهم، ثم أسلحتهم، ثم أولادهم. السيدة الثورية التي تحوّلت اليوم إلى راعية للفنون. وهل ظنّت حقًّا أنها ستتمكّن من التمسّك بهذا البيت… أيّامًا؟ شهورًا؟ طوال الزمن الذي ستستغرقه عملية إبادتنا!

في الأيام الأولى، كانت نوال تتحدّث بلا انقطاع، منذ خروجي من غرفتي وحتى عودتي للنوم. كانت تحمل في جعبتها عقودًا من الحكايات والشكاوى، كأنها تريد أن تفرغها كلّها. كانت ممتلئة بالكلمات حتى الثمالة، تنفجر منها كما لو أنّ الكون ضاق بها. لكن، لماذا الآن؟ ألم يكن الأَولى بها أن تفعل شيئًا منذ زمن، ربما أيام كانت تقيم تلك العزائم والسهرات؟ أما أنا، فقد ابتعدت عن كل ذلك منذ زمن، تاركًا أثره الباهت خلفي.

لقد ابتعدتُ عن كلّ ذلك… نعم، أنا، ثمرة رجال الأعمال وسيدات المجتمع الراقي، المقاومين حين يسمح لهم الشرع بالثورة، ابتعدتُ عن كلّ شيء. فماذا لو اختفينا نحن، بائعو البنادق والملابس الداخلية؟ بائعو الملابس الداخلية نعم… هل هذا ما أخجل من الاعتراف به لكم؟ سخيف جدًا، لم يكن لي أيّ شأنٍ فيه، ومع ذلك يتملّكني شعور بالخجل حيال هذه الحقيقة. فماذا لو اختفينا؟ لن نكون الأوائل ولا الأخيرين. أكبر مخاوفي ليس الفناء، بل أن يُساء فهمي، أن يُلتبس أمري، أن يُحكم عليّ بما لم أقصده.

"لسنا في فيلم غربي، يا أم أيوب"، انفجرتُ بها غاضبًا في المرة الأولى التي حاولت فيها إخباري بأنّ لديّ معركةً عليّ خوضها. "ربما لستَ مُلزماً، لكن غيرك مُلزم. كان عليك أن تراهم! رعاة بقرٍ بحقّ، بلطجية لا يرحمون. هل كنت لتترك بيتنا فريسةً في أيدي هؤلاء المتطفّلين؟"

***

في المطار، كنت نصف نائم على السلالم المتحرّكة عندما لفت انتباهي ملصقٌ بسيط ومتواضع يمتدّ لأمتار إلى جانبي:

قريبًا في حيفا، عمل ضخم لإحياء الذاكرة: متحف الثقافة الفلسطينية.

وفي تلك اللحظة، أدركت أن الأمر قد انتهى، وأن بائعي الملابس الداخلية والبنادق صاروا من الماضي. فإذا أرادوا تكريمنا، فذلك لأنهم انتصروا؛ لأنهم، من خلال هذا الفعل الاستباقي لتخليد الذكرى، يكونون قد أشرفوا بالفعل على محونا من الوجود. شعرت أن السلالم المتحركة تحملني نحو الكارثة الحتمية. في الماضي، كانوا يتّهموننا بأننا من نسج الخيال، كأننا شخصيات وهمية لا وجود لها. كانوا يقفون في مبانٍ برلمانية، يحدّقون في الأجانب ويصرخون: "لا، هؤلاء كائنات خيالية! لا وجود لهم! لم يكونوا موجودين قط! يقتلوننا وهم خطرٌ داهم، ومع ذلك هم من نسج الخيال!" أما اليوم، فهم يقيمون متحفًا، ويضعوننا خلف الزجاج إلى جانب بعض الفساتين المطرّزة ومعاصر الزيتون. يلوّحون بعصا سحرية، وفجأة نصبح، بحقّ، مادةً خيالية.

أعلم أنّني لن ألين أمام صياح نوال: السلالة العائلية تنتهي عندي. بعد فيصل، قُطعت الشجرة: عملية عقم تُسدَل على سلالةٍ بأسرها. لا نسل يحمله اسم العائلة أو شعور أمّة بالندم، ولن يُنقَل لقب الأب. لا حاجة للتشكّر أو الشكر. أنا كالسحلية العالقة على جزيرة ضائعة في رحاب الكون، وأنا سعيد لهذا الحال.

***

"هل لك أن تدّعي معرفة روح هذا الوطن وهمسه الخفي؟ تأمّل الضوء في الخارج، كم هو كامل؛ وانظر إلى الأفق البعيد، كيف يرقص ويضحك، يقترب فيأخذك إليه ثم يبتعد، كطفلٍ يلعب عند الماء. أرضي نار، أرضي محيط، أرضي نشيدٌ ينساب بين التلال، همهمةٌ تتلاشى في الصخب وتزول. انظر إلى العين المعدنية، وإلى الرعد، وهناك في الأسفل، تأمّل الزهور الجرسية تغطي "الجهاد القديم"، حيث تنتهي حدود العالم. هل ستترك هذه الجوهرة، هذه اللؤلؤة، في أيدي همجيين؟ هل تدرك، يا صغيري، يا أيها الغافل، هنا تُصنَع القرارات كلّها! ابتعد، وستتحوّل إلى لا شيء؛ ابتعد، وستفقد ذاتك. هل ستختار أن تصمّ أذنيك عن القدس، هديرها الباهت هناك، وعن أنغام مئات القرى، قريبة وأقرب؟ هل أنجبتُ متخاذلين، يستسلمون لصغرى الكوارت!؟ أنا، الذي كدتُ أرفع السلاح، أنا، الذي لو استطعت اليوم، لأمسكتُ بسكّين المطبخ ونزلت التلّ لأذبح كلّ روح أراها… أراه، هناك، في عينيك. أنت مثله، مولع جدًا بما هو أرقى في الحياة، متأمّل في نفسك، منغمس بها. لا أعجب لكونكم جميعًا خرجتم جبناء".

أحيانًا تتحوّل نوال إلى كائن يفيض كراهية، إلى وحشٍ يطلّ من أعماق الغضب. ذلك الصباح جاءتني، وأنا جالس في الحديقة أحدّق في الفراغ، فأطبقت عليّ بنظراتها المشتعلة. كنت واثقًا من أنّها ستنزل بي عقابًا بطيئًا، مميتًا. اقتربت، فغمرني الرعب حتى شلّ أطرافي. حينها تذكّرتكَ – نعم، لقد بدأتُ بالفعل بنسيانك، غير أنّ طيفكَ ما يزال يتسلّل أحيانًا إلى ذهني، كالضباب: شاحب، وجليّ الحضور. كادت عيناها تلتصقان بوجهي، لم أكن قادراً على تحريك عضلة واحدة. ظللت أتمتم: "أرجوكِ... أرجوكِ..." فيما الغضب يشتعل في ملامحها، حتى خُيِّل إليّ أنّها ستلتهمني في لحظة. مكثَت أمامي ثوانٍ صامتة، وجهًا لوجه، إلى أن عاد الـ"وسواس" وانقضّ علينا معًا، يحوم حولنا في دوامةٍ من الهمس والظلال. رجوتها متوسّلًا: "نوال... أرجوكِ، أرجوكِ، أرجوكِ...". وفجأة، استدارت على عقِبها، وغابت عن ناظري، مندفعة داخل البيت تتبعها ريح عاصفة، مطبقة الباب بقوة هادرة، جعلت الجدار والدار تهتزان.

ضاع من يدي خيط الحكاية. غير أنّ الذكرى وحدها تكفي لتبعث رعشةً مُلتهبةً في أوصالي. ها هي نوال الآن تجلس قبالتي، واجفةً مرتاعة، تُرهف السمع خشية أن يكونوا على مقربة. أما أنا فأستحضر صورتها في ذلك الطور الشيطاني المتلهف للانتقام. ولا أدري كيف أوفّق بين هذا الجسد الضعيف، المذعور، الغارق في كآبته، وبين تلك الروح الناقمة، التي تكشّفت أمامي ذات يوم.

لم أنوِ أن أُفضي إليكَ بتلك القصة، ولا شرعتُ في الحديث كي أجرّكَ إلى ظلال تلك اللحظة. إنما أردت أن أُحدّثك عن رحيلك... نعم، عن تلك اللحظة التي انسللتَ فيها مبتعداً عني. رحلت ولم أبصر لك أثراً. كنتَ صبورًا، لبثتَ أسبوعًا بأسره تنتظرني. أقمتَ في هذا البيت، منفردًا، على مقربةٍ منّي، تلمسني بيدٍ وادعة، تمسح عن روحي وحشتها، تُصغي إليّ حين يتهيّأ لي أن أنطق، وتجهد أن تردّ شيئًا من هذا العالم إلى هذا القصر الموبوء بالأشباح... وكدتَ أن تفلح.

ثم انصرفتَ. فماذا يُقال بعدُ؟ هَوى البابُ وراءك بعنف، ودَوّى صوتُه في أرجاء الدار دويًّا ما عهدتُ مثله قطّ. هنالك أيقنتُ أنّك مضيتَ إلى غير رجعة، وأنّ أمري قد انقضى. فعلتُ ما يفعله المرء إذا خانته الحيلة؛ أطبقتُ المزلاج الغليظ الذي يوصد الباب، وأدرتُ المفتاح في قفله الصغير، ثم خرجتُ إلى الشرفة. فإذا بالليل قد أخذ يُسلّم زمامَه لبياض النهار. كيف تنقلب الحال هكذا؟ كيف ينصرم الليل بلا إنذار، ويُولَد النهار؟ وكيف لك يا جورج… أنت الذي ما مضت ساعات قلائل على قُبلاتك، قد غدوتَ أثرًا بعد عين، وغبتَ غيابًا دون أي أمل بالعودة؟ تنفّستُ عميقًا، ونظرتُ لأرى الظلام يتلاشى، مُنبثقاً من أعماقه نور إشراقة الصباح... وهناك، عزمتُ أمري.

جلستُ على كرسيٍّ من الجلد الأحمر في "غرفة يافا"، حينئذٍ وهناك راودني منامٌ حول هذه الأرض التي أبغض. تراءى لي بأنّ شمسَ ذلك اليوم ستكون قويةً وقاهرةً بلا رحمة، ستَقْبِضُ بأنفاسِها على كلِّ ما تصادفه، شعاعٌ بعد آخر شعاع سيحرق الشجر والبيوت والناس، وحين يدنو المساء ستعلو رياح الصحراء فوق أرضٍ نقيّةٍ تماماً، أرضٌ خاليةٌ من كلِّ شيء. للمرّة الأولى دون أيّ شيء مُطلقاً، بلا صدى، وللمرّة الأولى سيسود الصمت هنا. يا لها من أرضٍ تليق بأن يموت المرء فيها.

انتظرتني نوال في المطبخ، كانت لتسعد برحيلك. كانت تطهو، وتُصفّر. لقد كنت هادئاً طوال تلك الفترة، لكن غطرستها أثارت غضبي.

"إنه خطأك! لقد غادر بسببك. ما الذي فعلتيه؟ لقد كان الشخص الوحيد، الوحيد الذي أراد العثور عليّ. لم أطلب منه شيئاً، وبالرغم من ذلك جاء. أترغبين في ربطي بسلسلةٍ ككلب؟ لقد جاء ليعثر عليّ. مَن ذا الذي جاء طوال حياتك لأجل العثور عليك أنت؟ لقد كان صبوراً جداً. ربّما لو تحلّى بالصبر أكثر لمجرد يومٍ أو اثنين، من يدري، ربّما…"

سمعَت بصمت، وبنصف ابتسامةٍ خبيثة، كما لو أنها فعلت شيئاً مؤذياً.

"كان بإمكانه أن يُنقذني، كنتُ لأحزم أمتعتي، كنتُ لأُطفئ كلّ الأنوار، كنتُ لأغلق الأبواب، كنتُ لأركب سيارته، وكُنّا لنعود، وكنتُ لأتركك ها هُنا، وحيدة، لأنك أنت من لا يُريد الرحيل".

لم تعد نوال تبتسم الآن، أجابت برِفق: "أنت الذي لم يشأ أن يُغادر معه".

***

أردتُك أن ترحل، لم أشأ في أن تكون صبوراً لمجرّد يومٍ أو اثنين أكثر. إنه قيدٌ مزدوج: كلّ ما أريده هو أن أتبعك، أن أعود، أن أترك ورائي هذا المنزل وهذا الشبح وتلك الذكريات الشقيّة. لكن، حبيبي، لا يمكنني إقناع نفسي بالتخلّي عن قطعة الأرض هذه حيث تُدفن جوزيفين وأيوب، حيث تُدفَن جثّة جدّي إبراهيم مُعانقةً جثّة ابنه أيوب. أريد أن أتبعك، لكن ليس بعد، يوم أتحرّر، سأعود. في يومٍ تسوده سعادةٌ أكبر. حين يفنى كلّ شيء. حتى الآن أنا مقيّدٌ، مقيّدٌ بتلك السماء وبهذه المقبرة.

 

ملحوظات: