كيف تؤثّر بروباغندا الدولة المصرية على الذات الذكورية وتُشكّلها؟

السيرة: 

مترجمة ومدرسة لغة انجليزية وعربية للمستوى المدرسي.

اقتباس: 
لينا ع.. "كيف تؤثّر بروباغندا الدولة المصرية على الذات الذكورية وتُشكّلها؟". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 2 (24 نوفمبر 2021): ص. 6-6. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 29 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/325.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

أدهم سليم هو باحث وكاتب يعمل حالياً مديراً لتحرير منصة "الأركيلوغ" للنشر والترجمة.

باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.

haneen_nazzal_22

حنين نزّال

في أعقاب ثورة 2011 وانتخاب عبد الفتاح السيسي كرئيسٍ للجمهورية عام 2014، كثّفت الدولة المصرية جهودها على صُعُد البروباغندا المختلفة، مستهدفةً خلق حالةٍ من القبول والدعم للدولة العسكرية (العيسوي 2014: 30) وذراعها البوليسي. أحد أهمّ الآثار المترتّبة على هذه الجهود كان تأصيل الميول الذكورية لدى المجتمع والدولة في مصر. بتحليل بروباغندا الدولة ومفهوم الذات الذكورية في مصر وباعتبار عددٍ من الملاحظات المباشرة، سأتناول في هذا المقال البروباغندا الرسمية في ظل نظام السيسي وكيفية تأثيرها على أفكارنا حول ما يُفترض أن يكون عليه الرجل المصري النموذجي. ما أعنيه هنا بالبروباغندا هو "المحاولة الحثيثة والمنظّمة لتشكيل الأفكار والتلاعب بالإدراك وتوجيه السلوك بما يعزّز الأهداف المرجوّة لصاحب المحاولة" (جويت وأودونيل 2018: 267). ربما يتعذّر تعيين ذلك على وجه الدقّة في نظامٍ يرقب كل كبيرةٍ وصغيرةٍ ويمسك بزمامها. إلا أن نشر المعلومة ينطوي دائمًا على درجةٍ ما من التأطير، تتضمن اختيارًا واعيًا لما سيُذكر أو سيُحذف منها وفق تصور مفاهيمي معرفيٍ مسبقٍ أو بنيةٍ اجتماعيةٍ معيّنة (شويفله 1999: 106). على المستوى الصحافي، تركّز وسائل الإعلام الخاصة عادةً على نقل الخبر بشكلٍ يضمن زيادة المتابعين، فنادرًا ما تسوق صياغته بعيدًا عن السرديات السائدة. ولا ينفصل ذلك عن انحيازات الصحفي وميوله الشخصية أو محاولاته عن قصدٍ أو دون قصد للالتزام بالسياسة التحريرية لمؤسسته. لا يشي بذلك أكثر من الندرة اللافتة للأصوات المعارضة في المشهد الإعلامي المصري، الرسمي منه والخاص، على اتساعه.

وإن كان الإعلام الخاص مهتمّاً بالرواج والربح، فالإعلام الرسمي منصبٌّ على ما فيه مصلحة الدولة. يعني ذلك أن إعلام الدولة عندما يجيز نشر واقع سلبيّ على سبيل المثال، فإنما ينشره لنفض مسؤوليته عنه وإبراز دوره في إصلاحه. لن أقف هنا على ذكر وسائل الإعلام المستقلّ، فهي قليلةٌ جدًا في مصر وتخضع بشكلٍ متواصلٍ للقمع والإسكات (كما في حالة "مدى مصر" على سبيل المثال). ومن نافل القول أن نذكر أن الإعلام المستقلّ في مصر قاصرٌ عن تحريك الرأي العام، وليس من اعتبارٍ يُذكر لدوره في مواجهة بروباغندا الدولة. في ظل إعلامٍ كهذا، خاضع لعصا الدولة ومقصّ رقيبها، ما الذي يمكن أن نسمّيه إذًا بروباغندا؟ أشير هنا إلى الدعايات المتلفزة واللوحات الإعلانية والمقالات الصحافية التي تتناول بشكلٍ مباشر أمجاد وإنجازات الدولة المصرية وجيشها. تستهدف هذه المواد عادةً حشد الدعم والتعاطف مع الدولة والجيش عبر تنمية الشعور بالفخر إزاء هذه الأمجاد والإنجازات من ناحية، ونشر الإيحاء بالأمان في ظل مظاهر القوة المستجدّة تلك من ناحيةٍ أخرى. تجدر الإشارة إلى ذلك لا سيّما بالنظر إلى أن مشهد الإطاحة بالرئيس المصري عقب مظاهراتٍ حاشدةٍ كان قد تكرر سلفاً في سنتين متتاليتين. بالمقابل، كان الجيش ورجالاته الأقوياء هم المتكرر الوحيد الذي استمر دون انقطاعٍ منذ استقلال مصر عن الاستعمار البريطاني. وهنا تكمن أهمية مثل هذه الرسائل التوجيهية التي تتناول الأمجاد والإنجازات في مواجهة الحنق الشعبي الواضح على السلطة الحاكمة.

بخلاف الإعلام الصحافي، نجحت الدولة أيضًا في اختراق محطات الإعلام الترفيهي الخاصة التي تبثّ عبر الأقمار الاصطناعية. ولا تقتصر الدعايات المتلفزة في هذه المحطات على ذكر إنجازات الجيش المصري، بل تتوسع لتشمل مشاريعه للتطوير العقاري والتي تضاهي مثيلاتها لدى كبار المطوّرين العقاريين. تدمغ هذه المحطات الركن الأيسر من شاشاتها بوسم "الجمهورية الجديدة". وكأنها، لا شعوريًا، تبثّ إلينا الحضور المتصل لهذا الكيان الجديد الأكثر مالًا وعتيًّا. أصبح ذلك واضحًا في الفترة الأخيرة مع الموجة المتلاحقة من أعمال الدراما الرمضانية باهظة الإنتاج، كمسلسل "الاختيار"، والتي تصوّر إنجازات وانتصارات جهاز أمن الدولة ضد أعدائه من جماعة الإخوان المسلمين. نلحظ في هذه الأعمال الدرامية البطل كرجلٍ قويٍّ وذكيٍّ ومحبٍّ لوطنه و متماهٍ بشكلٍ أو بآخر مع الدولة.

بعد وصول السيسي إلى سدّة الرئاسة، كان لزامًا على الجيش المصري أن يعيد إنتاج صورته بشكلٍ مفارق للنخبة التكنوقراطية الشركاتية التي حكمت في ظلّ مبارك و"الحزب الوطني الديموقراطي" والتي أطيح بها في شباط/ فبراير 2011. كان لزامًا أيضًا على النظام الجديد أن يظهر عداءه المستحكم لجماعة الإخوان المسلمين التي أوصلت محمد مرسي رئيسًا لسنةٍ واحدةٍ قبل الإطاحة به في حزيران/ يونيو 2013. لخلق هذا الفصل في المخيّلة الجمعية، كان من الضروري إبراز الوجه الرعائي للقوات المسلّحة. حملت اللوحات الإعلانية حينها صورًا لرجال الجيش وهم يحتضنون الأطفال وتغمرهم قبلات الأمّهات (خصوصًا في محيط معسكرات التدريب على عددٍ من الطرق الرئيسية كالطريق الدائري بالقاهرة). استهدفت تلك الصور إشاعة انطباعٍ عن الجيش كحامي الشعب وداعم ثورته ضد مبارك. تعزّزت هذه الصورة عشية الإطاحة بمرسي ووصم الإخوان المسلمين بتهم الإرهاب والعمالة والتخطيط للاستئثار بالسلطة. تحوّل "الإخوان" إلى تهديدٍ يَسهُل للنظام العسكري التذّرع به لخلق حالةٍ من الهلع تمكّنه من إحكام قبضته على البلاد. بخلقها لهذا الآخر "الإرهابي"، عمدت البروباغندا الدولتية إلى توظيف سردياتٍ سابقةٍ للإيحاء باستمرارية نظام عبد الناصر العسكري لكسب التأييد والتعاطف (فان بيلدت 2015: 260). كان من المهم استحضار اللحظة التاريخية التي بدأ فيها الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين، والتي يبدو عندها هذا الصراع في نسخته المعاصرة كجزءٍ أصيلٍ من مشروع الدولة الوطنية المصرية1(المرجع نفسه: 271).

كانت تلك لحظةً فاصلةً بين شكلين متمايزين للذكورة. إذ شهد مفهوم المصريين عن الذكورة العديد من التحوّلات التي أتت كاستجابةٍ لتحركات الدولة إبّان الثورة والسنوات التي تلتها. في غمار الأحداث التي شهدتها تلك الفترة، خرجت ناشطةٌ نسويةٌ ونادت المصريين أن "اظهروا شرفكم ورجولتكم وانزلوا إلى ميدان التحرير، وإلا فقد خنتم الأمّة كما خانها من قبلكم الرئيس ورجال الشرطة" (محفوظ 2011، حسبما ورد نصه في عمّار 2011: 301). خلال القرن العشرين وبداية النضال ضد الاستعمار، ارتبطت الذكورة عند المصريين بمفهومهم عن الأمّة. وخلال الثورة اتسعت الهوّة الفاصلة بين الأمّة والحكومة، بحيث أصبحت مواجهة الحكومة ضرورةً وطنيةً لنصرة الأمّة. إلا أن كثيرًا من الرجال في مصر لم ينجحوا في تجاوز النظرة الاستشراقية والاستعمارية الجديدة للذكورة والتي ترى الذكور الشرقيين دائمًا بمثابة رعاعٍ خطرين (عمار 2011: 301). وهو ما حدا أيضًا بكثيرٍ من معارضي الثورة في أيامها الأولى والإعلام الرسمي إلى وصف الثوار بالبلطجية، في الوقت الذي عمدت فيه الدولة إلى استئجار البلطجية ودسّهم بين الصفوف لتخريب سلمية التظاهرات. استحال هذا الصدع بين مفهومي الذكورة السابقين، الذَكر كمُدافعٍ عن الأمّة والذَكر كبلطجيٍ مهدّدٍ لها، إلى صراعٍ حول الفضاء العام والحق في استعمال العنف (للقمع أو المقاومة أو الحماية) ووطنية المقاصد بين من يريد خير البلاد ومن يريد خير نفسه.

أصبح التنافس على تمثيل الذكر المصري الأصيل موضوعًا متكررًا للنقاش حول التحرّش الجنسي والعنف الجندري. وبينما أمل البعض أن تخلق الثورة حسّاً بالتضامن بين الأطياف الجندرية المختلفة، واصلت الدولة ممارسة العنف الجنسي ضد المتظاهرين والمتظاهرات، على اختلاف مداه في الحالتين. فاستُهدِف الرجال المسؤولون عن حماية المتظاهرات من التحرّش الجنسي هم أنفسهم بالتحرّش الجنسي، في مسعىً لكسر شوكتهم ورجولتهم (ميكي 2018: 102). أعادنا ذلك إلى مربع تأنيث واستضعاف ضحايا العنف الجنسي. كما خلق في الوقت ذاته التباسًا حول وجود الرجل في الجوار كمصدرٍ للأمان أو الخطر معًا، لا سيّما في عددٍ من حالات الاعتداء الجنسي الجماعي التي أفادت فيها النساء إلى تعرّضهن للاعتداء على يد من ادّعوا حينها التدخّل لحمايتهن (مركز النديم لمناهضة العنف والتعذيب 2013). كلّ من حاولن المشاركة السياسية حينها وجدن أنفسهن تحت رحمة المواطنين الذكور والأجهزة الأمنية في حلقةٍ مفرغةٍ من العنف تعيد إنتاج نفسها على مستوياتٍ عدّة من البيت إلى الشارع. يفاقم ذلك من تعقيد الذات الذكورية التي تجد نفسها في مواجهة كلّ ذاتٍ مؤنّثة. فالرجال الذين حاولوا حماية النساء من التحرّش الجنسي، تعرّضوا هُم أنفسهم للتحرش الجنسي والتأنيث بحيث دُمجوا مع النساء في مجموعةٍ واحدةٍ مستضعفةٍ ومستقبلةٍ للعنف بدلًا من النظر إليهم كأفرادٍ أقوياء قادرين على ردّ العنف أو منعه حال وقوعه. لم تترك هذه الحالةُ مُتسعاً لإيجاد ذكورةٍ مصرية خارجةٍ عن موقع العداء بالضرورة للنساء.

ارتبطت وظيفة الحماية والكفالة تقليديًا بالذكر، وهو ما انعكس تقليديًا على ما يجب أن تتصف به الأنثى من مُثُل الركون والإذعان. لذا فإن كان للدولة المصرية أن تقوم بتشكيل هوية الذكر المصري، لابدّ لها من أن تكون المتعهد الأكبر والأهم لهذه الوظيفة، وأن تعمل على تمكين المزيد من الرجال من القيام بها عبر تماهيهم معها. تعود أصول ذلك إلى بوادر المشاريع الوطنية في المنطقة التي مثّلت الوطن في صورة امرأة ينتهكها المستعمِر، والتي تمخّضت بمرور الوقت عن وجوب التسلّط على أجساد النساء وجنسانيتهن دفاعًا عن الأخلاق والشرف. "يرتكز خطاب الدولة على ضرورة ’حماية’ جنسانية النساء للذود عن شرف الأمّة وهويتها وأخلاقها. بعبارةٍ أخرى، يحوّل هذا الخطاب انتفاء سلطة النساء على أجسادهن إلى ضرورةٍ لصون ’شرف الأمّة.’ فصون هذا الشرف هو نقطة الارتكاز الأساسية للذكورة، ما يشير إليه إنلو (2014) بـ’الوطنية/ القومية الأبوية’". (ميكي 2017: 97). يظهر هذا التداخل بين أن يكون الرجل المصري وطنيًا وأن يكون ذكوريًا يمارس سلطته الحمائية على أجساد مَن حوله من النساء، وهو التداخل الذي تعتمده المخيّلة الجمعية مؤشرًا على ما يمثّله الذكر المصري.

نتيجةً لذلك، استجدّت وظيفةٌ جديدةٌ للذكر لا توجب عليه حماية المرأة من معتدٍ خارجيٍ، مجازيًا بحالة المستعمِر وجسديًا بحالة التحرّش الجنسي، بل ترى بالمقابل بضرورة حماية المرأة من فساد أفعالها. يترتب على هذه المعالجة الجندرية عدم النظر للدولة أو البيت باعتبارهما مواقع لممارسة العنف. تروّج هذه الأفكار على نطاقٍ واسعٍ وعلى مستوياتٍ عّدة من قِبل المؤسسة الأبوية لإعفاء الرجال من مسؤولية تعنيف النساء. كما تخلق هذه الأفكار حالةً من التضامن بين الرجال على اختلاف مشاربهم في المجتمع المصري، بحيث يصبح كل عنفٍ واقعٍ على النساء نتيجةً طبيعيةً لتصرفاتهن، وليس تصرفات المعتدي، سواء كان ذلك على مستوى الدولة أم الشارع. تنكمش ذكورة الرجال إذًا لا لعجزهم عن الدفاع عن النساء من تعنيف غيرهم من الرجال، بل لقناعتهم بارتكاب النساء ما استوجب الاعتداء عليهن في المقام الأول. تتعارض تلك الرغبة الذكورية في التسلّط مع احتكار الدولة الأبوية للعنف، ما يدفع الرجال لإعادة توجيه فائض التسلّط إلى حيث يمكن تصريفه، تحديدًا بالتسلّط على أجساد النساء. يعفي ذلك الرجال ممّا اقترفه غيرهم من الرجال في تراتبية العنف تلك، ويسهم في تثبيت صورتهم الذاتية كحماةٍ للعرض والشرف. تنتفي هنا الحاجة لكبح العنف الذكوري أو وضع مرتكبيه قيد المساءلة طالما أن مسؤولية هذا العنف تقع على عاتق النساء وحدهن، وهو ما يبرر مجددًا ضرورة حمايتهن من أنفسهن.

رغم ذلك، ينطوي اختزال هذا العنف إلى ديناميات الجندر وحدها على قدر من التبسيط. فهذا العنف هو وجهٌ من أوجهٍ عديدةٍ لمشروعٍ أكبر للسيطرة على إنتاج السرديات الجمعية2 وإحكام السياسات القمعية عبر حجبنا عن رؤية تعقيد تقاطعات السلطة ومفاعيلها على الأفراد:

خلال القرن الواحد والعشرين وفي عديدٍ من دول الشرق الأوسط ودوائر شأنها العام (خصوصًا مصر والمغرب وتركيا والأردن) ارتبطت عملية لَبرلة السوق بنزعاتٍ إنسانيةٍ محددةٍ تدمج الإسلام الأخلاقي دون السياسي، بأشكالٍ أكثر إنسانيةٍ من الممارسات البوليسية والأمن-دولتية. صُمّمت هذه الممارسات السلطوية المُلطَّفة لتبدو متجاوزةً للفوارق الطبقية والإثنية أو متحررةً من عبئها، بينما هي في واقع الحال مستغرقةٌ في تفاصيل الجندر المُجنّس والأخلاقيات الأمنية والمخصخصة للذات. (عمار 2011: 42).

يفتح هذا الوصف مداركنا على العلاقة بين ديناميات الدولة والبنى الجندرية لتشمل الإيديولوجيا والطبقة الاجتماعية والتمييز الإثني. كما يسمح لنا بفهم الكيفية التي يتمّ بها تقويض هذه البُنى لصالح الصورة الإنسانية للدولة كـ"حامية". التسلّط السافر على الأجساد والهويات الجندرية والميول الجنسية في هذا الإطار هو سبيل الدولة للقيام بهذه الوظيفة.

على صعيدٍ آخر، يتعذّر فهم ماهية الذكورية في مصر، والكيفية التي تحاول بها الدولة إنتاج وترويج مفهومٍ معيّن ٍعنها دون النظر إلى العلاقة بين السياسات النيوليبرالية والتسلّط على أجساد الشباب من الذكور. ففوارق الدخل التي أنتجتها السياسات النيوليبرالية تركت كثيرًا من المصريين عاجزين عن أداء واحدةٍ من أكثر الوظائف الاجتماعية اتصالًا بدورهم الجندري، ألا وهي الكفاية. في مقابل ذلك، روّجت الدولة المصرية لنسخةٍ من الذكورية تطغى عليها صفات القوة الجسدية والوطنية والامتثال للقيم الأُسرية والابتعاد عن إرهاب جماعة الإخوان المسلمين.

يمكن رؤية هذا الشكل الجديد للذكورية والذي يركّز بشكلٍ أكبر على القدرة الجسدية والولاء للدولة في مقابل القدرة الاقتصادية على المشاركة المنتجة في المجتمع أو الحرية الفردية في فيديو تخرّج طلاب أكاديمية الشرطة المصرية عام 2020 ("إيجبت إندبندنت" 2020). تُبثّ فعاليات تخرّج طلاب كليّات الشرطة في مصر تلفزيونيًا، إلا أنها عادةً ما تقتصر على عروض للضباط المتخرجين بالزي الرسمي بحضور ممثلين عن الدولة. هذه المرة كشف الضباط المتخرجون عن أجسادٍ مفتولةٍ تلمع بالزيت بينما هم منهمكون في أداء تمارين رياضية عدّة تبرز فتوّةً جسديةً تتخطّى ما قد يتطلّبه العمل الشرطي بالضرورة.

وبينما يستفحل العنف الاجتماعي على وقع استعراضات القوة الجسدية لرجال الشرطة والجيش، تزايدت كذلك مظاهر الرفاه الاقتصادي المترتب على انضمامهم إلى المؤسسات العسكرية للدولة. فشمل التطوير بنايات أقسام الشرطة التي يعملون بها في أنحاء القاهرة، كما نواديهم التي شهدت تطويراً كبيرًا مع استحداث المزيد منها وتزويده بأماكن للمناسبات الاجتماعية وملاهٍ للأطفال وبركِ السباحة لا سيّما في أرقى أحياء القاهرة كالمعادي والزمالك. ظلّت هذه الخدمات لفترةٍ طويلةٍ إبّان حكم مبارك حكرًا على أبناء الطبقات الوسطى والعليا من المجتمع المصري. تبدو الدولة المصرية الآن بمظهر من يوفّر للفقراء المحبطين من أبناء الحضر فرصة الدخول إلى ما وعدتهم به العولمة وحالت دونه السياسات النيوليبرالية التعسفية. "بحسب غنّام (8) تساعدنا التقاطعية على فهم الكيفية التي تنشأ بها الذات الذكورية بالتقاطع مع الأبوية والرأسمالية" (وهبه 2020: 84). في هذا النموذج السياسي الاقتصادي تتحول الدولة إلى المصدر الأساسي للدخل والسلطة وتتيح لأبناء الطبقات العاملة الوفاء بدورهم التقليدي في حماية وكفالة أسرهم. في هذا الشكل من الحوكمة، تعمل الدولة كذراعٍ أمنيٍ لفرض سياساتٍ نيوليبراليةٍ تعمل كعتبةٍ ضروريةٍ لبلوغ الطبقات العاملة مزايا اجتماعية سبق وأن حرمتهم منها هذه السياسات نفسها. لذا لا يمكن النظر إلى الذات المصرية الذكورية دون التفكير في تقاطعها مع الشبكات الأبوية في نوعٍ جديدٍ من الرأسمالية ترعاه الدولة العسكرية المتسلّطة.

  • 1. لفظة (antagonism) المُستخدمة في النص الأصلي لوصف العلاقة ما بين السلطات المصرية الرسمية المتعاقبة والإخوان المسلمين، وفي أماكن أخرى من جسد النص في التعبير عن العلاقة ما بين النساء والذكورة، لم يُبقى عليها بحرفيتها في طي ّهذه الصياغة العربية الحاذقة للنص. يعود اختياري الإبقاء عليها كمعالجة لغوية مفاهيمية أنها وفي أحد جوانبها تحمل تبنيا للنظرة السياسية القائلة بأن هذين النهجين السياسيين المذكورين (أو العنصرين المفاهيمين المتثلين بالنساء والذكورة والرجال...) لم يكونا وليسا على طرفي نقيض على مستوى البنيان السياسي والاجتماعي العام فيما يتعلق بكيانية الدولة، بل هما في صراع على السلطة ضمن هذه الكيانية الرأسمالية الادارية ولأجلها (مديرة الترجمة).
  • 2. ترجمة تحريرية حصيفة من طرف المُترجمين من شأنها التشديد على الاستهداف الممنهج لسمة الجمعية في السرديات السياسية الاجتماعية (مديرة الترجمة).
ملحوظات: 
المراجع: 

Jowett, Garth S. and V. O’Donnell (2018) Propaganda & Persuasion. United States of America: SAGE Publishing.

Amar, P. (2011) ‘Turning the Gendered Politics of the Security State Inside Out? Charging the Police with Sexual Harassment in Egypt,’ International Feminist Journal of Politics 13(3): 299-328.

Amar, P. (2011) ‘Middle East Masculinity Studies: Discourses of “Men in Crisis,” Industries of Gender in Revolution,’ Journal of Middle East Women’s Studies 7(3): 36-70.

Egypt Independent (2020) Video: Outlandish Egyptian police cadet graduation goes viral on social media platforms, Egypt Independent, 22 October 2020, available at: https://egyptindependent.com/video-outlandish-egyptian-police-cadet-graduation-goes-viral-on-social-media-platforms/

El Issawi, F. (2014) Egyptian Media Under Transition: In the Name of the Regime... In the Name of the People? London: Polis.

El Nadeem Center Against Violence and Torture (2013) Live Testimonies On Sexual Torture In Tahrir Square And Surrounding Neighborhoods, available at https://elnadeem.org/2013/02/01/70/?lang=en

Mecky, M (2018) ‘State Policing: Moral Panics and Masculinity in post-2011 Egypt,’ Kohl: a Journal for Body and Gender Research 4(1): 94-105.

Scheufele, D. (1999) ‘Framing as a Theory of Media Effects,’ Journal of Communication 49(1): 103-122.

Wahba, D. (2020) ‘A Thug, a Revolutionary or Both? Negotiating Masculinity in Post-Revolutionary Egypt, Middle East - Topics & Arguments 14: 56-65.

Van de Bildt, J (2015) ‘The Quest for Legitimacy in Postrevolutionary Egypt: Propaganda and Controlling Narratives,’ The Journal of the Middle East and Africa, 6(3-4): 253-274.