من زمان كتير: مسائل تنظيم الغضب في طرابلس

السيرة: 

رياض الأيوبي دارس للاقتصاد وقارئ لحقول العمران والفلسفة واللغويات في تاريخ العرب، بادي البدء في ممارسته الترجمة لمّا عمل على نقل الأدبيات الشيوعيّة للعربية عبر صفحة «ما العمل؟» ومن ثمّ توسّع في هذا البحر من خلال تتبّع مخاض عمل شيوعيّي لبنان زمن الستينيات على نقل الإنتاج المعرفي من عالم الشمال إلى العالم العربي.

اقتباس: 
رياض الأيوبي. "من زمان كتير: مسائل تنظيم الغضب في طرابلس". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 10 عدد 1 (02 ديسمبر 2024): ص. 3-3. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 05 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/organising-rage-tripoli-ar.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.

screen_shot_2024-11-12_at_1.51.52_pm.png

جريدة "السفير"، ١٧ حزيران/يونيو ١٩٧٤: ص. ١

 

لِمَ طرابلس؟ لأنّ طرابلس

تستبطن الكلمة الإيطاليّة "perché" معنيَين: "لِمَ" و"لأنّ". وقد تناولت أليتشيا إمپيريالي هذه الثنائية في افتتاحيّة عدد خريف ٢٠٢١ من مجلة "Log"، بعنوان "Perché Italia? Perché Italia..." حيث تطرّقت بإيجاز إلى سمة التناقض في باطن الكلمة، معتبرةً إيّاها رمزًا لـ "الكثير من [أشكال] الفهم، وربما سوء الفهم" (٢٠٢١: ٨) لموضوعٍ ما – إيطاليا في حالتها، وطرابلس في حالتنا. تعمل "perché" كأداة استفهام ودلالة في آنٍ واحد، ممّا يخلق توتّرًا بين الاستفسار والتفسير، والعلّة والنتيجة، لذا فإنّ "perché" لا تسعى فقط للاستحصال على تفسير، بل وتقدّم أيضًا واحدًا.

عندما نسأل: "لِمَ طرابلس؟" لا نحصل على إجابة واحدة بسيطة ومباشرة. بل تزداد التعقيدات كلّما سبرنا أغوار تاريخ المدينة، مركّزين على لحظة تقابلت فيها تناقضات "لبنان المستقلّ" خلال ما يُعرف بـ "السنوات الثلاثون الذهبية"، حيث بلغت ذروتها في المدينة التي يعتبرها الكيان اللبناني خطرة للغاية لتركها دون سيطرة.

 

r_trip_rast_1.png

الخريطة من تصميم عامر جبيلي

"في التاريخ، كما في السينما"، يؤكّد كارلو غينزبرغ (٢٠٢٢)، "كل لقطة مقرّبة تشير إلى مشهدٍ خارج الكادر". وُلِدَ علي عكّاوي في طرابلس بين العديد من العائلات الفلسطينية التي تشرّدت بسبب حرب ١٩٤٨. قصّته، التي تتجلّى في لمحات عبر ثلاثة عقود في حيّ باب التبّانة الشعبي والمكتظّ بالسكان، هي واحدة من تلك اللقطات المقرّبة.
 

r_trip_rast_3_1.png

الخريطة من تصميم عامر جبيلي

كونها شريان حياة تجارة التبن والخضار في طرابلس وبوّابتها إلى السهل الشمالي، أصبحت التبّانة الوجهة الرئيسية للمهاجرين الريفيين من عكار. في منتصف الطريق بين الأخيرة والحيّ، تمّ إنشاء مخيّم نهر البارد للاجئين في عام ١٩٤٩. شهد نهر المدينة، أبو علي، المعروف تاريخياً بـ"النهر الغضبان" بسبب فيضاناته، فيضانًا كارثيًّا في عام ١٩٥٥. واندفعت في إثره موجات من الفلسطينيّين واللبنانيّين إلى الحيّ المكتظ؛ وبعد فترة وجيزة، تأسّس مخيم البدّاوي لإسكان اللاجئين في الجوار الشرقي للحيّ.
 

r_trip_rast_2_1.png

الخريطة من تصميم عامر جبيلي

بالقرب من الحيّ والمخيّمات، جذبت منشآت شركة نفط العراق (IPC) البريطانيّة في محطّة طرابلس المهاجرين الريفيّين منذ ثلاثينيات القرن الماضي بالإضافة إلى العمّال الفلسطينيين من محطة حيفا التي أغلقت بعد حرب ١٩٤٨.
 

موقع محطات الضخ (كركوك) ومحطات المصبّ (حيفا وطرابلس).
أرشيف غولبنكيان، ٩ تشرين الثاني ١٩٣٤1

 

تُظهر خريطة استخدامات الأراضي في طرابلس لعام ١٩٥٦ الحيّ على حدود المنطقة الزراعيّة الشماليّة للمدينة: نقطة تقاطع بين المنطقة الصناعيّة حيث شركة نفط العراق من الشرق، والتي تفتتح الطريق إلى سهل عكّار، ومنطقة الميناء إلى الغرب، التي تتّصل بالبحر الأبيض المتوسّط.
 

خريطة استخدامات الأراضي في طرابلس لعام ١٩٥٦، أعدّها خالد النبّوت.2
ملاحظة: يُرى مخيّم البدّاوي باللون الأرجوانيّ، قيد الإنشاء عند الحافّة الشمالية الشرقية للمدينة، مجاورًا للحيّ

 

أمّا بعد، لم تكن هذه مجرّد تقاطعات جغرافيّة. لقد شكّلت عمليّات التشريد والهجرة وشبكة معقّدة من الصراعات الاجتماعيّة والوطنيّة والإقليميّة والدوليّة مصير علي عكّاوي، بل مصير جيلٍ كاملٍ بأسره.

 

المهاجرون والأنصار

في اليوم الخامس من حرب ١٩٦٧، اجتاحت طرابلس موجة عارمة من أعمال الشغب. وبدافعٍ من الشعور بالهزيمة المريرة والغضب إزاء موقف الحكومة اللبنانية المحايد عمليًّا في الحرب العربيّة-الإسرائيليّة، بلغت ذروتها في تخريب المباني الحكومية (زيادة ٢٠١٨: ١١٧-١٣٢). وكان عكّاوي، الذي كان حينها مراسلاً صحفيًا، قد قاد زخم الأحداث من خلال خليّة "الثائرون الخمسة" لتطهير الحيّ من المخبرين، حيث كان هؤلاء مسؤولين عن الزجّ بالعديد من المناضلين، بمن فيهم عكّاوي نفسه عندما كان في السادسة عشرة من عمره، في السجن. في عام ١٩٦٣، تمّ اعتقاله وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة أنّه "حرّك بعض المراهقين" (سورا ٢٠١٧: ٣٢٣) ضدّ فرع حزب "البعث العربيّ الاشتراكيّ" في طرابلس، في سياق الصدامات بين "حركة القوميّين العرب" وحزب "البعث" حول الوحدة. لاحقًا في عام ١٩٦٧، تلقّى تدريبًا قتاليًا في "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين" التي أسستها الحركة حديثًا، وقضى السنة التالية في معسكرات الفدائيّين الفلسطينيّين. ولكن بحلول أوائل عام ١٩٦٩، انشقّت الجبهة، ممزَّقة بسبب النقاشات الداخليّة والخلافات حول الأيديولوجيا والمواقف تجاه الأنظمة العربيّة. وقد تولّد من تفكّك الحركة العديد من التنظيمات والجبهات والأحزاب الماركسيّة-اللينينيّة،3 كان من بينها "منظّمة الغضب" في التبّانة التي شارك عكاوي في تأسيسها (لوفيفر ٢٠٢١: ٩٨-١٠٦). جسّد هذا الانشقاق تحوّلًا كاملاً من القوميّة العربيّة المستوحاة من جمال عبد الناصر إلى اشتراكيّة العالم الثالث، والتي استلهمت من ثلاثيّة الثورات الجزائريّة، الكوبيّة، والفيتناميّة، وكذلك من ثورة الصين الثقافية، التي كان زعيمها ماو تسي تونغ قد وجّه نداءً للعرب في عام ١٩٦٥: "إسرائيل وفورموزا [تايوان] هما قاعدتا الإمبرياليّة في آسيا. أنتم بوّابة القارّة العظيمة ونحن مؤخّرتها. لقد أسّسوا إسرائيل لكم، وفورموزا لنا" (كما ورد في هاريس ١٩٧٧: ١٢٧).

الانفكاك عن إيديولوجيّة القوميّة الاجتماعيّة العربيّة جاء حصيلة سلسلة من الارتدادات والهزائم. حكومة الترضية التي تشكّلت بالتسوية عام ١٩٥٨ بين جبهة الاتّحاد الوطنيّ والمعارضة المدعومة أميركيًّا، في ظلّ رئاسة فؤاد شهاب، وبرعاية أيزنهاور وعبد الناصر – وبالتالي إحباط الإرادة الشعبيّة للوحدة مع الجمهوريّة العربيّة المتّحدة في مصر وسوريا. بعد ثلاث سنوات، تكشّفت بانهيار الوحدة، الثغرات بين الخطاب القوميّ والوقائع. منذ ١٩٦٣، انحسرت شرعيّتها وشعبيّتها نتيجة تواتر الإخفاقات في إحياء الوحدة والعداوات العلنيّة المتصاعدة بين الأنظمة والأحزاب القوميّة في مصر وسوريا والعراق. ثمّ هزيمة حرب ١٩٦٧ سدّدت الضربة القاضية للقوميّة الاجتماعيّة العربيّة. وبحلول عام ١٩٧٠، تحطّمت وعودها، حين قبلت مصر بمقترح روجرز4 واندلعت أحداث "أيلول الأسود" الدامية في الأردن. وفي لمسة رمزيّة أخيرة، شكّلت الوفاة المفاجئة لعبد الناصر آخر مسمار في نعش إيديولوجيّة ألهمت يوماً ما المناضلين المحبطين بعد عام ١٩٤٨، لكنّها قادتهم في النهاية إلى مواجهة الواقع المرير بأنّ تطلّعاتهم الكبرى قد تفكّكت بانتظام وبالتدريج.

مع عام ١٩٦٩، كان كلٌّ من الأردن ولبنان لا يزالان مصمّمَين على منع تنفيذ الهجمات الفلسطينيّة انطلاقًا من أراضيهما. في تلك المرحلة، قُتل من الفلسطينيّين الذين حاولوا عبور الحدود على يد جيوش هذه الدول أكثر ممّا قُتل على يد الإسرائيليّين (جابر ١٩٧٣: ١٧٤). ومع ذلك، شهد عام ١٩٦٩ ذروة النضال المسلّح، حيث بدأت حتى الأحزاب الشيوعيّة في تنظيم فرقٍ من الأنصار. في التلال القريبة من طرابلس، كان لـ"منظّمة التحرير الفلسطينيّة" بالفعل معسكر تدريب (لوفيفر ٢٠٢١: ٦٦). ومن بين الفدائيّين الذين تدرّبوا هناك كان محمّد الصيّادي. في ١٨ آب ١٩٦٩، غصّت شوارع طرابلس بعشرات الآلاف في موكب جنازته، لكن بعد عشرة أيّام فقط، اندلعت اشتباكات متعدّدة مع السلطات اللبنانيّة أدّت إلى انتفاضة مسلّحة دوّت أصداؤها وانتشرت في جميع أنحاء لبنان. تمّ احتلال أكثر من ٧٦ مخفر درك والقلعة القروسطيّة في طرابلس، وبقيت خارج سيطرة الدولة حتى تسوية أزمة البلاد من خلال "اتفاقيّة القاهرة"، والتي منحت للفدائيّين الفلسطينيّين حرّيّة موسّعة للعمل انطلاقًا من جنوب لبنان وإدارة شؤون مخيّمات اللاجئين (سبعين ٢٠١٨).
 

موكب الجنازة، ١٨ آب ١٩٦٩.
أرشيف نضال السبع، منشورة على صفحة الفايسبوك "طرابلس بالأبيض والأسود"5

 

بعدما شعروا بخيبة أمل ممّا اعتبروه تنازلًا سطحيًا في "اتفاقيّة القاهرة" – تكتيكًا سلطويًّا للمماطلة قبل أن تتحرّك الدولة ضدّهم حتمًا، قرّر عكّاوي ورفاقه أنّ حالة من الثورة الدائمة هي الوحيدة القادرة على حماية وتوسيع الحريات التي كسبوها عبر الكفاح المسلّح في لبنان (فخر ١٩٦٩: ٦-٧). ولذا، حوّلوا حيّهم إلى معقلٍ ثوريٍّ مدينيٍّ لدعم انتفاضة الفلّاحين في سهل عكار، التي بدأت في ذلك الخريف واستمرّت حتى ٣٠ تشرين الأوّل/أكتوبر ١٩٧٠. واجهت الانتفاضة قمعًا وحشيًّا من قبل قوى الأمن التي قتلت واعتقلت وطردت الفلّاحين (كمال ١٩٧٠: ٨-٩). وكانت انطلاقة الحملة قد أوعِزَ بها من قبل الرئيس اللبنانيّ المنتخب حديثًا سليمان فرنجيّة، وذلك قبل أسبوعين فقط من انقلاب في سوريا أطاح بالقيادة الراديكاليّة لحزب البعث وجلب حافظ الأسد، وزير الدفاع السوري، إلى السلطة.

رغم أصولهما المتباعدة جذريًا – فرنجيّة وريث عائلة إقطاعيّة في زغرتا الجبليّة جنوب عكار، والأسد من عائلة فلّاحية في جبال القرداحة شمالًا – تقاطعت مساراتهما في عكّار. إذ سعى فرنجيّة إلى فرض سلطته كخطوة لإبطال اتفاقية القاهرة، التي اعتبرها "انتهاكًا للسيادة". فيما كان الأسد قد أوضح موقفه مسبقًا من خلال الامتناع عن تقديم الدعم الجوّي خلال أحداث "أيلول الأسود" في الأردن، وكان مصمّمًا على تجنّب أيّ تدخّل قد يورّط الجيش، وسعى أيضًا لإضعاف أي مقاومة لهذا النظام – ما جعل حماسة النظام السوري الثورية في الستينيات تُمسخ إلى استراتيجيّة باردة ومحسوبة لترسيخ السلطة.

خلال الفترة الممتدّة بين منتصف إلى أواخر الستينيات، بدأت الدول العربيّة بمواجهة هواجسها المكبوتة منذ زمن بشأن نشوء إسرائيل. في البداية، لم تكن لديها مشكلة حقيقية مع الفلسطينيين طالما انحصرت بصفتهم كلاجئين، وتأطّرت محنتهم كأزمة إنسانية. لكنّ المسألة الفلسطينيّة هي قضيّة سياسيّة، وليست مجرّد مشكلة اجتماعيّة-اقتصاديّة يمكن حلّها بالمعونات أو مشاريع الإسكان. أجبرت حرب ١٩٦٧ تلك الدول على مواجهة حقيقة أنّ تحدّي إسرائيل يعني تحدّي النظام الدوليّ الذي تتزعمّه الهيمنة الأمريكيّة والأوروبيّة، إذ لم تكن الحرب حدثًا معزولًا، بل كانت جزءًا من عدوانٍ دوليٍّ امتدّ من إندونيسيا إلى غانا.

في المقابل، سعت الأنظمة العربيّة إلى احتواء التوسّعيّة الاسرائيليّة دبلوماسيًّا، على أمل أن تتوسّط القوى الغربيّة لإيجاد تسوية بحدود واضحة المعالم – في محاولة لتجنّب التكلفة الباهظة لمواجهة النظام الدوليّ بشكلٍ مباشر. أدّى ذلك إلى انقسام الأنظمة حول كيفية التعامل مع حركة الفدائيّين الفلسطينيّين المتنامية. رأى بعضهم في الفدائيّين وسيلةً لتنفيس الإحباط الشعبي دون الانخراط في حربٍ شاملة، ولو أنّهم اعتقدوا بضرورة إبقاء المنظّمات الفدائيّة تحت السيطرة لتجنّب أيّ عواقب غير متوقّعة. هذا فيما اعتبر آخرون، الذين وُصفوا بـ"الأنظمة الانهزاميّة"، أنّ تصاعد عمليات الفدائيين سيؤدي إلى استفزاز إسرائيل ومن ثمّ انقضاضٍ توسّعي متجدّد. أمّا لبنان، الذي بقي عمليًّا على الحياد خلال الحروب العربيّة الاسرائيليّة بعد عام ١٩٤٨، فقد كان جزءًا من هذا المعسكر "الانهزاميّ".

ومن ثمّة، صارت مقاومة الفدائيّين الفلسطينيّين، إلى جانب نظرائهم العرب، شيئًا لا بدّ من قمعه بأيّ ثمن. وبحلول عام ١٩٧١، ومع استفحال الأزمة، تصاعد ردّ السلطات إلى ما هو أبعد من نشر القوات الأمنيّة. أُعيد تأطير المسألة على أنّها مؤامرة طائفيّة، حيث أُلقي باللوم على الفلّاحين السوريّين "العلويّين" والفدائيّين الفلسطينيّين في إثارة الاضطرابات. وفي ١٧ أيّار/مايو ١٩٧١، جاء في تقريرٍ لأحد قادة قوى الأمن في الشمال – دون الكشف عن هويّته – ما يلي:

يسكن في بَعلَي محسن العالي والواطي وفي بعل السراقبة في محلّة التبانة – طرابلس أكثريّة ساحقة من الطائفة العلويّة تبلغ قرابة أربعين ألفًا معظمهم يحملون الجنسيّة السوريّة، ويكاد مجتمعهم يكون مقفلًا، وعلى الأخصّ الجماعة التي تقيم في بعل محسن العالي لانفرادهم في سكن هذا المكان، إلّا أنّ علاقتهم بوطنهم الأصليّ سوريّة قويّة جدًّا، بالنظر إلى وجود أفراد من العائلة الواحدة في طرابلس وفي سوريّة في آنٍ معًا [...] إنّه من الصعوبة بمكان معرفة حقيقة ما يجري في أحياء العلويّين لتكتّمهم الشديد وعدم اختلاطهم بالفئات الأخرى إلّا أنّه لوحظ أثناء الحوادث الأخيرة أنّ قسمًا كبيرًا من هؤلاء قد تسلّح بسلاحٍ حديثٍ وأنّ بعضًا من هؤلاء بدأ يتغلغل في الأحياء المجاورة [...] إنّ الغاية الحقيقيّة من دخول كثيرين من العلويّين إلى طرابلس في الآونة الأخيرة ليست للعمل الموسميّ وغير الموسميّ كما يدّعون ولكن لغايات القيام بأعمال الشغب والإخلال بالأمن وبثّ التفرقة. وإلّا فما هو الغرض من تسليح المقيمين أصلًا في طرابلس وهم ليسوا على عداءٍ مع أحد؟ [...] (سماحة ٢٢ آب ١٩٧٤: ٧)

على طرفٍ نقيض من تصوّر قادة قوى الأمن، اشتملت مطالب الفلّاحين عددًا من حقوق الإنسان الأساسيّة المتعلّقة بالكرامة، مثل الحقّ بدفن موتاهم في قراهم، وتشريع القوانين التي تمنع الملّاكين من استغلال زوجات وأطفال الفلّاحين "لأغراضهم الخاصّة" (كمال ١٩٧٠: ٨-٩). بتعبير آخر، هكذا سعى كلٌّ من النظامين اللبنانيّ والسوريّ للسيطرة على سهل عكّار بإخماد انتفاضة الفلّاحين، مقابل سعي الانتفاضة لمقارعة "الاقطاع السياسيّ"، ممّا عرّى إيديولوجيّة النظامين كأداة للتقسيم الطائفيّ خدمةً لأغراضٍ رأسماليّة.

 

المال والبنون

بعد عام ١٩٤٨، استبدلت بيروت حيفا كعاصمة التبادل التجاريّ في الإقليم. وفي أعقاب عام ١٩٥٦، استبدلت كذلك القاهرة كبوّابةٍ للمصالح التجاريّة الأوروبيّة. بموقعها الممتاز، وانعدام الرقابة النقديّة، كما وتشريعات السرّية المصرفيّة المُحكَمة، تحوّلت بيروت إلى ملاذ النقود المحمومة6 ورؤوس الأموال الهاربة (من التأميمات). في العقود التي تلت ذلك، ازدهر قطاع لبنان المصرفيّ. ارتفعت الودائع ٣٨ مرة، وبحلول عام ١٩٧٤، ارتفعت نسبة الودائع إلى الدخل القومي إلى ١٢٢٪ – وهي أعلى نسبة في العالم حينها. بين عامي ١٩٥٠ و١٩٦٥، غذّت البورجوازيّة اللبنانيّة والعربيّة هذا التوسّع، إذ تضاعفت أعداد المصارف من عشرة إلى ٥٥ (نصر ١٩٧٨: ٤).

لكن القلاقل السياسيّة، الأزمة النقديّة العالميّة، وأسعار الفائدة المتصاعدة في الغرب، أدّت مجتمعةً عام ١٩٦٦ إلى انهيار قطاع لبنان المصرفيّ. بحلول عام ١٩٧٤ كان عدد البنوك قد انخفض من ٥٥ إلى ٢٥ فقط، مع استحواذ المصارف متعدّدة الجنسيّات على السيطرة وفرض احتكار شبه كامل مع تقلّص حصّة المصارف اللبنانيّة في السوق من ٣٠٪ عام ١٩٦٦ إلى قرابة الـ ١٥٪ عام ١٩٧٥ (المصدر نفسه).

بالتزامن مع مساق القطاع المصرفيّ، كان ريف لبنان قد شهد تحوّلاً جذريًّا منذ مطلع الخمسينيّات، مقرونًا بطفرة المزارع الرأسماليّة الكبيرة. بدلًا من اقتناء أراضي الفلّاحين الصغيرة والمتوسّطة، تنامت الأخيرة بابتياع أملاك الإقطاعيّين الغائبين عن الأرض أو أولئك المتآكلة سطوتهم. اندفع هذا التحوّل أساسًا بالبورجوازيّة الزراعيّة-التصديريّة الناهضة (نصر ١٩٧٨: ٦). في عكّار، كان عماد هذه الطبقة التجّار، الوجهاء، والإداريّين من مدنٍ كطرابلس (كرامي والشعراني)، صيدا (الشمّاع)، أنطلياس (أبو جودة)، وجبل لبنان (إدّه)، كما ومن الضفّة الغربيّة، مثل سعيد راغب وأبو هشام صفيّ الدين (سماحة ٢٠ آب ١٩٧٤: ٧).

مع بداية السبعينيّات، تجلّى استغلال الفلّاحين في لبنان في ثلاثة أمور، بحسب سليم نصر؛ أحدها احتكار مستلزمات الإنتاج الزراعي. استيراد الأسمدة الكيميائيّة، مثلًا، التي بلغت نسبة الـ ٣٠٪ من تكاليف الإنتاج، "تركّز في قبضة مؤسّستين كبيرتين لا أكثر، Unifert و Le Comptoir Agricole" (نصر ١٩٧٨: ٨).

عام ١٩٧١ صرّح فلّاحٌ عكّاريٌّ للصحافة متحسّرًا: "في الماضي كان كيلو بذور الخيار يكلّف ٣ ليرات، أمّا الآن فصار الكيلو الواحد ثمنه ١٠٠ ليرة. والأسمدة التي توضع بالأرض في الوقت الحاضر ما كان يستعملها الفلّاح والآن صار الفلّاح بيدفع ثمنها [...] طنّ الأسمدة بيكلّف ١٨٠ ليرة [...] وكلّ هكتار من الأرض يحتاج لطنٍّ من الأسمدة [...] كلّ شيء صار غالي [...]" (سماحة ٢١ آب ١٩٧٤: ٧).

علاوةً على ذلك، كان ترتيب وتوزيع ملكيّة الأرض في عكّار ظالمًا بشكلٍ صارخٍ. ضرب أحد الفلّاحين مثلًا يشرح به الحالة بالشهادة على "منع بيت إدّه اقتراب الماشية من السواقي التي في أرضهم، وهذا لم يحصل منذ عهد الأتراك" (سماحة ٢٠ آب ١٩٧٤: ٧). فقط ٢٥٪ من سكّان السهل امتلكوا ولو قطعةً من الأرض، و١.٨٪، لا أكثر، من هؤلاء امتلكوا أكثر من ٢٠ هكتارًا في منطقةٍ تبلغ مساحتها ١٥،٦٧٢.٢٣ هكتارًا (المصدر السابق).
 

screenshot_2024-12-03_at_05.04.29.png

النسب والأرقام مصدرها مقالات جوزيف سماحة الاستقصائيّة المنشورة سنة ١٩٧٤ في جريدة "السفير"، حول انتفاضات فلّاحي عكّار بين أعوام ١٩٦٩ و١٩٧٤. الرسوم البيانيّة من تصميم الكاتب

رغم أنّ حدود لبنان مع سوريّة قطّعت سهل وجرد عكّار، اجتازت عقارات كبار الملّاكين الشاسعة الحدود بلا حسيبٍ أو رقيب. أحد أولئك الملّاكين الكبار، جميل ملحم، امتلك، وحده من دون شركاء، أراضٍ مساحتها ٤٠٠٠ هكتار في سوريا قبل أن يطالها الإصلاح الزراعيّ في عهد الجمهوريّة العربيّة المتّحدة (المصدر نفسه). سعيًا للاستعاضة عن خسارتهم بالتأميم في سوريا، انتقل بعض الملّاك إلى الاستثمار في أساليب زراعيّة كثيفة رأس المال. اختار البعض الآخر بيع عقاراتهم، إمّا إلى نظرائهم المنافسين وإمّا لأولئك المستثمرين الذين أدركوا إمكان سهل عكّار المثمر، لا سيّما في مجال زراعة الحمضيّات كثيفة رأس المال (جلسنان ١٩٩٠).

عام 1970، "كان عشرون وسيطًا يتحكّمون بنسبة ٨٠٪ من تسويق الحمضيّات، والثلاثة الكبار بينهم يتحكّمون بثلث المحصول" (نصر ١٩٧٨: ٨). كان هذا التحكّم بالتسويق العامل الأساسيّ الثاني في استغلال الفلّاحين في لبنان. إذ كانت المحاصيل، سواء كانت موجّهة للأسواق المحلّية أو الاقليميّة، تُشترى في الغالب من قِبل عدد قليل من التجّار المهيمنين الذين يسيطرون على الموارد الماليّة، النقل، التخزين، وشبكات التوزيع. هذا التحكم كرّس اعتماد الفلّاحين على التاجر، الذي كان بإمكانه حينها فرض أسعار منخفضة جدًّا على المنتجين بينما يفرض أسعارًا مرتفعة على المستهلكين، مما يُتيح له الثراء باكتناز الفروقات (المرجع نفسه).

وبحسب نصر كذلك، الائتمان والربا ثالث تجلّيات استغلال الفلّاحين في لبنان. فقد هيمن القطاع الماليّ والتجاريّ الخاصّ على القطاع العامّ، إذ ارتفعت قيمة القروض الزراعية من ٥٠ مليون ليرة لبنانية في عام ١٩٥٠ إلى ١٦٠ مليون ليرة لبنانية بحلول عام ١٩٧٣. وفي الفترة ذاتها، قُدّر إجماليّ الفوائد المدفوعة من قِبل المنتجين بنحو ٤٥ مليون ليرة لبنانية سنويًا، وهو ما يعادل "٣٥ بالمئة من إجمالي القروض السنوية" (المرجع نفسه).

بالنسبة للرأسماليين والمؤسسات المالية الغربية أواخر الخمسينيّات، كان لبنان قد أصبح حقًّا سويسرا الشرق (مرهج ٢٠٢١). على نحو مفارق، قدّم تقرير بعثة إيرفد7 لعام ١٩٦٠-١٩٦١ نظرة مغايرة فيما يتعلّق بالتبّانة. أشار التقرير إلى أن "٩٠ بالمئة من السكان ينتمون إلى الطبقة الدنيا"، وأنّ البنيان فيها، رغم حداثة الإنشاء، "غالبًا ما يكون متّسخًا وفي حالةٍ سيّئة، مع شوارع سيئة التصريف"، وأن "قليلين ممّن تجاوزوا العشرين عامًا حصلوا على أكثر من التعليم الابتدائي" (IRFED ١٩٦٣: ٥-٦ كما ورد في غوليك ١٩٦٧: ٢٠٥-٢٠٦). وصف التقرير المقاهي والفنادق الصغيرة "الرثّة" التي تخدم المسافرين بالحافلات من وإلى سوريا، والتي كانت تخدم بلا شك الـ "٢٠ ألف مهاجر سوريٍّ الذين يقومون بالأعمال التي لا يقبل أحدٌ غيرهم القيام بها"، كما ذكر رئيس بلدية طرابلس (غوليك ١٩٦٧: ٢٠٦)؛ "من المعقول افتراض أن معظمهم يعيشون في التبانة وبعل السراقبة"، وأضاف أن "هذه المناطق لها سمعة بأنها [بيئة] شاقّة، خطرة، وغير صحيّة، كما وأن تركّز العلويين فيها هو حقيقةٌ شائعةٌ عمومًا" (المصدر نفسه).

على مدى العقود التي سبقت هذا التقرير، خضعت طرابلس لعملية إعادة هيكلة اجتماعية وفرز مكانيّ عميق ولكن تدريجيّ. لاحظت تقارير المسؤولين العثمانيين سيطرة الطبقة الميسورة من التجّار والملاّكين الذين كانوا يشيّدون القصور حول أطراف المدينة القديمة، بينما كانت الطبقة الوسطى تتكون في معظمها من المزارعين، وشملت الطبقة الدنيا العمّال في المصانع والبساتين وصيد الأسماك وغيرها من الأعمال "التافهة" – وكانت هذه الطبقة الأخيرة تقطن في "أسوأ المحلّات" (التميمي وبهجت ١٩٨٧: ٢٢٧). في عهد الانتداب الفرنسي، استمرّ التمدّد العمراني بوتيرة متسارعة؛ ومع ذلك، لم يتمّ التخلّي عن الأحياء القديمة التي تعود لقرون إلا بعد فيضان كانون الأول/ديسمبر 1955 – الذي ألحق أضرارًا جسيمة بالمدينة القديمة – وحلّ أزمة عام 1958، ممّا دفع الطبقة الوسطى إلى احتضان مشاريع التحديث التي تبنّتها الدولة، والانتقال إلى الشوارع العصرية والأحياء الحديثة.

اجتاحت مشاريع التحديث وابتلعت مناطق المدينة الزراعية، التي كان العمل فيها يشكّل شريان حياة للمهاجرين من الريف إلى المدينة الذين حلّوا محل الطبقة الوسطى في المدينة القديمة. وبحلول عام 1961، وصلت البطالة في حيّ بعل السراقبة إلى نسبة 25% (غوليك ١٩٦٧: ٢٠٦). زادت إزالة البساتين بشكل مستمرٍّ لإفساح المجال للمشاريع الجديدة من معاناة هؤلاء المهاجرين. ومع تلاشي الطفرة الاقتصادية الطويلة بعد الحرب في منتصف السبعينيات، ضربت أزمة اقتصادية عالمية اتسمت بتراجع الإنتاج وتصاعد التضخم، مما ألحق دماراً بالطبقة العاملة.

تِباعًا، اكتسبت المدينة القديمة اسم "دولة المطلوبين"، ملاذًا للخارجين عن السلطة من مهاجرين لبنانيّين وسوريّين، أيتام، عمّال، أعضاء وأنصار الحركات الاشتراكيّة ومناضلو الثورة الفلسطينيّة، أو جنودٌ سابقون في الجيش اللبنانيّ أو السوريّ. باختصار، كانوا أشقياء المدينة الذين تلخّصت بهم محنة (كلّ) سكّان "دولة المطلوبين" هذه.

فجر الخامس من كانون الثاني/يناير عام ١٩٧٥، على بُعدِ أشهرٍ معدودة من اندلاع حرب السنتين في لبنان، اقتحمت قوّات مشتركة من الدرك ومغاوير الجيش أحياء طرابلس القديمة واقتادت السكّان إلى الشوارع للتحقّق من هويّاتهم وصِلاتهم بأولئك المطلوبين (التمدّن ٢٠١٧). بيار الجميّل، رئيس حزب "الكتائب اللبنانيّة"، خرج للصحافة مصرّحًا: "إنّ غيرنا ثروته البترول، أما نحن فثروتنا الأمن والمبادرة الفردية ورؤوس الأموال العربية والتجارة والمصارف والسياحة [...] كلّ هذه الأمور التي لا يمكن أن تسير على ما يرام إلاّ في ظلّ الأمن، وأكبر خدمة يمكن أن تؤدّى للبنان هي أن تكون الدولة وقواها الأمنية فارضة هيبتها وسلطتها" (المصدر نفسه).

إن الحروب العربيّة-الاسرائيليّة، إلى جانب مشاريع التأميم في كلٍّ من مصر والعراق وسوريا في الستينيّات عادت في نهاية المطاف بالنفع على البرجوازية اللبنانية. فقد برز لبنان كوسيطٍ بين رأس المال النفطيّ العربيّ والمراكز الماليّة الأوروبيّة-الأمريكيّة، وأصبح ملاذًا آمنًا لرؤوس الأموال الهاربة من مصر والعراق وسوريا. سمح هذا التحوّل لبيروت بتجاوز القاهرة وحيفا، وكذلك بغداد ودمشق، كمركزٍ تجاريٍّ للمنطقة. بيد أنّ لبنان وجد نفسه في مواجهة نهجَين متناقضين تجاه إسرائيل: فمن جهة، كان هناك ارتياب من أنّ اتفاقيّات سلامٍ محتملة بين الدول العربيّة وإسرائيل قد تهدّد موقع لبنان المربح كوسيطٍ ماليٍّ. ومن جهة أخرى، كانت مواجهة إسرائيل تعني الدخول في صراعٍ ضدّ النظام الدوليّ، وهو مسار محفوف بالمخاطر امتنع لبنان عن اتّباعه. وبالتالي، أصبح الحفاظ على الترتيبات المحلّيّة والإقليميّة كما هي أمرًا ضروريًا، مع الالتزام بإبقاء قطاع المصارف والماليّة اللبنانيّ بعيدًا عن القلاقل، تمامًا كما الحدود الجنوبية. ونتيجة لذلك، قمعت الدولة أيّ فصيل يهدّد هذه المعادلة المتناقضة، والطريقة التي تعاملت بها مع "منظمة الغضب" كشفت مشروعها الخاص لرأسمالية الاحتكار الطائفي.

 

الدولة والثورة

بحلول عام ١٩٧١، لم تكن "منظّمة الغضب" قد اندثرت. بل استمرّت في ممارسة "العنف الثوريّ" – مستهدفة باستمرار مخافر الدرك، وقصور السياسيّين، والمباني الحكومية، والمصارف، ومستودعات المواد الغذائيّة والصيدليّات، حيث كانت توزّع الطعام واللقاحات على أهالي الحيّ. وأصبح لعكّاوي عدّة ألقاب، حيث وصفه أحد علماء الاجتماع بـ"بطل اجتماعيّ" (سورا ٢٠١٢: ٣٢٤)، بينما لقّبه باحث آخر بـ"بطل التعبئة" (لوفيفر ٢٠٢١: ١٠٥). الجماهير أطلقت عليه لقب "تشي غيفارا التبّانة"، بينما بقي في نظر المؤسّسة "أزعر". أمّا المنظّمة ففي ١٦ تشرين الأوّل/أكتوبر ١٩٧١ صنّفتها صحيفة "لوريان لوجور" المحافظة "عصابة حارة" في مقال بعنوان "المجموعة المسؤولة عن انفجارات طرابلس تمّ قطع رأسها". رافق هذا العنوان خبر اعتقال عكّاوي "بعد مواجهة" (المصدر نفسه: ١٠٢)، وسجنه للمرة الثانية. وبعد ثلاث سنوات، في حزيران/يونيو ١٩٧٤، قُطع حكم السجن بعشر سنوات على عكّاوي بموته في ظل "ظروف مشبوهة" ("السفير" ١٦ حزيران/يونيو ١٩٧٤: ٨).
 

screen_shot_2024-11-12_at_1.51.52_pm.png

جريدة "السفير"، ١٧ حزيران/يونيو ١٩٧٤: ص. ١

بعد عشرة أيام من وفاة عكّاوي الصادمة، نُشرت دراسةٌ كتبها أثناء فترة سجنه، كشفت عن سياق تلك "الظروف المشبوهة". إذ سجّل ملاحظًا: "معظم السجناء يشكون أمراضًا داخليّةً وخاصّةً أمراض المعدة [...] والحقيقة أنّ الصيدليّة لا تقدّم في معظم الحالات سوى الحبوب". حتى الوسيلة الوحيدة المتاحة للسجناء كي يكسبوا الرزق، من خلال أشغال الإبرة والخرزة، تخضع لاحتكار المعلوف [تاجر] الذي يبيع "كيلو الخرز للسجناء بمبلغ يتراوح بين ٢٠ إلى ٣٠ ل.ل. مع أنّ ثمنه في الخارج ١٢ ل.ل. [...]" كما أن ثمّة موادّ أخرى يقدّمها هذا التاجر، كالبصل التالف الذي يبيعه "رغم ذلك بليرة للكلغ الواحد". هذا بالإضافة للخضروات التي "تقدّم بدون غسيل وبلا تقشير" في السجن. وأشار قائلاً: "ويبدو [السجن] للناظر إليه من بعيد آيةً في التصميم المعماريّ" لكنّه وغيره من سجون لبنان ليسوا إلّا "مقابر للأحياء" حيث "أرجل العشرات تُرفَع يوميًّا لتتلقُى الكرابيج والعصيّ وتعليق الأحذية على الرقاب وشتّى أنواع الإهانات [...] لا لشيء إلّا لأنّ هذا [...] احتجّ على عدم توزيع الزيت منذ أسابيع! وآخر كتب على رسالته الموجّهة إلى أهله عبارة ’الجمهوريّة العربيّة اللبنانيّة‘". وأضاف أن حتّى الأحداث الصغار القاصرين يُلاقون "معاملةً أدنى بكثير من المعاملة التي يتلقاها الحيوانات في الخارج [...]" إذ إنّ "الإدارة تصرّ على تكديس الأحداث ضمن صالات بالعشرات في جوٍّ من الصياح والفوضى [...] وحينما يخالف بعضهم يؤخذون فورًا إلى الساحة" حيث يجبرون على "خلع ملابسهم كلّها وتُربَط أعضاؤهم التناسليّة بخيوط سميكة [...] ثمّ تشدّ هذه الخيوط إلى خصر أحدهم الذي يجبر على الركض سريعًا [...] وتحت سيولٍ من السباب البربريّ الخالي من أيّة ذرّةٍ من الإنسانيّة". وأشار بتحفّظ إلى أنّ بعض السجناء "من طائفة معيّنة" فقط معفيّون من هذا العذاب ويسمح لهم بقضاء اليوم خارج الزنزانة، حيث يساعدون في مهام إدارية مثل رقابة الكتب المرسلة إلى السجناء، وتجميد وحجز تلك التي تُعتبر أنّها تحمل "أفكارًا هدّامة"، أي "أفكارًا شيوعيّة" ("السفير" 24 حزيران/يونيو ١٩٧٤: ٢).

إعادة تأطير الأزمات الاجتماعيّة كنتاج لمؤامرات طائفيّة-اشتراكيّة من خارج الحدود، كما ظهر في تقرير قوى الأمن عام ١٩٧١ حول أحياء العلويّين، ليست حادثة يتيمة في دفتر سجلّات البيروقراطيّة اللبنانيّة. بدأ فريد شهاب مسيرته المهنيّة مع الشرطة الفرنسيّة في لبنان، وبحلول عام ١٩٣٩ ارتقى ليصبح رئيس قسمَي مكافحة التجسّس ومكافحة الشيوعيّة. ولكنه أيضاً حافظ على "علاقة حميمة مع البريطانيين" عبر التعاون مع الكولونيل كوغْهِل، رئيس البعثة الأمنيّة البريطانيّة في لبنان خلال فترة ما بعد الاستقلال (هاشيموتو ٢٠١٧: ٤٣). في عام ١٩٤٧، تلقّى تدريبه في كليّة تدريب الشرطة العليا التابعة لسكوتلاند يارد. وعند عودته، عُيّن رئيساً للأمن العام (المصدر نفسه). خلال فترة تولّيه المنصب (١٩٤٨-١٩٥٨)، أسّس شبكةً من المخبرين لم توثّق فقط البنية التنظيمية للحزب الشيوعي،8 بل أيضاً سجلّات شخصية للشيوعيين. ومن أبرز الذين وُثّقت سجلّاتهم بشكل موسع كان أرتين مادويان؛9 لاجئ أرمنيّ من أضنة وعضو الأمانة العامّة المشتركة للحزب الشيوعيّ في سوريا ولبنان (مادويان ٢٠١٦).

سياسيّو وبيروقراطيّو دولة ما بعد الاستقلال في لبنان، مثل ميشال شيحا الذي اضطلع بدورٍ أساسيٍّ في صياغة الدستور، رأوا أنّ "للعالم العربيّ مشكلتين كبيرتين تسيطران على باقي المشكلات: إسرائيل والدفاع المشترك" (عامل ١٩٨٩: ٢٢٠-٢٢١). من الناحية العمليّة، كان المقصود أنّ المخاطر الناجمة عن أيّ زعزعة محتملة للنظام الإقليميّ كانت بنفس جدّية خطر وجود إسرائيل. نتجَ عن ذلك إطلاق دعوات لتشكيل تحالف إقليميّ لمواجهة القوى التي تزعزع الوضع القائم، خصوصًا "الشيوعيّة"، التي اعتُبرت تهديدًا متصاعدًا يلزم العرب بالدفاع عن أنفسهم ضد نهجها الذي من منطقه الثورة، وهي الآتية "من الشرق" في نظر شيحا ورفاقه (المصدر نفسه). وبالتالي، أصبح الدفاع المشترك استراتيجيّة لصدّ المدّ الشيوعيّ في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.10 وبحلول أوائل الخمسينيات، كانت الحكومة اللبنانيّة قد حظرت الحزب الشيوعيّ، لكن حتى في عام ١٩٥٣ كان الشيوعيّون ما زالوا ينشرون ويوزّعون الصحف السرّيّة، مثل صحيفة "الصرخة" في طرابلس.
 

img_0433.jpg

"الصرخة" تنعى وفاة ستالين، ١٩٥٣

بناءً على مفهوم آدم هنيّة عن الدولة (٢٠١٣)، وكما رأينا، تُشكّل الدولة اللبنانية موقعًا تعتمل فيه وتُحَلّ تناقضات المجتمع، بل والتناقضات الداخليّة للطبقة المسيطرة نفسها، لضمان استمراريّة التراكم الرأسمالي والحفاظ على الهيمنة. من خلال تهيئة ظروف ملائمة لرأس المال، تساعد الدولة في تنسيق مصالح الرأسماليين الفرديين، التي قد تكون مُجزّأة لولا هذا الدور. ويتطلّب ذلك مستوى من الاستقلال النسبيّ الذي يسمح للدولة بأن تبدو محايدة، في حين أنّها تخدم فعليًّا مصالح الطبقة المسيطرة. ومع ذلك، فإن الفصل بين الطبقة والدولة ليس مطلقًا؛ فالدولة نفسها تمثّل امتدادًا لسلطة الطبقة، وتتطوّر مع تطوّر العلاقات الرأسمالية. وفي سياقات مثل لبنان، نجد أن البيروقراطيّين في الدولة جزءٌ لا يتجزّأ من الطبقة المسيطرة، مما يُجسّد هذا التقارب في الممارسة.

وكما تبيّن أيضًا، فإن توسّع رأس المال الاحتكاري العالمي لا يُضعِف أهميّة الدولة القوميّة؛ بل على العكس، يزداد دورها في إدارة النظام الرأسماليّ المحلّيّ، ممّا يساهم في دعم البنى الرأسماليّة الإقليميّة والعالميّة. ومن المسائل التي تؤكّد على هذه الديناميكيّة هي "المسألة الشماليّة" – وهي مسألة تعود إلى إنشاء "لبنان الكبير" عام ١٩٢٠ وتتمحور حول هويّة طرابلس وعكّار، وهل هما منطقتان شاميّتان، متوسّطيّتان، لبنانيّتان، أم سوريّتان.

في بداية الانتداب الفرنسيّ، تمتّع عبد الحميد كرامي، وريث عائلة ثريّة ومرموقة، بنفوذٍ شبه مطلق على التمثيل السياسيّ لطرابلس، رغم محاولات الفرنسيّين الحدّ من رفضه التعاون من خلال دعم شخصيّات بارزة أخرى معارضة له (رعد ٢٠١٣: ٩-٣٥). وفي الوقت ذاته، اعتملت الخلافات بين المسؤولين والمفوّضين الفرنسيّين حول ما إذا كان ضمّ طرابلس و"المناطق المسلمة" في عكّار قراراً خاطئاً (طرابلسي ٢٠٢٣: ١٤٤-١٤٥). وقد اقترح إميل إدّه حلّاً يتمثّل في تحويل طرابلس إلى "مدينة حرّة" تحت الإدارة الفرنسيّة، مع منح الجنسيّة اللبنانيّة للمسيحيّين والجنسيّة السوريّة للمسلمين (المصدر نفسه:١٥٣). ولكن في منتصف الأربعينيّات، ظهرت تسوية توّجت كرامي رئيسًا للوزراء كجزء من مناورة تهدف إلى "دمج طرابلس" في الوطن. وأحد أوائل نتائج هذه التسوية كان في عام ١٩٤٥، حين كان من المقرّر توقيع "بروتوكول الإسكندرية" خلال جلسة لـ"الجامعة العربية" لمناقشة اقتراح الشروع بتحقيق اتحادٍّ فيدراليٍّ بين الدول العربيّة. حينها، سعت حكومة كرامي، الذي كان قد بنى زعامته السياسيّة كوحدويٍّ سوريٍّ تحت الانتداب الفرنسي، إلى التأثير على نتائج الجلسة من خلال وزير خارجيّة لبنان، بهدف تحويل "الجامعة العربية" من بنية اتّحاديّة إلى راعية للحفاظ على كيانات الدول العربيّة القائمة (المصدر نفسه:١٨٩-١٩٠).

عام ١٩٥٠، توفّي عبد الحميد، تاركاً زعامته السياسيّة لابنه رشيد، الذي برز كمناصرٍ للقوميّة العربيّة. ورغم رؤيته للوحدة العربيّة وسيلةً لمواجهة الهيمنة السياسيّة للوجهاء المسيحيّين على نظرائهم المسلمين في لبنان، إلا أنّه كان قلقًا من خسارة امتيازاته لصالح وجهاء عرب أكبر وأكثر نفوذًا في حال تحقّقت الوحدة الفعليّة. وقد اعتمل هذا التناقض في الممارسة السياسيّة لدى العديد من السياسيين اللبنانيّين القوميّين العرب، خاصة مع بدء سياسات التأميم العربيّ التي استهدفت رأس المال العربيّ، وليس المصالح الأجنبيّة فقط. خلال الخمسينيات وحتى السبعينيات، تمكّن كرامي من الوصول إلى رئاسة الحكومة في عدّة حكومات، محافظاً على موقعه المهيمن في التمثيل السياسي للمدينة، رغم التحديّات الدورية التي واجهها، وظل هذا الوضع قائماً حتى عام ١٩٧٢. ورغم التقدّم الذي أحرزه سياسيّو طرابلس ضمن تكتّلات الحكم في لبنان، استمرّت المشاعر المحلية في إظهار "نزعات انفصاليّة" (لوفيفر٢٠٢١: ٥٥).

تظهر مسألة "لبنانيّة" (أو عدم لبنانيّة) طرابلس، مرّةً أخرى، أنّ جهاز الدولة اللبنانيّة هو علاقة اجتماعيّة بين الطبقات، مصمّمٌ لتأمين مصالح الطبقة السائدة. إنّ إضفاء صفة "الزعرنة" على التنظيمات الشيوعيّة المسلّحة مثل "منظّمة الغضب"، سواء في قوامها العمّاليّ أو القتاليّ، يكشف الآليّات التي من خلالها تواصل الدولة اللبنانية عملها حتى اليوم. في لبنان، يعني هذا إنتاج رأس المال الاحتكاريّ الطائفيّ بشكل دائم كما وإعادة إنتاجه، حيث تتشكل كلٌّ من البنية الفوقيّة والتحتيّة من خلال نوازع احتكاريّة، تُوجّه عبر القنوات الطائفيّة للتوزيع.

ملحوظات: 
المراجع: 

Asseily, Youmna, and Ahmad Asfahani. A Face in the Crowd: The Secret Papers of Emir Farid Chehab, 1942-1972. London: Stacey International, 2007.

Gilsenan, Michael. “‘Akkar Before the Civil War.” Middle East Report, 162 (January/February 1990). https://merip.org/1990/01/akkar-before-the-civil-war/

Ginzburg, Carlo, interviewed by Nicolas Weill. “Carlo Ginzburg : « En histoire comme au cinéma tout gros plan implique un hors-champ »” [Carlo Ginzburg: “In history, as in cinema, every close-up implies an off-screen scene”]. Le Monde des livres (October 3, 2022). https://www.lemonde.fr/livres/article/2022/10/03/carlo-ginzburg-en-histoire-comme-au-cinema-tout-gros-plan-implique-un-hors-champ_6144175_3260.html

Gulick, John. Tripoli: A Modern Arab City. Cambridge: Harvard University Press, 1967.

Hanieh, Adam. Lineages of Revolt: Issues of Contemporary Capitalism in the Middle East. Chicago: Haymarket Books, 2013. 1-18.

Harris, Lillian Craig. “China’s Relations with the PLO.” Journal of Palestine Studies, vol. 7, no. 1 (Autumn 1977), 123-154.

Hashimoto, Chikara. The Twilight of the British Empire: British Intelligence and Counter-Subversion in the Middle East, 1948-63. Edinburgh: Edinburgh University Press, 2017.

Imperiale, Alicia. “Perché Italia? Perché Italia…” Log, 53 (Fall 2021), 8-14.

Jabber, Fuad. “The Resistance Movement before the Six Day War.” In The Politics of Palestinian Nationalism, ed. by William B. Quant et al. Berkeley: University of California Press, 1973. 157-175.

Lefèvre, Raphaël. Jihad in the City: Militant Islam and Contentious Politics in Tripoli. Cambridge: Cambridge University Press, 2021.

Merhej, Karim. “Paradise Lost? The Myth of Lebanon’s Golden Era,” ed. by Julia Choucair Vizoso. The Public Source (October 29, 2021). https://thepublicsource.org/golden-era-lebanon

Nasr, Salim. “Backdrop to Civil War: The Crisis of Lebanese Capitalism.” MERIP Reports, no. 73 (December 1978), 3-13.

Seurat, Michel. Syrie, l'État de Barbarie [Syria: The Barbarian State]. Paris: Presses Universitaires de France, 2012.

Traboulsi, Fawwaz. A History of Modern Lebanon. London: Pluto Press, 2012.

Ziadeh, Khaled. Neighborhood and Boulevard: Reading through the Modern Arab City. New York: Palgrave Macmillan, 2011.

التميمي، رفيق، ومحمد بهجت. ولاية بيروت، القسم الشماليّ، ألوية طرابلس واللاذقيّة. بيروت: دار لحد خاطر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٨٧. ٢٠٠-٢٦٢.

جريدة التمدّن. "القصّة الكاملة لدولة المطلوبين في طرابلس، ١٩٧٤". جريدة التمدّن (العدد السنويّ - ٢٠١٧).

جريدة السفير. "زعيم منظّمة الغضب يموت في السجن". جريدة السفير (١٦ حزيران ١٩٧٤)، ١، ٨.

جريدة السفير. "خمسة آلاف يشيّعون زعيم منظّمة الغضب". جريدة السفير (١٧ حزيران ١٩٧٤)، ٨.

عكّاوي، علي. "التعذيب والإهانات والاستغلال في سجن رومية". جريدة السفير (٢٤ حزيران ١٩٧٤) ٢.

رعد، ليلى. الاتجاهات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في طرابلس ١٩٤٣-٥٨. طرابلس: مكتبة السائح، ٢٠١٣.

سبعين، خضر. "عندما أتى الموساد إلى طرابلس لاغتيال سعيد السبع". جريدة التمدّن (٦ تشرين الثاني ٢٠١٨).

سماحة، جوزيف. "التحرّك والقمع". جريدة السفير (٢١ آب ١٩٧٤)، ٧.

سماحة، جوزيف. “أصحاب الأملاك ورقيق الفلاحين". جريدة السفير (٢٠ آب ١٩٧٤)، ٧.

سماحة، جوزيف. “عندما اكتشفت الدولة 'سرّ' المشكلة". جريدة السفير (٢٢ آب ١٩٧٤)، ٧.

عامل، مهدي. مدخل إلى نقض الفكر الطائفيّ. بيروت: دار الفارابي، ١٩٨٩.

فخر، حسن. "صلابة الثورة الفلسطينيّة وتعزيز وتنظيم دعم الجماهير اللبنانيّة لها الضمان الأساسيّ لحرّيّة العمل الفدائيّ". مجلّة الحرّيّة، العدد ٤٨٩ (١٠ تشرين الثاني، ١٩٦٩) ٦-٧.

كمال، هيثم. "الانفجار الطبقيّ في عكّار". مجلّة الهدف (٢٨ تشرين الثاني ١٩٧٠)، ٨-٩.

مادويان، أرتين. حياة على المتراس. بيروت: دار الفارابي، ٢٠١١.

مرقص، إلياس. عفويّة النظريّة في العمل الفدائيّ. بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر، ١٩٧٠.