الفجوة الكويرية: غياب النظرية الكويرية عن تخصّص العلاقات الدولية

السيرة: 

حاصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة نوتنغهام ترينت بالمملكة المتحدة وبكالوريوس في اللغة الإنجليزية (مع مرتبة الشرف) من جامعة كولومبو، سريلانكا. عمل نالين في قطاع التنمية في سريلانكا كأخصائي المساعدة الإنمائية الرسمية (ODA) لبنك التصدير والاستيراد الكوري وكمنسق مشروع للوكالة الكورية للتعاون الدولي. تشمل اهتماماته البحثية على نطاق واسع الدراسات الأمنية، ودراسات النوع الاجتماعي والجنساني، ونظريات العلاقات الدولية ودراسات التنمية.

‫ ‫الملخص: 

لطالما شكّل تحدّي هيمنة الغَيريّة المعيارية والجندرية المعيارية، عبر مساءلة العلاقة بين الغيريّة الجنسية والمثلية الجنسية، مشروعاً جوهرياً بالنسبة لعلماء النظرية الكويرية (Namaste, 1994; Jackson, 1999). فبالرغم من تنامي دراسات الكويرية العالمية وأثَرها على الخطابيّات في حقل العلوم الإنسانية، ما زلنا نلحظ "فجوة كويرية" في العلوم الإجتماعية عموماً والعلاقات الدولية خصوصاً. يحاجّ هذا المقال أنّ النظرية الكويرية، وبالرغم من أنّها قد لا تأتي بتغيير مهمّ في الصلب التخصّصي للعلاقات الدولية، إلا أنّها تتيح مساحة نقدية صالحة للباحثين والباحثات (المعتمدين مفهوماً كويرياً في نظرتهم إلى العالم) الذين لا ينضوون إلى الممارسات المؤسساتية والتخصّصية المهيمنة. تقوم هذه الدراسة على البحث النظري وتتضمّن منهجيتها مراجعةً دقيقة للمراجع الأكاديمية الثانوية. تستخدم الدراسة الأطر النظرية والمفاهيمية والمباحثات البارزة التي تُعنى بالجندر والجنسانية والنظرية الكويرية، وتشير إلى المباحثات في النظريات الشاملة والممارسات التخصّصية المهيمنة في مجال العلاقات الدولية للبحث بشكلٍ نقديّ في سبب غياب النظرية الكويرية عن هذا المجال. وتسلّط هذه الدراسة الضوء على وثاقة الصلة بين الأبحاث الكويرية وتخصُّص العلاقات الدولية، لا سيّما أنّها أبحاث تضمّ المحاور الجوهرية لحقل العلاقات الدولية. وعليه، تحاجّ الدراسة أنّ ترك "الفجوة الكويرية" على حالها سيؤدّي إلى فشل، وتحثّ بالتالي الباحثات والباحثين على الابتعاد عن الممارسات المؤسساتية والتخصّصية المهيمنة.

شكر‬ ‫واعتراف‬: 
  1.  
الكلمات المفتاحية: 
Queer Theory
اقتباس: 
نالين جاياثونغا. "الفجوة الكويرية: غياب النظرية الكويرية عن تخصّص العلاقات الدولية". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 2 (07 يوليو 2022): ص. 10-10. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 26 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/359.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

رولا علاء الدين هي مترجمة تعيش في بيروت، وتملك ما يزيد عن 10 سنوات من الخبرة في مجال الترجمة والترجمة الفورية في اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. بالإضافة إلى حصولها على إجازة في علم اللغات والترجمة، تواصل رولا تعليمها الأكاديمي في مجال الوساطة، وتركز على الوساطة في النزاعات التي تشمل المهاجرين/ات واللاجئين/ات، مع اهتمام خاص على دور اللغة في الثقافة والنزاعات. قادها عملها مع اللاجئين/ات والمهاجرين/ات في لبنان للانخراط في الدراسات المرتبطة بالمهاجرين/ات، مع تركيز على الهجرة المتعلقة بالعمل بشكل عام، والعمّال/ العاملات المهاجرين/ات في لبنان تحديدًا. يستكشف بحثها الحالي دور المسارات العالمية والمحلية للهجرة المرتبطة بالعمل في تكوين القصص الفردية والحميمية للأفراد المهاجرين/ات.

 

مقدّمة

أوّد أن أبدأ بعرض تجربةٍ شخصيةٍ قبل الدخول في العرض النظري المفاهيمي حول الجندر والجنسانية. إنّ الهلع المحيط بالحديث عن الجنس، والغراميات، وسفاح القربى، والجنسانية، يأتي كردّ فعل مبرّر ومطبّع بالنسبة لمن يولد في بلد "نامٍ" في جنوب آسيا وذي تاريخ استعماري. إذا طُلِبَ من أحدٍ ما أن يتكلّم عن الجنسانية فإنّ بعض ردود الفعل قد تستدعي حالة "هلع الجنس" المتَّسمة بالـ"خوف والقلق والغضب والكراهية والاشمئزاز" (Irvine, 2008, p.9-10). تشير ردود الفعل هذه إلى نوع من الرقابة وتقنيات الإسكات، التي يمكن ربطها بـ"فرضية الكبت" للفيلسوف فوكو (Foucault, 1998, p.17-49)، والتي تحرّك خطابيّات تشريعية ودينية وطبّية في سعيها لتجريم حالات العصيان والانحراف وتحقيرها ومقاربتها كحالة مرضية. هذه الخطابيّات (التي لا تنحصر بالجنس) تتجاهل على الأرجح التراكيب المفاهيمية المتعلقة بالجندر، والجنسانية، والعرق، والإثنية، والطبقة الاجتماعية، والعمر، والمكان، والقدرة، وغيرها. لكنّ المهمّ فهمه، في إطار استكشاف خصائص حالات هلع الجنس/ الهلع الأخلاقي في سريلانكا، هو أنّ هذه الحالات هي وليدة شبكة سياقات تاريخية واجتماعية، لا سيّما بالنظر إلى الماضي الاستعماري، وهو ما تشير إليه وانياراتشي (Wanniarachichi, 2019) بـ"علم الأشباح" الاستعمارية (في استعارة لـ"هونتولوجيا"1 جاك دريدا). لذا، ولِفهم حالات هلع الجنس/ الهلع الأخلاقي، يجب العودة إلى فترة استيراد القيَم الفيكتورية، كتجريم الجنسانية والهوية الجندرية غير المعيارية تحت الحكم الاستعماري البريطاني عبر تشريع قوانين اللواط التي ما زالت معتمدة في قانون العقوبات السريلانكي (Wijewardene & Jayewardene, 2019)، ومحو الهويات والحقبات المتّسمة بالاختلاط من خلال مساعي شبيهة بتعداد السكّان الاستعماري (Rajasingham-Senanayake, 2002)، ومحو ممارسات ثقافية مثل تعدّد الأزواج. أضف إلى ذلك بناء الدولة القومية الحديثة والتشكيلات الاجتماعية السياسية القائمة حالياً المترسّخة في القومية الغَيريّة الذكورية ما بعد الاستعمارية والسياسات النيوليبرالية، التي تمضي قُدُماً في مشروع البدايات الاستعمارية القاضي بتشكيل هويّات "أصليّة" و"نقيّة" من خلال سياسة الأكثريّة. في الوقت الراهن، غالباً ما يتمّ استحضار هلع الجنس/ الهلع الأخلاقي ضمن الأوساط السياسية في سريلانكا. فعلى سبيل المثال، استخدم الرئيس السابق مايثريبالا سيريسنا لفظَ "ثمانالايا" (“samanalaya” الفراشة)، وهو إسم تصغير يحمل إساءة مبطّنة في دلالته على الأشخاص الكوير، للسخرية من خصمه السياسي رئيس الوزراء السابق رانيل وكراماسنجه. "ثمانالايا" هي كلمة في لغة السنهالا تُستخدَم غالباً للسخرية من الرجل المثلي المتأنّث. والنتيجة هي إثارة مخاوف "المواطنات والمواطنين المغايرين/ات قسراً من أنّ الوطن بخطر لأنّه وقعَ تحت حكم رجلٍ كويري ’ضعيف‘ و’متأنّث‘ قد سرق منهم ما هو حقٌ لهم" (Wanniarachichi, 2019). وتبعاً للمنوال نفسه، إعتُبِرَ المرشّح الرئاسي السابق، ساجيتا بريمادسا، غير مؤهّل للحكم وعاجز عن خلق "مستقبل جيّد" للمواطنين/ات والشباب لأنّه لم ينجب أولاداً مع أنّه متزوّج. أمّا الرئيس السابق، ماهندا رجباكسا، فقد حازَ على اللقب المُحبَّب "آباتشي" (“appachchi”  الأب) والكلّ يناديه بلقبه، من ساسة البلاد إلى عامّة شعبها. وهو، على عكس منافسيه، أبٌ لثلاثة أبناء أحدهم عضو في البرلمان ويُعتبَر الخلَف السياسي للعائلة.        

هذه الافتتاحية الموجزة أعلاه هي دليلٌ واضح على انغماس دولة ما بعد الاستعمار الحديثة في العلاقات الغَيريّة الأبوية وبُنى القرابة بالتناسل والتقاليد العائلية التي تسعى إلى وصم من لا ينضوي تحت الجنسانية والهوية الجندرية المعيارية. يسعى هذا المقال، باستناده إلى كتابات ثانوية، إلى الإحاطة المعمّقة بحالة الانعزال الحاصلة في تخصُّص العلاقات الدولية نتيجةَ اتّكاله التام على ما هو سائد من مقاربات وضعيّة مرتكزة على حلّ المشاكل، ونتيجةً لعدم رأب "الفجوة الكويرية". الفجوة الكويرية هي فجوة معرفيّة يتمّ فيها تفضيل المعارف الناتجة عن النظريات السائدة بدلاً من النظريات البديلة، مثل النظرية الكويرية، وهو ما يؤدي إلى حالة إجحاف معرفيّ ضمن التخصّص بذاته. لتبيان هذه الأمور يدقّق المقال بالعلاقات المتعثّرة التي تنشأ من لقاءات دراسات العلاقات الدولية الكويرية بدراسات العلاقات الدولية السائدة.    

يتضمّن المقال أربعة أقسام: يتمّ أولاً شرح الأطر النظريّة والمفاهيمية والمباحثات البارزة التي تُعنى بالجندر والجنسانية والنظرية الكويرية. يتمّ ثانياً تقديم المباحثات في النظريات الشاملة والممارسات التخصُّصية المهيمنة في حقل العلاقات الدولية للحصول على تقييم نقدي للرابط بين الجامعة النيوليبرالية والتنظير الكويري في العلاقات الدولية. تتمّ ثالثاً مناقشة صلة الأبحاث الكويرية بتخصّص العلاقات الدولية لتبيان طريقة المساهمة الفعّالة للباحثين والباحثات في العلاقات الدولية عبر اعتماد النظرية الكويرية. ختاماً، ينظر المقال في الآثار السلبية لعدم رأب "الفجوة الكويرية" في تخصّص العلاقات الدولية.

 

الجندر والجنسانية والنظرية الكويرية

يجب الدخول في الجدال بين نظرية الماهوية (أو الجوهرية) ونظرية التشييدية الاجتماعية لفهم الجندر والجنسانية. فقد قام العديد من علماء النظريات النسويّة والكويرية بتحدّي المبدأ الماهوي القائل بإنّ الجندر والجنسانية هي خصائص ثابتة ومحدّدة بيولوجياً وناقشوا أنّ الجندر والجنسانية هي من المفاهيم المشيّدة إجتماعياً وهي خصائص مرِنَة (Zalewski, 2010; Butler, 2006; Butler, 2011). أضف إلى ذلك أنّ تصنيف الجندر والجنسانية يعتمد غالباً على "ثنائيات التعريف" (Sedgwick, 2008, ص.11) حيث يتمّ تعريف الذكر بالمقارنة مع الأنثى، وكذلك الأمر في تصنيفات أخرى مثل مِثلي(ة) الجنس/ مغاير(ة) الجنس، ذكوري/ أنثوي، غالبيّة/ أقليّة، وغيرها. نستذكر هنا مبدأ التكميلية لدريدا، إذ بناءً على هذا المبدأ يمكن القول إنّ "الغَيريّة الجنسية تحتاج المثلية الجنسية للتعريف عن ذاتها" (Namaste, 1994, p.222). يتبيّن إذاً أنّ فكرة الأضداد الثنائية تتجاهل مرونة الجندر والهويات الجنسية، وقد ناقشت إشنشتاين (Eisenstein, 2007, p.5) هذا الأمر قائلةً: "إنّ فكرة وجود جنسيْن بيولوجييْن إثنيْن [...] هي من الضوابط/ القيود السياسية وهي ترتكز على المثنّى في صياغة الجندر". إنّ حصر الجندر والجنسانية بالأضداد الثنائية يتسبب سهواً بتجاهل فئات مثل العابرين والعابرات جندرياً، والعابرين والعابرات جنسياً، وحاملو وحاملات صفات الجنسيْن (إنترسكس). كما أنّ هذه الأضداد الثنائية لا تُطبَّق على الجندر والجنسانية فحسب بل أيضاً على فئات مثل العرق والإثنية والقدرة وغيرها. لمّا يكون للشخص هويات تعريفية مختلفة فهي تقود إلى نقطة تقاطع بين الهويّات. فعلى سبيل المثال، تقول بتلر(Butler, 2006, p.4) في حديثها عن "احتمال الدلالات المتعددة للإسم"، إنّ الجندر قد يتقاطع مع "طُرُق التعريف القائمة على العرق، والطبقة الاجتماعية، والجنس، والمنطقة، والتابعة لهويات مشيّدة من خلال الخطابيّات". وبالنظر إلى ذلك، يمكن القول إنّ هذه التقاطعات بين الهويات قد خلقت بالحقيقة دمجاً بين باحثات وباحثي النسويّة، وما بعد الاستعمارية النقدية، وما بعد البنيوية، والكويرية. فالهويات والذاتيات الكويرية ليست موجودة في صوامع أو كمجموعات متراصّة ومتجانسة، بل هي تتقاطع مع محاور أخرى للتجربة الاجتماعية مثل العرق، والطبقة الطائفية، والطبقة الاجتماعية، وغيرها. بالتالي، الدراسات الكويرية النقدية ودراسات إزالة الاستعمار، والدراسات النسويّة، لا تتطوّر في عزلة. نجد في سياق جنوب آسيا تحديداً، ومن ضمنه سريلانكا، سرديّات عن تاريخ مليء بالاختلاط العرقي، ومسارات لهجرات معقّدة، واختلاط ثقافي، وموروثات متعددة اللغات والثقافات، تمّ محوها لاحقاً وتحويلها إلى سياسات الهوية المهيمنة من خلال المسارات الاستعمارية والقومية (Rajasingham-Senanayake, 2002). وعليه، تتسّم سياسات الهوية ما بعد الاستعمارية في جنوب آسيا بعمليات مُجانَسة وهيمنة أجريت على المجموعات الأحادية الإثنية، وتفريق إثني، ومفاهيم أبوية غيرية. بيَّنت الباحثة رجاسنغام-سننايكيه (2002 Rajasingham-Senanayake,)، في إطار بحثها في تشكّل الهويات الإثنية الحديثة المقسَّمة عنصرياً في سريلانكا، أنّ النزاع المسلَّح بين الحكومة السريلانكية ونمور التاميل (أو نمور تحرير التاميل - إيلام)  هو مثال عن ترسيخ هذه الهويات الإثنية الحديثة في مناطق حدودية كانت سابقاً مختلطة. نشير هنا إلى عمل روائي للكاتب شيام سلفادراي (Shyam Selvadurai, 1994)، Funny Boy - "الفتى الغريب")، يتابع حياة مراهق يقترب من سنّ الرشد ويستكشف هويته الجنسانية والجندرية على وقع التوترات الدينية الإثنية المتصاعدة بين السنهالا والتاميل في سريلانكا. هذه الرواية هي استكشاف لإحدى سرديّات ’الخروج من المختبأ‘، في سريلانكا، التي تتقاطع مع محاور أخرى من التجربة الاجتماعية مثل الجندر، والعرق، والعمر، والدين، والمكان. إنّ الدمج والتكامل بين النظريات البديلة أمرٌ حيوي لفهم هذه السرديّات لأشخاص كوير مهاجرين/ات ومن البشرة الملوّنة. كما أنّ هذا الدمج يفسح المجال أمام الدراسات المتداخلة التخصّصات و/أو العابرة للتخصّصات من دون أن يتمّ تصنيفها ضمن صوامع معرفية مختلفة. الآن وقد تفحّصنا الجندر، والجنسانية، والأضداد الثنائية، والتقاطعية بين الهويات، كمفاهيم مشيّدة سننتقل إلى مناقشة الأوجه الأدائية للجندر.

كتبت بتلر في عملها المرجعي حول الأدائية الجندرية (Butler, 1988, p.527) أنّ "حقيقة الجندر هي حقيقة أدائية، ما يعني ببساطة، أنّه حقيقي شرط أن تتم تأديته". وبالتالي يمكن فَهم الجندر من خلال طريقة تأديته بشكل متكرّر. وتعزيزاً لهذه النظرية، ركّزت بتلر على شخص الدراغ كوين لإظهار قدرة الجندر على تدمير ذاته. لا بل حاجّت (2006) أنّ عروض الدراغ يجب أن تُستَخدم للسخرية من التعبيرات الجندرية المعيارية المقبولة. هذا الفهم لأدائية الجندر شكّل عاملاً أساسياً للدراسات الحديثة حول الذكورة أو بالأحرى الذكورات "وهي غير مُستحبّة في الوسط الأكاديمي الأكثر تداولاً [للعلاقات الدولية]" (Carver, 2014, p.113). إلا أنّ مفاهيم الأدائية والذكورات هذه تمّت دراستها إزاءَ العلاقات الدولية، وسيتمّ تفحّص صلتها بهذا الحقل المعرفي لاحقاً في هذا المقال باستعمال مفهوم الدولة. للتعمّق أكثر في فهم الجندر والجنسانية، نتطرّق إلى نقد بتلر للأنطولوجيا (2006, p.185) حيث ناقشت أنّ الجسد "ليس له مكانة وجودية/أنطولوجية غير الأفعال المختلفة التي تشكّل واقعه". تتحدّى هذه الفكرة ركائز سياسات الهوية والأضداد الثنائية المتعلقة بالجندر، والجنسانية، والعرق، وغيرها، إذ تُبيِّن كيف أنّ الهوية التي يزعم المرء التعبير عنها هي في الواقع مُصنَّعة ويُحافَظ عليها من خلال الخطابيّات العامّة والاجتماعية والإشارات الجسدية. ما يعني أنّ تشييد "الحقائق"، بالمعنى الذي أراده فوكو، من خلال أفعال وحركات جسدية يخلق وهماً يُسمّى الجندر؛ ويتمّ الإعراب عنه والمحافظة عليه من خلال الخطابيّات لضبط الجندر والجنسانية ضمن الأطر التناسلية المغايرة جنسياً (Butler, 2006). إنّ فهم هذا التشييد للمعنى من خلال الأوجه الأدائية والخطابيّات يساعد على كشف الركائز التي تقوم عليها سياسات الهوية. أضف إلى ذلك مبدأ ما بعد البنيويّة القائل بإنّ "الأفراد ليسوا خالقين مستقلّين لذواتهم وعوالمهم الاجتماعية، [بل] هم منغمسون في شبكة معقّدة من العلاقات الاجتماعية" (Namaste, 1994, p.221). لكنّ فكرة بتلر تمّ انتقادها لاحقاً من قبل وايت (White, 1999, p.156) الذي يعتقد "إنّ [بتلر] تعتبر أنّها تنتقد الأنطولوجيا ككلّ، لكنّها تقوم بشكل غير ملحوظ بخلق نظرية أنطولوجية أخرى من خلال عرض حُججها". بالرغم من هذا الانتقاد، أعتبر أنّ حجّة بتلر أثبتت فعالية عالية في تحدّي النظرة الواقعية للأنطولوجيا إلى مبدأ الدولة القومية، وهذا ما سنناقشه لاحقاً في هذا المقال في قسم "أهمية الأبحاث الكويرية". الآن وقد استعرضنا عمل بتلر المتعلّق بالنظرية الأدائية الجندرية وبالنقد ما بعد البنيويّ للأنطولوجيا، ننتقل في ما يلي إلى تفحّص المبادئ الرئيسية للنظرية الكويرية.

 

رصد "الفجوة الكويرية" 

تسعى النظرية الكويرية إلى فهم كلٍّ من المثلية والغَيريّة، شأنها شأن نسويّات/ نسويّو ما بعد الحداثة في مسعاهم لفهم كلٍ من فئتيْ "الذكر والأنثى" في وضع نظريات الجندر. "إنّ النظرية الكويرية تبحث في العلاقات بين المثلية والغَيريّة، أمّا علماء الاجتماع فيركّزون إجمالاً على المجتمعات والهويات المثلية، وهم بذلك، للمفارقة، يتجاهلون أنّ الغيرية فئةٌ مشيَّدة إجتماعياً" (Namaste, 1994, p.220). وتعتمد النظرية الكويرية اعتماداً وثيقاً على النظرية ما بعد البنيويّة وعلى أعمال ميشيل فوكو (Foucault) وجاك دريدا (Derrida) (راجع: Smith and Lee, 2015, p.52; Namaste, 1994, p.220). كما أنّها تبحث بكيفية إنتاج وإعادة إنتاج الذاتيّات المثلية من خلال الخطابيّات وتُسائل كيفية تشييد وضبط الحدود المادية والعضوية والمجازية في إطار الهويات الجنسية (Namaste, 1994, p.226). لا شكّ في أهميّة الأثر الناتج عن وضع النظريات الكويرية، لكن، ومثلما عملت النسويّة مؤخراً على تبيان أثر الذكورات المهيمنة على الذكورات التابعة، قد تستفيد المقاربات الكويرية من البحث في تأثير الغَيريّة على الغَيريّة بحدّ ذاتها بما أنّ "أثر أنظمة الغَيريّة المعيارية على الغَيريّة أمرٌ قد تمّ تجاهله إلى حدٍّ كبير" (Jackson, 2006, p.105). أمّا بالنسبة للمساحة الأكاديمية المتاحة لوضع النظريات الكويرية، فهي محصورة بأقسام العلوم الإنسانية، الأمر الذي يقاربه هذا المقال كمشكلة ويوسّع هذه المساحة لتشمل تخصُّص العلاقات الدولية.

إنّ "وضع نظريّات العلاقات الدولية غالباً ما يتجاهل [...] مشاغل وضع النظريّات الكويرية" (Sjoberg, 2012, p.337)، ولفهم الأسباب خلف ذلك يمكن بدايةً النظر إلى المباحثات في النظريات الشاملة للعلاقات الدولية. تمّ وضع معايير الصُلب التخصُّصي للعلاقات الدولية استناداً إلى أوائل النظريّات، وأبرزها "الواقعية" و"الليبرالية"، التي قدّمت نفسها كنظريّات سائدة، وعلمية، ووضعيّة، وتفسيرية، وتخصُّصية، وعقلانية، ومرتكزة على حلّ المشاكل. تظهر قوة اللغة بوضوح في هذا الترتيب للمصطلحات لوصف الصُلب التخصُّصي للعلاقات الدولية بشكلٍ يلمِّح إلى سلالتها النظرية الحائزة على دعم التجريبية، الأمر الذي يهمِّش دراسات العلاقات الدولية النقدية. بالتالي، إنّ تواجد النظريات ما بعد الوضعيّة في العلاقات الدولية هو أمرٌ مكلف، وكما تناقش ويبر (Weber, 2015, p.43)، "تمّ استبدال العلاقات الدولية النقدية ووجهها السياسي الصارم والمُقلِق بالعلاقات الدولية التخصُّصية وانتقاداتها الألين والألطف التي ابتعدت تماماً عن التفكير السياسي النقدي". إنّ الخاصّية الجدلية للنظرية النقدية، وهي نظرية "تنأى بنفسها عن النظام العالمي المسيطر وتسأل كيف قام هذا النظام" (Cox, 1981, p.129)، قد تمّ تدجينها من قبل تخصُّص العلاقات الدولية لإتاحة تواجده. يمكن أيضاً الإحاطة بهذه الظاهرة من خلال نقد ويبر (Weber, 1994, p.341) لنصّ كيوهن (Keohane) الذي صنَّف نسوّيات النسويّة المنظورية (أو نسويّة وجهة النظر) "فتيات صالحات... قادرات على إغناء صلب النظرية الدولية"، بينما نَبذَ نسويّة ما بعد الحداثة واصفاً نسويّاتها بالـ"فتيات السيّئات" لأنّهن لا يلتزمن بالمعايير التخصُّصية العلمية. يمثّل كيوهن الباحث الذكر الأبيض المتحيّز للتجريبية وللواقعية المتخصّص في العلاقات الدولية الذي أخذ على عاتقه مهمّة تعليم النسوّيات والنسوّيين كيفية وضع النظريات النسويّة. تعتبر ويبر (Weber, 1994) أنّ سعي كيوهن لترسيم حدود الحركات النسويّة، وبالتالي حدود ’العلاقات الدولية‘ الصالحة/ العلم الصالح مقابل ’العلاقات الدولية‘ السيّئة/ العلم السيء، ينبع من حالة ذعر ويهدف إلى إسكات الأصوات والأقلام النسويّة وتهميشها وتأديب الأجساد النسويّة عبر موقعه كمؤلّف وأكاديمي مركزي في حقل العلاقات الدولية. هذا الخطر الكامن الذي تشكّله الأعمال النسويّة على مركز العلاقات الدولية يبيّن لنا القدرة التحويلية الكامنة التي تحملها الكتابات النسويّة ككل (Weber, 1994).

لا بدّ لنا أن نسأل، بعد هذا التحليل للمباحثة الوضعية/ ما بعد الوضعية، هل يتمّ الترحيب بالنظرية الكويرية أقلّه في هوامش العلاقات الدولية؟ تقدِّم ويبر (Weber, 2015, p.44-45) جواباً مُقلِقاً عن هذا السؤال عندما تشرح أنّ مصير النظرية الكويرية في العلاقات الدولية هو إمّا أن يتمّ استبدالها بالتشييدية الاجتماعية (إن تمّ ربطها بالنظرية ما بعد البنيوية) أو أن يتمّ إدراجها ضمن المتغيّرات المتعلقة بالجنسانية (إن تمّ ربطها بالنسويّة)، ما سيتسبّب بتلاشي القوة السياسية للنظرية الكويرية. وعليه، يمكننا القول إنّ الاعتراف بالنظرية الكويرية ضمن الصلب التخصُّصي للعلاقات الدولية سيظلّ حلماً صعب المنال طالما أنّ دراسات العلاقات الدولية التخصُّصية تقوم بتأديب النظريات النقدية عبر مطالبتها بالمصادقة العلمية. أرى أنّ هذه المنافسة مع النظريات البديلة هي نوع من التدمير الذاتي لتخصُّص العلاقات الدولية. لقد حدّد الباحثون والباحثات، بالإضافة إلى الأسباب المتعلّقة بالنظريات الشاملة، أسباباً متعلقة بقيود متأصّلة في النظرية الكويرية سنقوم بمناقشتها في ما يلي.

"إنّ الإتّكال المستمرّ على تعارض الغَيريّة الجنسية/ا لمثلية الجنسية يشوّه إدراكنا لتغيّر تاريخي في سياق العلاقة بين الجنسانية والاقتصاد السياسي، ويَسِم الأفراد المثليين والمثليات بقيمة إثباتية غير متكافئة في السياق ذاته" (Hemmings, 2012, p.122). هذا الاعتراض الذي تطرحه همنغز هو حجّة قويّة وفحواها أنّ التشديد على الانقسام المغاير/ المثلي وعلى نموذج الظهوريّة يرمي بثقلٍ جائر على كاهل الأفراد المثليين والمثليات: إمّا يتخطّون الحدود أو ينضمّون إلى المشروع الرأسمالي القائم على الربح واستغلال الفئات الأكثر حرماناً إقتصادياً، ونذكر مثلاً ما يجري من تقديم خدمات سياحية خاصة بالمثليين والمثليات في الدول الفقيرة. أحد الأسباب التي تعيق تجاوز هذا التعارض المغاير/ المثلي هي الحاجة إلى اعتماد نموذج تجريبي يعطي الأولوية لسياسة الظهورية (Hemmings, 2012). لكنّ هذا المقال يناقش أنّ مشروع التنظير الكويري ليس عليه اعتماد النموذج التجريبي المطلوب من التخصُّصات الأخرى. إنّ عدم الاتّكال على تعارض الغَيرية/ المثلية يقتضي الاندماج ضمن العلاقات الدولية التخصُّصية، ولكن هذا بالتحديد ما تنوي النظرية الكويرية تحدّيه. تتحدّى النظرية الكويرية البُنى الأساسية للإضطهاد والاستغلال والعنف ضمن التشكيلات المعاصرة للسلطة الدولية، من دون أن ترتكز على فئات "مجتمع الميم+"، و"التمييز"، و"حقوق الإنسان"، و"الإدماج المتكافئ" (Richter-Montpetit, 2018). ترتبط المقاربات الكويرية بالتحاليل السياسية التي تنظر في كيفية تأثير الجندر والجنسانية في السياسة الخارجية، والعمليات العسكرية، والأمن، والحاجات التنموية، وعمليات الاقتصاد السياسي العالمي. تهتمّ دراسات العلاقات الدولية الكويرية بأطر الغَيريّة المعيارية والتوافق الجندري المعياري، لكنّها أيضاً تهتمّ بالمثلية المعيارية والمثلية القومية و"الغسيل الوردي" والمثلية الاستعمارية وكيفيّة تأثير هذه العناصر على الأنظمة السياسية والاقتصادية الوطنية وعبر الوطنية (Richter-Montpetit, 2018). لكنّ كابلان (Kaplan, 1992) تشير بقلق إلى انعدام الملموسيّة لا سيّما في ما يتعلق بنظرية بتلر حول الأدائية الجندرية. مع أنّ هذا المقال يتّفق مع رأي كابلان (لأنّ عمل بتلر كما النظرية الكويرية بحدّ ذاتها يتّسمان بالإبهام/ الضبابية بالنسبة لطلّاب العديد من التخصُّصات)، تجدر الإشارة إلى أنّ الارتباك الحاصل هو نتيجة ما تمّ بناؤه من عادة التعامل مع المعرفيّات التجريبية الماهوية التي تلبّيها سريعاً نظريات الواقعية والليبرالية وما شاكلها. إلا أنّ النظرية الكويرية كانت محطّ انتقادات كثيرة بسبب طبيعتها النخبوية. يشرح مات بريم (Matt Brim, 2018) الهوّة بين النظرية والتطبيق العملي في سياق التعليم العالي في الولايات المتحدة، ويناقش بأنّ المؤسسات الأبرز في الدراسات الكويرية بذاتها قد رفضت تقديم خدماتها لطلّاب من الكوير والفقراء والأقلّيات. لكنّ هذه الأمثلة عن "النظرية الكويرية السيّئة"، أي النخبوية المؤسساتية في بلاد الغرب، لا يمكن إسقاطها على بلاد أخرى من دون تفكير، لا سيّما بلاد ما بعد الاستعمارية مثل سريلانكا التي ما زالت تقدّم التعليم المجاني من خلال آليات دولة الرعاية الاجتماعية التي تعتمدها. لا شكّ في أنّ آليات الدولة هذه لا تخلو من المشاكل في ظلّ اقتصاد السوق النيوليبرالي، وأنّها قد لا تصمد طويلاً أمام فروع الجامعات الدولية وغيرها من التحدّيات، لكنّ المغزى من هذه الفكرة هو الإشارة إلى أهمية فهم السياقات التربوية المختلفة ونقاط قوتها وضعفها والنظر أبعد من المؤسسات النخبوية الغربية. تناقش حنيفة (Haniffa, 2022)، في إطار البحث في نقد النخبوية في كليات الفنون السريلانكية، أنّ التعليم الجامعي للعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية في سريلانكا يواجه صعوبات لتمكين الطلاب الأقلّ حظاً الذين لم توفَّر لهم مراكز مناسبة لتعليم العلوم في دراساتهم الابتدائية والثانوية. يأتي غالبية هؤلاء الطلاب من المحافظات الأكثر فقراً في سريلانكا وأكثريتهم من النساء. لذلك، من المهمّ أن نتذكّر أنّ ما تنتجه الدراسات التحويلية من معارف تحرّرية يمكن أن تفيد الفئات المعدومة والمحرومة من حقوقها والمستضعفة، لا سيّما إن تمّ تلقيها بعيداً عن الجامعات الغربية والمؤسسات النخبوية. وكما تشرح حنيفة (2022) "قدوتنا ليست هارفرد وما شابهها، بل هي السياقات التي أتاحت انبثاق الصراعات العمّالية والنقد الثقافي المُستَنِد على التحليل الطبقي". وعليه، يحاجّ هذا المقال أنّ البُنى التربوية هي النخبوية وليس المعارف التحرّرية التي يمكن إنتاجها عبر النظرية الكويرية والتي تمكِّن طلاب الفئات المحرومة من مساءلة هذه البُنى المُسبِّبة للتفاوتات.   

بالإضافة إلى ما قدّمناه أعلاه من أسباب "الفجوة الكويرية" المتعلقة بقيود النظرية الكويرية، أحد الأسباب الأكثر تجلياً وهو الأكثر تبسيطاً للأمور يعود إلى "الجدوى المحدودة" (Sjoberg, 2014, p.612) لأبحاث النظرية الكويرية في العلاقات الدولية وهو ما يحدّ من إمكانية تطبيقها. بصيغة أخرى، إنّ الطابع التجاري والاستهلاكي المرتبط بتخصّص العلاقات الدولية، من ناحية المنشورات والمقابلات الإعلامية وتمويل الأبحاث (التي تحبِّذ السياسة العليا وتطلّعات طلاب العلاقات الدولية المتمركزة حول مزاولة المهنة وقابلية التوظيف)، قد يؤدي إلى الاستخفاف بالأعمال المبنية على النظرية الكويرية وتغييبها عن العلاقات الدولية. أضف إلى ذلك الغياب التام لـ "الهندسة الاجتماعية" الهادفة إلى جذب صنّاع السياسات إلى المواضيع الكويرية. تقوم "الهندسة الاجتماعية" على جدوى المعارف العلمية الاجتماعية التي يمكن إدماجها في عمليات صنع السياسات الاجتماعية بصيغة مشاريع هندسية إجتماعية (Benton & Craib, 2011). بالتالي، من السهل المحاججة بأنّ النظرية الكويرية تفتقر عوامل المعرفة العلمية، والمصداقية، والسّمة العملية، وقابلية التطبيق، والقدرة على جذب صنّاع القرار، وهي كلّها من خصائص النظريات المُرتكزة على حلّ المشاكل. لكن، بالنسبة لي، يدلّ ذلك على تسييس البُنى التخصُّصية للعلاقات الدولية وإعادة ترتيبها هرمياً (عبر تفضيل النظريات السائدة على النظريات البديلة)، ومعالجة هذا الأمر تستعصي حتى على المقاربات التفكيكية. هذا الحال هو نتيجة نيولَبرَلَة الأكاديميا على الصعيد العالمي ونتيجة العلاقة بين التخصُّصات الأكاديمية وسياسات الدولة الرسمية. في سياق سريلانكا ما بعد الاستقلال، اتّخذ استخدام اللغة بُعداً مختلفاً عن وظيفته المنفعية الوسائلية، حتى ضمن الوسط الأكاديمي. تقوم سياسات اللغة الرسمية على الفكر القومي المناهض للاستعمار (مثلاً، ’سواباشا‘ Swabasha – اللغات المحلية الأصلية – كسياسة وطنية) وعلى إقصاء الأقليات الإثنية (مثلاً، أصبحت السنهالا اللغة الرسمية لسريلانكا عام 1956، وتمّ لاحقاً معالجة الأمر وتعيين اللغة التاميلية كلغة رسمية أيضاً عامَ 1958). "إنّ ديناميات اللغة الناتجة عن تسييس اللغة شكّلت أشدّ تجلّيات النزاع بين السنهالا والتاميل" (Perera, 2015, p.56). وفي شأن سياسة ’سواباشا‘ وأثرها على المساحات الأكاديمية، يجب النظر إلى الصعوبات التي تواجهها الطواقم الجامعية مع اللغة الانكليزية ليس كقصور شخصي بل كانعكاس للتغيّرات البنيوية في سياسة اللغة القائمة على القومية الإثنية ومناهضة الاستعمارية (Haniffa, 2022). وتتيح النظريات البديلة، مثل النظرية الكويرية، تفصيلَ هذه التأثيرات لآليات بناء الدولة الحديثة من خلال مساءلة البُنى التي تقوم عليها. وإن لم يكن ذلك متاحاً فما فائدة العلوم الإنسانية والاجتماعية، ودراسة العلاقات الدولية في هذا السياق تحديداً، عدا أنّها تأطير علمي وبالتالي تشريع لنظام عالمنا الاستعماري والرأسمالي والعنصري والمُميِّز جنسياً؟ وكما تناقش حنيفة (Haniffa, 2022)، "إنّ طموح الطلاب لترؤس شركات إستغلالية تودي بأجيال المستقبل إلى الفقر هو المشروع النيوليبرالي الواجب مقاومته".

قد يضطر علماء النظريات النسويّة والكويرية إلى اعتماد ما تشير إليه سبيفك (Spivak) بـ"الماهوية العملانية/ الاستراتيجية" التي يتخيّلون/ تتخيّلن بموجبها "أنطولوجيا زائفة" من أجل الدفع بأجنداتهم/ن السياسية قُدُماً (راجع Butler, 1988, p.529). يعني ذلك أنّ علماء النظريات الكويرية قد يضطرون إلى المساومة في النقد الأنطولوجي بغية "السماح للتَّبَع بالتكلّم" (Steans, 2013, p.34). عموماً، هذا الجدال حول عوامل ميتافيزيقية سيظلّ قائماً بين النظريات الوضعية وما بعد الوضعية. وبالرغم من هذه المسبّبات لـ"الفجوة الكويرية" في دراسات العلاقات الدولية، لا يجوز تجاهل أهمية الأعمال الكويرية بالنسبة للعلاقات الدولية.   

 

أهمية الأبحاث الكويرية

"كلّ ما هو شخصي هو سياسي" جملة تختصر أهمّ البراهين التي قدّمتها الأعمال النسوية والكويرية (Morris, 1992, p.161). وهذا في الحقيقة هو من أقوى وأبسط ما يمكن قوله لمن يشكّك في صلة النظرية الكويرية بالعلاقات الدولية. تبني بتلر (Butler, 1988, p.529) على هذه الفكرة وتناقش بأنّ "المصالح السياسية هي، بالدرجة الأولى، ما يخلق الظاهرة الاجتماعية المعروفة بالجندر". وتذهب سينتيا إنلويه (Enloe, 2014) أبعد من ذلك بقولها إنّ "الجندر هو ما يدير العالم". بالتالي، وبغية الإحاطة النسويّة بالسياسة الدولية، يجب متابعة شتّى أنواع النساء، مثل "عاملات الخدمة المنزلية، وخادمات الغرف الفندقية، وناشطات حقوق المرأة، والدبلوماسيات، وزوجات الدبلوماسيين، وعشيقات رجال النخبة، ومشغّلات مكنات الخياطة، واللواتي أصبحنّ عاملات جنس، والجنديّات، واللواتي أجبرنّ على التحوّل إلى لاجئات، والعاملات في الحقول الزراعية" (Enloe, 2014, p.27)، كما ومتابعة الأمكنة التي غالباً ما يتمّ اعتبارها "خاصّة" أو "منزلية" أو "محلّية" أو "تافهة" إذ أنّها جميعها تشارك في تشكيل حياة سياسية دولية معقّدة. ولتبيان صلة النظرية الكويرية بدقّة أكثر، يجب رصد مساهمة علماء النظريات الكويرية في الإنتاج المعرفيّ لتخصُّص العلاقات الدولية.

"إنّ مجالات التركيز لمعظم الأبحاث الكويرية التي نشرها باحثون/ات في العلاقات الدولية هي مواضيع نموذجية في العلاقات الدولية مثل الحرب، والأمن، والسيادة، والتدخّل، والهيمنة، والقومية، والامبراطورية، والاستعمارية، والممارسة العمومية للسياسة الخارجية"، وذلك وفقاً لويبر (Weber, 2015, p.28). إنّ باحثين/ات مثل جودث بتلر (Butler)، وسينتيا ويبر (Weber)، وسينتيا إنلويه (Enloe)، وستيفي جاكسون (Jackson)، وإيف سدويك (Sedgwick)، وجون بيني (Binnie)، وتيريل كارفر (Carver)، وراوول راو (Rao)، وجاسبر ك. بوار (Puar)، والكثير غيرهم، كانوا في طليعة التأطير الجندري والكويري للسياسة العالمية. وعليه، تركّز الأقسام التالية في هذا المقال على بعض المواضيع المتكرّرة في الأعمال الكويرية، وأهمّها الغَيريّة الجنسية المعيارية، والذكورة، والأدائية، والتقاطعية، بغية فهم صلتها بتخصُّص العلاقات الدولية.

لطالما انشغل علماء النظرية الكويرية بالكشف عن التوجّهات البنيوية المستترة القائمة على الغَيريّة المميِّزة جنسياً وعلى رُهاب المثلية في خطابيّات السلطة العالمية، ويتمّ ذلك غالباً من خلال تحدّي استبداد الغَيريّة المعيارية. إنّ مفهوم "الغَيرية المعيارية يدلّ على السلطة التطبيعية/ المعيارية للغَيريّة الجنسية في كلٍّ من المجتمع والسياسة" (Carver & Chambers, 2007, p.428). ويُستخدَم هذا المفهوم كأداة لفهم ما قامت به الجهات الفاعلة في العلاقات الدولية، مثل الدول، من ترسيخ مؤسساتي للغَيريّة الجنسية كممارسة معيارية. ويمكن إذاً تطبيق مفهوم الغَيريّة المعيارية على دراسات الحرب، والسيادة القومية، والقومية، والنزعة العسكرية، والعسكرة، بشكلٍ يتيح لعلماء النظرية الكويرية مجابهة الهيمنة بحجج مضادّة ودحض ما تحمله هذه الدراسات من ركائز وإيحاءات متأصّلة في الغَيريّة الجنسية. فعلى سبيل المثال، يشير علماء النظرية الكويرية إلى خطابيات سياسية عالمية حيث "الأمّة [تُعتَبَر] مغايرة معيارياً والكوير بطبيعته خارج عن قانون الدولة-الأمّة" (Puar, 2013, p.336). ويرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً مع آخر النظريات عن الذكورة في العلاقات الدولية حيث يعتبر الباحثون والباحثات مثلاً أنّ الحرب هي مشروع ذكوريّ مغايِر نموذجي (Enloe, 2014; McLeod, 2012; De Mel, 2007; Carver, 2014; Hemmings, 2012). بالإضافة إلى ذلك، تتمّ معاينة الغَيريّة المعيارية في دراسات الاقتصاد السياسي الدولي والعولمة. فوُجِّهت انتقادات إلى النيوليبرالية لطريقتها في "رسملة الهويات وتسويقها بشكلٍ يجعل من المثلية سلعةً" (Hemmings, 2012, p.127). يناقش بيني (Binnie, 2004, p.1-2) أنّ العولمة مهمّة بالنسبة لطلاب دراسات الجنسانية لأنّ، أوّلاً، السياسات الجنسية هي في صلب مبدأ الدولية، وثانياً، العولمة بحدّ ذاتها تُنتَج من خلال الجنسانية. وفي إطار هذا النقاش حول الغَيريّة المعيارية والذكورة في الأوساط السياسية والاقتصادية يدرس هذا المقال جدوى النظريات الكويرية في معاينة مبدأ الأدائية ومبدأ الهويات التقاطعية بالنسبة إلى العلاقات الدولية.    

اعتمد علماء النظرية الكويرية مفهوم الأدائية لتفكيك مبادئ معيّنة في دراسات العلاقات الدولية. سأعمل على شرح ذلك باستخدام مبدأ الدولة. من وجه نظر الواقعية، أنطولوجيا الدولة أمرٌ مفهوم بفعل افتراض أنّ الدولة موجودة مسبقاً ضمن مجموعة خصائص متأصّلة مثل العدوانية أو الأساس المنطقي أو حفظ الذات. لكن من المنظور الكويري تتغيّر معالم الدولة القومية السيادية كلّياً، ويمكن المناقشة بأنّ "الدول القومية السيادية ليست مواداً مُعدّة سلفاً بل هي مواد قيد الانجاز... وهي الآثار الأنطولوجية لممارسات... يتمّ تفعيلها بشكلٍ أدائيّ" (Weber, 1998, p.78). تزعزع هذه الفكرة المزاعم النظرية للعلاقات الدولية التخصُّصية لكنّها تقوم أيضاً بتوفير مساحة نقدية صالحة لمعاينة النظام العالمي القائم من موقع مختلف، وهو موقع لما كان متاحاً لولا هذه المساحة. فيمكن مثلاً اعتماد هذا النقد الأنطولوجي لمقاربة الهويات القومية والمهيمنة التي تشكّلها الدول وتحدّيها. يمكن أيضاً تطبيق هذا النقد على كيانات أخرى، بالإضافة إلى كيان الدولة، بغية فهم ما تقوم به من تفعيل أدائي للمعايير والأيديولوجيات التي تتّبعها. فلننظر مثلاً إلى الجمعيات الدولية كمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو التحالفات العسكرية بين الحكومات كحلف الـ"ناتو" (منظمة حلف شمال الأطلسي)، أو الجماعات العسكرية التابعة للدولة، أو الجماعات التي صنّفتها الفعاليات الحكومية "جماعات إرهابية"، وكيفية اتّباع هذه الكيانات مجموعة معايير وأيديولوجيات يتمّ تفعيلها ونشرها أدائياً. أضف إلى ذلك أنّ فكرة الأدائية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسائل الهوية والذاتيات.                            

في إطار الأعمال الكويرية المتعلقة بالهويات والذاتيات، من المفيد أن نستطلع العمل النظري حول مفهوم الهويات المتقاطعة. نجد مجموعة كاملة من الكتابات التي تستعرض الركائز التاريخية للهويات التقاطعية (الجنسية، والجندرية، والعرقية، والإثنية، والطبقية) بالإضافة إلى أعمال الناشطية التي تُعنى بحقوق مجتمع الميم (المثليات، والمثليون، ومزدوجو ومزدوجات الميل الجنسي، والمتحوّلون والمتحوّلات، والكوير) للمهاجرات والمهاجرين والأشخاص الكوير ذات البشرة الملوّنة. وترتبط هذه الأعمال بدراسات حول الهجرة، والمواطنة، والبيوسياسة، والإثنية وغيرها (Smith & Jaffer, 2012). فقد تباحث علماء النظرية الكويرية وما بعد الاستعمارية في "الحياة الغربية للشرخ المثلي/ المُغايِر [...] وتوظيف هذا الشرخ كآلية تنظيمية عنيفة لعملية الهجرة" (Hemmings, 2012, p.122). بالنظر إلى كيفية اندماج مدراس فكرية مختلفة (مثل النظرية الكويرية وما بعد الاستعمارية) من أجل زعزعة التفكير المعياري، يمكن المحاججة بأنّ لدراسات العلاقات الدولية خصائص دامجة للحقول المعرفية تطمس الحدود التي فرضتها العلاقات الدولية التخصُّصية، وهو ما تشير إليه ويبر (Weber) بالدراسات الكويرية العالمية. وفي المقابل، تمّ توسيع مفهوم التقاطعية بشكلٍ أتاح نشوء مبادئ نقدية مثل مبدأ "المثلية القومية" الذي استحدثته جاسبر بوار (Jasbir Puar, 2007) والذي "يشير إلى تعميم حقوق المثليين والمثليات لغايات عنصرية ومعادية للإسلام" (Zanghellini, 2012, p.357). تشير بتلر (Butler, 2010) إلى المبدأ ذاته في شرحها عن استخدام السياسات الجنسية في مواجهة الإسلام من أجل إعادة التأكيد على سيادة الولايات المتحدة وتبرير العنف في سياق ما يسمّى "الحرب على الإرهاب". هذا التحليل المتعمّق، الناتج عن تطبيق المنظور الكويري على السياسات العالمية، يمكن إذاً استخدامه لزعزعة التفكير المعياري لدى طلاب دراسات العلاقات الدولية والباحثين/ الباحثات فيها، ممّا يتيح البحث النقدي في تخصُّص العلاقات الدولية.

 

رأب "الفجوة الكويرية"

بالنظر إلى الضرر الناتج عن استعمال الغَيريّة لتشويه المثلية، يمكن المحاججة بأنّ استعمال نموذج العلاقات الدولية التخصُّصية (وما يصاحبه من ممارسات مؤسساتية مسيطرة) للتقليل من أهمية و/أو التغاضي عن النظرية الكويرية في العلاقات الدولية هو أيضاً أمرٌ مضرّ. لذا يسعى هذا القسم من المقال إلى مناقشة ثمن ترك "الفجوة الكويرية" على حالها، كما يسعى إلى حثّ الباحثات والباحثين على الابتعاد عن الممارسات التخصُّصية والمؤسساتية المهيمنة. فمن جهة، إنّ العجز عن رأب الفجوة الكويرية يمنع انفتاح دراسة العلاقات الدولية على قدراتها الدامجة للتخصُّصات و/أو المتعدّدة التخصّصات. وسيؤدي ذلك إلى عزل باحثي وباحثات العلاقات الدولية (Carver, 2014, p.123; Buzan & Little, 2011, p.19) والحدّ من قدرتهم على الانخراط بالمسائل البحثية بشكلٍ شامل ومتكامل. ومن جهة أخرى، يجدر بالباحثين والباحثات البارزين في العلاقات الدولية التخصُّصية أن يمتنعوا عن التشكيك الجازم بجدوى النظرية الكويرية في العلاقات الدولية، ومن الأحرى أن يتسألوا عمّا يفرطون به من خلال تمسّكهم الطفيلي بالممارسات التخصُّصية والمؤسساتية. هذا الطابع الطفيلي لا علاقة له بمحدودية النظرية الكويرية بل هو نتيجة متطلّبات نظام التعليم العالي حيث تُعطى الأولوية للنشر، والحصول على المنح، وأعباء التدريس المتزايدة، على حساب التفاني في انتاج الدراسات التحويلية. بغية التوفيق بين هذه الجانبين، من الضروري، أولاً، أن تعي حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية أهمية المعرفة التي يمكن أن تنتجها النظريات البديلة، كالنظرية الكويرية، وأن يتمّ التشديد على التداخل بين المقاربة الكويرية والمقاربة النازعة للاستعمار. ثانياً، يجب إجراء حوارات ومداخلات أكثر شمولية لفهم المسائل البنيوية التي تعيق جلب الطلاب والمحاضرين/ المحاضرات (لا سيّما من يواجهون معوّقات بنيوية متعلقة بالطبقة الاجتماعية والجندر والإثنية والعرق والهوية الجنسية) إلى برامج الجندر والجنسانية، ونشر الدراسات، والاستحصال على المنح، وغيرها. أمّا إذا استمر التمسّك الطفيلي بالصلب التخصُّصي للعلاقات الدولية، والشكّ في صلاحية النظرية الكويرية بالنسبة للعلاقات الدولية وغيرها من الاحتجاجات، فالنتيجة هي أنصاف الحلول للمسائل التي تعالجها العلاقات الدولية، ما سيؤدي إلى "الفشل التخصُّصي بفعل مسيرة التخصُّص بحدّ ذاته" (Weber, 2015, p.31). كما أنّ ما تقوم به الممارسات التخصُّصية المهيمنة من استباق للبحث النقدي في المعايير التخصُّصية سيؤدي إلى استمرار قمع "الابتكارات التخصُّصية" (Butler, 2009, p.774). هذا الحال وتداعياته سيُبقي تخصُّص العلاقات الدولية في خطر. وعليه، يجدر بالمؤسسات وبالباحثات والباحثين الانتباه إلى غياب النظرية الكويرية عن المناهج وعن الخطابيّات الأكاديمية. إنّ مجموعة الكتابات والمنشورات النسويّة والكويرية تنمو باستمرار، ولا شكّ في أهمّية الجندر والجنسانية بالنسبة لمواضيع العلاقات الدولية مثل الأمن، أو الحرب، أو الاقتصاد السياسي، كما وللفاعلين الأساسيين مثل الدول، والمنظمات غير الحكومية، والشركات المتعددة الجنسيات، والمنظمات الدولية، وأهمّها الناس. لكن حتى الجامعات التي تدرِّس النظرية الكويرية تقوم بذلك شكلياً إذ تُقدَّم النظرية الكويرية ضمن صفوف نظرية عمومية عن العلاقات الدولية يديرها محاضرون/ محاضرات مختصّون/ات في النظرية العامّة للعلاقات الدولية. هذا لا يعني أنّ النظرية الكويرية ستحوِّل التخصُّص وستؤدي إلى تغيير جذري في الصلب التخصُّصي للعلاقات الدولية. لكن نظراً لما يمكن للنظرية الكويرية أن تقدّمه من مساهمات صالحة ومشروعة في إطار العلاقات الدولية، أقترح ألّا يتقيّد علماء نظريات العلاقات الدولية الكويرية بالحدود التخصُّصية المؤسساتية (للإنتاج المعرفي) عند قيامهم بمساهمات ذات قيمة سياسية عالية. ويتضمن ذلك توسيع آفاق التبادل البحثي وتعميم المعرفة من خلال رأب الصدع بين الأكاديميا وعامّة الشعب. ونشدّد على أنّ الإنتاج المعرفي المعتمِد على المفاهيم الكويرية، ولو كان محدوداً، لا يجوز أن يبقى أسيرَ برجٍ عاجيّ نظراً لقدرته التحويلية. لهذه الغاية، نقترح أن يتمّ تعزيز التوعية من خلال تنظيم جلسات تعليم خارج إطار الكلّيات، وتعميم الدراسات أبعد من الصفّ الدراسي من خلال التدريبات، واختيار المنشورات المتاحة للجميع، واعتماد مساحات النشر البديلة التي تبتعد عن طُرُق النشر النيوليبرالية. ويجب أن تتضمن هذه المداخلات مساحات متعددة اللغات وأصحاب اختصاص من شتّى الخلفيات من ناحية الجنسانية، والجندر، والإثنية، والعرق، والقدرة، والحاجات الخاصّة، والطبقة الاجتماعية، وغيرها. فمثلاً، في سياق سريلانكا، على البرامج والمنشورات المماثلة أن تُقدَّم باللغات التاميلية والسنهالية والانكليزية مع ترجمة إلى لغة الإشارة، وأن تتضمن أصحاب اختصاص من مختلف اللغات والخلفيات الإثنية. إنّ الحاجة لتطبيق المنظار الكويري على السياق الاجتماعي العملي، مع معالجة القيود الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والقانونية المسبِّبة للفجوة، تشير إلى ضرورة تشجيع الدراسات البحثية الدامجة للتخصُّصات و/أو العابرة للتخصُّصات في مختلف أنحاء منطقة جنوب آسيا من دون حصرها بمجموعة الدراسات الكويرية الغربية. والمطلوب لهذه الغاية هو استكشاف طُرُق تعبير لا تستخدم المفردات الإصطلاحية المبهمة والكلمات الطنّانة، وجعل المباحثات الأكاديمية في النظرية الكويرية أسهل للفهم وأقرب إلى الناس وأقلّ نخبوية، إذ تمّ غالباً توجيه الانتقادات على هذا الأساس.

 

خاتمة

إنّ الفكرة القائلة بإنّ النظرية الكويرية لا يمكن إدخالها في دراسة العلاقات الدولية هي فكرة يتمّ بثّها على حساب تخصُّص العلاقات الدولية بحدّ ذاته. ويمكن توضيح هذه المسألة من خلال صورة تشبيهية. يضطرب بعض الأكاديميين/ات عندما لا يتمّ ذكر لقب ’البروفسور‘ في الإشارة إليهم/ن، والمسألة هي معضلة وجودية بالنسبة لهم/ن إذ أنّ وجودهم/ن بحدّ ذاته مرتبط بهذا اللقب. وعلى نحوٍ مماثل، يعاني تخصُّص العلاقات الدولية من معضلة وجودية حيث أنّ وجود الباحثين/الباحثات مرتبط بالممارسات التخصُّصية والمؤسساتية المعيارية التي لا تنفكّ تبحث عن الصلاحية والمشروعية. والنظرية الكويرية، التي توصَف بـ"الطفل اللقيط لدراسات المثلية والنظرية الأدبية ما بعد الحداثية" (Binnie, 2004, p.41)، قد لا تلائم هذه الممارسات المعيارية. ومع أنّ إدخال النظرية الكويرية إلى تخصُّص العلاقات الدولية يبدو كحلمٍ متلاشي المعالم، سعى هذا المقال إلى فهم ما يعيق وقوفها على قدم المساواة مع دراسات العلاقات الدولية السائدة بالرغم من صلتها الوثيقة والحيوية بهذا الحقل. كما سعى المقال إلى حثّ الطلاب والباحثين والباحثات على إدراك ما يفرطون به من خلال اتباع الممارسات التخصُّصية والمؤسساتية المهيمنة من دون مساءلتها. ونسأل هنا إن كان غياب النظرية الكويرية عن تخصُّص العلاقات الدولية سيؤثّر في مكانة النظرية الكويرية يوماً ما، وهو سؤال قد يتطلّب بحثاً من نوعٍ آخر.               

                                               

  • 1. Translator’s note: “Hauntology” يشير المفهموم إلى عودة أو استمرار عناصر من الماضي، كالشبح، واستخدمه جاك دريدا في كتابه ’شبح ماركس‘ -
ملحوظات: 
المراجع: 

Benton, T., and Craib, I., 2011. Philosophy of social science: the philosophical foundations of social thought. 2nd ed. London: Palgrave Macmillan.

Binnie, J., 2004. The Globalization of Sexuality. Thousand Oaks, Calif.; London: Sage.

Butler, J., 1988. Performative Acts and Gender Constitution: A Paper in Phenomenology and Feminist Theory. Theatre Journal, 40 (4), pp. 519-531.

Brim, M., 2018. Poor queer studies: Class, race, and the field. Journal of Homosexuality, 67 (3), pp. 398-416.

Butler, J., 2006 Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. 2nd ed. New York; London: Routledge.

Butler, J., 2006. Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence. London: Verso.

Butler, J., 2009. Critique, Dissent, Disciplinarity. Critical Inquiry, 35 (4), pp. 773-95.

Butler, J., 2010. Frames of War: When Is Life Grievable? London: Verso.

Butler, J., 2011. Bodies That Matter: On the Discursive Limits of "sex". London: Routledge.

Buzan, B., and Little, R., 2001. Why International Relations Has Failed as an Intellectual Project and What to Do about It. Millennium, 30 (1), pp. 19-39.

Carver, T., 2014. Men and Masculinities in International Relations Research. The Brown Journal of World Affairs, 21 (1) pp. 113-26.

Carver, T., and Chambers, S. A, 2007. Kinship Trouble: Antigone's Claim and the Politics of Heteronormativity. Politics & Gender, 3 (4), pp. 427-49.

Carver, T., Cochran, M. & Squires, J., 1998. Gendering Jones: Feminisms, IRs, Masculinities. Review of International Studies, 24 (2), pp. 283-97.

Cox, R. W., 1981. Social Forces, States and World Orders: Beyond International Relations Theory. Millenium-Journal of International Studies, 10 (2), pp. 126-155.

De Mel, N., 2007. Militarizing Sri Lanka: Popular Culture, Memory and Narrative in the Armed Conflict. Thousand Oaks, Calif.; London: Sage.

Eisenstein, Z. R., 2007. Sexual Decoys: Gender, Race and War in Imperial Democracy. London: Zed Books.

Enloe, C. H., 2014. Bananas, Beaches and Bases: Making Feminist Sense of International Politics. 2nd ed. Berkeley, CA: University of California Press.

Foucault, M., 1998. The History of Sexuality. Vol. 1, The Will to Knowledge. London: Penguin.

Hanifa, F., 2022, Where Arts Faculties should be headed – a rejoinder. The Island, 3 March. https://island.lk/where-arts-faculties-should-be-headed-a-rejoinder/

Hemmings, C., 2012. Sexuality, Subjectivity ... and Political Economy? Subjectivity, 5 (2), pp. 121-39.

Irvine, J. M., 2008. Transient Feelings - Sex Panics and the Politics of Emotions. GLQ: A Journal of Lesbian And Gay Studies, 14 (1), pp. 1-40.

Jackson, S., 1999. Heterosexuality in Question. London: Sage.

Jackson, S., 2006. Gender, Sexuality and Heterosexuality: The complexity (and Limits) of Heteronormativity. Feminist Theory, 7 (1), pp. 105-121.

Kaplan, E. A., 1992. “Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity” by Judith Butler (Book Review). Signs, 17 (4), pp. 843-848.

Manalansan, M. F., 2006. Queer Intersections: Sexuality and Gender in Migration Studies. International Migration Review, 40 (1), pp. 224-49.

McLeod, L., 2012. Well, What is the Feminist Perspective on Iraq? Political Studies Review, 10, pp. 385-393.

Morris, J., 1992. Personal and Political: A Feminist Perspective on Researching Physical Disability. Handicap & Society, 7 (2), pp. 157-166.

Namaste, K., 1994. The Politics of Inside/Out: Queer Theory, Poststructuralism, and a Sociological Approach to Sexuality. Sociological Theory, 12 (2), pp. 220-231.

Richter-Montpetit, M., 2018, Everything You Always Wanted to Know about Sex (in IR) But were Afraid to Ask: The ‘Queer Turn’ in International Relations. Millennium, 46 (2), pp. 220-240.

Perera, S., 2015. Reflections on issues of language in Sri Lanka: Power, exclusion and inclusion. In Language and social cohesion in the developing world, Coleman, H. (ed.). British Council and Deutsche Gesellschaft für Internationale Zusammenarbeit (GIZ) GmbH, pp. 55-74.

Puar, J. K., 2013. Rethinking Homonationalism. International Journal of Middle East Studies, 45 (2), pp. 336-39.

Puar, J. K., 2007. Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer times. London: Duke University Press.

Rajasingham-Senanayake, D., 2022. Identity on the borderline: Modernity, new ethnicities and the unmaking of multiculturalism in Sri Lanka. In The Hybrid Island: Culture crossings and the invention of identity in Sri Lanka, Silva, N. (ed.). London: ZED Books, pp. 41-70.

Sedgwick, E. K., 2008. Epistemology of the Closet. Berkeley, Calif.; London: University of California.

Selvadurai, S., 1994. Funny Boy. Toronto: McClelland & Stewart.

Sjoberg, L., 2012. Toward Trans-gendering International Relations? International Political Sociology,  6 (4), pp. 337-54.

Sjoberg, L., 2014. Queering the “territorial Peace”? Queer Theory Conversing with Mainstream International Relations.  International Studies Review, 16 (4), pp. 608-12.

Smith, S. M. & Jaffer, F., 2012. Beyond the Queer Alphabet: Conversations on Gender, Sexuality & Intersectionality. Alberta: University of Alberta.

Smith, N. J., and Lee, D., 2015. What’s Queer About Political Science? The British Journal of Politics and International Relations, 17, pp. 49–63.

Steans, J., 2013. Gender and International Relations. Cambridge, Polity Press.

Wanniarachchi, S., 2019. Of Butterfly Assemblages and Constitutional Coups: Invention and Intersection of Heteromasculinity and Class in Post-Colonial Sri Lanka. Unpublished conference paper presented at Globalising Desire / Locating Power, student conference of the Gender Institute, London School of Economics and Political Science.

Weber, C., 1994. Good Girls, Little Girls and Bad Girls: Male Paranoia in Robert Keohane's Critique of Feminist International Relations. Millennium, 23 (2), pp. 337-49.

Weber, C., 1998. Performative States. Millennium, 27 (1), pp. 77-95.

Weber, C., 2015. Why Is There No Queer International Theory? European Journal of International Relations, 21 (1), pp. 27-51.

White, S. K., 1999. As the World Turns: Ontology and Politics in Judith Butler. Polity, 32 (2), pp. 155-177.

Wijewardene, S., and Jayewardene, N., 2019, Law and LGBTIQ people in Sri Lanka: Developments and narrative possibilities. The Australian journal of Asian law, 20 (1), pp. 135-150.

Wilcox, L., 2014. Queer Theory and the “proper Objects” of International Relations. International Studies Review, 16 (4), pp. 612-15.

Zalewski, M., 2010. ‘I Don't Even Know What Gender Is’: A Discussion of the Connections between Gender, Gender Mainstreaming and Feminist Theory. Review of International Studies, 36 (1), pp. 3-27.

Zanghellini, A., 2012. Are Gay Rights Islamophobic? A Critique of Some Uses of the Concept o