الطبيعة، النساء، والاغتراب: وجهة نظر بيئية - اجتماعية عن التغيير
بينما كانت أصوات الملايين من الناس حول العالم تضغط من أجل التحرّر، وتعارض تجاوزنا للحدود الكوكبية، برز اتجاه خطير بشكل تضليلي تلبيةً لهذه المطالب: ذاك المتعلّق بالرأسمالية الخضراء والنسوية. في مقابل الخلفية النسوية الثورية، يسوّق هذا الشكل من الرأسمالية نفسه كمناصر لقضية النساء المضطهدات والبيئة، مع تشديد – غالباً في العالم الأول – على سياسات الهوية، وأهمية أن تكون المرأة في مناصب حكومية ومهنية عالية، بالإضافة إلى الانتقال إلى الطاقة "النظيفة" وتقليل البصمة الكربونية. على الرغم من أن هذا يؤدي إلى تحسينات هامشية بشكل عام، إلا أنني أزعم أن الرأسمالية المُلفقة وكأنها "خضراء" و"وردية"، تُظهر بعض التداعيات الخطيرة للغاية، لا سيما في بلدان عالم الجنوب. بسبب ذلك، تزايدَ حضور الحركات العمّالية والفلّاحية، وتلك التي يقودها السكّان الأصليين التي تطالب بالمسائلة وتعارض السياسيات الاستخراجية العنيفة التي تُسَنّ في مناطقهم. على مدى قرون، سعت الرأسمالية إلى تقسيم الجماهير بأي وسيلة كانت، بغية إخماد أي معارضة ثورية لحكمها المعادي للمرأة والمبيد للبيئة. من أجل التوفيق بين انقساماتنا، يجب أن نسعى إلى تخليص أنفسنا من الاغتراب الذي نشعر به إزاء الطبيعة وتجاه بعضنا بعضاً.
أولاً، أحد الأخطار – الأكثر اعتباراً في الدول الغنيّة والقوية – هو تطوّر رأسمالية "الشمول"، أي الفكرة القائلة بأن النساء يمكن بل وينبغي لهنّ أن يشاركن بنشاط في الأسواق الحرّة العالمية، وأن يطالبن بحقوقهن باعتبارهن صاحبات ملايين ومليارات، وأن يَشغلن مناصب حكومية – بورجوازية – رفيعة المستوى. نساء مثل مارغريت تاتشر وهيلاري كلينتون و – مؤخراً – جانين أنييز وكامالا هاريس في الحكومة، بالإضافة إلى فرانسواز بيتانكور (لوريال) وأليس والتون (وول مارت)، وجوليا كوخ (صناعات كوخ)، وجينا رينهارت (مجموعة هانكوك بروسبكتينج) )، وأخريات ممّن هنّ من بين أغنى الناس في العالم ولديهن مليارات الدولارات المسجلة بأسمائهن، يُنظر اليهن على أنهن رسُل لعصر جديد. على الرغم من اعتبارهنّ بشكل واسع، أنهن غيّرن صورة المرأة عن ما كانت عليه في العقود والقرون السابقة، بالإضافة الى كون الكثيرات منهن "محسنات سخيّات" ولديهن مؤسسات خيرية مسجلة بأسمائهن، لا تختلف هذه النساء عن نظرائهن من الرجال في دورهن الفعّال المحافظ على نظام السوق الحر العالمي. على نحو مماثل، فإن "الوعي المناخي" والذي تم تكييفه مع استراتيجيات العمل والتسويق لأكبر الشركات في العالم، هو ظاهرة مقلقة بالقدر نفسه. لا يعني ذلك أن نعود إلى ماسوجينية القرن الماضي العلنية ولااكتراثه البيئي، بدلاً من أن نحاجج أن الرأسمالية التي تتغذى بنشاط على تقييد حريات النساء وغير الممتثلين للمعايير بالإضافة إلى الإضرار بالبيئة، لا تستطيع أن تحلّ هذه المشاكل لأنها تعتمد عليها دائماً اعتمادا كلياً بشكل أو بآخر.
في التوفيق بين الرأسمالية، البيئة، وحقوق المرأة
محاوِلةً البقاء والمحافظة على هيمنتها العالمية، تقدّم الرأسمالية حلولاً غير كافية، مغلّفة ومسوّقة على أنها "الطريق الوحيد للأمام" من خلال أدوات مرتكزة على السوق، أولها "الشمول". في الواقع، تعجز الرأسمالية كنظام عن حلّ أيٍّ من المشكلات التي تناولناها حتى الآن، بل هي ترى ضرورةً في الحفاظ على رسوخ هذه المشكلات، من أجل حماية توسّعها باسم البحث عن الربح. مدفوعاً بالمصالح الأنانية للأفراد والمجموعات، كل ما يسعى له هذا النظام هو التراكم غير المتناهي لرأس المال، هذا هو بيت القصيد. هذه حقيقة معترف بها من قبل كبار الاقتصاديين، وعلماء الاجتماع، ومثقفين آخرين عبر الأجيال (أنطونيو غرامشي، مارك فيشر، ديفيد هارفي...). يعني هذا الاهتمام الذي لا ينضب بتوسيع القيمة التبادلية (رأس المال) أن النظام يهتمّ فقط بالعوامل الكمّية. ليس النمو الكيفي جزءً من الميزانية العمومية، ولهذا السبب، رغم التغيّر الكمّي في كلّ شيء، لم يلتحق التغيّر في نوعية الحياة في مناطق كثيرة من الكوكب بذلك، (أقلّه، لم تتغير بنفس الوتيرة). على كوكبٍ ذي مصادر محدودة، تؤدّي الحاجة إلى نمو اقتصادي غير متناه إلى كارثة طبيعية. فكما قال علماء الاجتماع البارزون ومنظّرو الانقسام الأيضي جون بيلامي فوستر وبريت كلارك وريتشارد يورك (2010):
إن نظام السوق الرأسمالي موجّه دائماً نحو تركيز الفائض الاقتصادي والثروة وإحلال غالبية التكاليف على المجتمع والبيئة. إنه يقدّم تقديراًَ مشوّهاً عن رفاه الإنسان والبيئة من خلال احصائاته حول الدخل القومي الاجمالي.
كبّدت قلّة الاعتبار للتكاليف البيئية الناتجة عن جميع الأنشطة الاقتصادية والصناعية الماضية – كلّها باسم تحصيل الربح – دَيناً بيئياً ضخماً على الأجيال الحالية والمستقبلية. تُستعَمل مفاهيم مثل "التنمية المستدامة" من أجل تعزيز الحاجة إلى النمو الاقتصادي وإن كان ذلك تحت ستار أقلّ تدميراً للبيئة. يؤيد الاقتصاديون البيئيون المناصرون للحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري مثل وليام نوردهاوس ونيكولاس ستيرن هذا الدعاء بشرط أن لا يؤدّي إلى نقص في النمو الاقتصادي. هذه القيود لن تحمي الأرض من كارثة مناخية، ومع ذلك تتبنّاها الدول كجزء من خططها البيئية للمستقبل. عادة، يساوي تركيز الكربون الجوي المقبول لمنع التغيّر الكارثي 350 جزء في المليون تقريباً، التركيز الحالي في عام 2022 هو حوالي 414 جزء في المليون، ويشير التيار السائد إلى أن هذا التركيز قد يرتفع إلى 910 جزء في المليون إذا واصلنا العمل بنفس الوتيرة. وضع الاقتصاديون المشار إليهم أعلاه "مسارات مثلى" من أجل تقليل انبعاثات الكاربون إلى 700 جزء في المليون ثم 480 جزء في المليون. سيؤدي هذان التركيزان إلى زيادة في الحرارة تساوي 2 إلى 6 درجة مئوية نسبة إلى المستوى ما قبل الصناعي، بالتالي إلى نتائج كارثية على نظام الأرض وسكانه (فوستر، كلارك، ويورك، 2010). إن أردنا تجنّب هذه الكوارث، علينا التقليل من انبعاثاتنا الكاربونية، وليس تثبيتها فقط. لن يكون السعي نحو التقليل من انبعاثات الكربون إلى هذا الحّد مربحاً بالنسبة الى الرأسماليين والقادة. مما يعني أنه لا يمكن لرأسمالية "خضراء" حقاً أن تعكس مسار ارتطامنا بالكارثة.
يأتي مع استغلال الطبيعة، تجريد الشعوب من حقها في العيش والسيطرة على أراضيها. في كثير من المجتمعات ما قبل رأسمالية، وفي سياق مجتمعات خارجة على الرأسمالية أو تقاوم احتوائها المباشر لها اليوم، تعمل النساء بنشاط على صيانة النظام البيئي والتنوع البيولوجي. ليس المقصد أن تُصوّر بشكل مثالي الكثير من ممارسات وتقاليد السكان الأصليين والمجتمعات القبلية أو بنية المجتمعات التقليدية حيث ينتشر التمييز الجنسي. مع ذلك فالكثير يمكن تثمينه والحفاظ عليه عندما يتعلق الأمر بمعارف الجماعات الأصلية و المتمردة عن الزراعة المحافظة والمستدامة. على سبيل المثال، من خلال أبحاث متينة، سلّطت مبادرة الحفظ الشاملة الضوء على الدور الفعّال الذي تلعبه النساء الأصليات في انتقاء البذور والمحافظة عليها، وهو أمر مهم من أجل المحافظة على التنوع البيولوجي (منظمة الاغذية والزراعة 2015، لازارو 2020 ). الجونا، والليسو، والكوينشاو، والكارن هم من مئات السكان الأصليين الذين يحملون تقاليد مهمة في الاستدامة. مكّنتهم معرفتهم عن البذور من التنبؤ بالمحاصيل الزراعية المستقبلية، والذي يمثّل فهماً حاسماً خاصة في المجتمعات التي تمارس نظام الزراعة المتحرّكة. وفقاً لـ"صندوق الاستثمار المناخي"، فإن النساء تقوم بـ 70% من الأعمال التي تعزز هذه الأنظمة الزراعية. يؤدي هذا إلى زيادة في احتجاز الكربون، ويحافظ على المحاصيل ويحسّن التنوّع البيولوجي بشكل عام (Tzec, 2022). مع ذلك، لم يُعتبر دور النساء في هذا الصدد أنّه عمل، ولم تُقدَّر معرفتهن. يمكن القول الشيء نفسه حول المجتمعات الحديثة، حيث يُتوقَّع من النساء أن تقوم بمئات الساعات من العمل غير المأجور في المنزل، ليبقى العامل الذكر في مكان العمل، ولتضمن النمو السليم للجيل القادم من العمّال. بالإضافة إلى ذلك، فإن النشاطات المنظّمة للنساء في عالم الجنوب، المقاومة للسياسات النيوليبرالية، والتي تحاول الحفاظ على البيئات التي يعشن منها قد قوبلت بالعنف الشديد والاضطهاد في معظم المناسبات. وهذا سبب أساسي لاستهداف النساء من السكان الأصليين والمدافعات عن البيئة في بلدان أميركا اللاتينية وإسكاتهن وتعذيبهن وقتلهن بمعدل أعلى.
تسبق الأنظمة الأبوية الرأسمالية وجوداً، ومع ذلك، فإن الرأسمالية تستعمل النظام الأبوي كوسيلة لتغريب النساء عن أجسادهن، وعن نساء أخريات، وعن البيئة، بغية منعهن من الوصول إلى أراضيهن، وتستخدم عملهن المنتج والإنجابي لمصالح خاصة. يمكن مشاهدة بعض من أمثلة الاستغلال هذه في الحقول الزراعية في عالم الجنوب. لبنان أحد الأمثلة على ذلك، حيث تعاني النساء العاملات في القطاع الزراعي من التهميش القانوني. يتجلّى ذلك في حرمانهن من التأمين الصحي وتأمين الشيخوخة، مما يمنعهن من التطوّر في هذا القطاع. لا يحصل العديد من النساء على شهادات رسمية تمكّنهن من ممارسة الزراعة، على الرغم من أي نجاح قد يحققنه، قد تؤهلهن هذه الشهادات لتوسيع عملهن وتصدير المنتجات إلى الخارج، بالإضافة إلى الحصول على ضمانات مالية وصحية. يتحدد الوضع الاجتماعي في القرى اللبنانية بملكية الأرض إلى جانب مدى السيطرة على موارد الأسرة ودخلها. بذلك، ومن خلال السجلات الحكومية، ستضمن البنية الأبوية للأسرة، ارتباط النساء بالرجال – آباءً كانوا أم أزواجاً – بشكل لا مفرّ منه، عندما يتعلق الأمر بملكيتهم للأراضي والوصول إليها (مكداشي، 2022). ومن هنا، يؤدي هذا الحرمان إلى اعتماد بنيوي على الرجال للحصول على الموارد، مما قد يعرض المرأة لانعدام الأمان والعنف.
في دراسة أجريت في عام 2011، أشارت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن النساء هن الدعامة الأساسية للقطاعات الزراعية والقوى العاملة في المزارع في معظم البلدان النامية، بالإضافة إلى تحمّلهن العبء اليومي المتمثّل في إعالة الأسرة؛ ومع ذلك، فهن لا يُحرمن بشكل منهجي مما يسمى بفوائد "تطوير النمو الاقتصادي" فقط، ولكن هذا التطور غالبًا ما يكون له تأثير سلبي على حياتهن. من خلال صوغ "الرجال" و "النساء" كتصنيفات محددة، تعطي الأنظمة الأبوية التي تدعمها الرأسمالية الأولوية في توفير الخدمات الزراعية للرجال، مما يعني أن النساء يجدن أنفسهن في وضع أسوأ من حيث الوصول إلى الموارد مثل الأرض والتسهيلات الائتمانية، ومتطلّبات الإنتاج الزراعي، والتكنولوجيا، والخدمات الإرشادية، والتدريب، وغيرها من الخدمات الحاسمة التي تُلزمها إدارة أراضيهن بنجاح. من المهم ملاحظة أن هذه الآليات تخدم الرأسمالية العالمية، على الرغم من دعمها للرأسمالية في مناطق العمل بها على وجه الخصوص. يجبر ما ذكر أعلاه من تهديدات وحرمان منهجي، العديد من النساء على التنازل عن حقوقهن وحصولهن على الأرض، مما يجعل الأراضي أكثر عرضة للاستيلاء، ويؤدي إلى استخدام للأراضي غير مستدام وحرمان اقتصادي للسكان المحليين.
عن الاغتراب
إن نظرية ماركس في الاغتراب أساسية في تفسير الانفصال والعداء الذي نكنّه تجاه العديد من جوانب الحياة الحديثة. بشرح مختصر:
بدلاً من رؤية ما ينتجونه على أنه شيء يلبّي الاحتياجات الإنسانية للآخرين بشكل مباشر، يراه العمّال مجرد وسيلة لتحقيق غاية، إنه ضرورة شاقة للحصول على المال من أجل إشباع احتياجاتهم الخاصة. (فوجل، 1988)
إن تجريد العمل والإنتاج من العناصر التعاونية والاجتماعية يجعل العامل غير مكترث بأكثر من القيام بدوره اليومي، وكسب أجره قبل بدء الدورة مرة أخرى. يمكن أن يمتدّ مفهوم الاغتراب إلى اغترابنا عن الطبيعة وعن بعضنا بعضاً كبشر نتيجةً لديناميات الجنس. تعود جذور الصورة الزائفة عن "المرأة المثالية" إلى المجتمعات الاستعمارية السابقة للرأسمالية. وقد سُيّبت بعد ذلك من أجل الحفاظ على الأدوار الثابتة للمرأة في إعادة الإنتاج الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية ومنعها من اتخاذ مسار مختلف في الحياة. لم يُقف هذا النساء على نطاق عالمي، وقد شهدنا تاريخيًا عددًا كبيرًا من الحركات التي اعترضت وحشدت ضد هذه المعايير. لا يفي بالغرض أن التمييز الصريح أصبح أقل انتشاراً من قبل في سياقات عديدة، إذ يجب القضاء على العديد من جوانب الحياة الرأسمالية والأبوية (العمل في المصانع المستغلة، والاتجار الجنسي، والتفاوتات بين الشمال والجنوب، والمعايير الجنسانية...). يبدأ الحل بإدراك المحرك الرئيسي لمثل هذه المعايير، من أجل إضعاف عودتها بطرق أكثر تحرساً وعصرية.
إن إدخال المرأة إلى سوق العمل هو مثال على "التحديث المميِّز جنسياًَ" عبر السياسات النيوليبرالية. ينظر الرأسماليون إلى النساء على أنهن مورد غير مستغل في سوق العمل، خاصة في عالم الجنوب (في مناطق التجارة الحرة)، حيث حقوق العمل (خاصة للنساء) فضفاضة أكثر، بل ربما غير موجودة. فكما تشير سيلفيا فيديريتشي (2012):
تُجبر هؤلاء النساء على العمل لساعات طويلة في ظروف غير آمنة... وغالبًا ما يُجبرن على تناول حبوب منع الحمل لضمان عدم حملهن وتعطيل الإنتاج، كما أن تحركاتهن تُقيّّد. في كثير من الحالات، يُحبسن حتى يتممن حصص عملهن.
كحال العمّال من الرجال، وعلى مستوى مؤسف أكثر، يعاني هؤلاء النساء من الاغتراب في مكان العمل أيضاً، وينتجن بشكل جماعي بينما يتقاضين القليل جدًا في المقابل. وبالمثل، تعاني العاملات المهاجرات من "اغتراب مزدوج" حيث يستهان بقيمة الخدمة التي تنتجها المرأة، ويتم بناء هويتها العرقية / الإثنية بالاكراه جدلياً ما بين الدولة القومية التي يقيمون فيها و"الرئيس" الذي تعمل النساء من أجله الآن. مثال بارز على ذلك يأتي من بعض الدول العربية (بشكل رئيسي، لبنان والأردن والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة والكويت) حيث يجذب نظام الكفالة العمّال من جميع الأجناس ويوقعهم في شركه. النساء اللائي يعملن بشكل أساسي كعاملات منزليات، يقمن (على الأقل إلى حد كبير) بالعمل الانجابي الذي تقوم به النساء المحليات تقليديًا. بخضوعهن لظروف معيشية قاسية، واعتداء جنسي وجسدي، وتقييد للحركة، يتمّ تغريبهن عن أجسادهن وعقولهن، وعن العاملات الأخريات اللواتي يعانين من نفس المصير، وفي أماكن عملهن حيث يُقال لهن ما يجب فعله وكيفية القيام به مع مساهمة خاصة منهن قليلة أو غير الموجودة على الإطلاق. في هذه البلدان، لا يمكن إرهاق عاملات المنازل المحليات بنفس الطريقة التي تُرهق بها عاملات المنازل الأجنبيات، مما يحدد إلى أي مدى يمكنك استغلال بعض النساء دون أخريات.
تقاوم عاملات المنازل المهاجرات تلك الأنظمة وينتظمن فيما بينهن ومع المجموعات النسوية، في المنطقة وحول العالم (مجموعة Egna Legna Besidet اللبنانية، وشبكة تضامن العمالة المنزلية الأردنية في الأردن DWSNJ، وجمعية سانديجان كويت الكويتية لعمال المنازل SKDWA). رغم أن عدد الأعضاء لا يزال متدنياً نسبيًا في بعض المناطق بسبب القوانين التي تمنعهن من التنظيم والتكوين النقابي، فإن هذه المنظمات الجماعية للنساء في مناطق التجارة الحرة هي أمثلة مهمة للحركات التي تولّد التضامن العابر للمجتمعات وتعزز الحقوق الجماعية للذين هم في أسفل التسلسل الهرمي للعمل.
لم تتأثر أنظمة الكوكب إلى هذا الحد إلا في الآونة الأخيرة فقط، مع ولادة نظام مدفوع بالتوسع الدائم (لصالح أقلية صغيرة من النخب). يُحافَظ على هذا الدافع الذي لا يُقاوم للنمو الدائم المذكور من خلال وسائل علنية وسرية يبدو أنها أكثر من أن تذكر. ومن الأمثلة الصريحة على ذلك مجمعي السجون الصناعي في الولايات المتحدة وإسرائيل، وكلاهما يرتبط بالاستعمار الاستيطاني والأجندة النيوليبرالية المراكمة للأرباح من خلال تسليع تقنيات الاعتقال. أولاً، اتسم الانتشار غير المسبوق للنزعة العسكرية العالمية في العقدين الماضيين بتوسع صناعة عسكرية أمنية عابرة للحدود وحرب دائمة. حُدّدت هذه الحقبة أيضًا بالسجن الجماعي، والفصل العنصري المكاني، وأنظمة مراقبة موجودة في كل مكان نتيجة لاتساع عدم المساواة في الرأسمالية والمعارضة المتزايدة التي تتطلب مثل هذه التدابير. تُسوَّق أدوات القمع هذه وتعمل كقناة رئيسية لتفريغ فائض رأس المال و– الأهم من ذلك – ترويض المعارضة، وبالتالي حماية الرأسمالية من تناقضاتها الداخلية (فرنانديز وثريا، 2022). تعمل الظواهر المذكورة أعلاه أيضًا (بشكل مباشر أو غير مباشر) على توسيع العزلة بين البشر والطبيعة، وبين بعضهم بعضاً، من خلال تقييد الحركة وتدمير البيئات (نتيجة للحرب والنزعة الاستخراجية...).
في الولايات المتحدة، لا يملك النزلاء خيار رفض العمل بعد سجنهم. ويرجع السبب في ذلك إلى أن التعديل الثالث عشر لدستور الولايات المتحدة، الذي يحظر العبودية والاسترقاق الجبري، ينص صراحة على أن تدابير الحماية لا تشمل الذين سُجنوا نتيجة إدانة جنائية. دفع عدم التكافؤ هذا إلى تجريم السود وإعادة استعبادهم بشكل فعال خلال حقبة جيم كرو، وآثار ذلك يُشعر بها حتى يومنا هذا. غالبًا ما يتلقى الذين يعملون أثناء سجنهم تعويضات قليلة أو معدومة، حيث يحصل الكثير منهم على بضع سنتات في الساعة فقط. ومع ذلك، لا يمكنهم الاحتفاظ حتى بهذه المكاسب الضئيلة. نظراً لأن أنظمة السجون تفرض على المحتجزين أسعارًا باهظة مقابل احتياجات أساسية، يقل ما للعمال من فائض نقود. يتلقى المستفيدون الرئيسيون، أي أنظمة السجون وحكومات الولايات، قيمة كبيرة من العمل الذي يقوم به أولئك المسجونون (ويلسون جيلمور، 2022). أما بالنسبة لصيانة السجون، يولّد السجناء في جميع أنحاء البلاد أكثر من 2 مليار دولار من السلع وأكثر من 9 مليارات دولار من الخدمات كل عام (ACLU, 2002). هنا يجب لفت الانتباه إلى أوجه التشابه الصارخة بين المستعمرات الاستيطانية في الولايات المتحدة وإسرائيل: تجني الشركات الخاصة الأموال من الاعتقالات في كلا البلدين. يجني ما يقرب من 22 شركة الأموال من خلال مراكز الاحتجاز الفلسطينية داخل إسرائيل والضفة الغربية المحتلة (هو بروفتس، 2014)، بينما في الولايات المتحدة، تستفيد حوالي 4000 شركة تجارية من مجمع السجون الصناعي (وورث رايزز، 2019). منح مكتب السجون الفيدرالي الأميركي عقدًا بملايين الدولارات لشركة سيمنز الألمانية في عام 2016. وتعاونت شركة سيمنز أيضًا مع مجموعة أوراد التجارية الإسرائيلية من أجل إنشاء نظام أمني لمنشأة عقابية تحتجز فلسطينيين. تستغل شركة موتورولا سوليوشنز عمالة السجون بينما توفر في الوقت نفسه برامج إدارة سجن لنظام السجون في الولايات المتحدة. باعت الشركة خدمات وأنظمة تقدَّر قيمتها بأكثر من 108 ملايين دولار في 2015 و 2016 لمصلحة السجون الإسرائيلية، بما في ذلك معدات لسجن عوفر العسكري في الضفة الغربية (مازا، 2019).
تخدم أنظمة السجون المعاصرة في جميع أنحاء العالم مصالح كثيرة، ولا ينتفع الغالبية العظمى من السكان بأي منها. إنها تزود الدولة والمصالح الخاصة بعمالة العبودية الحديثة، وتوفر مبالغ فاحشة من رأس المال للشركات، بينما تخدم الهدف المصيري دائماً المتمثل بتدجين المعارضة، وكبح التغيير الاجتماعي، وتعزيز دورة إعادة الاعتقال. يجب أن ننظر إلى ما وراء التقدمية المصطنعة لهذه الشركات الكبيرة التي تدفع بأجندة أكثر "خضاراً" و"وتنوعاً" بينما تستفيد – تاريخيًا وحالياً – من المعاناة الإنسانية والتدهور البيئي. إن حركة إلغاء العبودية في الولايات المتحدة والنضال الفلسطيني الدائم ضد الفصل العنصري والتطهير العرقي هما بمثابة مثالين واقعيين على المقاومة ضد اغترابنا القسري والقمع الوحشي على أيدي الكيانات الاستيطانية الاستعمارية والنيوليبرالية.
استنتاج
لعلّ الدليل الأوضح على اغتراب جنسنا البشري عن البيئة الطبيعية هو طريقة معاملته لها منذ ظهور الثورة الصناعية. منذ ذلك الحين، يُنظر إلى الطبيعة على أنها مادة خاملة وغير فعّالة يجب التلاعب بها بالشكل الذي تراه الأسواق مناسبًا. إن أكبر موطن ضعف في الرأسمالية حتى الآن هو عدم قدرتها على إدراك أن أي اضطراب في النظم البيئية للكوكب سيؤدي إلى عواقب بيئية خطيرة إلى درجة كارثية. من وجهة نظر ماركسية، ينبع هذا الاغتراب من فشلنا في التعرّف على المصدر البشري للأشياء التي أنتجناها. هذا ما يفعله البشر من خلال عملهم في الأساس: إنهم يعيدون تشكيل الطبيعة ويحوّلونها من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وُجّهت أسواق رأس المال، وخاصة في العالم الحديث، نحو إنتاج الكثير من الأشياء التي لا يحتاجها البشر في الجوهر. هكذا تختفي اجتماعية العمل الضمنية بحجاب الملكية الخاصة والتبادل الخاص. لذلك، كما قال ستيفن فوجل (1988): "ليس الطابع الاجتماعي لتدخّلاتنا في الطبيعة هو ما يستحق النقد بل حقيقة أنه لم يُكوَّن اجتماعيًا بشكل كافٍ، وأنه لا توجد وسيلة لممارسة ديموقراطية الجماعة عليها". للتخلص من اغترابنا، يجب تغيير نظامنا الاجتماعي والاعتراف باجتماعية انتاجنا، أي الاعتراف بإمكانية التغيير. لهذا السبب، لاستعادة علاقة غير مدمّرة وعادلة بين البشر وبين البشر والطبيعة، من الضروري استبدال السوق المدفوع بالربح بنظام تخطيط اجتماعي للإنتاج يتمّ التحكم فيه ديمقراطيًا.
لن يُعثر على حلول لجميع مشاكل الحياة الوجودية في يوتوبيا الرأسمالية الخضراء؛ بل يتطلب ذلك إعادة هيكلة أساسية للنظام الاجتماعي السائد تجاه أنماط حكم ما بعد رأسمالية. الإيديولوجيات الراديكالية "تراجع النمو، والاشتراكية البيئية، والنسوية البيئية" تطلق أكثر الانتقادات صحّة للرأسمالية بينما توفر مسارًا ملموسًا لإلغاء التسليع وإنهاء الاستعمار وبديلاً لصَنَميّة النمو الاقتصادي لدى المجتمعات الحديثة. لا يمكن حل أزمة المناخ وانقراض التنوع البيولوجي وتحمّض المحيطات وجميع الكوارث البيئية الأخرى التي تلوح في الأفق في العالم بالخواء، وليست الاجابة في أيدي الدول أو المنظمات الدولية. تسير العدالة الاجتماعية والعدالة البيئية جنبًا إلى جنب: لا يمكن التطرق إلى أحدهما دون الأخرى. في نهاية المطاف، يجب أن تتخلص الإنسانية من نفس الأنظمة (وأولئك الذين يحمونها) التي يمكن تشبيهها بالطفيليات: إنها تتغذى على استغلال الناس والطبيعة بينما تقتل مضيفها عبر العملية. كما هو الحال دائمًا، توجد الحلول في الحركات الاجتماعية التي هي في أسفل التسلسل الهرمي لقوة العمل حول العالم. لقد رأينا تمكّن العديد من أعمال التمرّد على الاستعمار من استعادة الاستقلال الذاتي في مواجهة استغلال استعماري ورأسمالي وحشي بشكل استثنائي. لديهم القدرة الثورية على إحداث تغيير اجتماعي حقيقي لأنهم يمثلون احتياجات الطبقات العاملة في جميع أنحاء العالم.
ACLU. (2022, June 29). Captive labor: Exploitation of Incarcerated Workers [report]. Chicago: The University of Chicago, The Law School Global Human Rights Clinic. https://www.aclu.org/report/captive-labor-exploitation-incarcerated-workers
Brownhill, L., & Turner, T. E. (2020). Ecofeminist ways, ecosocialist means: Life in the post-capitalist future. Capitalism Nature Socialism, 31(1), 1–14.
FAO. (2011). Women in agriculture closing the gender gap for development. Rome: Food and Agriculture Organization of the United Nations. https://www.fao.org/3/i2050e/i2050e.pdf
FAO. (2014). Shifting Cultivation, Livelihood and Food Security: New and Old Challenges for Indigenous Peoples in Asia. Bangkok: Food and Agriculture Organization of the United Nations, International Work Group For Indigenous Affairs, and Asia Indigenous Peoples Pact. https://www.fao.org/3/i4580e/i4580e.pdf
Federici, S. (2012). Revolution at point zero: Housework, reproduction, and feminist struggle. Brooklyn: Common Notions/PM Press.
Fernández, E., & Soraya, E. (2022). Settler Colonialism, Racial Capitalism and the Militarisation of the Global Economy: Palestine as Ground Zero [thesis]. Leiden: Leiden University. https://studenttheses.universiteitleiden.nl/access/item%3A3278901/view
Foster, J., Clark, B., & York, R. (2010). The Ecological Rift: Capitalism's War on the Earth. New York: NYU Press.
Lazarou, R. (2020). Indigenous women conserving Nuwas Forest and medicinal plants. Centro Takiwasi. Tarapoto: Takiwasi. https://takiwasi.com/en/nuwas-forest-conservation-amazon.php
Maza, C. (2019, September 27). Prison systems in the US and Israel have something in common. Al Jazeera. https://www.aljazeera.com/economy/2019/9/27/prison-systems-in-the-us-and-israel-have-something-in-common
Mikdashi, M. (2022). Sextarianism: Sovereignty, Secularism, and the State in Lebanon. Palo Alto: Stanford University Press, 2022.
Spear, J. (2021, March 15). Women and nature: Towards an ecosocialist feminism. MR Online. https://mronline.org/2021/03/15/women-and-nature-towards-an-ecosocialist-feminism/
Tzec, A. (2022, August 10). Celebrating and upholding indigenous women – keepers of indigenous scientific knowledge. IUCN. https://www.iucn.org/blog/202208/celebrating-and-upholding-indigenous-women-keepers-indigenous-scientific-knowledge
Vogel, S. (1988). Marx and Alienation From Nature. Social Theory and Practice, 14(3), 367–387.
Wilson Gilmore, R. (2022). Abolition Geography: Essays Towards Liberation. London and New York: Verso Books.
Who Profits. (2014, January). Corporations that provide services to Israeli prisons. whoprofits. https://whoprofits.org/updates/corporations-that-provide-services-to-israeli-prisons/
Worth Rises. (2019, April). The Prison Industrial Complex: Mapping Private Sector Players. Worth Rises. https://static1.squarespace.com/static/58e127cb1b10e31ed45b20f4/t/5cc7c27b9e3a8d00018649c5/1556595324791/The+Prison+Industrial+Complex+-+Mapping+Private+Sector+Players+-+2019.pdf