عن تكوين الأحلام والسّعي للهجرة لدى الأجساد الكويريّة

السيرة: 

يارا أحمد طالبة ماجستير في الدراسات الجندريّة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهي حاصلة على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الإسكندرية في مصر. وتشمل اهتماماتها البحثية التأثير العاطفي والحياة اليوميّة، وكيفيّة حشد الخيال للنّاس ودفعهم للتحرك، والنظريّة الكويريّة، ودراسات الهجرة.

‫ ‫الملخص: 

ينظر هذا المقال في العلاقة بين الدولة والجسد عندما يكون في أقصى درجات الهشاشة، أي في مواضع الخيال وتكوينه، مستكشفةً كيف تتخيّل الأجساد الكويرية الحركةَ في ظلّ صعود الخطاب النيوليبرالي بشأن الحقوق والقوانين والمواطنة. كيف تطغى أدواتُ اللحظة النيوليبرالية على سيرورات الحلم بـ”مكانٍ آخر،” فتصوغ إمكانيات الحركة، والأماكن التي نستطيع تخيّلها وابتكارها والأماكن التي تبدو بعيدة المنال؟ في ضوء هذا، يشكّل مفهوم المواطنة محورًا رئيسًا في بحثي، ولاسيما المواطنة الجنسية، كتجسيدٍ لقدرة الدولة على إصلاح الذوات وإدخالها في بُنًى جامدةٍ محدّدةٍ وضمن آليات السيطرة والتحكم.

الكلمات المفتاحية: 
Migration
Movement; State
Neoliberalism
Imagination
Sexuality
كوير
Citizenship
اقتباس: 
يارا ممدوح أحمد. "عن تكوين الأحلام والسّعي للهجرة لدى الأجساد الكويريّة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 3 عدد 1 (2017): ص. 100-111. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 29 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/on-dream-making.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (570.34 كيلوبايت)
ترجمة: 

لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".

cover_issue_5_ar.png

هالة حسن

منذ بضعة أشهرٍ، حضرتُ ورشة عملٍ نظّمتها مجموعةٌ من ناشطي/ات “مجتمع الميم”1 في مصر عن اللاجئين/ات وطلب اللجوء. وضمّت الورشة شاباتٍ وشبابًا من “مجتمع الميم” في القاهرة معظمهم/ن من المصريين/ات المهتمين/ات بالتعرّف على تدابير طلب اللجوء ووضعيّة اللاجئ/ة، كما هدفَت إلى فتح المجال أمام مناقشة طموحات الهجرة الشخصية للمشاركين/ات. وقام المشاركون/ات العشرون، وغالبيتهم/ن من الرجال المثليين ذوي الهوية الجندرية النمطية، بمشاركة قصصهم/ن وتجاربهم/ن وآرائهم/ن بشأن الدول “الأكثر ملاءمةً” للهجرة، وبعض المعلومات عن كيفية التحضير للهجرة إلى الدول المختلفة. وكان أكثر ما فاجأني في تلك النقاشات مفهوم “الملاءمة،” وكذلك ممارسات تسمية وتصنيف بُنى الدول المختلفة التي تتيح للأفراد التنقّل بين الفئات – وإن على مستوًى خياليٍ حصرًا: من مهاجرٍ صاحب مهنة إلى لاجئ، أو من طالب لجوءٍ سياسي إلى مهاجر. وأثارت ورشة العمل أسئلةً مهمةً عن موقع الجنسانية في بنية الدولة. ما نوع الطموحات التي يمكن للأجساد2 الكويرية اختبارها إذا ما بقيت أحلامها ورغباتها مؤطرة دومًا في سياق الدولة؟ كيف تصوغ الأجساد الكويرية أفكارها عن “الحياة الأفضل” في ظلّ صعود الخطاب النيوليبرالي عن الحقوق والقوانين والمواطنة، وحيث يسود فهمٌ معيّنٌ للداخل والخارج، والممكن وغير الممكن، والقانوني وغير القانوني والحقيقي وغير الحقيقي؟ كيف تطغى أدواتُ اللحظة النيوليبرالية على سيرورات الحلم بـ”مكانٍ آخر،” فتصوغ إمكانيات الحركة، والأماكن التي نستطيع تخيّلها وابتكارها وتلك التي تبدو بعيدة المنال؟ استنادًا إلى مفهوم السياسات الحيوية (biopolitics) لـ”فوكو،” أستكشف في هذا المقال ما إذا كانت الأجساد الكويرية، كرعايا خاضعة للسياسات الحيوية للدولة، قادرةً على تخيّل أشكالٍ أفضل من العيش عن طريق تخيّل أشكالٍ أفضل من المواطنة؛ ما مدى وفرة المجال الذي تتيحه تلك الأجساد لتصوّر طرقٍ جديدةٍ للحياة وممارستها؟

يتّسم هذا المقال بالمحدودية لكونه لا يستند إلى عمل ٍ ميدانيٍ مكثّف، لكنني أبني دراستي فيه على المواد البحثية التي تتناول مواضيع المواطنة الجنسية، والهجرة، والذاتية وتفسير “لازارتو” لمجتمعات السيطرة، من أجل استكشاف العلاقة بين الدولة والجسد عندما يكون في أقصى درجات الهشاشة، أي في مواضع الخيال وتكوينه. بالإضافة إلى ذلك، أعتمد مقاربةً إثنوغرافيةً للبناء على مساحة ورشة العمل آنفة الذكر. وتندر في مصر المواد – البحثية منها وغير البحثية – التي تتناول الأفراد أو المجموعات الكويرية، لذلك تشتبك مقاربتي مع الأسئلة المطروحة نظريًا، بدلًا من الاعتماد على دراسة حالاتٍ أو تجارب معيّنة. وفي الختام، أودّ الإشارة إلى أن ورشة العمل المذكورة ضمّت مجموعةً مغلقةً ومحدّدةً من الشباب المطّلعين إلى حدٍ ما على لغة “مجتمع الميم” – سواء اختاروا التماهي مع تلك الهويات أم لا – وهو أمرٌ لا يعكس بالضرورة المواقف والذاتيات العامة للكويريين/ات المصريين/ات.

 

السياق الميداني

منذ العام 2001، تستهدف الشرطة في مصر الرجال المشتبه في انخراطهم في “ممارساتٍ مثلية”ٍ وتعتقلهم (Human Rights Watch, 2004). وعلى الرغم من عدم وجود أي قانونٍ يجرّم المثلية فعليًا، فإن الأشخاص المشتبه في إقامتهم/ن علاقاتٍ مثلية يواجهون تهمة الفجور. وبالنسبة إلى الدولة، فإنّ فئات “الميم” غير موجودة، لذا تُجمع كلّ هذه الأجساد المُجنسَنة في خطاب الدولة تحت مصطلح “الشذوذ” الذي يعني الإنحراف وعدم السويّة. ويمثّل وسمُ الممارسات هذا أسلوب الدولة في إدارة الأجساد غير المرغوب بها (Agier, 2011). ومن خلال إخفاء الذاتيّات الفردية، وفرض تجانسها في مجموعةٍ واحدةٍ، وتعريتِها ووضعها في دوائر الإستثناء، ترسي الدولة سيطرتها عليها. لقد منح اضطهاد الأجساد الكويرية وإدارتها فرصةً لأجهزة الدولة “لـ”أداء” خطاب الأمن القومي الذي (أُعيد) عبره إنتاج السيادة الوطنية وحفظ النظام السياسي” (Pratt, 2007, 129).

وتتنوّع التحليلات بشأن أسباب الحملة القمعية التي استهدفت العلاقات المثلية في مصر في العام 2001. ويقول “حسام بهجت،” المدير التنفيذي المؤسّس لـ”المبادرة المصرية للحقوق الشخصية،” أن تلك الحملة شكّلت محاولةً لتحويل انتباه الجمهور العام عن الأزمات السياسية والإقتصادية في مصر (Bahgat, 2013). وتطوّر “نيكولا برات” (2007) حجّة “بهجت” مستكشفةً كيف أن “معاقبة المثلية لم تُقدّم فقط كوسيلةٍ لحماية الرجولة المصرية بل أيضًا كوسيلةٍ لحماية الأمن القومي المصري” (137). ولا تنحصر الخطابات المتسمة بالمعيارية على أساس الغيرية الجنسية في مصر في المجال المنزلي الخاص حيث تُوزّع الأدوار الجندرية فحسب، بل هي أساسيةٌ أيضًا في الحفاظ على البنية الإجتماعية الغيرية التي تتّسع لتطال تعريفات المواطنة وأسس الدولة القومية (Pratt, 2007). وتبدو هذه السيرورة جليةً على نحوٍ خاصٍ في إطار العمل الديني – السياسي حيث غدت السرديات الدينية جزءًا لا يتجزأ من تشريعات الدولة، وباتت متواطئةً في عملية ضبط الأجساد (Pratt, 2007):

ليست العلاقات والهويات الجنسية مسألةً خاصة/ حميميةً فحسب، بل هي أيضًا “مجالٌ للرقابة والسيطرة المستمرة” وجزءٌ معقّدٌ من السيرورات الوطنية ومن عمليات الدولة التي تكوّن حقل السياسات الدولية (Pratt, 2007, 130).

وتزايدت الإعتقالات على نحوٍ ملحوظٍ منذ العام 2013، عام الإنقلاب العسكري على الرئيس الإسلامي محمد مرسي. ومن المرجح أن الحملة القمعية المتنامية تحاول بسط السلطة الضبطية لأجهزة الدولة في مرحلة ما بعد الثورة، وعكس صورةٍ من السيطرة والأخلاق والتديّن. واستهدفت هذه الحملة القمعية المناهضة للمثلية في مصر الرجال المثليين والنساء المتحولات جندريًا3 على نحوٍ خاص، وتضمّنت الرقابة الإلكترونية، ومداهمة المنازل الخاصة، والتعذيب وإخضاع المعتقلين/ات للفحوص الشرجية الإنتهاكية. ووفقًا للعديد من الناشطين/ات الكويريين/ات، هدف النظام الجديد من هذه المطاردة الموجّهة نيل حظوةٍ عند المجتمع ذي الغالبية المسلمة من خلال طرح نفسه كنظامٍ محافظٍ، بينما يتبنى في الوقت عينه موقفًا أكثر “ليبراليةً،” ويروّج لنفسه كنظامٍ أكثر جاذبيةً من نظام الإخوان المسلمين “المتطرّف” (Bahgat, 2013; Luongo, 2012). إن إنتاج صورة “الآخر/ الأخرى” شيطنَت الجنسانية “العلمانية المنحلّة” من جهةٍ، كما شيطنَت النظام الإسلامي “المتطرّف” من جهةٍ أخرى، ما ضمن مكانة النظام الجديد كحامٍ أبويٍ للأمة.

وفي خضم التهديد بالاضطهاد والوصم، يغدو واضحًا سبب لجوء بعض الأجساد الكويرية إلى الهجرة كوسيلةٍ للحصول على “الحياة الأفضل” المُتخيلة، سواء تعرّضت للاستهداف أم لم تتعرّض له. لقد ازداد النشاط الكويري انتشارًا في مصر منذ الثورة، وتجري غالبية الحملات وأنشطة زيادة الوعي في إطارٍ من السرية خوفًا من التهديدات الأمنية. وعلى الرغم من أن أسباب ازدياد النشاط والظهورية الكويرية ليست موضوع المقال، فإنها تضع مقاربتي في السياق السليم لجهة كيفية مساهمة التشبيك والتجمّع في ظروفٍ مماثلةٍ في تشكيل ذاتياتٍ عاطفية تصوغ خيالات وطموحات الأجساد الكويرية وتُعيد تشكيلها.

 

الدولة القومية وآليات الإدارة 4(dispositifs)

تتزايد صعوبة التفكير في الجسد خارج سياق الدولة، والمواطنة، والضوابط التنظيمية، وبطاقات الهوية أو انعدامها، والبُنى المتخفّية في هيئة الحضارة والحداثة التي تتزاحم لوزن أجسادنا وقياسها وتأطيرها. لقد طُبّع العيش في نطاق الدولة إلى حدٍ إستحال فيه كل ما يقع خارج ذلك النطاق إلى شيءٍ مجرد أقلّ من المستوى الإنساني (Agamben, 1998). وتفرض آليات الحوكمة المعاصِرة نوعًا من الآخرويّة على الأجساد وتسِمها بكونها غير مرغوبةٍ وغير شرعية. وفي السنوات الأخيرة، باتت سيرورات الإقصاء الممارَسة عن طريق أجهزة الدولة تعبّر عن نفسها على نحوٍ متزايدٍ، كما أخذت دوائر الإستثناء تُفرض على الأجساد التي تمثّل تهديدًا للدولة. وبينما تتصاعد الآخرويّة، تشتدّ معها ضوابط الدولة وأطر عملها التي تجهد لبناء المزيد من الجدران، وتوثيق المزيد من المعلومات الخاصة بحيواتنا وتشديد الحدود. هذا النوع من الحصر بالذات أثار اهتمامي ودفع بي إلى استكشاف المواقع التي تزعزعه. كيف تستطيع الطموحات وتكوين الأحلام إبقاء الأفراد وجنسانيتهم/ن وعلاقتهم/ن بالدولة في حركةٍ دائمةٍ، وبالتالي غير راكدةٍ على الإطلاق؟

إن السرديات المهيمِنة السائدة بشأن المهاجرين/ات الكويريين/ات الطامحين/ات تترجم طموحاتهم/ن كمجرّد انتقالٍ من النقطة “أ” إلى النقطة “ب،” خافيةً بذلك الأبعاد المساحية والعاطفية والذاتية المساهِمة في حركتهم/ن. وتنظر بعض التفسيرات إلى دوافع المهاجرين/ات الكويريين/ات الطامحين/ات كنتيجةٍ للرغبة في الإنتقال من “الشرق المظلِم” إلى “الغرب المتنوّر،” ومن بنية الدولة “القمعية” المتسمة بالمعيارية الغيرية إلى الدولة “الليبرالية” المتسمة بالقومية المثلية5(Puar, 2007). وأُدمِجت هذه السرديات في الخطابات السياسية خدمةً لسيرورات صناعة السياسات الدولية، كما أنها غذّت عمليات وسم الأجساد بالآخرويّة، منتجةً صورة الآخر/ى المثلي/ة العربي/ة المقموع/ة الذي/التي، كما حال المرأة الأفغانية السمراء، بحاجةٍ إلى الإنقاذ من “الدولة الإسلامية المتطرّفة.”

على سبيل المثال، في الولايات المتحدة التي تبرز في المخيّلات المهاجرة لـ”مجتمع الميم” في مصر، دُمِجت الأجساد الكويرية في أجهزة الدولة على نحوٍ يصبّ في الخطابات القومية عن الوطنية والمواطن/ة المتمتع/ة بالحقوق الليبرالية ((Puar, 2013; Richardson, 2017). ويمثّل هذا الواقع مثالًا عن دولةٍ تبنّت آليات الضبط بغرض تغليف الأجساد المُجنسَنة ضمن بُنى الهوية الوطنية، في وقتٍ يضمن عملية إدارة الأجساد والتحكم بها أمن هذه الدولة القومية. لقد أرست القومية المثلية نفسها كـ”جانبٍ من جوانب الحداثة،” ما يدفع بنا إلى التساؤل عن الدرجة التي عزّزت فيها هذه السرديات فعليًا الخطابات المعيارية الغيرية وتبنّت البُنى النيوليبرالية (Puar, 2013; Richardson, 2015).

وتغدو “الذات” ثابتةً ضمن الجهاز القانونى من خلال سرديات الحقوق و/أو العدالة، ما يسلّط الضوء على مساءلة الموقع الذي يحتلّه الجسد المُجنسَن في أطر عمل الدولة وضمن نماذج المواطنة. لقد غدت العدالة والحقوق مُطبّعةً بصفتها حكرًا على نطاق الدولة ومتاحةً عن طريق القانون حصرًا (Menon, 2004). ما الإمكانيات المتاح تحقيقها إذا ما قاومنا “مأسَسة الحقوق؟” وما الذي تخسره “الذات” عند تثبيت الجنسانية في نطاق الدولة؟

تقدّم “ديان ريتشاردسون” (2015) مراجعةً مثيرة للإهتمام حول أدب المواطنة الجنسية في مقالها “إعادة النظر في المواطَنة الجنسية،” حيث تستكشف مساهمة جسمٍ كبيرٍ من الآداب في إعادة التفكير بالجنسانية والمواطنة. وفي محاولةٍ لفتح المجال أمام الإحتمالات وطرق فهمنا للمواطنة، يحاول أدب المواطنة الجنسية إضفاء طابعٍ كويريٍ على إطار العمل المطبّع للمواطنة، من خلال نزع التجانس عنها وتمزيف تضاريسها (Richardson, 2015). لكن، من خلال تبنّي لغةٍ مغرقةٍ في مفاهيم الحقوق والدولة القومية، انتهى الأمر بالمواطنة الجنسية إلى التزام أطر العمل ذاتها التي حاولت التخلّص منها، ناسخةً بذلك الخطاب المتجانس ذاته عن الوجود المسيّس. وتؤشكل “ويندي براون” (1993) في كتابها “روابط جريحة”

…الطرق التي تحمل بها الهوية المسيّسة في طيّات مطالبها السياسية بعض الجوانب المقلِقة الخاصة بنسبِها المحدّد، وهي طرقٌ تقوّض بعض الأهداف التحرريّة للهوية السياسية، ليس فقط بفعل قيود الخطابات السياسية التي ترشح عن أعمالها، بل بفعل الرابط الجريح خاصّتها. (Brown, 1993, 391)

وتمثّل المواطنة الجنسية أو المواطنة في حدّ ذاتها شكلًا من أشكال العنف، بحيث يُثبّت الفرد في مواقع الدولة، ما يحدّ من قدرة الأجساد على الإستثمار في سيرورات الصيرورة (Menon, 2004). ووفقًا لـ”ريتشاردسون” (2015)، ترتبط هذه المحدودية على نحوٍ أوسع بمفهوم المواطنة في حد ذاته، إذ يموضع الدولة كحكَمٍ وحيدٍ للتغيير والعدالة.

وتقرّ ريتشاردسون” (2015) بالجرأة التي يوفّرها أدب المواطنة الجنسية لجهة تفكيك الكثير من المفاهيم المسبقة عن الجنسانية، والدولة وسياسات الهوية، لكنها تشير إلى أن هذا الأدب ظلّ يتّسم بمحدودياتٍ معينةٍ وبجزءٍ كبيرٍ من الميراث الإستعماري الغربي في ما يتعلّق بأطر عمل المواطنة. وتعتبر “ريتشاردسون” أن “التأطير المفهومي للمواطنة الجنسية يحاذي الفهم على نحوٍ يكوّن سيرورات الإقصاء والآخروية الثقافية” (Richardson, 2015, 8). بطريقةٍ ما، تعزّز أطر عمل المواطنة الجنسية الفهم الثنائي للمواطن/ة مقابل الدولة، والعام مقابل الخاص، ما يُطلّع “إنتاج آخرين وأخرياتٍ جدد” (Richardson, 2015). إن البعد الضمني لهذه السرديات الرئيسة يحدّ حتمًا من إمكانيات ابتكار طرقٍ جديدةٍ للحياة (Braidotti, 2005). وبطريقةٍ ما، هي تلك العوامل الحتمية التي تشكّل المقاربات للمواطنة الجنسية التي تقلق “ريتشاردسون” (2015)، سواء داخل الخطاب الأكاديمي أو خارجه. ومن خلال نزع الطابع الإستعماري عن مفهوم المواطنة الجنسية، يمكننا توسيع نطاق استكشاف طموح الهجرة لدى الأجساد الكويرية من دون أن تحدّنا في الأساس البُنى التنظيمية للدولة. ولا تمثّل تضاريس المواطنة الجنسية سوى عنصرٍ واحدٍ في شبكة واسعةٍ من تقاطعات الذاتيات، وهندسات القوّة، والصيغ العاطفية وآليات صناعة الفرد.

 

عن “الذات” والصيرورة

وفقًا لـ”ريتشاردسون” (2015)، الذاتية أكثر تعقيدًا مما تطرحه النظرية الإجتماعية الماركسية عن “الحتمية،” حيث يرتبط الفرد حتمًا بمجموعةٍ من البُنى المستبطَنة التي تحدّد كيفية تصرّفه/ا وتحرّكه/ا. ويجادل المنظّر الإجتماعي “أنطوني جيدنز” أن الذوات “تكون دائمًا “على علمٍ” وإن جزئيًا، وهي بالتالي قادرةٌ على التصرّف في البُنى التي صنعتها بل ومناهضتها أحيانًا” (Ortner, 2005. 33). إن سيرورات التشكيل الإجتماعي – السياسي ضمن مختلف ميادين السلطة – سواء تُرجم ذلك إلى أشكال المواطنة الجنسية أو غيرها – لا تستعبد الأجساد في عملية إنتاجٍ لامتناهيةٍ للرغبات والحركة والطموحات المضبوطة (Ortner, 2005). لكن الذوات تمتلك “درجةً ما من التفكير الانعكاسي بشأن ذاتها ورغباتها،” وهي بالتالي قادرةٌ على “اختراق” أنماط القوة وأجهزة التحكم والسيطرة (Ortner, 2005, 34). وعرّفت “شيري أورتنر” (2005) الذاتية كـ”توليفةٍ من أنماط الإدراك، والعاطفة، والتفكير، والرغبة، والخوف وما إلى هنالك من العناصر التي تحيي الذوات الفاعِلة” (31). إذًا، وإن بدا أفراد “الميم” الطامحين إلى الهجرة في ورشة العمل حالمين بحياةٍ “أفضل” من خلال التوق إلى أشكالٍ “أفضل” من المواطنة، فإنّ هذا التفسير الجوهرانيّ لطموحات الهجرة يتجاهل تمامًا الدرجات المختلفة من المعرفة المتجسّدة في الذات وقدرتها على التصرّف حيالها.

عند تفكيك طموحات الهجرة، نتوصّل إلى فهمٍ للذاتية أكثر صقلًا ودقة. ولم تكن المحادثات بشأن الهجرة في مساحة ورشة العمل تلك مجرّد تعبيرٍ عن مختلف بُنى المواطنة، بل كانت فعل اجتماعٍ لتبادل القصص والطموحات الشخصية، ما يكشف قدرة الذوات الشخصية للمشاركين/ات على أداء دورٍ في تحركاتهم/ن الخاصة، وفي كيفية تصرفهم/ن حيال آمالهم/ن وأحلامهم/ن. ولا يحاول هذا الفهم تجاهل التشكيلات التي تساهم في “تشكيل الذاتيات ضمن عالمٍ تسوده علاقات القوة غير المتكافئة على نحوٍ وحشي،” بل يدرك أن هذه التشكيلات ليست خطيةً أو ذات وجهةٍ واحدة. بدلًا من ذلك، تعبّر “تعقيدات الذاتيات الشخصية في عالمٍ كهذا” عن نفسها كل يومٍ بطرقٍ متنوعة (Ortner, 2005, p. 46). وفي وقتٍ رفع الجميع أيديهم/ن لدى سؤال ميسّرة الورشة عمّن يسعى إلى الهجرة، لم ترفع إحدى المشاركات يدها، وسأدعوها “ه. ن.” إقتربت الفتاة مني وصارحتني بشعورها بالذنب لكونها من بين قلّةٍ من المشاركين/ات ممّن يمتلكون بطاقة سفرٍ إلى خارج البلاد. كانت مواطنةً أميركيةً تحمل جواز السفر الأخضر الذي بدا أن كل من في الغرفة يبتغيه. وبمزيجٍ من العربية والإنكليزية قالت لي: “أسرتي جزءٌ أساسي من هويتي، وبالنسبة إلي، ليس سهلًا الإقدام على أمرٍ كهذا.” لكن الكثير من العوامل المختلفة كانت تؤثر في مشاعرها تجاه الهجرة. كانت لا تزال تريد ترك البلاد برفقة حبيبتها في وقتٍ ما، لكن كانت لديها في الوقت عينه أسبابٌ كثيرٌ تجعلها تعيد التفكير في الهجرة، مثل أسرتها، وصديقاتها وأصدقائها، ووضعها المادي ورغباتها ومخاوفها الخاصة.

تحفّزني فقط فكرة أن أتصرّف على سجيّتي، وأن أكون محاطةً بأشحاصٍ لا يرون أي مشكلةٍ في علاقتي العاطفية… وكلما فكّرت في حفل زفافي، أفكر في حضور والديّ، وفي كونها أسعد لحظات حياتي (ه. ن.)

الهجرة الذهنية وتكوين الأحلام

يمكن فهم القدرات التخيّلية للذات كشكلٍ من أشكال الحركيّة التي تتيح المزيد من الإمكانيات للذاتيات لتعيد تشكيل الحدود وصياغة التجارب (Bal and Willems, 2014; Salazar, 2011). هكذا، تغدو الهجرة الذهنية للأجساد الكويرية موحيةً بقدر تجسّد طموحات الهجرة خاصّتها، إذ لا يجب على الحركة أن تكون واضحةً لعين العقل، فنحن نهاجر ذهنيًا طيلة الوقت، ونبتكر ذواتًا أخرى وأزمنةً – أمكنةً أخرى. نفكّر بالمستحيل، ونصوغه في كلماتٍ وصورٍ، ونترجمها ثم نعيد ترجمتها. نحن نلجأ باستمرارٍ إلى لغاتٍ مختلفةٍ لسرد أحلامنا وصياغتها. إذًا، بمعنًى ما، يتضمّن عبور الحدود إستثمارًا زمنيًا في تكوين الأحلام، كما أن الحركية تغتذي من “قدرة المسافرين/ات وشبكاتهم/ن على تخيّل أماكن وحيواتٍ أخرى” (Salazar, 2011, 577). “حتى عندما يكون الشخص مقيدًا بالمكان،” تكون مخيّلته/ا في حركةٍ، وترسم كتلةً من الصور، والرغبات، والمخاوف والطموحات (Salazar, 2011, 577). هناك دومًا “مكانٌ آخر” – سواء على مستوى المكان أو الزمان أو الأبعاد – يستحوذ على طموحات الشخص، ذلك الـ”هناك” الفانتازميّ الذي يجعل جسد الشخص وجنسانيته/ا وعلاقته/ا بالدولة سلسةً دومًا.

ما الذي يشكّل هذه التخيّلات؟ هناك نظرية الدفع والسحب التي تجدها “إيلين بال” و”روز ويليمز” (2014) إشكاليةً، وهي نظريةٌ كلاسيكيةٌ ترى في العوامل الإقتصادية الدافع الأول لهجرة الناس. وتتجاهل هذه المقاربة الإمكانيات الجوهرية للذاتيات – أي تلك القوى الشخصية والعاطفية التي تكتسب أهميةً خاصةً في تشكيل طموحات الهجرة (Bal & Willems, 2014). وتقدّم “نويل سالازار” (2011) فهمًا أكثر شمولًا لتخيّلات الهجرة في “قوّة التخيّل في الحركيّات العابرة للحدود” (The Power of Imagination in Transnational Mobilities)، إذ ترى فيها “ممارسةً متجسّدةً لتجاوز المسافتَين المادية والإجتماعية – الثقافية” (Salazar, 2011, 577). إذًا، تتكوّن المخيلة إجتماعيًا ضمن المساحة الجيوسياسية للآن والهُنا، كما أن تداول أفكار “الأماكن الأخرى” و”الحيوات الجيدة” الأخرى تصوغ طموحات الهجرة. وفي بعض الأحيان، يؤسّس فعل المخيّلة الجماعية لتحركات الأشخاص، وهي مخيّلةٌ تشكّلها نبرات القصص والأساطير المخيطة بالمواطن الأخرى. إذًا، وإن لم تتحقّق الهجرة الفعلية لـ”مجتمع الميم” في ورشة العمل، فإنّ أفراده كانوا منخرطين/ات في أشكالٍ مختلفةٍ من الهجرة الذهنية من خلال إبتكار صور الحيوات التي يرغبون بها، والأماكن والمساحات التي يحلمون باحتلالها. وبدا ذلك واضحًا على نحوٍ خاصٍ في النقاشات والحوارات التي عبّر فيها أشخاصٌ عدّة عن رغبتهم/ن في الإنتقال من “هُنا” إلى “مكانٍ آخر” – من دون تحديد ذلك المكان. وهذا “المكان الآخر” هو نتاج المخيّلة التي تغذّي وتتغذّى من رغبات وآمال وعواطف المهاجرين/ات الطامحين/ات، ويغدو أحد العوامل التي تشكّل ذاتيّاتهم/ن.

 

الرؤوس المتعدّدة للسيطرة

القول أن السلطة استحوذت على الحياة في القرن التاسع عشر، أو القول أن السلطة بالحد الأدنى تشمل الحياة في كنف رعايتها في القرن التاسع عشر، يعني القول أن السلطة – وبفضل اشتغال تقنيات الضبط من جهةٍ وتقنيات التنظيم من جهةٍ أخرى – نجحت في تغطية كامل المساحة الكامنة بين العضوي والبيولوجي، وبين الجسد والمجتمع. نحن إذًا في كنف سلطةٍ تسيطر على الجسد والحياة، أو بالأحرى، تسيطر على الحياة عمومًا – بحيث يمثّل الجسد الدعامة الأولى، ويمثّل المجتمع الدعامة الأخرى. (Foucault & Ewald, 2003)

إذا ما ابتعدنا عن الفهم الثنائي لطموحات الهجرة، كيف يمكننا النظر في آليات إدارة الأجساد الكويرية من دون إخفاء الذاتيات والممارسات العاطفية لتكوين الأحلام، والتي تساهم في صياغة حركيّة تلك الأجساد؟ لقد وجدت في أعمال “لازارتو” فهمًا مصقولًا لطموحات الهجرة، فهو لا يناقش الهجرة بشكلٍ مباشرٍ، لكن مقاربته تأخذ في الحسبان الذاتيات المعقدة للمهاجرين/ات الطامحين/ات وتبتعد عن الفهم الثنائي لممارساتهم/ن. ويبتعد “لازارتو” أيضًا عن الفهم الحتمي للذات بصفتها مدفوعةً حصرًا بالقيود المالية، وخاضعةً كليًا للقدرات المتراكمة للسوق الإقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، يعقّد فهم “لازارتو” (2006) للبُنى الحديثة للنيوليبرالية فهمنا الخاص للإقصاء، إذ أن إقصاء الأجساد وتهميشها ليس نتيجةً حصريةً للبُنى الرأسمالية العالمية، بل إن “أنظمة الرموز، وآليات التعبير والتراكيب الجماعية للتعبير (القانون، والمعارف، واللغات والرأي العام، إلخ.)” تؤدّي كلها دورًا هامًا في تذويت الأجساد (Lazzarato, 2006, 172). ولا يهدف هذا إنكار أو تجاهل القوة التي يوظفها رأس المال في تصنيف الناس، والأماكن، والإقتصادات وأجزاء الحياة (مثل البيئة) (Sassen, 2014)، لكن حجّة “لازارتو” (2006) ترى في تقاطع الأشكال المختلفة لآليات الضبط والتحكم والسياسات الحيوية المولّدة للبنية فوق القوميّة، تركيبةً معقّدةً متقاطعةً ومتعدّدة الطبقات تصوغ الأجساد النيوليبرالية. باختصارٍ، يتّسم مجتمع التحكّم لدى “لازارتو” (2006) بتركيبةٍ تضم: 1) الآليات التكنولوجية العاملة عن بعدٍ، أو بمعنًى آخر، السلطة العاطفية الناتجة عن تداول الكلمات، والكتابات، والصور والرموز عن طريق الوسائل التكنولوجية كالإنترنت، والهاتف والراديو، إلخ؛ و2) السلطة الحيوية التي تستثمر في التحكم بـ”السيرورات الكلية الخاصة بالحياة، مثل الولادة، والوفاة، والإنتاج والمرض” (Lazzarato, 2006, 178)؛ و3) التحكّم بالسكان عن طريق التلاعب بـ”التصورات الجماعية والذكاء الجماعي” من خلال “قوة الدماغ في التأثير والتأثر” (Lazzarato, 2006, 180). إذًا، يتشكّل مجتمع التحكّم عن طريق ضبط الأجساد باستخدام مختلف أساليب التدخّل والإدارة، مثل حصرها في المؤسسات الضبطية (المدرسة والمستشفى، إلخ.)، وإدارة الأراضي، والتحكّم في تداول المعرفة، والإشارات، والصور، واللغات والرموز (Lazzarato, 2006). بمعنًى ما، تصوغ مجتمعات التحكّم عملية إنتاج الرغبات، والمعرفة، والمعتقدات والطموحات. ويجادل “لازارتو” قائلًا:

إن حصر الفعل والتحكّم به وتنظيمه في المساحة الفاصلة بين دماغٍ وآخر يحدث من خلال معايرة تدفّقات الرغبات والمعتقدات، ومن خلال القوى (الذاكرة والإنتباه) التي تتيح تداول هذه التدفقات في التعاونات بين الأدمغة. (Lazzarto, 2006, 185)

لكن استكشاف مفهوم “لازارتو” لتذويت الأجساد لا يعني أن الذاتية هي سجينةٌ مطلقةٌ للآليات المذكورة، وبدا ذلك واضحًا في ورشة العمل حين ناقش المشاركون/ات مختلف الطرق التي يمكنهم/ن عبرها الإشتباك مع بُنى الحدود، وتأشيرات السفر، وتدابير الهجرة، والصور والتكنولوجيا والتحايل عليها في طبخةٍ واحدة، أو بمعنًى آخر، الطرق التي يتأرجحون عبرها بين تلك الآليات بغرض تحقيق طموحاتهم/ن وأحلامهم/ن. وطرح المشاركون/ات حالاتٍ عدّةً لأفرادٍ من “مجتمع الميم” فبركوا قضايا قانونية مدّعين/ات تعرّضهم/ن لنوعٍ من القمع المتعلّق بجنسانيتهم/ن، مستخدمينها كدليلٍ على تعرّضهم/ن للتهديد في وطنهم/ن، كدعامةٍ لطلبات اللجوء السياسي خاصّتهم/ن. إذًا، لا يعني إجتماع أفراد “الميم” بالضرورة أنهم/ن يحتلّون إطار عملٍ زماني/مكاني متجانس كمجموعةٍ، إذ يتقاطع كل فردٍ ويتداخل في المستويات والتراكيب المختلفة للحياة اليومية، بغرض صياغة وإعادة صياغة موقعه/ا الفردي ضمن مجتمع التحكّم. إن ربط أحلام الهجرة بجنسانية المشاركين/ات حصرًا هو ربطٌ إختزالي، فالقوى متعدّدة المستويات والمتقاطعة في ما بينها تشكّل طموحات الهجرة خاصّتهم/ن. وبدا ذلك واضحًا في تعبيرات المشاركين/ات عن آرائهم/ن المتنوعة بشأن الدول الأكثر “ملائمةً” للهجرة إليها، ما كشف تقاطعاتٍ بين الموقعيّات الإجتماعية الثقافية، والعرق، والجنسانية، والإثنية، والدين وكذلك اعتبارات الفرص الإقتصادية التي قد توفّرها دولةٌ معيّنةٌ دون أخرى. وعندما عرضت ميسّرة الورشة شريحةً بيانيةً تقارن بين دول الهجرة المحتمَلة، طرح المشاركون/ات آراءهم/ن بشأن اللغات الأسهل للتعلّم، وتجاربهم/ن الخاصة عن الدول الأكثر تمييزًا ضد المهاجرين/ات، بالإضافة إلى مقترحاتهم/ن بشأن الدول التي يرجح تأمين تعليمٍ أو وظيفةٍ جيدةٍ فيها. ولدى التفكير في المكان الذي قد يستثمرون فيه طموحات الهجرة خاصّتهم/ن، فإنّ كافة هذه التقاطعات والطرق المعقّدة التي يشكّلون بموجبها أنفسهم/ن في حيواتهم/ن اليومية ضمن مجتمع التحكّم، تبرز لتؤدّي دورًا هامًا.

إن خلق المساحة الخاصة بورشة العمل هذه، حيث اجتمع أفراد “مجتمع الميم” لمناقشة طموحاتهم/ن في الهجرة ومشاركة قصصهم/ن وتجاربهم/ن والإستثمار في تكوين الأحلام، تعكس الإمكانيات الممكن تصوّرها وممارستها. بالإضافة إلى ذلك، ولّدت مساحة ورشة العمل في حدّ ذاتها المسارات المحتملة التي يمكن للأجساد الكويرية الطامحة بالهجرة اجتيازها، والطرق التي تنخرط بموجبها ذاتيّاتهم/ن في مناورةٍ مستمرةٍ ضمن مجتمع التحكّم. وفي تلك الورشة، اجتاز “مجتمع الميم” الحياة اليومية من خلال استراتيجيات “مقياس القفز،” إذ وظّفوا اللغة المراوِغة الخاصة بالدولة والحدود المُعاد ترسيمها، كما حوّلوا أدوات مجتمع التحكّم وأبعاد الشمول/ المحيطة به لاستخدامها في سيرورات الصيرورة واستعادة مساحتهم/ن.

وعلى الرغم من أن مفهوم “مقياس القفز” يُستخدَم في أدب المساحة للإشارة إلى إعادة قياس الأراضي والحدود، فإنّني أستخدمه في هذا السياق للإشارة إلى إعادة قياس الطموحات باستمرارٍ، وبالتالي ذاتيات الأجساد الكويرية. إن الوقوع “داخل” نطاق الشرعية و”خارجه،” واحتلال موقعٍ حدوديٍ بين السرديّات الرئيسة للقومية المثلية ولخطابات الدولة المعيارية الغيرية في مصر، والإندماج الهادف في السرديّات الرئيسة بغرض تحقيق الأهداف الشخصية، والتأرجح بين فئات المهاجر/ة، وطالب/ة اللجوء والمهاجر/ة صاحب/ة المهنة، هي كلّها أمثلةٌ على ما يمكن لاستراتيجيات “مقياس القفز” توفيره. وفي هذا السياق، يستخدم المهاجرون/ات الطامحون/ات من أفراد “الميم” نظام الهجرة المقرّ من قبل الدولة – وميزاته الشمولية والإقصائية – لتحقيق أحلامهم/ن. وتغدو هجرتهم/ن الذهنية أو المادية استثمارًا في مسارات الافلات التي توسّع إمكانيات حركتهم/ن وقدراتهم/ن التخيّلية Papadopoulos­­, Stephenson, & Tsianos, 2008)). قيل لي مرةً أن الإحصاءات تجرّد التجارب الإنسانية من تعقيداتها وتفاصيلها، لذا أؤمن بأن تناول الهجرة الذهنية يكشف فهمًا مختلفًا للحركة لا يمكن اقتفاء أثره في الخريطة أو جمعه في وثيقة بيانات.

ملاحظة المترجمة: يُنقَل مصطلح “Dispositif” إلى آلياتٍ، أو جهازٍ، أو جاهزيةٍ أو ضابطٍ للسلوك الخطابي، ونعتمد في هذا النص مفردة “آلياتٍ” لغرض الإيضاح والتبسيط.

  • 1. “مجتمع الميم” أو الـ”م.م.م.م.” يعني المثليين/ات ومزدوجي/ات الميول الجنسية والمتحولين/ات جندريًا (LGBT). وتتماهى هذه المجموعة المحدّدة من المشاركين/ات في الورشة مع هذه الهويات، لكن القول أن هذه الهويات تحمل المعنى الثقافي ذاته الذي يحمله مصطلح LGBT بالإنكليزية هو قولٌ اختزالي. وتؤدّي اللغة دورًا محوريًا في نقل المعاني المرتبطة بها، لذا تتبدّل المعاني وتتغيّر لدى ترجمتها من الإنكليزية إلى العربية أو العكس. ولغرض هذا المقال، سوف أستخدم مصطلح “مجتمع الميم” للإشارة إلى مجموعةٍ من الأشخاص ممّن اجتمعوا معًا في سياق ورشة العمل المحدّدة تلك. ومن المهم هنا إدراك أن “المفاهيم تُصاغ بفعل السياقات التي تنبثق عنها.” وعلى الرغم من استخدامي مصطلح “مجتمع الميم” للإشارة إلى مجموعةٍ معينةٍ من التجارب في مصر، من المهم إدراك المسائل اللامرئية التي تحتويها هذه اللغة (Richardson, 2017). إلى حدٍ كبيرٍ، وفي إطار خطابات الجنسانية غير المعيارية، تطرح فئات “الميم” التحديات ذاتها التي تطرحها فئات LGBT لجهة اعتمادها على الهويات المسيّسة، ما يعني أن الإقصاء واقعٌ حتمًا.
  • 2. في هذا المقال، أستخدم مصطلح “الكويرية” للإشارة إلى سيرورةٍ تتجاوز المفردات المركّبة لفئات الهوية، فالكويرية تسمح بالمرونة وتتيح تصوراتٍ متعدّدةً للجندر والجنسانية، مبتعدةً عن التعريفات الثابتة والجامدة. بهذا المعنى، تغدو الكويرية سيرورةً لامتناهيةً من الصيرورة التي تسائل الثنائيات وتتحداها باستمرار.
  • 3. “في العادة، تُلاحَق النساء المتحولات جندريًا على أنهن رجالٌ لأن الشرطة والمحاكم والإعلام الجديد في مصر لا يفرّق فعليًا بين الرجال المثليين والنساء المتحولات جندريًا” (Stack, 2015).
  • 4. يُعرّف “فوكو” مصطلح Dispositifs كـ”توليفةٍ تتّسم بالتغاير الكلّي وتتكوّن من الخطابات، والمؤسسات، والأشكال الهندسية، والقرارات التنظيمية، والقوانين، والتدابير الإدارية، والنصوص العلمية، والفرضيّات الفلسفية والأخلاقية والخيرية – باختصارٍ، كل ما هو مُقالٌ وغير مقالٍ أيضًا. هذه هي عناصر جهاز الدولة. أما الجهاز في حد ذاته فهو نظامٌ من العلاقات التي يُمكن إرساؤها بين هذه العناصر.” (Foucault & Gordon, 1980, 194).
  • 5. سكّت “جاسبير بوار” مصطلح “القومية المثلية” في كتابها تراكيب إرهابية (Terrorist Assemblages, 2007)، وتعرّفه كـ”جانبٍ من جوانب الحضارة وتحوّلٍ تاريخيٍ موسومٍ ببروز (بعض) الأجساد المثلية المتسمة باستحقاقها نيل حماية الدولة القومية، ما يمثّل إعادة توجيهٍ تأسيسي وجوهري للعلاقة بين الدولة، والرأسمالية والجنسانية” (Puar, 2013).
ملحوظات: 
المراجع: 

Andrijasevic, R. (2009). “Sex on the Move. Gender, Subjectivity and Differential Inclusion.” Subjectivity, 29(1), 389–406.

Agamben, G. (1998). Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life. (D. Heller-Roazen, Trans.) (1 edition). Stanford, Calif: Stanford University Press.

Agier, M. (2011). Managing the Undesirables: Refugee Camps and Humanitarian Government. (D. Fernbach, Trans.) (1 edition). Polity.

Bahgat. (2013, March 6). “Explaining Egypts Targeting of Gays.” Retrieved April 16, 2017, from https://web.archive.org/web/20130306142709/http://www.merip.org/mero/mer...

Bal, E., & Willems, R. (2014). “Introduction: Aspiring migrants, local crises and the imagination of futures ‘away from home’.” Identities21(3), 249–258. https://doi.org/10.1080/1070289X.2014.858628

Brown, W. (1993). “Wounded Attachments.” Political Theory21(3), 390–410. https://doi.org/10.1177/0090591793021003003

Foucault, M., & Ewald, F. (2003). “Society Must Be Defended:” Lectures at the Collège de France, 1975-1976. Allen Lane.

Foucault, M., & Gordon, C. (1980). Power/knowledge: selected interviews and other writings, 1972-1977. New York: Pantheon Books.

Human Rights Watch (Organization) (Ed.). (2004). In a time of torture: the assault on justice in Egypt’s crackdown on homosexual conduct. New York: Human Rights Watch.

Lazzarato, M. (2006). “The Concepts of Life and the Living in the Societies of Control.” ResearchGate, 171–190. https://doi.org/10.3366/edinburgh/9780748620920.003.0009

Luongo, M. (2012). “Egypt’s fading LGBT movement.” Retrieved June 27, 2017, from http://www.salon.com/2012/03/08/egypts_fading_lgbt_movement/

Ortner, S. B. (2005). “Subjectivity and cultural critique.” Anthropological Theory5(1), 31–52. https://doi.org/10.1177/1463499605050867

Papadopoulos, D., Stephenson, N., & Tsianos, V. (2008). Escape Routes: Control and Subversion in the Twenty-First Century. London; Ann Arbor, MI: Pluto Press.

Pratt, N. (2007). “The Queen Boat case in Egypt: sexuality, national security and state sovereignty.” Review of International Studies33(1), 129–144. https://doi.org/10.1017/S0260210507007346

Puar, J. (2007). Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times. Durham: Duke University Press Books.

—. (2013). “Rethinking Homonationalism.” International Journal of Middle East Studies45(2), 336–339. https://doi.org/10.1017/S002074381300007X

Richardson, D. (2017). “Rethinking Sexual Citizenship.” Sociology51(2), 208–224. https://doi.org/10.1177/0038038515609024

Salazar, N. B. (2011). “The Power of Imagination in Transnational Mobilities.” Identities18(6), 576–598. https://doi.org/10.1080/1070289X.2011.672859

Sassen, S. (2014). Expulsions: Brutality and Complexity in the Global Economy (First edition). Cambridge, Massachusetts: Belknap Press: An Imprint of Harvard University Press.

Stack, L. (2016, August 10). “Gay and Transgender Egyptians, Harassed and Entrapped, Are Driven Underground.” The New York Times. Retrieved from https://www.nytimes.com/2016/08/11/world/africa/gay-egyptians-surveilled-and-entrapped-are-driven-underground.html