رحلات بين الخوف والخيريت: التفكير في الميدان من خلال الصداقة

السيرة: 

مادوليكا سنكار هي عالمة اجتماع ومدرّسة تعيش في دلهي، الهند. حصلت على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من كلية دلهي للاقتصاد، جامعة دلهي. يركّز عملها على ثقافات المدارس والتطلعات التعليمية للمرأة المسلمة في الهند المعاصرة. تكمن اهتماماتها البحثية في التقاطعات الواسعة لدراسات النوع الاجتماعي وعلم اجتماع التعليم وعلم اجتماع الإعلام. شغوفة بأساليب التدريس متعددة التخصصات والممارسات النسوية للبحوث الإثنوغرافية والكتابة.

أم وقارئة نهمة ومتابعة شغوفة للكاتبة والشاعرة النسوية فهميدا رياز. وهي حاليًا في السنة الأخيرة من دراستها الجامعية في الأدب الإنجليزي ضمن برنامج تعلّم عن بعد في الهند. تعمل بينظير على تعبئة الموارد الرقمية لتوليد الوعي تجاه تعليم الأولاد المسلمين في دلهي القديمة. تعلّم اللغة الإنجليزية والأردية لفتيات المدارس الحكومية القادمات من أحياء دلهي القديمة.

‫ ‫الملخص: 

تجمع هذه المقالة صديقتين، عالمة أنتروبولوجيا ومحاورة، كتبتا معاً كصديقتين عن كيفيّة بناء التضامن وتنظيمه في الميدان. نعود في هذه المقالة إلى الأحداث التي سبقت الاحتجاجات الشهيرة التي نظّمتها نساء مسلمات ضدّ تعديل قوانين المواطنة في الهند، عبر تتبّع جذور صداقة مليئة بالتوتّرات والمعضلات الأخلاقيّة، في هذه المقالة نقدّم لحظات شخصية عائدة لسِيَرنا الذاتية التي عادةً ما تكون مجبولة في المستجدّات السياسية. تصبح مساعينا لتوثيق تجارب عامٍ كامل مليء بالأزمات، وأرشفتها واستعادتها وسردها، متشابكةً مع رسم معالم ونسيج صداقة مليئة بالتوتّرات. استناداً إلى المحاولات المبذولة لاستعادة الممارسات المتساوية والمسؤولة لبناء المعرفة وإحيائها من خلال الائتلافات النسويّة في الجنوب (Basarudin وBhattacharya 2016؛ Nagar وGeiger 2007)، تسترشد هذه المقالة بالحاجة إلى إنتاج منهجيّات معاكسة للتيّار من خلال التضامن والكتابة المشتركة والالتزام المتبادل، إذ نحاول زعزعة الصورة الكلاسيكيّة للمراقِب-المراقَب، ونتشارك في كتابة التجارب التي جمعتنا معاً. نتيجة التزامنا بإجراء نقد فكري لمجمل مسارنا النضالي النسوي، نشدّد على الحاجة إلى الاعتراف بالمخاطر والهشاشة والعمل العاطفي ودمجهم في المنهج الأنتروبولوجي والعلاقات اليوميّة. أثناء الكتابة عن الأزمات وتيّاراتها التحتيّة والخفيّة المختلفة، وكوننا صديقتين ونتشارك في الكتابة، عشنا صراعاً مع قضايا المواطنة والهويّة والوجود والانتماء والإصرار والمعاناة ومحو المسلمين في الهند.

اقتباس: 
مادوليكا سنكار، بينظير رقية. "رحلات بين الخوف والخيريت: التفكير في الميدان من خلال الصداقة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 1 (06 سبتمبر 2021): ص. 135-151. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 22 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/303.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (731.89 كيلوبايت)
ترجمة: 

صحافية اقتصادية مستقلّة، باحثة في السياسات العامّة، مترجمة ومحرّرة. حائزة على إجازة في الصحافة وماجيستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة اللبنانية، تهتمّ بقضايا الاقتصاد السياسي والجغرافيا الاقتصادية، بالإضافة إلى الفكر السياسي والأنتروبولوجيا والحركات التحرّرية والتقدّمية في التاريخ والعالم.

arabic-website-01.jpg

ديباراتي ساركار

مقدّمة

خلال المحادثات العديدة التي أُجريت أثناء التخطيط لكتابة هذه المقالة، شعرنا بحيرة ومتعة على حدّ سواء نتيجة تكرار ظهور كلمتين في الرسائل الإلكترونيّة المتبادلة بيننا خلال العام 2020 وهما: Sab Khairiyat؟1 (الأمور بخير؟)، وبتنا نستخدمهما كتعبير عن نجاتنا. كان لدينا الفضول لمعرفة من بدأت باستخدامها أوّلاً، وهو أمر سهل ويمكن تتبعه مع تطوّر تقنيّات البصمات الرقميّة، ولقطات الشاشة التي باتت بمثابة فخٍّ أرشيفي. تتذكّر بينظير استخدامها التعبير للمرّة الأولى عندما استفسرت عن حالة شقيقة قريبتها المنخرطة في الاحتجاجات التي اندلعت في شاهين باغ، في دلهي، ضدّ تعديل قانون المواطنة، والتي قادتها نساء مسلمات.2 أصبحت Sab Khairiyat تعبيراً مختصراً للاطمئنان عن بعضنا. بحثنا في الملاحظات القديمة، والمحادثات غير المكتملة، التي خلقت إمكانيّات لبروز نوع مختلف من عمل الذاكرة. خلال هذا المسار البحثي، جمعنا أجزاءً متناثرة من مشاعر اليأس والفوضى وعدم اليقين التي طاردتنا. مع ذلك، سرعان ما تحوّل "النظر إلى الوراء" إلى خطّ البداية لفتح أبواب بعض الأسئلة المربكة المتعلّقة بهويّتنا. كانت هذه الأسئلة متداخلة في عوالمنا الشخصيّة ومواقعنا السياسيّة، بحيث تطلّب البحث عن إجابات لها فكّ خيوط عديدة أدّت إلى تشكّل صداقتنا. بدا أن ما عشناه في العام 2020 كان جزءاً من أزمة مستمرّة في الهند، شحنت نفسها مع بروز الوباء العالمي، ولكنّ شراراتها كانت تتصاعد على مدار السنوات القليلة الماضية. قد تبدو صداقتنا غارقة في خانة "النسويّة"، إلّا أنها نمت خلال سنوات اتسمت بكمّ الأفواه، والاضطهاد المُمارَس من الدولة، والعنف، والهشاشة، والإقصاء السياسي، والتهميش اليومي، والخوف العميق لدى المسلمين من العيش في دولة غالبيتها من الهندوس.

نظرنا إلى ظلال العام 2020؛ لقد أصبح مشروع توثيق تجارب عام كامل مليء بالأزمات، وأرشفتها واستعادتها وسردها، متشابكاً مع رسم معالم ونسيج صداقة مليئة بالتوتّرات، وهو ما تطلّب منّا تحديد كيفية تكوّن هذه الصداقة بين امرأتين منفصلتين عن العالم، حتى عندما كان التضامن يشقّ طريقهما نحو حدود بدا أنّه لا يمكن اختراقها.

في بحثنا عن إجابات غير حاسمة وغير حتميّة، قرّرنا الخوض في المهمّة الشائكة والمُضطربة المتمثّلة بوضع صداقتنا في عالم البحث الأنتروبولوجي، والعودة إلى العام 2016 حين بدأ كلّ شيء: مادوليكا هي عالمة إثنوغرافيا غير مسلمة، وبينظير هي محاورة تقيم في الحيّ الحضري في دلهي القديمة. ظهرت صداقتنا على مدار السنوات الخمس الماضية من خلال سلسلة من المواجهات الناشئة مع الهيكليّات السياسيّة والأبويّة التي ترسخّت فيها عوالمنا الشخصيّة، فخضنا الكتابة عن هذه الصداقة الناشئة في هذه العوالم الفوضويّة.

سوف يسمح لنا تشخيص الصداقة التي تجد أساساتها في البحث الإثنوغرافي، بتناول الأسئلة الحاسمة المتعلّقة باختلال موازين القوى، والمعضلات المعرفيّة، والجوانب المنهجيّة، وإمكانيّات البحث في تجاربنا اليوميّة من نظرة نسويّة انعكاسيّة. من أجل فهم الأحداث التي ولّدت السياق السياسي في الهند خلال العام 2020، لن نهرب من أي مراجعة نقديّة عبر التذّرع بتحديدنا المسبق لهويّة أخويّة تعتمد على فهم أساسي للنسويّة، بل سوف نكشف عن الانعكاسات القصصيّة والحميمية والسير الذاتيّة التي تبرز من خلال تمزّق مواقفنا واستمراريتها. نستكشف في هذه المقالة إمكانيّات التعامل مع الأنماط العلائقية والجماعية والتعاونية والعاطفية لإنتاج المعرفة (Minai وShroff 2019). وبالتالي، في هذه الأخلاقيّات النسويّة المُتداخلة وغير الاستعماريّة للحرص والرعاية، نجد طريقة مختلفة للتعامل مع الممارسات العمليّة لخلق المعنى وتوثيق المعرفة ونشرها.

نجتمع كصديقتين لكتابة هذه المقالة، لكننا في الوقت نفسه نضع أنفسنا في مواقع مُتمايزة لمعاينة المعاملة بالمثل والعلاقة مع المعرفة الإثنوغرافيّة غير المركزيّة. ننخرط خلال مسار هذه العمليّة في النقاشات النسويّة حول العمل الميداني والصداقات وسياسات الهويّة. بالعودة إلى الوراء، إلى عام مضى واتسم بالأزمات والمقاومة والثورة والمعارضة، لا نسعى للوصول إلى مكان مُحدّد، بل كلّ ما نتأمّل منه هو طرح السؤال الأساسي التالي: هل يمكن أن تصبح الصداقة أرضيّة لصياغة إثنوغرافيا للتضامن؟

ينطوي كلّ جزء من الأجزاء الثلاثة الرئيسيّة لهذه المقالة على طبقات من الخبرات والقصص المُتعددة الأفكار، والتي تهدف إلى إنتاج خليط من الرحلات العاطفيّة. نتتبع في هذه الأقسام التشكيلات والتحدّيات والصراعات وتمارين بناء التضامن من خلال التجارب الشخصية والجماعية، وعلى الرغم من إدراكنا لأهمّية الوقت ومركزيّته في استكشاف اللحظات الأرشيفيّة، إلّا أننا نهدف إلى زعزعة القدرة النهائيّة لـ "التسلسل الزمني". مع تعديل قانون المواطنة في العام 2019، وإقرار السجل الوطني للمواطنين، أتت كلمة "التسلسل الزمني" للدلالة على الخوف والاستبعاد المنهجي في المشهد السياسي الهندي.3 من هنا، يتمثّل الهدف المعلَن لهذه المقالة في تقويض التسلسل الزمني والتنافس عليه عبر نسج الأصوات والتجارب غير المنسوجة من خلال جدول زمني منظّم.

 

أصوات مختلفة تكتب معاً

لطالما كان تعريف العالم/ العالمة الأنثروبولوجي/ة، باعتباره "غريبًا/أجنبيًا" يشارك في حياة "الشعوب الأصلية" بينما يحافظ على الموضوعية والمسافة فيما يتعلق بالروابط الإثنوغرافية، محط اهتمام النقد النسوي والما بعد حداثي في الأنثروبولوجيا (كليفورد وماركوس، 1986، أحمد، 2000 وسميث، 2012). وفي حين تدعو النقاشات الانعكاسيّة إلى مواجهة التوتّرات الناشئة عن الموقف والوضعيّة في الأنتروبولوجيا، كانت درجة القرب الناتجة من العلاقات الإثنوغرافيّة معروفة جيّداً من المصنّفين في خانة المشارك-المراقب. أدّت هذه الأنماط التمثيليّة، حيث يُعتقد أن الإثنوغرافي يتمتّع بسلطة للكتابة والتأليف، إلى بروز نموذج هرمي لإنتاج المعرفة متجذّر في وجهات نظر استعماريّة.

بالاستناد إلى المحاولات المبذولة لاستعادة الممارسات المتساوية والمسؤولة لبناء المعرفة وإحيائها من خلال الائتلافات النسويّة (Smith 2012؛ Basarudin وBhattacharya 2016؛ Shroff وMinai 2019؛ Blasco وHernandez 2020)، تدفعنا الحاجة إلى إنتاج منهجيّات معاكسة للتيّار من خلال التضامن والكتابة المشتركة والالتزام المتبادل. وفي حين نضع الصداقة في المقدّمة، نحاول زعزعة الصورة الكلاسيكيّة للمراقِب-المراقَب أثناء مشاركتنا في الكتابة عن التجارب التي جمعتنا معاً.

لتنظيم منهجيّة للكتابة، بدأنا بجولة أوّلية من المحادثات أخذتا زاويتيّن مختلفتين: (أ) وجهات النظر العلمية والمعرفية، (ب) وجهات نظرنا وتوقّعاتنا الناشئة عن وضعيّة كلّ منّا.4 أمّا التحدّي الرئيسي الذي واجهناه في هذه العمليّة، فكان الحفاظ على التمايز الفردي الموجود مع خلق مساحة جماعيّة لهذه الـ"نحن" الناشئة. لا يأتي هاجس الحفاظ على هذا التمايز في أفكارنا وسرديّاتنا بهدف التخلّص من تكتيكات "التحدّث نيابة عن بعضنا" أو "نحن ضدّ هؤلاء"، بل هي محاولة لخلق أرضيّة مشتركة للتفاعل مع تجارب بعضنا والاعتراف بالاختلافات الموجودة فيما بينها. لذلك كتبنا بشكل مختلف – بينظير (ب) ومادوليكا (م) – وتركنا صوتنا الجماعي والكتابة المُشتركة يتشكّلان من خلال الحوار، ما أتاح لنا التحقيق في التداعيات السياسيّة لما تسمّيه سارة أحمد (2000) "الغرابة والصداقة" في العلاقات الإثنوغرافية.

مع بناء هذه المقالة على اللحظات الحرجة إنّما المهمّة في رحلتنا الطويلة، والتي تحوّلنا خلالها من غريبتين إلى صديقتين وسط مشهد سياسي متغيّر، كانت بينظير تستجيب لبعض المواد الإثنوغرافية التي جمعتها مادوليكا خلال العمل الميداني. وفي سياق مناقشاتنا للمقالة، استكشفنا احتمالات الاعتراف بالحوافز التي دفعتنا إلى إجراء تمرين الكتابة المشتركة. بما أن العام 2019-2020 شكّل تمثيلاً مختلفاً وجذرياً للمرأة المسلمة، تسعى بينظير إلى إيجاد الأفكار المؤاتية والمطالبة بها وتركيز كتابتها عليها، أمّا بالنسبة لمادوليكا فقد كانت التوتّرات الأنتروبولوجية، التي ترافقت مع الكشف عن نقاط الضعف والاختلافات في الوضعيّة، متشابكة مع الممارسات النسوية لبناء المعرفة. من هنا، وانطلاقاً من هذه الأفكار نتشارك في الكتابة وسط الأزمات. تنبع الدوافع الجماعية أيضاً من الحاجة إلى التحوّل من منهجيّات المعاملاتيّة إلى المنهجيّات العلائقيّة، وهو تغيير أساسي لبناء المعرفة المسؤولة (Minai وShroff 2019).

من خلال وجهات النظر العلميّة والمعرفيّة المتمايزة، نختار نهجاً مسيّساً للتعامل مع النقاشات الأوسع حول الممارسات النسوية والصداقات في الميدان، ونشارك فيها بشكل نقدي. هدفنا هو السماح لعمليّة الكتابة المشتركة أو البناء المشترك بالدخول في حوار مع سياسات التضامن. نتطرّق إلى ازدواجيّة المشاعر التي بقيت غير منظورة وغير مُقدّرة تحت ضغوط الموضوعيّة، وندافع عن الحاجة إلى تحديد موقع بناء المعرفة ضمن الفجوات والفواصل القائمة بين العواطف والأحداث والتجارب في الممارسات النسوية. تستند كتاباتنا المشتركة إلى الحاجة إلى إجراء تحوّلات ذات مغزى نحو مناهج بحث غير استعماريّة وما بعد الحداثة ونسوية.

 

الجذور

يتّسم ادّعاء الصداقات والتحالفات في الرحلات الإثنوغرافية بالخلافات والتناقضات. إذ على الرغم من التدقيق والنظرة العلمية التي تتلقّاها الصداقات والتحالفات في المجالات الإثنوغرافية، لكنّها قد تختلف عن الصداقات في الحياة اليومية العادية، وهو ما يجعل كيفيّة تشكّل الصداقة وتغذيتها أمراً مركزياً. ومع أن الصداقات لا يمكن أن تكون أحداثاً مفاجئة ومعزولة، إلّا إنها تأتي بإمكانيّات غير محدودة لتتجاوز التحذيرات الفوضوية والغامضة لوضعيّات البحث ومواقفه. وبالتالي، تتموضع الصداقات كأفعال سياسية (Basarudin وBhattacharya 2016). في هذا الجزء من المقالة، نتتبع جذور التجارب والظروف والمعتقدات التي جمعتنا معاً، خصوصاً أننا نسير عبر نقاط دخول ومفاصل معقّدة لصداقتنا خلال استعادة القصص وإعادة بنائها انطلاقاً من مواقفنا الذاتية، وكذلك نسعى لفكّ التشابك بين تفاصيل عمليّات خلق المعاني التي تتشكّل من خلال التأثير والهشاشة واستعادة سياسات التضامن التي لم تنبثق من خانات "الموضوعية" أو"من الداخل إلى الخارج" أو "أصلي وغريب".

م: بصفتي عالمة أنتروبولوجيا غير مسلمة، قابلت بينظير في المدرسة التي أدير فيها بعض البحوث. أمضيت بضعة أشهر في مدرسة الفتيات المسلمات في دلهي القديمة لإكمال عملي الميداني للدكتوراه حيث كانت بينظير تكمل دراستها. كانت معروفة بـ "نجمة المدرسة"، إذ غالباً ما كانت تُشاهَد في الممرّات وهي تناقش العمل الأكاديمي مع أقرانها. كانت هذه واحدة من أولى الانطباعات عنها، لكنّي لم أتعرّف إليها شخصياً إلّا بعد فترة وجيزة من إلقائها خطاباً قوياً في حفل التخرّج في المدرسة في أواخر كانون الثاني/ يناير 2017. تحدّثت بينظير عن كونها المرأة الأولى التي تكمل تعليمها في عائلتها، وتحدّثت عن أحلامها، ورؤيتها، وتطلّعاتها، وما كان يعنيه التعليم لها كشابّة في دلهي القديمة. في ذلك اليوم، كنت أجلس بين مائتي شخص غريب من ضمنهم أساتذتها وزملائها وموظّفين آخرين. كان الصمت المُطبق هو الردّ الأول على خطاب بينظير قبل أن يكسره تصفيق جماعي حارّ. أسرعت لتهنئتها وأنا أحمل دفتر ملاحظاتي في يدي. تبادلنا التحيّات على عجل عندما كانت تهمّ بالمغادرة إلى المنزل، وكتبت رقم هاتفي على ورقة صغيرة وأعطيتها إياها، فيما كتبت رقم هاتفها على الصفحة الأخيرة من دفتر ملاحظاتي.

ب: سمعت عن مادوليكا آبي من سعدية قريبتي الصغرى في الصف 11. أخبرتني أن آبي كانت تحضر الدروس معهن يومياً لتتعرّف أكثر إلى تعليم الفتيات المسلمات، لكن كطالبة في الصف 12 لم يكن لديّ الوقت الكافي للخروج من المكتبة. في شباط/ فبراير 2017، التقيت بآبي وتحدّثنا للمرّة الأولى خلال جلسة نقاش تجريها مع فتيات الصف 11. يومها أخذت استراحة قصيرة من جلسة الدراسة، ومشيت نحو الممرّ خارج مكتب المدير حيث رأيت مجموعة من الفتيات يجلسن معها في فصل دراسي فارغ، فقررت الانضمام إليهن. كان النقاش حول "زواج الفتيات ودراستهن في دلهي القديمة". جلست في المقعد الخلفي واكتفيت بالإصغاء. أنا من الجالية البنجابية المسلمة5 المعروفة بتزويج الفتيات مبكراً بعد فترة وجيزة من إنهائهن المدرسة. فجأة، في منتصف النقاش، التفتت إحدى الفتيات نحوي وقالت: "أنت أيضاً، قولي شيئاً من فضلك. أنت متفوّقة ومن المؤكّد أنك سوف تكملين دراستك". انفعلت قليلاً، ومن ثمّ قلت: إن شاء الله. بعد انتهاء المحادثة، مشيت مع آبي نحو بوابة المدرسة. كانت محادثتنا في ذلك اليوم مختصرة ولكن مريحة للغاية. غادرنا مع وعد بلقاء آخر بعد امتحاناتي النهائية.

قابلت آبي مجدّداً في نيسان/ أبريل 2017 بعد فترة وجيزة من انتهاء الامتحانات. التقينا لتناول الغذاء في منزلي، وتحدّثنا باستفاضة عن خططي للتعليم العالي. اقترحت أسماء بعض الكليّات القريبة من المنزل على والدتي. كانت تعلم أن والديّ متخوّفان من إكمال دراستي لأسباب مُرتبطة بتزويجي. بعبارة أخرى، لم يرغب والدي الخوض في صراع لأن ابنته أكثر تعليماً من شريكها المُحتمل، خصوصاً أن الرجال في مجتمعنا أكثر عرضة للتسرّب من المدرسة والانضمام إلى الأعمال التجارية العائلية أو العمل. بصفتي الأخت الكبرى بين أربعة أشقّاء، كانت مسألة زواجي أمراً حتمياً. وبالتالي، كان مجرّد التعبير عن مواصلة الدراسة أمراً غير مرحّب به. وسط هذه الأجواء، جاء دعم مادوليكا آبي لإكمال تعليمي العالي بمثابة أمل في مستقبل لطالما أردته. بالنسبة لكلينا، برز التعليم كبعدٍ مهمٍّ لما كنّا عليه. كنت أشاهد آبي عن كثب وهي تنجز رحلتها لاكتساب الدكتوراه، وأدركت التغيير الذي يمكن أن يجلبه "التعليم" إلى حياة المرأة. كذلك عرفت أنها كانت أيضاً المرأة الأولى في عائلتها التي تسعى للحصول على درجة الدكتوراه. لم يكن هناك أي قاسم مشترك في مسارَيْ حياتنا. لكني بالنظر إليها لم أجد يوماً أن الأمل والطموح لتحقيق أمر بسيط، أي الدراسة ومعرفة المزيد، هي من الأمور المستحيلة. ربطتنا محادثات طويلة حول ماهية أن تكوني إبنةً والجندر، وحياتي كامرأة في دلهي القديمة، والتعليم كحلم في ظلّ الظروف العائلية المُقيّدة، وغيرها من القضايا الأخرى.

عند تقاطع واقعينا المختلفين، وجدنا ملاذاً من العوالم التي كنّا نطاردها كشابّات. اتسمت حياتنا بالأطر المشتركة للمؤسسات الأبوية، حيث يتمكّن أحد من اكتساب إحساس بالإرادة والفضاء العاطفي من خلال التعليم، فيما يتطلّع الآخر إلى ذلك. ما كان شائعاً أيضاً في اعتياديّة وجودنا هو توقّع أن نصبح "ابنة صالحة"، ما يعني استمرار نقاط الضعف والهشاشة التي تطبع موقع الابنة. من هنا، أصبحت صياغة هذه الصداقة طريقة لمواجهة المعضلات الناشئة عمّا واجهناه ضمن الحياة الخاصّة والحياة العامّة. بالمعنى الأرسطي للمصطلح، كانت صداقتنا فوضوية ومقسّمة بين سجّلات متعدّدة من المتعة والدعم والرعاية والتضامن والهشاشة، وقدّمت لنا إمكانيّات إبداعية لبناء "تحالف سليم أخلاقياً وسياسياً" (Code 1991).

م: بينما كنّا نمهّد طريقنا عبر سياسة جماعية، وجدت الأمل في معرفة النضالات والمفاوضات المواكبة لتطلّعاتنا، كان واضحًا أن العالم حولنا مليء بالاختلافات. بصفتي امرأة غير مسلمة من طائفةٍ مضطهدة، ولأنه معروف عني بأني "باحثة هندوسية" في الميدان، سوف يكون من الخطأ تحديد صداقتي مع بينظير على أنها "علاقة مطهَّرة" لم تمسّها التحوّلات السياسية الحاصلة على مدى زمن. في الأيام التي التقينا فيها، كان يتصاعد العنف والأعمال الوحشيّة يومياً ضدّ المسلمين والفئات الطبقية المهمّشة في الهند6. كانت اختلافاتنا موازية للتجارب المُتناقلة التي تضع الذات الشخصية على الهامش باستمرار. علماً أن مجرّد تمكّني من التعريف عن نفسي بشكل مريح على أنني امرأة "مُتعلّمة"، "غريبة" وغير مسلمة تجري بحثاً عن التطلّعات التعليمية للمرأة المسلمة، كان يعني محو هذه السياسات التي تقوم على التهميش المشترك وإن كان مختلفاً. لذلك، ظهر فهمنا للتضامن العملي عبر الصداقة من الحاجة إلى المطالبة بتحالف سياسي مُتجذّر في الحياة اليومية.

بالرغم من أن Visweswaran (1997) يشدّد على الحاجة إلى اتباع "استراتيجيّات نزع الهوية" وتعزيزها، بدلاً من التركيز على أساسية الجندر في الإثنوغرافيا النسوية، إلّا أن تعزيز الصداقات يبقى بالغ الأهمّية لخلق أساليب تعاطفية قائمة على أسس اجتماعية وتعاونية لإنتاج المعرفة. خلال مرافقة بعضنا البعض إلى الكلّيات والمقابلات ومراكز التدريب المهني في المدينة، فتحت صداقتنا الأبواب أمام ارتباط مجتمعي نُسِج من خلال التشارك اليومي في إدارة المهمّات المسائيّة، وملء استمارات امتحان القبول، وقراءة الملاحظات التي نجمعها من الأعمال الميدانية، ما أدّى إلى توجيه الطرق التي تتيح فهم الحقائق المُعقّدة للأحياء الإسلامية في دلهي القديمة، وهو ما يعني أن التدخّلات الهادفة لبناء العلاقات لا يمكن فصلها عما نختبره في الميدان. استند استكشاف الروح النسوية والكويرية والمساواة في إجراء البحوث إلى علاقة إثنوغرافية متعددة الأفكار وذاتية.

***

أيار/ مايو 2017: ملاحظات من المجلس النسائي في مدرسة رينبو بلاي، فايزغانج، دلهي القديمة

ب: كثيراً ما تساءلت عمّا جعل مادوليكا آبي تختار موضوع تعليم النساء المسلمات. شخصياً وجدته خياراً بديهياً نظراً إلى تصوير النساء المسلمات في الهند على أن لا صوت لهن ووضعهن يرثى له، ويتحكّم الرجال بطموحاتهن التعليميّة. تُدعَّم هذه الصورة بحقيقة ضعف تمثيل واقع المرأة المسلمة في الروايات الشعبية والأماكن العلمية. لقد تمّ اختزالنا إلى أيقونات مُتجانسة، مجرّد نساء يرتدين البرقع، مضطهَدات، لدينا "عدد كبير من الأطفال" ونحتاج إلى الإنقاذ والتحرّر من الاضطهاد الديني. تماماً كما أُمسِك بي وأنا متوتّرة من كوني امرأة مسلمة في الهند. شاركت آبي شعوري بعدم الارتياح من كيفية تصوير النساء المسلمات في المُخيّلة الشعبية.

في أيار/ مايو 2017، نظّمت إيلما، شقيقة قريبتي، جلسة للإرشاد التربوي في الروضة التي تديرها عائلتها. خطّطت أنا وإيلما معاً، وساعدتنا مادوليكا آبي في التعبئة من خلال إعداد الملصقات والرسائل. شارك نحو 50 امرأة من أحياء مختلفة من دلهي القديمة، أتين لطلب المساعدة فيما يتعلّق بتعليم أطفالهن. بالنسبة لي، كانت لحظة مثيرة للاهتمام، لا سيّما أن هؤلاء النساء مُتسرّبات من المدرسة، وربّات بيوت، وأمّهات عازبات. والأهم من ذلك، أنهن مسلمات اعتقدت الدولة أنهن مُثقلات بثلاثيّة الطلاق. أصبحت التطلّعات لاكتساب التعليم نقطة التقاء لفئات متنوّعة وطوائف عدّة من النساء المسلمات، وأيضاً مدخلاً لكسر أسطورة "المجتمع" المشترك. اجتمعنا للدفاع عن جودة التعليم في المدارس التي تديرها منظّمات الأقليّات. لم يكن مستغرباً أن نسمع الأمّهات يتحدّثن عن كيفية تعرّض أطفالهن للتنمّر والمضايقة بشأن "أكل لحوم البقر" في المدارس المختلطة، كوننا نعلم سبب الميل القوى نحو المدارس التي تديرها المنظّمات الإسلامية. كان بعض النساء يرسلن أطفالهن إلى المدارس الحكوميّة، فيما لم يملك العديد منهن إمكانية إرسال أطفالهن إلى مدارس إنكليزية خاصّة. يعود ذلك أيضاً إلى الطبقة المختلطة والبنية الطبقية بين المجتمع المسلم في دلهي القديمة. مع ذلك، كنّا جزءاً من "المجتمع المسلم" الفوضوي والمُكتظ في المُخيّلة العادية للغرباء. لنتمكّن من فهم هذه الاختلافات، دخلنا في مرحلة تفكيك الذات باعتباره موضوعاً ينتظر الإنقاذ منذ الفترة الاستعمارية. كانت فترة ما بعد الظهيرة في مدرسة راينبو إحدى أكثر الأوقات ازدحاماً التي مررت بها بعد انتهاء المدرسة، وأيضاً أكثرها قدرة على الشفاء. فيما كنت أعاني لإيجاد الوجهة المناسبة لمتابعة دراستي، ولرؤية النساء الأخريات والاستماع إلى العوامل التي تقيّدهن، فجأة عقدت العزم على استخدام التعبئة والمناصرة ضمن المُجتمع بغية خلق وعي خلّاق فيما يتعلق بالتربية. لم يكن هدفنا القيام بثورة كبرى من خلال التلاقي، بل استصلاح ما تمّ انتزاعه من حياتنا اليومية. في وقت لاحق من ذلك المساء، شاركت مادوليكا آبي ملاحظاتها الشاملة من الاجتماع وأعدّينا خطّة المجلس المقبل.

ساعدتنا تجاربنا على تحديد مواقع الشبكات وبنائها بين النساء، إلى التبحّر ضمن التسلسلات الهرمية التي تنظّم وجودنا. في عمل مادوليكا الإثنوغرافي، وفي مبادرات بينظير للتوعية المُجتمعية، شكّل الصراع مع قضايا الاختلاف والامتياز والسلطة مزيجاً من محادثات مُثمرة حول الممارسات النسوية العملانية. أصبحت الصداقة، كتحليل للسياسة، مُتشابكة مع المعضلات المفاهيمية والأخلاقية والسياسية التي واجهناها في الحياة اليومية. كلّما واجهنا هذه المعضلات، ازدادت الرغبة في التعبير عن الهويّة المُرتبطة بالسياسة المتغيّرة. أصبحت الحاجة المستمرّة إلى النضال من أجل التضامن، من دون افتراضه تبعاً للاختلافات المُطلقة بيننا، أمراً محورياً لمشاركتنا النسوية. تقاطعت رحلاتنا الفردية، إنّما المُتصلة، مع مسارات العديد من النساء الأخريات في دلهي القديمة. أصبح لقاء النساء المسلمات والاستماع إلى تجاربهن بمثابة القراءة المضادّة للصورة المتخيّلة والمهيمنة عن كونهن خاضعات وبلا صوت في العالمين الشخصي والسياسي. فضلاً عن أن المحادثة وتبادل الخبرات والروايات والتفكير ساهمت في كسر الصمت، وتقدير النساء اللواتي تعرّفنا عليهن من خلال بعضنا البعض، ومع بعضنا البعض، وظهرت كتمرين لبناء الثقة.

 

التمزّق والتعافي

شكّلت تجربة التناغم والاستجابة لحياة بعضنا البعض، وتطوّر علاقتنا من غريبتين إلى صديقتين، بُعداً عاطفياً مهمّاً للأنماط العملية للتضامن الذي نهدف إلى اتباعه وممارسته. مع ذلك، لا يتكشّف تبادل العواطف بالضرورة كشراكة استراتيجيّة وموجّهة نحو الهدف، بل يكمن طابعه العضوي والعملي في المنعطفات العاطفية والضعيفة التي يواجهها الأفراد معاً. طبعاً، لا نعتزم المبالغة في تقدير الرابطة العاطفية التي نشأت، لأن العلاقات في الميدان محفوفة بالتناقض والغموض الناشئ عن اللحظات المتضاربة والتمزّق، لكن التوجيه الذي حصلنا عليه بفعل علاقات الزمالة، جعل من الصعب التعامل مع معضلات التوتّرات والفشل في مواجهة الهيكليات الديموقراطية المتهاوية. بدت لنا هذه التصدّعات، وفق ما يسميه Parvez (2018)، "لحظات مُلهمة" في الرحلات الإثنوغرافية، خصوصاً أن البقاء على نقيض دائم مع مشاعر الخوف، والتحلّي بالشجاعة لتأمين الرفاه والسعادة، يستدعي بذل المزيد من الجهود والالتزام بالصداقة. نضع لحظات التمزّق الشخصي والتعافي في حوار مع الصور المتخيّلة والمتغيّرة للقومية والهوية في الهند. في الواقع، لم نتمكّن من اللجوء إلى النظريات الفوكولية أو الماركسية لفهم أبعاد الاضطهاد، لذلك كنّا بحاجة إلى ممارسات تعاطفية مثل الاستماع والاحترام وشبكات الرعاية والاعتراف بالتجارب.

ملاحظات مادوليكا الميدانية، حزيران/ يونيو 2017: قبل أيام قليلة من حلول عيد الفطر، ساد صمت رهيب وكآبة مخيفة في ممرّات دلهي القديمة. امتلأت الأسواق بالحشود مع حلول المساء في الأيام الأخيرة من الشهر، إذ تجمّع الناس للتسوّق في اللحظة الأخيرة، ومع ذلك كان عدم الارتياح محسوساً، وخصوصاً من الأصوات الخافتة والهامسة. قالت امرأة لصاحب متجر في بازار شيلتي قابار الشهير بالقرب من المسجد الجامع: "كان هناك وحشية وظلم هائلين". كان الصمت يلفّ أي حديث عند ذكر جُنَيْد، وهو صبي عمره 15 سنة تعرّض لهجوم عنفي وقُتل في رحلة بالقطار في طريق عودته إلى مسقط رأسه في أوتار براديش في شمال الهند. كان جُنَيْد عائداً إلى المنزل مع إخوته بعد التسوّق للعيد عندما طُعِن على يد مجموعة من الرجال أثناء الشجار على مقعد في قطار الضواحي الذي استقلّه من دلهي. تمّ الاستهزاء بجُنَيْد وإخوته لأنهم مسلمين ويأكلون لحم البقر. عندما اجتمع الرجال المسلمون في صلاة التعزية وأكشاك الشاي والمتاجر، وشاهدوا تفاصيل مقتل جُنَيْد في مقطع فيديو التقط على هاتف محمول، انتهى بهم الأمر إلى صمت مُطبِق. انتشر الفيديو على نطاق واسع خلال الأيام القليلة الماضية. لم يكن العيد في العام 2017 كما كان دائماً، إذ ارتدى الرجال عِصَباً سوداء أثناء صلاة نماز في المسجد الجامع، وكان الغضب الجماعي يختمر تحت الصمت.

ب: إذا أردنا تتبّع تطوّرات الأزمة التي أربكت مسلمي الهند خلال أحداث ومناسبات حسّاسة، ومعاينة الردود حولها، لا شكّ أن مقتل جُنَيْد يُعتبر نقطة تحوّل مهمّة. لقد قُتل صبي مسلم في طريق عودته إلى منزله للاحتفال بالعيد مع أسرته بطريقة أصبحت مثالاً عن الوحشية التي يتعرّض لها المسلمون في الهند. على غرار جُنَيْد، أعدم أيضاً بيهلو خان (55 عاماً)، الذي يملك مزرعة ألبان في ولاية راجاستنا​​، على يد مجموعة شباب يزعمون أنهم حرّاس البقر، في نيسان/ أبريل 2017. أسبوعاً بعد أسبوع، كان الخوف غير المُبرّر يطارد العمّال المسلمين في طريقهم إلى العمل، بينما استمرّت الطبقة العليا الهندوس، أي الطبقة الوسطى في الهند، تستمتع بقصص النمو. بين نيسان/ أبريل وحزيران/ يونيو 2017 فقط، سُجِّلت 24 جريمة كراهية ضدّ المسلمين. كان نمط هذه الجرائم واضحاً وواحداً: جسد مسلم، حراسة البقر، وحشد من مجهولي الهوية. كانت التلقائيّة الطاغية على عمليّات الإعدام غير القانونية بمثابة ستار دخاني يغطّي المناورة الاستراتيجية لخطابات الكراهية. مع ذلك، عندما انتشر خبر وفاة جُنَيْد، كسر مسلمو الهند صمتهم، وشهد العيد في العام 2017 احتجاجات ومسيرات صامتة في أنحاء مختلفة من البلاد، فيما تصاعد الغضب على مجموعات الواتساب ووسائل التواصل الاجتماعي. وتحت عنوان "ليس باسمي"، شهدت نحو 16 مدينة مختلفة في الهند، خلال تموز/ يوليو 2017، احتجاجات شارك فيها مواطنون من مختلف الأطياف. ربّما يعتقد البعض أن الدعوة للاحتجاج على عمليّات الإعدام غير القانونية وجرائم الكراهية كانت تلقائية. مع ذلك، يجب عدم الوقوع في الخطأ في تحليل غضب المسلمين وتصريحاتهم واعتبارها مجرّد استجابة مفاجئة أو عشوائية على حدث مُعيّن. في الواقع، تصاعد الاستقطاب الطائفي والعنف على مدار سنوات، وبات مثيراً لقلق تغفله بقية الهند، وبالتالي كان هناك حاجة ماسّة للتعبير عن التضامن. مع ذلك، لا تملك الأسرة المسلمة العادية ما يكفي للتعامل مع هذه الأزمة، إذ كانت تعاني من الخوف والتوتّر. والدي، الذي يملك سلطة اتخاذ القرار في عائلتنا، مضى مع وجهه لتسجيل أخي الأصغر سجّاد في مدرسة الحيّ. وعلى الرغم من وجود خيارات أخرى لمتابعة دورات أفضل في مدرسة تدريب مهني في ولاية أوتار براديش المجاورة، إلّا أنه قرّر أن يكمل سجّاد تعلميه في دلهي كونها "أكثر أماناً". كان والدي يردّ بالجملة التالية عندما نبدي أي حماس للابتعاد عن المنزل للدراسة والعمل: "تذكّروا أن المسلمين الفقراء ليس لديهم أبواب ليطرقوها في هذا البلد". في ظل الفوضى التي أعقبت صيف 2017 الصعب، تساءلت عن عبثيّة الحياة وسط عمليّات الإعدام غير القانونية. مرّت أيام شعرت فيها بالدعم والتضامن، لكن التعافي بدا بعيداً وغامضاً في بعض الأحيان. لم يساعدني تعليق الآمال على التعليم لأن خياراتنا الحياتية أصبحت مُقيّدة بمفاهيم الخوف والأمان والحالات. أصبح واضحاً أن عائلتي لا تتوقّع إصراراً منّي على المضي بخطط التعليم العالي. وفيما كان العديد من زملائي في الصفوف المدرسية يجدون اتجاهات مختلفة لمواصلة التعليم، كنت أحاول صياغة ترتيب ما كي لا أُدفع للتخلّي عن طموحي. اعتبرت عائلتي أن جدّيتي كامرأة بشأن التعليم ليست إلّا "تهوراً" بالنظر إلى اضطرار سجّاد إلى تغيير خططه كرجل. نتيجة الاحتمالات القاتمة لمتابعة تعليمي العالي، اقترحت مادوليكا آبي بعض برامج التعليم عن بعد، وقد بدت جهودها بمثابة محاولات يائسة في اللحظة الأخيرة، خصوصاً عندما كانت الآمال تتلاشى تدرّجياً. شعرت بالغضب والإحباط من تأثير سياسات الهويّة والعنف على حياة الأفراد بطرق وحشية. تمّ التعامل مع سلامتي الشخصية وأمني على أنهما من مسؤولية والدي، واعتُبِرت أي خطط لمتابعة تعليمي بمثابة تهديد لهذه المسؤولية الأبوية. كانت والدتي، التي تزوّجت عندما كانت في الصف التاسع، تعرف ما يعنيه التعليم بالنسبة لي، لكن لم يكن باستطاعتها شيئاً في عائلة محكومة بالسلطة الأبويّة وفي أمة في حالة من الكرب. كنت أتحدّث لساعات مع آبي عندما يشتدّ شعوري بالضيق بحثاً عن سبل للتعافي من الغضب الناجم عن الامتثال.

يحمل كلّ من الفوضى والغموض التعريفي للعواطف في حياتنا خصوصية ثقافية وسيرة ذاتية (Parvez 2018). مع ذلك، عزّزت الهشاشة والأبعاد العاطفية لتجاربنا المشاعر الحميميّة، ما فتح الأبواب للتعرّف إلى عمليّات التضامن، وتطوير فهم أعمق لها، في وقت بقي السياق الاجتماعي والسياسي لوجودنا متصدّعاً. استمرّت موجات الإعدام غير القانونية وعمليات العنف والضرب في الأشهر التالية. بعد عام تحديداً على مقتل جُنَيْد، وفي غضون أسبوع، قُتل أربعة رجال مسلمين بسبب شائعات عن عملهم في تجارة الأبقار. قُتل قاسم قريشي في بلدة هابور في ولاية أوتار براديش، وسراب الدين أنصاري، ومرتضى أنصاري، وتوحيد أنصاري في جهاركاند على يدّ مجموعات من حراسة الأبقار، كانت "غاضبة" من سرقة الماشية. لم تكن وحشيّة عمليّات الإعدام غير القانونية جديدة على شبه القارة الهندية. سبق أن وصِفت النساء بالساحرات، وتمّ نبذهن لسلخهن الماشية، أو لتربية شواربهن، أو لركوب الخيل إلى حفل زفافهن، أو لتجرّوئهن على شرب الماء من "بئر تابع لطبقة عليا". في الواقع، لطالما استهدف الإعدام غير القانوني أضعف الرعايا. ترافقت هذه الوحشية المروعة مع غياب مطلق للضمير والعدالة، وهو ما أعادنا إلى دور التضامن والتحالفات السياسية والمقاومة وتأثيراتها. بقدر ما شعرنا بالقيود المفروضة علينا بسبب ما حدث في السياسة، أعدنا التأمّل في العثرات والإخفاقات التي طبعت عملنا النسوي.

م: الطريق إلى العمل الميداني والإثنوغرافيا السنوية مليء بالمعضلات الناشئة، بشكل خاص، من الديناميكيّات الزمنية والعاطفية بين العالم الإثنوغرافي والمشاركين. وتصبح هذه المعضلات ذات طبقات أكثر تراصّاً عندما يحاول الإثنوغرافي تجاوز الحدود التقليدية للوضعيّات والهويات. لقد أشار الدور الانعكاسي في الأنتروبولوجيا، منذ فترة طويلة، إلى عدم قدرة الفئات الخارجية في الداخل على فهم الحقائق الدقيقة للمجتمعات (Behar 1993). يؤكّد Stacey (1991) على مخاطر وأخطار الاستغلال، التي تأتي مع عالمات الإثنوغرافيا النسوية، وتتم على أساس "الاحترام المتبادل والعاطفة". بمعزل عن عمق صداقتي مع بينظير، كانت هناك دائماً معضلات أكيدة مع الخيانة والتلاعب، وتفاقمت خلال كتابة الأطروحة. نما أيضاً التباين الأخلاقي لكوني عالمة إثنوغرافيا تحاول فهم الرحلات المختلفة في العوالم الشخصية والسياسية. جاء الامتياز النسبي لإنتاج السياقات والكتابة عن الحياة الحميمة التي يمكن تداولها وقراءتها على حساب تقويض وإسكات العلاقات المتجسّدة في الصداقات والتضامن. إن الفراغ والاكتئاب الناتجَين عن إنهاء العمل الميداني، للتفكير في الرحلات الحميمة للشابّات، امتدّ إلى مرحلة العزلة خلال الكتابة الأكاديمية. كنت ارتجف عند التفكير في احتمال وقوعي في شرك نظريّة المعرفة الأنتروبولوجية، إذ يتوقّع من عالم الإثنوغرافيا أن يطفئ المُسجّلة ويخرج من الميدان في الوقت المناسب. في الوقت نفسه، كان على الارتباطات العاطفية أن تجتاز اختبار المساءلة الأخلاقية خصوصاً أن خطر الوقوع في المبالغة أو الرومانسية بقي قائماً. بالنسبة لعلماء الأنتروبولوجيا، إن الالتزام والمسؤولية "للتفكير بشكل حاسم في تأثير الصور القاسية للمعاناة الإنسانية"، التي فُرِضت على الأماكن العامّة، هو أمر لصيق بالموضوع (Schepher-Hughes 1995: 416). بالتالي، أصبح الانسحاب من العمل الميداني للكتابة عنه غارقاً في إشكاليّة تمكّني، بصفتي عالمة إثنوغرافيا نسوية في الجنوب، من التنقّل بين الفضائين الشخصي والمهني مع الحفاظ على مبدأيْ المساءلة والمسؤولية الجماعية.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، اتخذ كفاح بينظير لتحقيق حلمها في متابعة التعليم العالي منعطفاً غير مفاجئ بزواجها. كانت عائلة العريس من الأقارب البعيدين الذين تعرفهم عائلتها من خلال شبكات مجموعة الأقارب. مع مرور بضعة أشهر على تسجيلها في برنامج التعلّم عن بعد، كانت حتميّة الزواج واضحة لكلينا. لقد عزّزنا صداقتنا من خلال تبادل الكتب خلال عطلات نهاية الأسبوع أو التواصل كلّما زارت منزل أهلها. ومع استمرارها في دورة التعليم عن بعد، حاولنا أن نلتقي في كثير من الأحيان لتنظيم مواد القراءة والكتب الدراسية قبل امتحانات الفصل الدراسي. لكن بعدما اتخذت بينظير قرار خوض تجربة الأمومة، باتت تتحدّث غالباً عن شعور بالذنب لقبولها بما ألقي في طريقها بسهولة. توقّفت خططها للشروع في التعبئة المجتمعية من أجل التعليم. وكذلك تخرّجها. كانت متخوّفة من مشاركة أخبار زواجها وأمومتها مع بعض زملاء المدرسة الذين كانوا في وقت سابق رافضين لقرارها ووصفوه بـ"الخطأ الكبير". للتعامل مع الألم والعار ومشقّة القبول، كانت تسألني غالباً خلال محادثاتنا: "آبي، هل حياتي كانت لتكون مختلفة لو رفضت القرارات المُتعلّقة بمستقبلي؟" ذكّرني سؤالها بالذنب الذي تملّكنا ولو بطرق مختلفة، بحيث تحوّل إلى فشل نسوي أحياناً، وإلى ما أسمته "الغضب من الامتثال" في أحيانٍ أخرى.

ماذا يحدث عندما نفشل، وماذا نفعل بعدها؟ على الرغم من مواصلة نضالاتنا مع حملنا الشعور بالذنب والمشاعر المعقّدة التي ميزت حياتنا، إلّا أن الخيارات التي اتخذناها كانت جزءاً لا يتجزّأ من الأسئلة السياسية العميقة. بالنسبة لبينظير، كان النضال يتركّز في العثور على الذات وصوتها واستعادتهما، بينما بالنسبة إلى مادوليكا كان الصراع يتعلّق بالمعضلات الناشئة عن السعي الذاتي الذي يترافق مع قضايا التمثيل في الممارسة الأنتروبولوجية. عند هذا المنعطف، عزّز اقتفاء أثر جذور الصدق والإخلاص في صداقتنا، عزمنا على مواصلة النضال مع المؤسّسات التي أقمنا فيها. هل يمكننا تجاوز المأزق من خلال تركيز التحدّيات الشخصية والمهنية في التزامات سياسية مستمرّة؟ في الواقع، إن جوهر استفسارات فرجينيا دومينغيز المُقنعة (2000) حول البحث عن طرق لدمج الحب والاعتراف به في الحياة الفكرية والشخصية والسياسية هو ما أعطى المعنى لبحثنا عن إجابات. نحن لا نقترح الحبّ كحلّ بلاغي إضافي ومثير لأصول تدريس التضامن، ولا ننوي تجاوز التفاوتات القائمة في القوّة والامتيازات التي حدّدت هوياتينا، بل نهدف إلى الاستفادة من الأفكار الناشئة عن صداقتنا وعملنا الميداني لخلق التزام طويل الأمد ومستمرّ اتجاه الممارسة النسوية. وهذا بالتحديد ما سمح بحضور العمل العاطفي مع الكتابة الأنتروبولوجية ومعالجته، وكان له تأثير مباشر على التنقّلات من خلال التصوّرات الأبوية والنيوليبرالية للنسوية. أصبحت مهمّة الكتابة والمناصرة في فضاءاتنا العاطفية الخاصة أكثر مرونة عند وضع جوهر تجاربنا مع الاحتكاكات الاجتماعية والسياسية المستمرّة حولنا. في الواقع، وجّه صمود النساء من حولنا الممارسات التي اتخذناها وأنارها. ولكي نتمكن من التعامل مع الإمكانيات التحوّلية لأشكال التضامن المنهجية والعملية، أصبحنا ما يسميه Richa Nagar (2014) "الضعفاء بشكل جذري".

 

العلاج والأزمات

ملاحظات من شاهين باغ، كانون الثاني/ يناير 2020

ب: بعد سلسلة محادثات في المنزل حول تعديل قانون المواطنة، انضمّيت أخيراً إلى الاعتصام المناهض له في إندرلوك في الجزء الشمالي من دلهي. رافقتني حماتي إلى المظاهرة، واتخذنا قراراً جماعياً باصطحاب ابنتي رحمة البالغة من العمر ستة أشهر. كان ذلك في بداية العام 2020، وكلّ خطوة اتخذناها في طريقنا إلى الاعتصام جعلتنا على قناعة بضرورة التحرّك بحثاً عن ثمراته في الوقت الراهن وإلّا لن يثمر أي تحرّك آخر. قادت نساء شاهين باغ ما لا يمكن تصوّره في المخيّلة السياسية للهند: وقفن ضدّ الدولة للتحدّث عن حقوقهن والنضال من أجلها. في كانون الأول/ ديسمبر 2019، بعد اقتحام شرطة الولاية بشكل عنيف للجامعة الملّية الإسلامية بهدف قمع الاحتجاجات بقيادة الطلاب ضد قانون المواطنة، أصبحت شاهين باغ مركزاً للاحتجاجات ضدّ تعديلات قانون المواطنة الصادر في العام 1955، التي تضع مسلمي الهند في درجة ثانية من المواطنة. تصاعدت الاحتجاجات في شاهين باغ وتحوّلت إلى سلسلة من التضامن وذلك عبر الاحتجاجات بقيادة الطلاب والنساء. في غضون شهر، ظهر العديد من الاحتجاجات المُشابهة في العاصمة وفي جميع أنحاء البلاد. في دلهي، أصبحت الأحياء الإسلامية رمزاً للمقاومة إذ نُظّمت اعتصامات في سوق آزاد وشاهي إيدجاه في دلهي القديمة، سيلامبور في شمال شرق دلهي، ونظام الدين في وسط دلهي، وهاوز راني في جنوب دلهي، وإنديرلوك. خلال احتجاج إنديرلوك، وصَلَنَا مساء بعد الانتهاء من الأعمال المنزلية أن أحد الناشطين من شاهين باغ كان يقود الشعارات. أدركت كيف أصبحت بعض الكلمات جزءاً من مفرداتنا عندما جلسنا معاً على السجّاد الموضوع على الرصيف. تضمّنت كلّ محادثة تقريباً ذكر المستندات ودستور الهند والقمع والحقوق والمواطنين والمساواة. استمرّينا في الذهاب إلى موقع الاعتصام خلال الأيام التالية، وغالباً بالتنسيق مع أقاربنا المقيمين في الحيّ، وكنّا نبقى حتى وقت متأخّر من المساء. لحماية رحمة من قسوة الطقس البارد، كان أقاربي المقيمون بالقرب من موقع الاحتجاج يعرضون عليّ إبقائها في منزلهم ورعايتها. وعندما أكون منهكة من الزواج والأمومة والمسؤوليّات المنزلية والسفر، كنت أذكّر نفسي بالوقت الذي أمضيته في مجلس "رينبو بلاي سكوول" في العام 2017. وسط المعاناة المتولّدة من روايات الرهاب من الإسلام المُنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، تحدّثت كلّ امرأة التقيتها عن دفء شبكات الرعاية التي بنتها هناك. كان لدى شقيقات قريبتي من شاهين باغ العديد من الأفكار لمشاركتها حول حجم الاحتجاجات في الجزء الذي يقيمون فيه من المدينة. أعتقد أن كلّ مقيم في شاهين باغ يحمل القوة الكامنة نحو سياسات تحولية تحتاجها الدولة القومية الحديثة.

م: اخترقت احتجاجات شاهين باغ الخطاب حول المرأة المسلمة، ومزّقت أخيراً الإسقاطات الشعبية عن أن النساء المسلمات متجانسات ومحجبات ولا صوت لهن. بصفتي عالمة أنتروبولوجيا تصارع للعثور على أجوبة عن أسئلة التمثيل من خلال البحث مع النساء المسلمات، بيّنت احتجاجات شاهين باغ الأسباب المُعقّدة للأزمة وظهورها. أمّا بالنسبة للنساء اللواتي قاتلن طويلاً ضدّ الصور النميطة المُتخيّلة والمعكوسة عنهن، فأعود إلى القضية التي أثارتها بينظير سابقاً. هل يمكن اعتبار إعلاء الصوت والمعارضة فعلاً غير مسبوق في حالة النساء المسلمات في الهند؟ أم أننا لم نرغب يوماً في "الاستماع" إلى أصواتهن، أو بعبارة أخرى، هل كنّا حريصين فقط على الاستماع إلى المتحدّثين باسم المسلمين في الهند؟ إن صورة النساء المسلمات اللواتي يعترضن من خلال إعلان حقهنّ بالمساحات العامّة لا تتناسب والصورة النمطية المُتخيّلة والسائدة عنهن بالفعل. في الواقع، بينما كانت النساء المسلمات يخضعن لسيطرة الدولة ويحتجن إليها لإنقاذهن، أصبحت تلك النساء يُصوَّرن على أنهنّ "مُخلّات" بحياة النخبة الحضرية7. على مدى ثلاثة أشهر من الاحتجاجات المستمرّة، كشفت نساء شاهين باغ عن لغة المواطنة التي نشأت من عوالمهن الشخصية والسياسية اليومية. في الواقع، إن المثابرة والصمود على النضال من أجل الكرامة والوجود المتساوي متجذّران في الأخوّة والتضامن والأنماط العملية للصيرورة والانتماء، ويتعارض هذا النوع من الممارسات النسوية مع التعريفات التي حدّدتها الدولة والصور النمطية المُتخيّلة السائدة التي رسمها الاستعمار.

***

لا تُعدُّ الصداقة بمثابة منهجيّة عمل ضمن مسار سلس وسهل. في حين، يعتبر دمج المخاطر والهشاشة والعمل العاطفي في الممارسة الأنتروبولوجية والعلاقات اليومية بمثابة رحلة مليئة بالصراعات. لقد حاولنا تحديد فترات الانقطاع في العام 2020 عبر استخدام تجارب مُفكّكة جمعناها من صداقتنا. من هنا، نقدّم الصداقة كأرضيّة لفكّ الحقائق والتجارب التي أدّت إلى صنع الحركة الثوريّة في السياق الهندي في العام 2020. إلى ذلك، ننظر إلى الوراء، إلى الذكريّات السياسية والشخصية المحبّبة التي تدخل في صنع "الأرشيف". خلال التفكير معاً ككاتبتين مشتركتين وصديقتين، جعلتنا مسارات نضالاتنا المختلفة أقرب من طبيعة الآخر الإنسانية، والقمع الذي مورس بحقّه، والمسؤولية التي تحملّها. وفيما نقيّم العلاقة التي نشأت في الميدان، نلاحظ أن سياسة التضامن وجدت جذورها في زعزعة الأطر المعرفية والحدود المؤسّسية. وأثناء استعادة الأحداث التي يمكن للحركة الثورية أن تصبح مرئية من خلالها، اضطررنا إلى التفكير النقدي وإعادة النظر في تداعيات الخيارات السياسية على الأكاديميا والمناصرة والحياة اليومية. وحتى عندما ناضلنا لإيجاد طريقنا من خلال الصداقة النسوية التي وضعنا لها تصورًا، احتضنّا عدم الراحة الناشئة من الاعتراف بعواطفنا، ولا سيّما الشعور بالذنب والمخاطرة والفشل والخوف والاهتمام برفاهية بعضنا الآخر. ترسّخت صداقتنا في إنشاء أرشيف ثوري يرتكز على التزامنا السياسي بمقاومة الهيكليّات الاستعمارية في الأكاديميا والحياة الاجتماعية، ونأمل أن ننمو ونغذّي الإمكانيّات التحوّلية لصداقتنا من خلال المسعى نحو ممارسة نسوية مستمرّة.

  

ملحوظات: 
المراجع: 

Ahmed, S. 2000. Who Knows? Knowing Strangers and Strangerness. Australian Feminist Studies, 15(31): 49–68.

Bargi, D. 2014. The dilemma of an upwardly mobile, English speaking, Bengali Dalit woman. Roundtable India 20 January. https://roundtableindia.co.in/index.php?option=c om_content&view=article&id=7175:the-dilemma-of-an-upwardly-mobile-english-speaking-bengali-dalit-woman&catid=119:feature&Itemid=132

Basarudin, A & Bhattacharya, H. 2016. Meditations on Friendship: Politics of Feminist Solidarity in Ethnography. In: Dissident Friendships: Feminisms, Imperialism, and Transnational Solidarity. Edited by Elora Halim Chowdhury and Liz Phillipose. Urbana: University of Illinois Press, 43–68.

Behar, R. 1993. Translated Woman: Crossing the Border with Esperanza’s Story. Boston: Beacon Press.

--. 1996. The Vulnerable Observer: Anthropology that Breaks Your Heart. Boston: Beacon Press.

Blasco, P and Hernández, L. 2020. Writing Friendship: A Reciprocal Ethnography. Switzerland: Palgrave Macmillan.

Brettell, C (Ed). 1993. When They Read What We Write: The Politics of Ethnography. Westport: Bergin and Garvey.

Clifford, J and Marcus, G (Eds). 1986. Writing Culture: The Poetics and Politics of Ethnography. Berkeley: University of California Press.

Code, L. 1991. What Can She Know? Feminist Theory and the Construction of Knowledge. Ithaca: Cornell University Press.

Collins, P H. 2000. Black Feminist Thought: Knowledge, Consciousness and the Politics of Empowerment (2nd Edition). New York and London: Routledge.

Cotterill, P. 1992. Interviewing women: Issues of friendship, vulnerability, and power. Women’s Studies International Forum, 15(2), 593–606.

Dominguez, V R. 2000. For a Politics of Love and Rescue. Cultural Anthropology, 15: 361–393.

Gayer, L and Jaffrelot, C. 2012. Muslims in Indian Cities: Trajectories of Marginalisation. London: Hurst & Company.

Hasan, Z and Menon, R. 2004. Unequal citizens: A study of Muslim women in India. New Delhi, India: Oxford University Press.

hooks, b. 1989. Talking Back: Thinking Feminist, Thinking Black. Boston, MA: Southend Press.

Jacobs-Huey, L. 2002. The natives are gazing and talking back: Reviewing the problematics of positionality. American Anthropologist, 104(3), 791–804.

Minai, N and Shroff, S. 2019. Yaariyan, Baithak, Gupshup: Queer Feminist Formations and the Global South. Kohl: a Journal of Body and Gender Research, 5(1): 31–44. Available at: https://kohljournal.press/yaariyan

Nagar, R. 2014. Muddying the Waters: Coauthoring Feminisms across Scholarship and Activism. Urbana: University of Illinois Press.

Nagar, R and Geiger, S. 2007. Reflexivity, Positionality and Identity in Feminist Fieldwork Revisited. In: Politics and Practice in Economic Geography. Edited by Eric Sheppard Tickell, Jamie Peck, and Trevor Barnes. London: Sage, 267–278.

Nagar, R, and Shirazi, R. 2019. Radical Vulnerability. In: Keywords in Radical Geography: Antipode at 50. Edited by The Antipode Editorial Collective: Tariq Jazeel, Andy Kent, Katherine McKittrick, Nik Theodore, Sharad Chari, Paul Chatterton, Vinay Gidwani, Nik Heynen, Wendy Larner, Jamie Peck, Jenny Pickerill, Marion Werner, and Melissa W. Wright. Hoboken, NJ: Wiley-Blackwell, 236–242.

Parvez, F Z. 2018. The Sorrow of Parting: Ethnographic Depth and the Role of Emotions. Journal of Contemporary Ethnography, 47(4): 454–483.

Riaz, F. 1991. The Interrogator. In: We Sinful Women: Contemporary Urdu Feminist Poetry. Edited by Rukhsana Ahmad. London: The Women’s Press, 81–83.

Scheper-Hughes, N. 1995. The Primacy of the Ethical: Propositions for a Militant Anthropology. Current Anthropology, 36 (3): 409–20.

Smith, L T. 2012. Decolonizing Research Methodologies: Research and Indigenous Peoples. London: Zed Books.

Stacey, J. 1991. Can There Be a Feminist Ethnography? In; Women’s Words: The Feminist Practice of Oral History. Edited by S. Gluck, and D. Patai. New York: Routledge, 111–119.

Taylor, J. 2011. The Intimate Insider: Negotiating the ethics of friendship when doing research. Qualitative Research, 11(1): 3–22.

Tillmann-Healy, L M. 2003. Friendship as Method. Qualitative Inquiry, 9(5):729–49.

Van Der Geest, S. 2015. Friendship and Fieldwork: A Retrospect as “Foreword”. Curare, 38(1+2): 3-8.

Visweswaran, K. 1997. Histories of Feminist Ethnography. Annual Review of Anthropology, 26: 591–621.

Whitaker, R. 2011. The Politics of Friendship in Feminist Anthropology. Anthropology in Action, 18(1): 56–66.

Lugones, M C and Rosezelle, P A. 1995. Sisterhood and Friendship as Feminist Models. In: Feminism and Community. Edited by Penny Weiss. Temple University Press, 135–145.