الغرب والفكر النسوي: النشاط السياسي النسوي المعاصر في باكستان وسياسة الثقافة القومية
ملاحظة الترجمة
في هذا النص عودةٌ الى أدبيات المفكّر اليساري فرانز فانون، واستعانة حثيثة بمفهومه عن اللغة كساحة مواجهة بين المستعمِر والمستعمَر، وعن الشريحة الاجتماعية التي تتصدّر خطوط التماسّ في تلك الساحة، أو ما يسمّيها فانون – مترجَمًا إلى الانجليزية (1963) – بالـ "native intellectual". إن مفهوم فانون هذا، عن المثقّف يتقاطع دون أن يتماهى كلّياً، مع مفهوم غرامشي لما يسمّيه – مترجمًا إلى الانجليزية أيضًا – بالـ " organic intellectual".
على الرغم من أن السياقَين اللذين تبلورت على إثرهما اللفظتين غير متماهيَين كلّياً، إلا أنّ المفكّرَين يتكلّمان عن فضاء مواجهة واحد، وعن معادلة قوى متماثلة تربط بين مهيمِن ومُستَتبع. فبينما يركّز غرامشي على التركيبة الطبقية وبنية الاستغلال التي تنشأ في ظلّها، والتي لا بدّ أن تنشب باسم تناقضاتها الحرب بين الموقعين المذكورين، يزيد سياق الاستعمار لدى فوكو المفهوم تعقيدًا. فالمستعمَر هويةٌ ثقافية تكن عن شعب لا طبقة بعينها.
كل الحواشي في هذا النص عائدة للمترجمتين.
عليه توضَع مترجمات ومترجمو هذا المصطلح في السياق الفانوني الأكثر تعقيدًا أمام خيارين: تسخير الترجمة لإبانة البُعد الهويّاتي الثقافي للمعركة، أو توظيفها لإبانة الملتبِس من بعدها الطبقي المركَّب. من المثير الذكر أن معظم الترجمات العربية للكاتبين، فاضلت الخيار الأخير على الأول، وذلك بالرغم من المشهد السياسي العربي العام الذي يُغالب ضمن الفضاء الشعبوي، معركة التحرر من الاستعمار على الصراع الطبقي. إذن، من الواضح أنّ الترجمات العربية جنحت كلّها إلى منطق لغويّ ماركسي، فترجمت موضوع فانون وغرامشي على النحو نفسه: "المثقف العضويّ". وكأن فضاء اللغة والذاتيّة الترجميّة كانت سبّاقة في فتحها النظريّ على الخطاب السياسي العام (مع تحفظ).
يجدر التنويه كذلك إلى أن الترجمات العربية لم تحدّ نفسها بثنائية لغوية بعينها، فذهبت تستوحي ممّا تبقّى من عناصر تكوينية لمفهوم فانون وغرامشي وخلصت إلى ترجمات مختلفة للمفهوم عينه: المثقف العضوي (organic) – المثقف المشتبك (militant)– المثقف المحلّي (native). كما لم تقتصر الترجمات على التيارات اليسارية من المترجمين بل انضمّت ترجمات إسلامية الطابع إليها. ولكننا سنتبنّى البنية اللغوية الطبقية في ترجمتنا، لأننا نخوض في عالمنا العربي أزمة في صفوف هذه الشريحة ضمن سياق نيوليبرالي يزيد وعورة فضاء التعقيد والتفكيك الذي طرق بابه كلّ من كتابات غرامشي وفانون. عليه نرفع في ترجمتنا هذه، كما العادة، رايتَنا الطبقية. (مديرة الترجمة)
*****
المقدّمة
منذ عام 2018، أخذت منظمة "هوم أوراتاون" النسويّة العابرة للأقاليم في باكستان على عاتقها تنظيم مسيرة نسائيّة في المراكز الحضرية الرئيسية في البلاد، مثل كراتشي ولاهور وإسلام أباد وبيشاور وكويتا. "مسيرة أوراتون" [وترجمتها. "مسيرة النساء"] هو الاسم الذي يطلق على هذا التجمع السنوي للنسويات والكويريين/ات والناشطين/ات والمنظّمين/ات. تصف المجموعة نفسها على النحو التالي: "نسويّتنا كويريّة تتبنّى قضايا العابرات/ين، وتأخذ النظرة الطبقيّة في الحسبان وتسعى إلى احتضان مختلف الإعاقات، كل ذلك في سياق الالتزام بسياسات تقاطعيّة تراعي المسألة الجندريّة وكل ما يتعلّق بها من أنواع مختلفة للاضطهاد والظلم".1
تلقى هذه المسيرة سنويًا تغطية واسعة في وسائل الإعلام الرئيسية والقنوات الاخبارية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنّها تغطية محطّ جدلٍ ونقاش. من أكثر سمات المسيرة إثارة للسّخط هي اللافتات التي يحملها المشاركون والمشاركات فتُصوَّر وتُنشر عبر "فايسبوك" و"تويتر". منذ عام 2018، شاعَ عدد من منشورات مسيرة "أوراتون" على وسائل التواصل الاجتماعي الباكستانية، مُثيرةً نقاشاتٍ محمومة ضمن التغطيات الاخبارية والبرامج الحوارية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي حول القيم والأعراف الثقافي.
أثارت إحدى لافتات المسيرة عام 2018 والتي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعيّ، توتّرًا استثنائيًا في جميع أنحاء البلاد. كُتب على اللافتة "سخّن طعامك بنفسك". انتُقدت العبارة على أنها متجاوزة للحدود الاجتماعية، وتعبيرٌ عن انعدام الاحترام تجاه الأعراف الثقافية، وعلى أنها تختزل حقوق النساء بـ "مسائل تافهة" على شاكلة تسخين الطعام. أصبحت العبارة واللافتة (كصورة على وسائل التواصل الاجتماعي)، رمزًا للإشارة إلى سياسة "مسيرة أوراتون". من الأمثلة على النقد الذي وُجّه إلى العبارة: أعادت الصفحة المدعوّة "شؤون ساخِرة" على فايسبوك، نشر صورة اللافتة مرفِقةً إليها التعليق: "مثالٌ لما تريده النساء غير القادرات على آداء المهام المنزليّة، لا بُدّ وأن هذه المرأة غير قادرة على قلي بيضة، ولكنّها تريد تغيير العالم".
لخّص عمّار راشيد وهو منظّمٌ يساريّ في باكستان، المعنى الكامن وراء شيوع هذا المنشور وردود الفعل التي ترافقت معه بقوله: "إن عدد الرجال الذين جُنّ جنونهم بسبب هذه اللافتة من #AuratMarch هو دليل دامغ على أن أكثر ما يخيف الرجال الباكستانيين في الفكر النسوي، هو فكرة انعدام وجود النساء كخادمات منزليات بدون أجر".2
في المسيرات التي أعقبت عامي 2019 و 2020، برزت مجموعة جديدة من اللافتات كمحطّ للنقد في كافّة أرجاء البلاد. من بين هذه اللافتات الأكثر إثارة للسخط: ميرا جيسم ميري مارزي [والترجمة: جسدي، إرادتي]، ولو بيث جاي ساهي قل؟ [الترجمة: هل أنا جالسةٌ بالشكل الصحيح الآن؟]، وعزت ناهين إنسان هاي عورات [الترجمة: المرأة هي إنسانٌ، وليست موضوعَ شرفِكَ]. من أبرز الانتقادات الاتهاميّة التي وُجِّهت إلى تلك اللافتات ذائعة السيط، والتي تستثير موضوعات العمالة المنزلية وتشير صراحةً إلى جسد الأنثى، هي أنها تحمل دعوة إلى إعادة تنظيم الأدوار المنزلية بنبرة عدم احترام للقيم الثقافية، ما يدلّل على أن النسوية هي فكرٌ مستوردٌ من "الغرب". يحاجج أصحاب هذا الاتهام كما يلي: إن حقوق المرأة قضية مهمّة، لكن يجب ألا نفقد هويتنا الثقافية في سياق معالجتها.
في هذه الورقة البحثيّة، أستكشف المعاني المنوطة بتصنيف "الغربيّ" فيما يتعلق بالانتقادات المتعلّقة بمسألة الثقافة القوميّة أو الوطنية. أولا وكما تذكّرنا شاندرا موهانتي، من المهم أن نسعى إلى مقارعة الافتراضات الكائنة في الدراسات النسوية، حيث يُعامل "الغرب" على أنه مرجع أساسي لكلٍّ من النظريّةِ والمُمارسَة بمعناها المؤدلَج (2000). من ناحية أخرى، كيف نتعامل مع المحو الذي يترافق مع رفض النقد الثقافي، والناتج عن النظر إلى الفكر النسوي باعتباره "استيرادًا غربيًا؟" كيف نعالج اللغة النسوية المُتشكّلة في – والمُنتشرة من خلال – دوائر النشاط السياسي العابر للقوميات، والتي تُوظّف في عمليات نقد القيم الثقافية "المحلية"؟ وكيف يمكننا أن نفهم بشكل أفضل تصنيف "الغربيّ" الذي يستخدم في توصيف الحركة النسوية المعاصرة في باكستان؟
من أجل معالجة هذه الأسئلة، أنتقل إلى تنظير فرانز فانون في سؤال الثقافة القومية، وكيف تتطور الثقافة القومية في أعقاب الاستعمار (1967). أحاجج أن مفهوم فانون لـ"المثقّف العضوي"3 هو النموذج التفسيريّ القادر على تبيان ماهية الشخصية النسوية في باكستان وارتباطها بالذاتيّة الغربيّة. أي أن هذه الشخصية النسوية، وفي مخاض انتقادها للمعايير القائمة والتقاليد السائدة في سياقاتها "المحلّية"، ليست مرتبطة بعلاقة ساكنة مع "الغرب". لبلورة هذه الحُجّة، سأتفحّص موضوعين إعلاميين: أولاً، كيف يُمَظهِر الإعلام السائد شخصيةَ النسويةِ وارتباطاتها بالغرب، وثانيًا، أنظر في البنية النقدية التي يقترحها منظّمو مسيرة "أوراتون" تجاه المعايير الثقافية الحالية، وطبيعة ارتباط بنيتهم النقدية بالفكر والممارسة النسوية العابرة للقوميات من جهة، وبالذاكرة الثقافية الباكستانية نفسها من جهة أخرى.
الاستخدام المفاهيميّ للـ"ثقافة القومية"
عند أي نقطة تبدأ عملية انخراط المرء في مفهوم "الثقافة القومية"؟ يمكننا العودة إلى تفسير بنيديكت أندرسون لما يسمّيه بـ"المجتمعات المتخيّلة"، وذلك في سياق تتبّعنا لتطوّر الدراسة النقديّة للـ"ثقافة" في ظلّ الدولة القومية. يوضح أندرسون أن مفهوم الـ"أمّة" يتمّ تخيّلها تفسيريًا على أنّها مجتمعات ومردُّ ذلك هو تعويل هذه الفكرة على فكرة "إخاءٍ عميق أفقي التكوين"4 (1983، ص. 7)، الفكرة التي تُمكِّن جميع الأعضاء من تشاطر حسّ الانتماء إلى هذا المجتمع الذي يُطلق عليه تباعًا اسم، الدولة القومية.
لقد عملت دراسات تنتمي إلى مدرسة "ما بعد الاستعمار" على إثارة إشكاليات تتعلّق بفكرة "الإخاء أفقيّ التكوين"، لا سيّما وأن الأخيرة تدفع نحو تحليلات جامدة للثقافة. على سبيل المثال، في كتابه "الأمّة والسرديّة"، يكتب هومي بابا: "إن كتابة قصة الأمّة تتطلّب منّا التعبير عن التناقضات الراسخة التي تغذّي الحداثة" (1990، ص. 292).
في هذه العبارة، يحدّد بابا إشاكاليتَين ترتبط الواحدة منهما بالأخرى على نحو بنيويّ ونقديّ حاسم: التناقضات التي تتبلور منها السرديات من جهة والدور الذي يلعبه الكاتب صاحب المهمة من جهة أُخرى. في شبه القارة الجنوب آسيوية، أخذت المقاومة السياسية ضد الاستعمار البريطاني على عاتقها مهمّة تعريف نطاق الأمّة والثقافة على نحو يواجه الوعي ذو الطابع الغربيّ المهيمِن على النصوص وعلى الأسلوبيّة النصّية والمؤسسات. في ضوء ذلك، ترسّخت لدى الحركات الفكرية والقومية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مفاهيم مختلفة لا بل متضاربة عمّا تعنيه بلورة فهمٍ/تعريفٍ لكيان الأمّة وللثقافة، على نحو يقارع الاستعمار البريطانيّ. من بين تلك الحركات نذكر، حركة أليجار في شمال الهند وحركة آريا ساماج في البنجاب ومهاراشترا وحركة سواديشي في البنغال، وبالطبع المواقف السياسية لمؤتمر عموم الهند والرابطة الإسلامية لعموم الهند (الكيانان السياسيان اللذان قادا مفاوضات الاستقلال مع الحكومة البريطانية). هكذا، تظهر "الثقافة القوميّة" عنوانًا عريضًا ومشحونًا في منطقة جنوب آسيا في مرحلة ما بعد الاستعمار: إن الكتابة عن الثقافة وادعاء تملّكها ومحاولة رسم معالم حدودها وتحديد أصحاب الحق في وراثتها، لهي مساعي محفوفة بالمخاطر. يمكننا النظر إلى تطور الثقافة القومية على أنها مفهوم ترتسم مزاعم امتلاكه ويُقولب ويُوَرَّوث ضمن الفضاء العموميّ، أي أنه خارجٌ عن السرديّات الأكاديمية أو على الأقلّ منفصل في تفاعلاته عن الخطاب الأكاديمي. وفي مقاربة أخرى، أمكننا التفكير في الدراسات ما بعد الاستعماريّة على أنها محاولة لترسيم وتحدّي الشروط المؤطّرة لما يوصَفُ بـ "امتلاك" للثقافة القومية. في هذا المقال، أحاول النظر في كيفية ربط هذين النهجين المكوّنين لمسارات تطوّر الثقافة القوميّة – كيف لنا أن نتجاوز الفهم النظريّ للثقافة، نحو معالجتها كموضوع يستجيب مع، وينمو ويعبّر عن نفسه ضمن، الفضاء العام وعلى وجه الخصوص في موقع المقارع لمختلف أوجه العنف الاستعماري؟ هنا، أجد أن فانون يساعدنا على بلورة وفهم العلاقة الموجودة بين، الإشكاليات التي تبرز عند مفاصل تعريف الثقافة القوميّة، والدوافع المناهضة للاستعمار، وإشكاليات الإنتاج النقدي، سواء أتى من داخل الفضاء الأكاديمي أو من خارجه.
إن نظريّة فانون المتعلقة بالثقافة القوميّة جاذبةٌ للاهتمام إلى حدّ الإقناع، فنظريّته لا تتعامل مع الثقافة كفئة معطاة/ مبتوت بها مسبقًا أو ككيان مُسَلَّم الوجود. على العكس، إن الإطار الذي يطرحه فانون يعالج مسألة الثقافة القوميّة على أنها ثقافة توجد وتتبلور في أطوارٍ مختلفة ومتكوّنة من إعادة تقييم ونقد دائمين. كما يتطرّق فانون صراحةً وفي السياق عينه إلى تبيان العلاقة ما بين المثقّف العضوي (الذي يلتحم مع وبدوره ينتج ثقافةً قوميّة) وبين الامبريالية الأوروبية. فيُبيّن أن العلاقة التي تربط المثقّف العضوي مع الموروثات وأنماط التفكير الأوروبية ليست ساكنة/ جامدة. في طور نموّه وتقدّمه، يصبح المثقّف العضوي أكثر انسجامًا مع الذاكرة الثقافية، فتتّسع قدرته على "إبصار" مغالطات الفكر الأوروبي التي توظَّف في إدامة الامبريالية الغربية. يكتب فانون:
[في الطور الأول] تتوافق كتابات ابنُ الأرض، وعموم أفكاره، مع من يقابله من نظراء في البلد الأم. إلهامُه في هذا الطور أوروبيُّ المنبع [….] أما في الطّور الثاني يصيب ابنَ الأرض حالة اضطرابٍ، فيُقرر أن يتذكّر من يكون.5 أخيرًا، الطور الثالث، والذي يُسمّى طورَ القتال، يأتي بعد أن يكون ابنُ الأرض قد حاول أن يتماهى وصفوف جمهور شعبه – فيهم ومعهم، ولكنّه على العكس من مسعاه، ينتهي به المطاف إلى تحريض الجمهور. (1967، ص. 40).
باستخدام نظرية "الأطوار"6 التي يمرّ بها المثقف العضويّ بالنسبة لفانون، من الممكن أن نفهم أن تفكُّرَ المثقّف العضوي حيال معنى الثقافة القوميّة أو ثقافة "الأرض"، لهي في علاقة غير مستقرّة مع الإرث الأوروبي. على الرغم من تأثّر المثقّف العضوي بلغة الاستعمار، إلا أن فانون يركّز على أن فعل التذكّر، أو عمليّة الرجوع إلى الذاكرة الثقافية، يساعد على قلب أو زعزعة هذه العلاقة، ما يٌنتج تمرحليًا "أدبًا مُشتبِكًا" (المرجع نفسه) يخدم الأمّة المستعمرة في مسارها نحو الحرية.
في المحصّلة، تساعدنا نظرية فانون على فهم أن بلورة ثقافة قوميّة مناضلة ضدّ الاستعمار، تأتي من خلال فعل النقد الذي يُيسّر قيامَه المثقفون العضويون: "تلك الرغبة في الالتحاق بالتقاليد، أو في إعادة إحياء التقاليد البائدة، لا تدلّل على لزوم الوقوف في مواجهة مجرى التاريخ بأسره وحسب، بل أيضًا على حتميّة الوقوف في مواجهة الشعب الذي ننتمي إليه"7 (ص. 42).
العودة في الذاكرة إلى السياسات المُجندرة للثقافة القوميّة
نحمل السبيل نحو المعرفة فيحملنا، نخلقه فيُرشدنا، نتغيّر فيه فتتغيّر معالمه. (ميناي وشروف، 2019، ص. 41)
ما بين النسوية وهيمنة العلم الغربي علاقة متوترة. تُذكّرنا تشاندرا موهانتي بأن، "الكتابات النسوية الغربية التي تُكتب عن النساء في العالم الثالث، لا بدّ وأن تُدرَج في سياق الهيمنة العالمية للعلم الغربي" (1988، ص. 62). بالتفكير في الحركة النسوية المُعاصرة في باكستان لا بد من أن نواجه واقع أن المنظِّمات النسويات اللواتي يدأبن على الإشارة إلى النظريات التقاطعيّة وتفسير سياساتهنّ باللغة الانجليزية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هنّ نخبة تمتلك المقدّرات التي تكفل لها إلتماس مستوىً من التعليم واللغة غير متوفر على نطاق واسع في البلاد. علاوة على ذلك، إن مصطلح "النسوية" في حد ذاته ليس له نظيرٌ لفظيّ في اللّغة العاميّة المتداولة. تباعًا يتبيّن لنا أن أتباع التيار النسوي الذي ينظر إلى "النسوية" كهوية مرتكزة على أنماط التعبئة من خلال مبادرات على شاكلة مسيرات النساء، هم بالتأكيد مُعزَّزون ومتأثرون بتاريخ التنظيم النسوي الذي نشأ في الشمال العالميّ. ومع ذلك، لا بدّ وأن أشدّد إلى أن هذه العلاقة القائمة بين الفكر النسوي وتاريخ النشاط السياسي في الشمال العالمي لا تعني حتميّةَ أن يكون أي نقدٍ موجّهٍ للثقافة القوميّة مرتكزًا على خلفيّة/ معالجة أوروبيّة. في هذا الصدد، أجد أنه من المفيد الرجوع إلى مقال فانون المعنون "حول الثقافة القوميّة"، حيث يصف فانون النمو الفكري للباحث أو الناقد العضوي/ المحليّ.
باتباع معالجات فانون نجد أن القوة التي "توقظ" المثقّف العضوي على ضرورة الافتراق عن الفكر الأوروبي، هي الذاكرة. يقول فانون "يصاب ابن الأرض بحالة من التشوّش، يقرّر على إثرها تذكّر من يكون. عند هذه المرحلة ستطفو أحداث منصرمة في ماضي طفولته من قعر ذاكرته إلى سطحها، وستبدأ عملية إعادة تفسيرٍ للأساطير القديمة، هذه المرة في ضوء جماليّات مستعارة وفهمٍ للعالم تبلوَرَ تحت سماء غريبة" (1967، ص. 42). قد يثير تشبّث فانون بالذاكرة كأداة "يستعيد" بها المرء ذاته/ا المتحرّرة من الاستعمار، السؤال التالي: ما هو دور الذاكرة الثقافية التي تغذّي الفكر واللغة وتساعد المفكّر/ المثقّف (بالمعنى الفانونى) على الانعتاق من أنماط التفكير التي تديم الإمبريالية الغربية؟
يمكننا فهم الذاكرة الثقافية على أنها "المنعطف، حيث يجتمع الوجود الفردي بالوجود المجتمعيّ، ويُطلَب من الشخص إظهار التكوينة الاجتماعية التي يرزحها ضمنها وما فيها من افتراقات وتعقيدات" (هيرش وسميث، 2002). بعبارة أخرى، يمكن للذاكرة الثقافية أن توظَّف كأداة مفاهيمية لتحليل وتفسير التكوينات الاجتماعية بطرائق استراتيجية سياسيًا. ولكن ثمة ما هو على المحكّ في عملية التوظيف النقدية هذه للذاكرة الثقافية وهي – كما يلمح فانون – أن الذاكرة تعيد توجيه الكيفية التي تُأطَّر بها مفاهيم الهوية والجنسية والاستعمار. فمن رحم الذاكرة تتكوّن المدارك وتتشعّب.8 يعني كل ذلك بالنسبة لي كنسوية ترتكز على التقاليد المعرفية الغربية أو الجنوب آسيوية، وجوب العودة إلى الذاكرة الثقافية بغية مراجعة وإعادة تفسير "الأساطير القديمة" المقرونة بالقيم والمعايير الثقافية.
على هذا النحو، فإن النقد النسوي للثقافة القومية الأبوية والمعياريّة غيريًا، متجذرة في الذاكرة الثقافية ما يذكّرنا بأن ترسيخ الثقافة القومية لطالما كان مسعى مجندراً. يمكن للنقد النسوي الجنوب آسيوي الذي يسعى إلى استخدام هذه الذاكرة الثقافية أن يوضّح معالم العنف"الثقافي"، وأن يبلور الحجج التي تدعم النماذج الثقافية القائمة تُعالج فيها مسألة الأجساد المؤطرة جندريًا وجنسانيًا ضمن مناحٍ مختلفة جذريًا. إن الحاجة إلى التعبير البيّنِ عن أشكال العنف وما يقترن بها من رؤى مهمة جدًا لا سيما في جنوب آسيا لأن الخطاب السائد حول "الثقافة القوميّة"، لا سيما ما يوظَف منه كاستجابة للحكم الاستعماري، وُضع بشكل أساسي من قبل ذكور النُخب أعضاء الكاستات الاجتماعية النافذة في المجتمع الهندي. استجابت هذه النخب المكوّنة من ذكور للاستعمار البريطاني في القرن الثامن عشر بأشكال رجوليّة، حيث صاغت الإدارة الاستعمارية البريطانية خطابًا أرسى معالم التفوق الحضاري لـ "الغرب" على "الشرق" على أساس اعتبار الهوية المحلية الهندية الأصلية "متقهقرة/ منحطّة". هكذا، بات المنزل /العائلة وتوزيع الأدوار الجندريّة داخله، المساحة الرئيسية التي يرسّخ فيها النضال القومي الأصالة الثقافية والقيمة الحضارية.
في جنوب آسيا أواخر القرنين الثامن والتاسع عشر، تحولت الحياة المنزلية كشكل وممارسة ثقافيتين، إلى مساحة تمّت فيها عملية "زرع مفاهيم الحداثة والتقدّم والأمّة الجديدة" (بانيرجي، 2010، ص. 456) وذلك على يد الدولة الاستعمارية والنخب الثقافية الهندية على حد سواء. الأخيرة استغلَّت نموذج الحياة المنزلية/العائلية9 "لنحت شخصية معنوية ذات طابع مستقل ومهيمن لذواتهم الفاعلة" (ص. 462) فيما كانت تعتبره استجابةً للخطاب الاستعماري حول الحياة المنزلية الهندية (تشاترجي، 1989). هذه النظرة للحياة المنزلية التي عزّزتها نخب المثقفين الهنود كرّست هرميّة العلاقات الكائن ضمن وبين نظام الكاست والبنية الطبقية والمنتظم الجندري. مثال ٌ على ذلك هي الكتيّبات المعنيّة بالشأن المنزلي والتي كانت تنتجها نخب الرجال الهنود المثقفون من الطبقة العليا والمتوسطة، "... رسمت تصورًا جديدًا لمُثُل الحياة المنزلية العليا ووصفت مدوّنة سلوك محددة لنساء الطبقة الوسطى، مُبعدة إياهنّ بتأنٍّ عن الطبقات الاجتماعية الأخرى" (بانيرجي، 2010، ص. 462).
من بين إصدارات الكتيّبات المذكورة آنفًا والمعنيّة بالحياة المنزليّة، نجد سلسلة من إنتاج الإصلاحيين المسلمين في شمال الهند في القرن التاسع عشر، الذين "قاوموا الهيمنة الثقافية الغربية الصاعدة من خلال إيضاح قوانين الشريعة الإسلامية والنهوض بالتراث الثقافي الإسلامي" (علي، 2004، ص. 125). كانت تُستثمر مثل هذه الكتيبات في إنتاج مُثُل "الشرف" التي لا بدّ أن تتمتع بها الحياة المنزلية المحترمة بشكل يليق بمقام الطبقة الوسطى ويتماشى مع مهابة المسلم السنّي. يُبيّن كامران أسدار علي الأهمية القائمة لتلك الرؤى النموذجية للحياة في حاضر الحياة الثقافية والقوميّة في باكستان، مشيراً إلى أن "الثقافة القوميّة الباكستانية المُسيطرة تاريخيًا يمكن إرجاعها إلى السياسات الإصلاحية للنخبة المسلمة في شمال الهند" (المرجع نفسه).
يُظهر عمل فينا داس حول العنف المجندر والجنسي الكامن في عمليّة صناعة الأُمم في جنوب آسيا بعد التقسيم، أن مؤسسة العقد الاجتماعي المنوطة بقيام الدولة القومية تستوجب في جوهرها نشوء"الأمّة" ككيان رجوليّ. يكتب داس "إن الهاجس المتعلق بالجنسانية والعِفّة حوّل شخصية المرأة المنتهكة إلى عنصر تعبئة يُكرّس مفهوم الأمّة كمساحة "عفّة" ورجولة" (داس، 2007). الجزئية التي يشير إليها داس من تاريخ تقسيم عام 1947 هي الواقعة التي استلزمت كلّا من الهند وباكستان تقرير مصير "النساء المخطوفات" اللواتي تعرّضن للاعتداء والخطف على جانبي الحدود مع بدء التقسيم. إن هذه الذكرى وما شاكلها يؤكّد لنا أن السياسات الجندرية والجنسانية حاسمة في ترسيم معالم الهوية القوميّة ومسار صناعة الثقافة.
تلك هي الذاكرة المجندرة للثقافة القوميّة، إنها تغذّي نقد الحراك النسوي المعاصر في المراكز الحضرية الباكستانية ضدّ "الثقافة القومية". الذاكرة الثقافية الهنديّة العائدة إلى القرن الثامن عشر، هي المحرّك الأساس للعملية النقديّة لا المنهجيات "الغربية" التي تُتّهم وتُنتقد النسويات في جنوب آسيا بالخضوع لها. تلخّص مدوّنة بعنوان "النسوية – هل هي معنيّة بالحداثة أم بالغزو الثقافي" جُملة الاتهامات الموجّهة إلى الحركة النسوية المعاصرة في باكستان:
قِيَمُنا: الرجال هم حُماة النساء، والنساء هي الأكثر دعمًا وقُربًا من الرجال. يُحرِّم الإسلام الزواج من نفس الجنس ويستوجب الالتفاف إلى الجنس المغاير. لسوء الحظ، دمّرت الحركة النسوية في باكستان المُؤازرة من قبل الثقافة الغربية ثقافتَنا. بدأت النساء في باكستان اتباعَ الثقافة الغربية. إنهم يهاجمون قيَمنا ومعاييرنا. نحن كمجتمع مسلم يجب أن نوقف هذا الغزو لنردع الدمار. تصنع الأمم تقدّميتها بالاستعانة بقيَمها. القيَم هي التي تميّز أمّة عن أخرى. إنقاذ جيلنا من الثقافة الغربية، يستوجب منّا إحياء قيَمنا ومعاييرنا الثقافية (بوتو، 2020).
كما تُبيّن هذه المدونة، تُتّهم اللغة والمواقف النسوية بأنها"أجنبية"، حتى حين تنتشر وتنضمّ إلى اللغة الشعبيّة. بمعنى آخر، إن الانضمامَ إلى فضاء لغة بعينها لا يعني أن تنتمي إلى صُلب تلك اللغة. غالبًا ما تُتهم النسويات الباكستانيات بالترويج للمفاهيم "الغربية" للأسرة والثقافة والتعبير الجسدي. بكلمات أخرى، حتى عندما يُصاغ الموقف النسويّ باللغة "المحلية" يبقى الموقف بحد ذاته "أجنبي" الوقع. حتى عندما تتحدّث النسويات بلغتهنّ "الأمّ"، تبقى عملية التفكير نفسها التي يتبلور فيها الخطاب والإرث الفكري الذي يلجأ إليه للإسناد والإستعارة مُدانٌ بتُهمة اللاموثوقية/ النّفاق.
يستدعي هذا الاستهلاك الواسع والمعالجات الشعبوية الساخرة لعبارات مثل "سخّن طعامك بنفسك" ضرورة التفكير النقدي في التحديات التي تواجهها النساء الباكستانيات والأقليات الجندرية في مسعى قولبتهنّ/هم للفكر النسوي.
في مواجهة رجعيّة الفضاء الإعلامي
أودّ أن ألفت النظر إلى دراما "خانا خود غارام كارلو" التلفزيونية، التي تمّ بثها في أوائل عام 2019 قبيل "مسيرة النساء"، والتي كان مخطّطاً لها في شهر آذار/ مارس. هذه الدراما هي قصة رومانا ومنزار حديثي الزواج، ولديهما منزلهما الخاص وجارة اسمها جميلة وينادونها جامي، وهي الشخصية الأكثر إثارة للاهتمام والتحدّي في السردية. فهي النسوية المتأهبة دائمًا للشتائم وهي من الطبقة العليا، ولديها وظيفة، ولا تبالي بالبشر الآخرين، ولا سيما زوجها، الذي تسيطر على حياته تمامًا. يتمّ تصوير زوج جميلة على أنه شخصية مخصية الذكورة وليس له مكانة في المنزل. وفي المقابل، يتمّ تصوير الشخصية النسوية على أنها غير أخلاقية، وميسورة طبقياً، وفاقدة للإحساس في العلاقات الشخصية.
في العرض الدرامي "إميجيز، دون" والذي يُبث على قناة "آري" التلفزيونية، يضمِّن مقابلة مع أحد ممثلي الدراما أمين خان. يوضح أمين خان: "هذه الدراما ليست نسوية بشكل دوغمائي، بعكس ما يوحي به الاسم. إنها حقيقية وظريفة وذكية وتتحدى الأيديولوجية غير الواقعية للنسوية".
من أجل فهم السياسات المُجندرة لكتابة السيناريو في إطار صناعة التلفزيون الباكستانية، التي تسعى إلى الكتابة ضد "الأيديولوجية النسوية"، والتي استند إليها سيناريو "خانا خود غارام كارلو"، من المهم أولاً الرجوع إلى تاريخ موجز للنصوص التلفزيونية في البلاد. منذ خصخصة صناعة التلفزيون في باكستان في مطلع القرن الحادي والعشرين، كانت الدراما التلفزيونية أحد أكثر أنواع الترفيه شعبية في البلاد. مع وجود شبكات رئيسية مثل "جي إي أو"، و "آري ديجيتال"، و "هوم تي في"، تُخصص قناة بأكملها لبث الدراما فقط، أصبح إنتاج الدراما واستهلاكها مساهماً رئيسياً في وجود اقتصاد وسائل الإعلام في الدولة. ومع ذلك، مع تحول النموذج الاقتصادي للتلفزيون في باكستان، بدأ النهج الجمالي والأدبي لكتابة السيناريو في التحوّل. بينما عمل فريق من الكتّاب ذوي الميول اليسارية الواضحة، على إنتاج وإخراج النصوص الدرامية في قناة التلفزيون الحكومية (شركة باكستان للتلفزيون)، غيّرت خصخصة التلفزيون مشهد كتابة السيناريو.
جرى تناول كتابة السيناريو التلفزيوني اليوم، من قبل مجموعة مختلفة من الكتاب الذين استثمروا في خلق عالم أخلاقي، لأجل الطبقة الوسطى الناطقة بلغة الأوردو والتي تعيش حياتها ضمن حيّز المنزل. أوميرا أحمد، التي كتبت "زينداجي جولزار هاي" (الحياة جميلة، 2012)، هي واحدة من أشهر الكُتّاب/ الكاتبات، في كل من كتابة السيناريو التلفزيوني، وكتابة الروايات بالأوردو في باكستان المعاصرة. تستند الروايات التي كتبتها، مثل "بير-إ-كاميل" (المرشد المثالي، 2004)، و "شِهر-إ-زاات" (مدينة الذات، 2002)، و"زينداجي جولزار هاي"، بدفاعها عن الإسلام السنّي المحافظ، وما يحمله من مُثُل أخلاقية. على سبيل المثال، في بير-إ-كاميل الشخصية الرئيسية مسلم أحمدي، عَرَجَ نحو الجوهر "النقي" للإسلام السنّي بعد أن تعرّف إلى "شرور" التوجّهات غير المُحافِظة.
مريم واصف خان (2019)، تضع نظرية لهذا التيار من أدب الأوردو، الذي تُعدُّ أوميرا أحمد جزءاً منه، على أنه "شعبوية أدبية تحكمها مواقفها المعادية للنخبة". تقارن مراجعةٌ لـ"فرايدي تايمز" عمل أوميرا أحمد، بمؤلف "ميرات-ال-اللاُروس" لنزير أحمد: "إن الواقع الذي نعيشه هو أن ميرات-ال-الاُروس للنائب نزير أحمد، هو جزء من مناهجنا المدرسية وأن بير-إي-كاميل لأوميرا أحمد، هو مؤلَّف الخيال المعاصر الأكثر مبيعا بلا منازع: وهو في الأساس دليل لكيفية تصرّف المرأة المسلمة الشريفة في كل الأوقات" (جافيد، 2014). يلمح فهم كتابة روايات الأوردو المعاصرة ككتيّبات عن الشرافات، إلى المثل المحلية التي روّجت لها النخبة المسلمة في شمال الهند في القرن التاسع عشر. تشير الشرافات بشكل عام إلى الالتزام بقواعد السلوك المحترمة. ومع ذلك، فهو أيضًا احترام قائم على النوع الاجتماعي-الشرافات، يستلزم التمسك بالأدوار المنزلية، حيث يكون "شريف بيبي" هم "باردا ناشين"، أو يراقب الحجاب بشكل ما، ويلتزم دائمًا بالواجبات المنزلية، مع الحرص على التطلّع دائمًا إلى دور الزوجة الصالحة التي تعمل في خدمة زوجها وأصهارها، والأم الطيبة التي تغرس نفس القيم في الجيل التالي.
هذا التمسك بالشرافات المُجندرة، متجذر في موقف أخلاقي: يلتزم الرجل والمرأة المحترمان والمستقيمان أخلاقياً، بالدور الجندري المرسوم لكل منهما، فيكون الرجل هو رب المنزل، والمرأة تؤدي أعمال الرعاية والعمل المنزلي، لتأمين بيئة منزلية شريفة. بعض العناوين الأكثر شعبية التي تم إنتاجها مؤخرًا في أدب الأوردو، بما في ذلك قصص أوميرا أحمد الخيالية، وخاصة قصص مثل بير-إ-كاميل، وزينداجي جولزار هاي، وقصة نيمرا أحمد "جنَّات كيه باتاي" (الخروج إلى الجنة، 2013)، تتخذ مواقف أخلاقية قوية حول من هو المسلم ومن هو غير المسلم، وتعمل في إطار عالم الأخلاق والاحترام المسلم السنّي. ونظرًا لأن كُتّاب وكاتبات مثل أوميرا أحمد يكتبون الآن للتلفزيون، فمن المهم إذن دراسة كيفية انتقال الفضاء الأخلاقي "الشريف" الذي نشأ في هذا الأدب الشعبوي إلى التلفزيون.
تسقط جميلة أو جامي، الشخصية النسوية في دراما "خانا خود غارام كارلو"، دون غيرها في صف الشر، ويتم تصويرها على أنها "تُوَسوِس" لرومانا، المرأة المتزوجة حديثاً. فهي تحرّض رومانا على إخبار زوجها، بأنه سيكون لديها عملٌ ولن تبقى في المنزل ولن تقوم بالأعمال المنزلية. كما يتضح لاحقاً، فإن رومانا فعلياً لا تريد وظيفة، وتحتاج الى الكثير من المساعدة للقيام بالأعمال المنزلية. يُصوَّر الإصرار على عدم القيام بالأعمال المنزلية على أنه مجرد "ادعاء" ومحاولة للفت الأنظار من جانب رومانا، لأنها في الواقع لا تحتاج إلى الأشياء التي تخبرها جميلة أنها بحاجة إليها، بصفتها ناشطة نسوية. تسيء جميلة دائما قراءة موقف رومانا، وتجعلها تدمّر زواجها. وفي مشهد الذروة، حيث يواجه زوج رومانا إياها ويجعلها تدرك كيف أن جميلة تدمّر حياتها، يقول، "يي أوورات تمارا ديماغ بهي أور تمارا غار بهي تاباه كار راهي هاي" (هذه المرأة تدمّر عقلك وكذلك منزلك).
على هذا النحو، يجري وصف الشخصية النسوية بالأنانية والفجور واللاعقلانية، وأنها تسعى لتدمير نسيج الحياة المنزلية في جنوب آسيا. ومع اقتراب نهاية الدراما، طُردت جميلة من حياة رومانا ومنزار. تُظهر الدراما رومانا وزوجها في منزلهما – عادت اليهما الأخلاق كزوجين مُغايري الجنس بعد أن تخلّصا وهزما الشخصية النسوية، وثُبِّت في السرد أنهما كأفراد متزنين وأخلاقيين وعقلانيين. تنتهي الدراما بلقطة متوسطة لزوجين مُغايري الجنس، مبتسمين وقد تخلّصا من النسوية. وينهي زوج رومانا القصة بإخبار زوجته، "شدات باساندي كيسي شيز ماين بها كام ناهين آتي، خاس تور باي ريشتون كو سامبالني ماين" (التطرّف ليس مفيدًا في أي مكان، لا سيما في إدارة علاقاتنا).
الكلمتان الرئيسيتان اللتان حددتُهما هنا، هما "شِدّات باساندي" (التطرف) و "ريشتاي" (العلاقات). وعلى عكس الفكاهة التي تنشر في بقية المشاهد، عندما يمس السرد موضوع الأسرة، فإنه يتبنّى نغمة جادة بشكل واضح. المشهد الأخير جدّي، وهو يكشف السبب وراء كون الشخصية النسوية التي تقول "خانا خود غارام كارلو" هي شخصية لا معقولة. إن اللامعقولية المُترافقة مع قولها ذاك مقرونةٌ أيضاً بإحساس في الخطر، والخطر هو أن "راشتاي" أو الأسرة مُغايرة الجنس وكيفية تنظيمها للفضاء المنزلي، تتعرض للاقتلاع عندما تدخل الشخصية النسوية في السردية. يُمكننا أن نرى من خلال شخصية جميلة، كيف يُنظر الى العلاقة بين النسوية و"الغرب"، في إطار التصوّرات السائدة عن النسوية الباكستانية. ما تُجسده جميلة من انفصال عن المجتمع وعدم احترامه، يُرفق بالذاتية الغربية (المزعومة) للشخصية النسوية الباكستانية. يجري تصوير النسويات مثل جميلة، كمستقبلات دون حس نقدي للأفكار (الغربية)، التي تمزق بشكل عنيف الأسرة ذات الهوية الغيرية المعيارية، وبالتالي ودونما أيّ نقد تُهشم القيم الثقافة المتأصلة في منظومة الأسرة، تلك التي تميز "الشرق" عن "الغرب".
مسيرة النساء وعملية إحياء الذاكرة
يختلف منظّمو "مسيرة أوراتون" اختلافًا كبيراً عن جميلة، لأنهم يتمسكون بتضامن يتّسم بمعالم محدّدة ومدروسة مع الممارسة النسوية العابرة للقوميات. والنشيد المناهض للاغتصاب الذي قام منظمو "أوراتون مارش" والمشاركون بأدائه وتسجيله وتوزيعه عبر "يوتيوب" و"تويتر" في عام 2020، لهو مثال واضح على ذلك. هذا النشيد مستوحى من أناشيد مماثلة يجري عزفها وتسجيلها في جميع أنحاء العالم. ففي أواخر عام 2019، اُنتِجَ نشيد مناهض للاغتصاب في تشيلي، ظهر فيه نساء من أمريكا اللاتينية يغنين ويؤدّين رقصًا لأغنية "المغتصب هو أنت". توجّه هذه الأغنية انتقادات حادّة لمؤسسات مثل القضاء والشرطة والدولة القومية نفسها، لتطبيعها مع العنف على أجساد النساء. عبرت الأغنية الحدود القومية، وبدأت في التكيّف في بلدان مختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة والمكسيك واليونان وكينيا. في عام 2020، قرّر منظمو "أوراتون مارش" في مدينتي كراتشي ولاهور أيضاً، تسجيل نسخة معدّلة من ذاك النشيد المناهض للاغتصاب تحت نفس الإسم. وقد جرى تسجيل النشيد الذي كتبته نساء وأشخاص غير ثنائيين في لاهور، وإنشاده بالكلمات التالية:
المِلّة نظامٌ أبويّ
نظام يُفتي وجودنا
عندما نولد
هذه جريمة قتل، والقاتل يتجوّل بحريّة
حتى مع اقتباس النشيد المناهض للاغتصاب من كلمات نشأت في مكان آخر، إلّا أن الذاكرة المُجندرة للثقافة القومية كان من شأنها إدراج مؤسسة أخرى في نشيد مناهضة الاغتصاب: إنها المؤسسة الدينية المفروضة من قِبل الدولة. وبالمثل، فإن النشيد المناهض للاغتصاب الذي تم تسجيله وأداؤه في كراتشي تضمن الكلمات التالية:
هؤلاء السادة الإقطاعيون
هذه الحكومة
هؤلاء الملالي وأولئك الذين يدّعون مُلكية الدين
المغتصب هو أنت/ أنتم
بالعودة إلى طرح فانون حول إعادة إحياء الذاكرة "للأساطير القديمة": "تُفسَّر الأساطير القديمة في ضوء مقاربات جمالية مستعارة، ومفهوم عن العالم يُكتشف تحت سماء غريبة" (1967، ص. 42). ضمن الأُطر التي يطرحها فانون، من بين وظائف الذاكرة أنها تُغيّر علاقتنا بالسرديات المهيمنة للتاريخ. في باكستان، يحدث هذا من خلال تأطير الدولة للدين على أنه "القصة-الأصل" للأمّة. ففي السرديات المهيمنة، الدين هو الذي يبرر وجود باكستان ويجعله ممكناً، وفي المناسبات الوطنية وأيام الذكرى، تذكّر الدولة مواطنيها بالشعار الشعبي الذي أثير في الحركات القومية قبل التقسيم: "باكستان كا ماتلاب كيا، لا إله إلا الله" (ماذا تعني باكستان؟ لا إله إلا الله).
منذ ثمانينيات القرن الماضي، صاغت الحركة النسائية في باكستان باضطراد رد فعل سياسيّ، ونظمت بشكل فعال مواجهة استخدام الدين للسيطرة على أجساد النساء. تسمح الذاكرة النسوية عن الثقافة، تلك الذاكرة التي ينطبع فيها العنف الذي تفرضه الدولة باسم الدين، لمجموعة "أوراتون مارش" لـ"تكييف" النشيد المناهض للاغتصاب، للتصدي للعنف الذي تسببه شخصيات ذات سلطة دينية كالملالي و"أصحاب" الدين في البلاد، وبالأخص هيئات الدولة. يُؤطر النشيد الذي تم إنتاجه في كراتشي أيضًا كلمات الأغاني، كجزء من حركة أكبر نحو حرية المرأة والأقليات الجندرية في البلاد:
لا نقبل هذا العنف
مُستعدّات للقتال
موازين القوّة ستتغير
وستتحرّر النساء
من بين أهداف أحد "التعديلات" التي اُدخِلَت على النشيد المناهض للاغتصاب، هو تأطيره كجزء من نداء أكبر من أجل الحرية الذي يمثله "أوراتون مارش". وهكذا، فإن النشيد المناهض للاغتصاب الذي تؤديه وتسجّله مجموعة "أوراتون مارش" الجماعية، المستوحى من شبكة عابرة للحدود القومية، من الناشطات والمُنَظِّمات النسويات، يعمل على إبطال النقد القائل بأن العلاقة مع الفكر النسوي واللغة الناشئة خارج جنوب آسيا، هي بالضرورة مدمِّرة لـلسياقات "المحلية". لذلك، فإن نقد محتوى "أوراتون مارش" باعتباره "غربيًا"، يُغفل حقيقة أن التضامن النسوي المتولّد مع الحركات والسياقات خارج حدود الدولة، لا يقتصر على التحالف مع النسويات في "الغرب". وكما يظهر النشيد المناهض للاغتصاب الذي سجلته "أوراتون مارش"، فإن إدخال الذاكرة الثقافية يمكن أن يساعد في بناء علاقات مثمرة مع الممارسة النسوية العابرة للقوميات، في نقد الأسس العنيفة للدولة القومية الذكورية.
هناك مثال آخر على الاحتجاج، كان جزءًا مهمًا من "أوراتون مارش" في 2019 و2020، وهو الاحترام الذي أظهره المشاركون لذكرى قنديل بالوش. اشتهرت قنديل بالوش، كنجمة صاعدة في وسائل التواصل الاجتماعي في باكستان، بمقاطع الفيديو الخاصة بها ومحتواها، حيث ناقشت حياتها الجنسية، وعبّرت عن ميولها الجنسية علانية. في عام 2016، قُتلت قنديل بالوش في "جريمة شرف" على يد أشقّائها. وعلى الرغم من إدانة قتل قنديل، إلا أن محتوى مواقفها في وسائل التواصل الإجتماعي اُدين، كذلك في وسائل الإعلام الرئيسية. وقد استدعى إحياء ذكراها، نقد وسائل الإعلام الرئيسية والنقّاد الذين هاجموا تعبيرها عن جنسانيتها، بحجة أنها لا تستحق إحياء ذكراها "كأيقونة"، بسبب طبيعة محتوى مواقفها. وبالتالي، تمّ تصنيف قنديل أيضًا في وسائل الإعلام الرئيسية على أنها ذات تأثير ثقافي "سيّء". لقد تبيّن من التكريم الذي منحته مشاركات "أوراتون مارش" لقنديل، أنه في الوقت الذي لم تُفسِح فيه "القيم الثقافية" مجالاً لقنديل، فقد كان من المهم ردّ اعتبارها في حياتها وموتها والتذكير بأن قصتها قائمة ضمن أُطر الثقافة الباكستانية، فحياتها شهادة على تقاليد ترفيهية تستلهم منها النساء، وموتها دليلٌ على آلية عمل الثقافة وأحكامها المُختلفة، التي تهدف دوماً إلى إدانة مُشاركة المرأة في عملية تشكيل الخطاب العام.
في عامي 2019 و 2020، ارتدى المشاركون في "أوراتون مارش" قناع قنديل بالوش على وجوههم، تكريمًا لإرث قنديل. تُحيي الذاكرة النسوية "قنديل" من خلال التركيز على شجاعتها وتفرّدها الذي أنعكس من خلال المحتوى الذي أنتجته، وأفسح المجال لخطاب حول الجنسانية في باكستان. وفي لاهور، أثناء أداء النشيد المناهض للاغتصاب الذي تمّ تعديله لجمهور"أوراتون مارش"، ارتدى المشاركون قناع قنديل بالوش أثناء الغناء. وفي صفحتها على "إنستاغرام" تتذكّر "أوراتون مارش" قنديل كالتالي: "قنديل بلوش ستحيا كرمز لما نكافح من أجله، وهو أن نعيش بشروطنا وأن نحتلّ الفضاء الرقمي، لا أن تحاصرنا شرطة الآداب فيه. نشكركِ يا قنديل على أنك مهّدت لنا الطريق". وبهذه الطريقة يُعاد بناء سردية قنديل في مواجهة فضاء الإعلام السائد/ العام، ويأتي التعبير عن الثقافة (المجتمعية) إلى المقدمة على أنها عنيفةٌ ومقيِّدةٌ ومستثمِرة في القمع الأخلاقي.
وكجزء من حملتها لعام 2020، بدأت مجموعة "أوراتون مارش" حملة "المسيرة من الألف إلى الياء"، بهدف مخاطبة جمهور أكبر للتوعية بما تمثله المسيرة. وكجزء من هذه المبادرة "من الألف إلى الياء"، دعا الفريق مصممي جرافيك وفنانين لتطوير مُفردات لـ"أوراتون مارش" كأبجدية يمكن أن تكون بمثابة مقدمة للحملة الأكبر، من خلال الإشارة الصريحة إلى السياسة الباكستانية والتاريخ بالعامية المحلية. تمّ إقران كل حرف بكلمة كانت جزءًا لا يتجزّأ من روح "أوراتون مارش": حيث ط: ترمز إلى الطلاق. أ: إنتهاك، للانتهاك والاعتداء المُتمثل بسياسات تخفيض الأجور، التي تنتهجها والتي من شأنها أن تزيد مصاعب ومعوقات حياتية للنساء المُنتميات للطبقة العاملة. و س: تُشير إلى كلمة سنوالي، أي الناس ذوي البشرة الداكنة، حيث تنتشر سياسات التمييز العنصري ضد ذوي البشرة الداكنة في جنوب آسيا وتحديداً النساء، لأنها تُحدد مجرى حياتهنّ.
هذا التاريخ الأبجدي للفكر والممارسات النسوية في باكستان، بمثابة تذكير قوي بأن التقاليد الراديكالية تشكّل جزءًا من سياسات البلد، ولا يمكن رفضها باعتبارها مستوردًا "غربيًا". على سبيل المثال، يشير الحرف "ز" في هذا التاريخ المرتّب بالأبجدية إلى المراسيم القانونية المتعلّقة بالزنا، أو القوانين التي تمّ وضعها في نظام الجنرال ضياء الحق في باكستان، والتي بموجبها يمكن محاكمة النساء أو توجيه تهم جنائية لهنّ بسبب تعرضهنّ للاعتداء الجنسي. عند وضع رسم توضيحي للمراسيم القانونية المتعلقة بالزنا على "تويتر" و"إنستاغرام"، أشار فريق "أوراتون مارش" صراحةً إلى الادعاء بأن النسوية كانت "مفهومًا غربيًا". غرّدت المجموعة، "من الغريب أن يطلق الرافضون للنسوية في باكستان عليها أنها "مفهوم غربي"، في حين أن تاريخ بلدنا هو شهادة على نضال المرأة من أجل المساواة".
- 1. https://www.facebook.com/auratmarchlahore/posts/592942244514574
- 2. https://twitter.com/ammarrashidt/status/972531153918939136?lang=en
- 3. هنا نشدّد على الإشارة إلى المفهوم الفانونيّ Fanonian لـ "المثقّف العضوي" كما ورد في عمل الكاتب اليساريّ، (في سؤال الثقافة القومية – معذّبو الأرض)، وذلك لتفادي خلطها بالمفهوم الغرامشي Gramscian للمصطلح نفسه. (مديرة الترجمة)
- 4. ترجمة هذا الاقتباس غير عائدة إلى أي نصّ عربيّ مترجم سابق. (مديرة الترجمة)
- 5. أو وجوده أو ماهيّته أو ماهيّة وجوده.
- 6. أو باستخدام تمرحليّة فانون.
- 7. ضمير الجماعة المستتر هنا عائد إلى الشعوب المستعمَرَة.
- 8. "طرق جديدة للنظر إلى العالم تُخلق" – ترجمة مباشرة.
- 9. وهو مفهوم غربيّ المنشأ يقدّم نموذجًا محدّدا لبنية الأسرة والتوزيع الجندري داخل منزل الأسرى "الصالحة". يتضمن ذلك قيماً معينة عن الأفعال والطباع والمظاهر الأنثوية التي لا بد للمرأة المنزلية التحلي بها، إن النموذج المطروح هو شكل من أشكال التدجين الإجتماعي الرأسمالي. (مديرة الترجمة)
Ali, K. A. (2004). “'Pulp Fictions': Reading Pakistani Domesticity." Social Text, 22(1), 123–145. https://doi.org/10.1215/01642472-22-1_78-123
Anderson, B. (1983). Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. Revised edition. London: Verso.
Banerjee, S. M. (2002). “Debates on Domesticity and the Position of Women in Late Colonial India.” History Compass, 8(6): 455–73. https://doi.org/10.1111/j.1478-0542.2010.00688.x.
Bhabha, H. (1990). Nation and Narration. London: Routledge.
Bhutto, A. A. (2020). "Feminism: is it about modernity or cultural invasion." Parliament Times. September 8. https://www.dailyparliamenttimes.com/2020/09/08/feminism-is-it-about-mod...
Das, V. (2007). “The Figure of the Abducted Woman: The Citizen as Sexed.” Life and Words. Berkeley: University of California Press, 18–37. https://doi.org/10.1525/9780520939530-003.
Fanon, F. (1966). The Wretched of the Earth. 1st Evergreen ed. New York: Grove Press.
Hirsch, M., and Smith, V. (2002). “Feminism and Cultural Memory: An Introduction.” Signs: Journal of Women in Culture and Society, 28(1): 1–19. https://doi.org/10.1086/340890.
Hum Auratain. (2020). Aurat March. Retrieved from Facebook.
Javed, T. (2014). Chastising Urdu. The Friday Times. March 7. https://www.thefridaytimes.com/chastising-urdu/
Khan, M. W. (2019). "Pakistani Adab Aik Sawal." Ahmad Bilal Awan Bazm-e-Adab series. Lahore: The Gurmani Centre for Languages and Literature, April 5. https://www.youtube.com/watch?v=BQ7zr7GrBbg&t=870s
Minai, N., & Shroff, S. (2019). "Yaariyan, Baithak, Gupshup: Queer Feminist Formations in the Global South." Kohl: a Journal for Body and Gender Research, 5(1), 31–44. https://kohljournal.press/yaariyan
Mohanty, C. T. (2000). Under Western Eyes. Theories of Race and Racism. London: Routledge, 326–47. https://doi.org/10.4324/9780203005972-35.