القلق على الثورات، القلق من الثورات
ticking_time-page-001.jpg
النسوية مقدّمة بديهية للثورات، أيّة ثورة في أيّ مكان وزمان وفي وجه أيّ استبداد من أيّ نوع ولو انبثق عن نقيضه. والنسوية التي تدفع فطرياً باتجاه المساواة لا يمكن إلّا أن تكون فعلاً ثورياً بالمطلق. وبالطريقة ذاتها، لا بدّ لأيّ فعل يطالب بالمساواة والعدالة إلّا أن يكون نسوياً بهويته وتأثيره. ليس بالإمكان الحديث عن الواحدة دون الأخرى وليس بالإمكان أن تلغي الواحدة الأخرى. ولكن هل دائماً ما احتضنت الثورات النساء؟ هل ألهمنها وألهمتنهن أم أنها التهمتهن؟ هل دفعت بهنّ أم هنّ مَن دفعن بها إلى الأمام؟ هل اصطدمن بها أم مشين معها؟ قد تبرز في هذه الأسئلة فوضى من المفاهيم غير القطعية في ربط النسوية بالثورة لكن سلسلة من الثورات التي عصفت بالبلاد العربية كان لا بد أن تظهر شرخاً، بطريقة ما، بين الثورات والنساء، بين الثورات كما تحصل هنا، على هذه الأرض وبين النسوية. بين تكريس الثورة كطور بديهي لمواجهة الاستبداد مع كل منعطف أيديولوجي وبين الاحتفاء بالنسوية كحالة ملفتة تستحق الانتباه والتقدير في أفضل الأحوال. فهل باتت النسوية العربية تخشى الثورات بعد الانتكاسات؟ هل تكفي مطالعة التجارب الثورية العربية الحديثة لمعرفة ما إذا كانت الثورات قد خذلت النساء فعلاً؟ هل من الضروري نقد الحضور النسوي الموازي لقيام الثورات والمتداخل فيه في آن؟ هل باتت معالم النسوية المتّبعة في العالم العربي بعيدة؟ غابرة؟ وفردانية؟ ما من تجربة عميقة وحاسمة للإجابة على أسئلة كهذه ووضع تصنيف صلب بالرغم من حصول ما يشبه موجتين للربيع العربي في أقلّ من عقد واحد، لاسيما أن تطوّر الخطاب التحرري في المنطقة العربية خلال العقود الماضية ووصول موجات النسوية الثلاث المنطقة العربية كان لهما الأثر على مواكبة النساء للأحداث الثورية السياسية كما كان لهما الأثر على تطوّر علاقة النساء مع الأنظمة وأدواتها بالإضافة إلى العلاقة مع الرجال المشاركين في الثورة، أولئك القامعين لها والأنظمة التي تلت الثورات. لا بد من رصد المشهد من أكثر من زاوية لأنه وإن تشابه فإنّه لا يشي بحقيقة متجانسة. في منتصف التسعينيات، صنفت فالنتين مُغضم (١٩٩٥) الحركات الثورية سواء كانت نخبوية، اشتراكية أو شعبوية بين نموذج قائم على المساواة وهو "النموذج المنبثق عن النساء" ونموذج قائم على البطريركية وهو "النموذج المنبثق عن العائلة" (وحللت على أسسهما الثورات الإسلامية في إيران، البلشفية في روسيا، الشرق أوروبية والفرنسية). تقول مُغضم لاحقاً (٢٠١٨)، إنه في ظل العولمة القائمة اليوم وتنامي الحرب الباردة وانتشار السرديات النسوية، فإن أيّ فعل ثوريّ أو ردّ فعل ثوريّ لا يضمّ النساء والنسوية كشطر جذري سيكون خاسراً وطنياً وكونياً. ربّما لنا أن نقيس قليلاً على هذا.
منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم، كانت المرأة في معظم الدول العربية ركناً أساسياً في الثورات التي حصلت وفي أهمّ الأحداث السياسية المفصلية التي ألمّت بالعديد من البلاد. وفي حين أن حضور المرأة غالباً ما ورد في السرد التاريخي على أنه "مشاركة" أي أنها مُلحقة بالفعل الثوريّ أو السياسيّ الذي أسّسه الرجل إلا أن الواقع يشير إلى أن حضورها كان أكثر جذرية، قيادية، ومحورية مما يُدوَّن وفي الكثير من الأحيان من نضال الرجل نفسه (نيلسون، ١٩٩٦). الحراك الذي بدأ منذ السنوات الأولى للثورة المصرية في وجه الاحتلال الانكليزي والنشاط الذي أطلقته هدى شعراوي، إلى جانب مناضلات مصريات أخريات، والذي وإن ارتبط بشكل ما بالعمل السياسي لسعد زغلول ومبادئه الثورية كان أثره في المجتمع المصري عميقاً لا سيما للناحية الاجتماعية المصاحبة للحالة السياسية ولارتباطه عضوياً بمسيرة تحرير المرأة (البرازي، ٢٠١٦). لاحقاً، مع تطوّر الخطاب التحرّري في العالم العربي ومع الصعودين الشيوعي والإسلامي ووصول موجات النسوية العالمية المتنوعة إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تمّ رصد العديد من الإشكاليات التي رافقت الانخراط الثوري للنساء (الرفاعي، ٢٠١٧). يأتي هذا مع تمدّد جماعات الإسلام السياسي وتجذّر الأنظمة الآحادية والمراحل التي تلت الثورات، إذ حصل التخلّي عن المرأة في استحقاقات تشكيل السلطة لصالح الرجل الشريك في النضال أو لصالح إعادة إنتاج منظومات "الفلول"، وكانت المرأة أسهل من تمّ التضحية به برغم أنها كانت الدافع الحقيقي والشريك الأساسي في التغيير (سجوبرك، ٢٠١٥؛ موسوي وكجك، ٢٠١٩).
في الثورة السودانية على سبيل المثال وهي ثورة اندلعت مع نهاية عام ٢٠١٨ للاحتجاج على الواقع السياسي، الاقتصادي والمعيشي المتردّي في البلاد، برزت المرأة بشكل علني لافت كقائدة وكمحرّك محوري للناشطية السياسية في العاصمة والمدن والأرياف المنتفضة، نجد أننا أمام نموذج متكامل يشرح لنا لماذا تستشعر النساء قبل الرجال ضرورة التغيير ولماذا تترأس النساء التظاهرات ويصدحن بأعلى أصواتهن بالرغم من كل العراقيل والوصمات والعواقب.1 ففي مجتمع إخواني في طوره ما قبل الأخير، تكون المرأة التي فُرض عليها أن ترتدي اللباس الأبيض وأن تخفض صوتها وأن تلتزم بيتها وعملها في الحقول، الأكثر تنبّهاً لوجوب الانتفاض والإسراع لانهاء المنظومة.2 فالنظام المبنيّ على التمييز الاقتصادي ضدّ المرأة هو في جوهره قائم على القهر الطبقيّ للرجل والمرأة على حدّ سواء مع بطانات اجتماعية تسوّغ العكس أو بالحد الأدنى تخفي ذلك. لكنها سرعان ما تنكشف، لحظة انحسار سبل إخفاء معالم القلق، فيتنبّه الرجل أن تلك الأنظمة التي أرهقت أمّه وزوجته وأخته وابنته في أعمال مضنية ذات مردود ضعيف، هي في الواقع أنظمة أرادت أن تبتلع الجميع لكن أثرها بدأ على من تراءى لها أنه الأضعف. يقول الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان في صميم فكرة تلقّي المرأة (مباشرة أو مواربة) للإشارات الأولى لعمليات الاستبداد: "يصفعونكِ في البيت فأسقطُ أنا في الشارع."3 هنا تحديداً عند العنف الذي يبدأ في البيت مُمَارساً على المكوّن "الأضعف"، المرأة، تبدأ معالم استبداد الأنظمة وتخرج لتحدّد معالم إخضاع المتبقّي من المجتمع. وهو ما يتّضح أيضاً في الحالة اللبنانية التي قادت لتكوين الإدراك الجمعي لثورة ١٧ تشرين عام 2019. إذ تقيّد قوانين الأحوال الشخصية وقوانين العمل والعقوبات المرأة فتجعلها مواطنة من الفئة العاشرة بتواطؤ من الرجل ونساء أخريات.4 ليتّضح لاحقاً أن النظام الذي أتاح العنف ضدّها هو النظام نفسه الذي أهلك ودمّر مؤسسات واقتصاد البلد وأكل أتعاب الرجال والنساء وجرّد الجميع، بكافة الأشكال، من أبسط الحقوق والمكتسبات وانتهى بقتلهم بقدر متساوٍ من العبثية من خلال إهماله وفساده.
الأحاديث المرتبطة بالنساء وثورات الربيع التي انطلقت عام 2011 أعادت إلى الوعي العربي حقيقة أنّ نضال النساء مكلف جداً وأنه لا بدّ وأن يترافق مع ثمن باهظ من أجسادهن وعاطفتهن وأنفسهن. وفي مجتمع يربط "كرامة" المرأة و"شرفها" بجسدها، يصبح السلاح الأول لقمعها هو الاعتداء على جسدها ومن ثم التعرّض "لسمعتها الأخلاقية" بأسلوب ممنهج.5 لهذا لا بدّ من أن ننطلق بالحديث من هنا، من الجانب الأكثر كلفة، لإدراك عناء كل الجوانب المرافقة للكينونة الثورية للمرأة وما يلازم ذلك في بلاد إرثها الذكوري الاستبدادي والاستعماري ثقيل للغاية. فالسجون السورية الذي اعتقل فيها النظام النساء الثائرات تخبر الكثير من الأهوال والمآسي عن نساء تعرّضن للاغتصاب، للإذلال، للانتهاك ولشتّى أنواع التنكيل، للحدّ الذي دفع بعضهن إلى اختيار ادعاء الموت بدل العودة إلى عائلاتهن بعد الخروج من المعتقل (إن خرجن). وينطلي الأمر على ما مارسته الجماعات الإسلامية المتشددة في المناطق التي سيطرت عليها ما وصل إلى حد إعادة فصول الاستعباد والرقّ. في مصر أيضاً، وعلى ضوء التظاهرات التي طالبت المجلس العسكري بكفّ يده عن البلاد، تمّ سحل المتظاهرات في الشوارع، تجريدهن من ملابسهن أمام عدسات الإعلاميين، سَوقهن إلى التحقيق وإخضاعهن لفحوصات عذريّة لا تقلّ فظاظة وانتهاكاً عن أي عملية تعذيب يخضع لها السجناء السياسيون. تدرك أجهزة الأمن معنى أن تجري فحصاً للعذريّة في مجتمع يترصد تحرّكات النساء ويكيل لهنّ من الجهة الأكثر حساسية، "الشرف". كما تتوارد القصص من السجون السعودية أن ناشطات منهن لجين الهذلول يتعرّضن للانتهاك الجسدي والاعتداءات المتكررة في ظلّ نظام يحرص ألا يصدِّر شيئاً عن النساء في سجونه إلا من أجل تأديب مَن هنّ خارجه. الأمر نفسه لازَم الثورة البحرينية من خلال تعرّض الشرطة البحرينية للعديد من النساء المتظاهرات وإجبارهن على خلع حجابهن في الشارع بالقوة والاعتداء. واقع ليس بجديد وليس بمتغيّر: مقابلة المرأة الثائرة بالانتهاك، بالإقصاء، بالعنف أو بمزيد من الاستبداد.6
تروي مليكة أوفقير،7 والتي لم تكن حتى لحظة اعتقالها عام 1972 ناشطة سياسية ولكنها تحوّلت إلى سجينة سياسية لحظة تصفية والدها الجنرال السابق بعد محاولة انقلابه على الملك، تجربة سنواتها في سجون الحسن الثاني تحت الأرض فتتحدث عن انتهاكات جسدية تعرّضت لها. عن تلك الفترة العصيبة من التاريخ المغربي والتي شهدت أيضاً اعتقالات لعسكريين من الرجال الصغار في السن ممّن شاركوا في انقلاب الصخيرات في سجون مشابهة، كتب الكثير من الناجين الرجال عن تجاربهم المؤلمة والسحيقة.8 لكن تجربتهم، على شدّة فظاعتها، لم تقترب من قعر الانتهاك الذي طال النساء حتى اللاسياسيات منهن، في السجون. وطبعاً لا يخبرنا التاريخ العربي عن أدوات الأنظمة فقط بل كان للاستعمار أثره في التنكيل الجسدي بالنساء الثائرات ومنهن الجزائرية جميلة بوحيرد التي تعرّضت للعنف والانتهاك الجسدي الشديد في المعتقلات الفرنسية بالإضافة إلى مواطناتها اللواتي وضعن في سجن تفلفال في غسيرة المخصص للاقتصاص من النساء الثائرات في وجه الاستعمار الفرنسي حيث تعرّضن للاغتصاب.9
النساء في العالم العربي متجذرات في العمل الثوري سواء أردن ذلك أم لا. إن الطبيعة المستدامة لنظام القهر الاجتماعي لا بدّ أن تنفجر من خلال الطرف الأكثر عرضة لأدوات تنكيل النظام. ولذلك ومن اللحظات الأولى للربيع العربي كانت النساء في صدارة المشهد الثوري بشقّيه الفعلي والافتراضي، فكنّ المحرّضات فكرياً جنباً إلى جنب الرجل في المظاهرات، الداعيات لها، الصحفيات اللواتي عملن على نقل الوقائع إلى الناس ودول العالم – من خلال منابر صحافية غير تقليدية – الموزّعات للأطعمة والأدوية والمدافعات عن المعتقلات والمعتقلين. كانت النساء في صلب الاشتباك السياسي والفكري الذي حصل في مختلف الساحات. وقد شكّل هذا المشهد مفاجأة للعديد من المراقبين البعيدين عن ساحة الربيع العربي والذين ظنّوا لوقت طويل أن النساء العربيات بعيدات تماماً عن الطور الثوري وأنهن متلقّيات للتغيير ولسن صانعات له (كولمان، ٢٠١١؛ كيوان، ٢٠١٥). وبالرغم من أن المرأة هي صانعة العالم والتاريخ والحديث في الفكر المطّلع على الواقع العربي، إلا أنها قد انصهرت في بوتقة العجز في الذهن الغربي المراقب من بعيد. وهذه الأفكار وإن كانت في الحقيقة منبثقة من واقع متردٍّ في منظومة الحقوق والممارسات بحق المرأة إلا أنّ غيابها عن الذهن العالمي يعود أيضاً إلى التهميش الذي غالباً ما صاحب النساء بعد العمل الثوري أو حتى في أثناءه فغُيّبت المرأة بالرغم من حضورها وأثرها وكانت هي أول الخاسرات في مشهديات ما بعد الثورة (كيوان، ٢٠١٥؛ موسوي وكجك، ٢٠١٩)، لا سيما عندما كانت تجتمع التنظيمات الإسلامية التي سرعان ما تأخذ متسعاً في الحكم بعد الخضّات السياسية التي لا تصمد ولا تنجح فيها إلا المجموعات المنظّمة (هولدو، ٢٠١٧). كان للغرب في بعض الأحيان من خلال صروحه الأكاديمية، إعلامه وأعلام استشراقه القديم والحديث، نيّة مسبقة بالتعامل مع المرأة في العالم العربي من خلال فهم هامشي ومسطّح أو من خلال تحجيم أزماتها ودورها واختصاره على أسس أنّ تمرّد المرأة في هذا المكان من العالم منوط بالأيقونات والروايات الفريدة الممنتجة على طريقة عمل المنظمات غير الحكومية أو من خلال تسليط الضوء على فردانية أو شخصانية امرأة ما دون الغوص والتركيز في سياق تمرّدها. من الأمثلة التي ليس بالإمكان تجاهلها، قصة ملالا يوسفزاي وهي شابة شجاعة بحق وبطلة في بلدها (باكستان) وثقافتها وعلى مقياس الإنسانية والنسوية أينما كانت ولكن كان للتركيز الإعلامي العالمي على خصومتها مع حركة طالبان، التي أطلقت النار عليها بوحشية، بتجرد عن أي محاكاة لواقع الاستعمار وتبعاته في باكستان، تحريف لأسس هائلة من انعدام العدالة للنساء الباكستانيات والشرقيات عموماً وهناك الكثير من الأمثلة في هذا المجال على امتداد الشرق والمنطقة العربية.
منذ تسع سنوات، كانت النساء في أكثر من بلد عربي في الساحات، في الميادين، وبعضهن في السجون يطالبن بالتغيير السياسي والاجتماعي وبإسقاط أنظمة عمرها عقود من الزمن وكن يدفعن من أمانِهنَّ الجسدي والعاطفي والنفسي ثمن تحركاتهن وهويتهن السياسية التكوينية والتغييرية (جوهانسون نوغيس، ٢٠١٣؛ مرسي، ٢٠١٤). والمشهد تكرر من جديد مع نهايات عام ٢٠١٨ وخلال عام ٢٠١٩ في السودان، الجزائر، لبنان والعراق. فكانت النساء أول من نزلن كمحرّضات ومساندات وقائدات للثورات التي امتدّت في ساحات هذه البلاد بالرغم من تطوّر أساليب القمع والتشويش ومن التدهور الشديد للحالة الاقتصادية واستمرار وتزايد العنف الجندري والقمع الذي رافق احتواء الوباء.
جميلة بوحيرد، المناضلة التي واجهت الاستعمار الفرنسي بشراسة سجّلتها المحاكم العليا في باريس نزلت أيضاً للتظاهر في وجه حكم بوتفليقة وفي وجه طرح ترشحه لولاية خامسة. بوتفليقة الذي كان بالأمس رفيقها في النضال التحرري ضد المستعمر الفرنسي والذي كرّس نفسه الرئيس الثوري للجزائر المؤتمن على أركان الثورة الجزائرية بعد العشرية السوداء، بات اليوم مرفوضاً من قبلها ومن قبل مواطناتها اللواتي ملأن الشوارع ورفعن الشعارات ضده وضد أي بديل عسكري مفترض.10 أن تخرج جميلة بوحيرد للتظاهر ضد بوتفليقة عام ٢٠١٩ هو أشبه بأن تقول له ما يمكن أن نفهمه على الشكل التالي "لقد سرقت ثورتنا القديمة التي قمنا بها سوياً وأقصيتنا نحن رفاقك وأبناء فكرك وأقصيت مبادئنا الثورية عن الحكم وأنت اليوم فاسد لا تختلف عن المستعمر ولا بد من رحيلك". وقبل ذلك، تحديداً بعد الانتهاء من المسار المضني للثورة الجزائرية بتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، استعرت الخلافات والتصفيات بين جنرالات الثورة (رجالها) ما دمّر الكثير من معالم المساواة والعدالة التي نادت بها الثورة وكلّف النساء مكانتهن وحقوقهن، وصولاً إلى الحرب الأهلية وبدء العقد الذي عُرف بالعشرية السوداء (لهول الأحداث السياسية والأمنية التي رافقته). وقد دفعت النساء ثمنه الأكبر إذ تعرّضن لأشنع عمليات التصفية، الاغتصاب والقتل في حال لم يخضعن للقوانين الصارمة التي فرضتها جماعات الإسلام السياسي المتمثلة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ (التي اصطدمت بالنظام السياسي بعد إبطال الجيش لنتائج الانتخابات من أجل عدم السماح للإسلاميين بإمساك مقاليد الحكم). والنساء اللواتي كنّ منخرطات تماماً في القتال واللواتي كنّ معتقلات، متظاهرات، زارعات للألغام، موزّعات للمناشير وغير ذلك الكثير واللواتي كنّ سبباً رئيسياً في خروج فرنسا من البلاد، تمّ عزلهن عن حقوقهن السياسية والمدنية بل اجتماعياً أيضاً لتكون تلك المرحلة موسومة بالخوف والتراجع والعودة إلى ما دون الصفر (صالحي، ٢٠٠٣؛ صالحي، ٢٠١٠).
والملفت في وجود المرأة الجزائرية بكثافة في حراك عام ٢٠١٩ أنّه أول تحرّك سياسي بهذا الحجم اللافت بعد أن عملت النساء جاهدات لاستعادة البعض من مكانتهن السياسية بعد عام ٢٠٠٢ عندما انتهت العشرية السوداء وهو الوقت نفسه الذي بدأت تتبلور فيه حركة نسوية عربية جديدة ينصب اهتمامها على تكريس الحقوق المدنية، الاقتصادية والجنسانية بشكل كبير وعلى السعي عبر التعليم وتعديل القوانين والمناصرة لتبديل أي واقع يقوم على اللامساواة. في ذلك الوقت، كانت النساء في أكثر من بلد عربي جاهزات لخوض المعارك القانونية من أجل إرساء المساواة وإنهاء أشكال مختلفة من العنف وحين كان بعضهن قد اتجه إلى التعمّق في طروحات ما بعد الاستعمار وخوض النظريات الجنسوية وطرح البدائل الاجتماعية الحقوقية والتوجه إلى مسار نقديّ لشتى أنواع البطريركيات الاجتماعية والسياسية، كانت المرأة الجزائرية بعيدة عنهن. كانت نساء الجزائر اللواتي خضن أكثر الثورات دموية ضد المستعمر في التاريخ العربي يحاولن جاهدات استعادة عافية وجودهن بعد عقد لا ينسى من الترهيب والإلغاء. تشير إيمان عمارة (نحو وعي نسوي، ٢٠١٨) إلى أن الحركة النسوية الجزائرية تتسم بخصوصية لناحية طول مدة الاستعمار مما أدّى إلى تأخّر ظهور حركة نسوية إضافة إلى التزمت والهلع الهويّاتي في وجه الاستعمار مما ألزم المرأة الجزائرية على الالتصاق بمواطنها الرجل ومنعها من مواجهة الكثير من القيم السائدة مخافة أن يكون ذلك إعانة "ثقافية واجتماعية" للاستعمار على "تقاليد وهوية الوطن" وهو صراع ليس بالإمكان فصله عن صراع العربية والفرانكوفونية الذي تلا الاستعمار في الجزائر. أتت ثورة عام ٢٠١٩، بزخم شعبي ونسوي كبير كجواب من النساء، اللواتي لقين قسطهن من التهميش والتسويف، التراجع والتعافي البطيء لسنوات، على حصرهن (بسبب العشرية السوداء) بين قطبي الأسلمة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) أو الديمقراطية التي "تتمثل سخريةً بالجيش" (صالحي، ٢٠٠٣؛ صالحي، ٢٠١٠). كانت مشاركتهن في ثورة ٢٠١٩ صرخة في وجه الفساد وفي وجه إلغاء محاولاتهن المستمرة ومقدرتهن على النقد الحقوقي ومحاولة لردم الانتهاكات المدنية والسياسية. كانت تلك ولادة جديدة لهن.
ومع أن مصر ليست من البلاد التي شهدت احتجاجات كبرى بالمعنى التنظيمي للكلمة في موجة ثورات ٢٠١٩ العربية إلا أن مشهد والدة علاء عبد الفتاح ليلى سويف وأختيه منى وسناء سيف وهن ينتظرن ويصارعن لإيصال الرسائل والأدوية أمام سجن طرة حيث يتم اعتقال علاء كان مدوياً في الوعيين المصري والعربي على حد سواء. وهو مشهد أعاد إلى الأذهان الحضور التاريخي للمرأة المصرية في ثورة يناير ٢٠١١. ويأتي هذا المشهد لافتاً في هذا الوقت بالتحديد لإصرارهن على تحدّي المنظومة البوليسية القمعية المتجذرة منذ عام ٢٠١٣، بالرغم من كل ما تعرّضن له وبالرغم من اختطاف الإبنة الثانية للعائلة، سناء. كما أن تحرّكهن بالإضافة إلى الاعتقال المستمر لناشطات عديدات أبرزهن ماهينور المصري، كرّس وجود المرأة المصرية منذ ثورة يناير حتى اليوم وعلى مدى القرن الفائت في صلب مواجهة الاستبداد بالرغم من كل ما طرأ على مصر من تيارات وأيديولوجيات سياسية. هذا النشاط الذي لم ينحصر بكونه سياسياً موجهاً للأدوات السلطوية المباشرة بل تعدى ذلك لأن يكون مواكباً ومحرّضاً وتوعوياً ضد العنف والتحرّش والاغتصاب في مصر وهي منظومة تفطن النساء غالباً لكونها من أدوات السلطة وعسكرتها المواربة. في المظاهرات الأولى التي تجمّعت فيها النساء ضد حكم حسني مبارك، كان التحرش أسلوباً أكثر منها حدثاً لإخافة النساء فكان لا بد للنساء من مواجهته أثناء التظاهرات وبعد ذلك من خلال نضال يومي ممنهج. لهذا الوعي الذي انبثق من لحظات ثورية كتلك، الأثر الأكبر على تعرية الممارسات السلطوية الأبوية التي تلت خلال عقد كامل والتي تتجلّى اليوم من خلال قضايا تتعلق أولا وأخيراً بجسد المرأة وحقها في الفضاء العام فكانت الحملات الأخيرة كحملة التشهير بالمتحرشين، الكشف عن جريمة اغتصاب فرمونت وصولاً لحملات الدفاع عن النساء اللواتي ظهرن في فيديوهات عبر تطبيق تيك توك. ولو عدنا إلى الوراء بحثاً في الحضور النسوي الثوري والتنظيمات النسائية في مصر منذ بدايات القرن الماضي من خلال رصد بعض الظواهر التي ترافقت مع هذه الثورات، سنرى أشكالاً عديدة صنعت من خلالها المرأة المصرية كما المرأة العربية الثورات والمشاهد السياسية التي صُوّرت عبر التاريخ على أنها صنيعة الرجال. فالمرأة المصرية كانت قائدة وريادية في ثورة ١٩١٩ بشكل يفوق بكثير ما تمّ تداوله لاحقاً. والحركة النسوية المصرية عرفت معانيها الأولى والحاسمة في تلك الفترة العصيبة من تاريخ مصر من خلال العمل السياسي الجذري الذي قامت به هدى شعراوي، صفية زغلول، سيزا نبرواي وأخريات. وسقطت للحركة النسائية المصرية آنذاك العديد من الشهيدات كانت أبرزهن شفيقة محمد، عائشة عمر، نجية إسماعيل وفهيمة رياض اللواتي اقتحمن مع طالبات أخريات مقر المعتمد البريطاني اعتراضاً على اعتقال سعد زغلول. وبالرغم من الانخراط غير المسبوق للنساء في الثورة إلا أن التوتر شاب العلاقة بين سعد زغلول وهدى شعراوي رائدة الحركة النسوية عندما تمّ التصريح بالعديد من الأمور باسمها دون الرجوع لها ومن خلال الاستئثار بكثير من جوانب صنع القرار في المؤسسة الوفدية وقد تكون تلك الحادثة هي أولى العلامات عن أطوار العلاقة بين النساء والرجال في الثورة وفي الاستئثار بها والسيطرة عليها في مصر والعالم العربي (شعراوي، ١٩٨٧).
العديد من الاستحقاقات السياسية المفصلية تلت ثورة ١٩١٩ حيث كانت النساء في صلب الكثير من التحركات التي امتدت عبر الملكية، فالناصرية الاشتراكية وصولاً إلى حكم السادات الذي شهد التحول الأيديولوجي الأبرز فاتجه اقتصاد مصر، سياستها ومجتمعها من الاشتراكية إلى النيوليبرالية بالتوازي مع الصعود الإسلامي، فحُكم مبارك ومن ثم ثورة يناير وحكم الإخوان، وصولاً للسيسي (البرازي، ٢٠١٦). والحقيقة أن في هذا المشهد الزمني المئوي المزدحم دور جذري للمرأة لكن يبدو أنه لم يكن كافياً ليحميها من التبعات الاقصائية لكل حقبة، فلم تتمكن من صون ثوراتها الذاتية وأثر وجودها في الثورات، مما دفعها دوماً للثورة من جديد على ثورة كانت أساساً فيها (غولاي، 2004؛ موسوي وكجك، 2009).
وكما ذكرنا فإن الظهور الثوري والتحرري الأبرز للمرأة المصرية كان أيام الملك فؤاد الأول (الذي كان حينها السلطان فؤاد) ليتكرّس من خلال ثورة 1919 وما رافقها من سعي لتحرير المرأة على المستويات العلمية، الاجتماعية، الدينية والثقافية من بوابة الحضور في المواجهة مع المستعمر. والبعض يتحدث عن أن المرأة المصرية كانت جزءاً لا يستهان به من الثورة العُرابية قبل ذلك ومن عملية التصدي للحملة الفرنسية. وكان قد أتى تحرّك عام 1919 بقيادة هدى شعراوي التي أسست الاتحاد النسائي المصري، هي التي تحدثت لاحقاً عن مدى تأثرها بفكر قاسم أمين الذي ناقش النقاب، الحجاب، المساحة الشخصية والمساحة السياسية فاتحاً باب النقاش حول اللامساواة الجندرية على مصراعيه في كتابه "الجدلي" حينها "تحرير المرأة". أما في عهد الملك فاروق فقد برزت العديد من الناشطات المنحدرات من خلفيات أكاديمية فمارسن العمل السياسي والثوري وتمرّدن على الهيكليات القانونية والمؤسساتية وعلى الاحتلال الانكليزي لمصر. وقد حضرت النساء بقوة في التظاهرات التي دعت اللجنة الوطنية للطلاب والعمّال عام 1946 اعتراضاً على تردّي الأحوال الاقتصادية وعلى التغلغل البريطاني في الشأنين السياسي والاقتصادي في مصر. والحركة التي شارك فيها عشرات الآلاف وقوبلت بالعنف ولّدت غضباً شعبياً ترسّب في النقمة التي رافقت الملكية حتى أيامها الأخيرة عام 1952. كما أن درّية شفيق التي أسست نحو منتصف الأربعينيات حركة "اتحاد بنت النيل" لتحدي المنظومة الثقافية التي تقصي المرأة عن فرص متساوية في التعليم من خلال الحث على تعليم الفتيات وتوعيتهن في الأحياء الأكثر فقراً في القاهرة، دعت المرأة المصرية للانخراط في عمل سياسي واسع ضد النفوذ الانكليزي الذي كان آخذاً في التوسع. واستطاعت لاحقاً من خلال مظاهرة قادتها عام 1951 (في السنة التي سبقت ثورة يوليو) بصحبة 1500 امرأة اجتمعن في الجامعة الأميركية في القاهرة أن تقتحم البرلمان المصري وتطالب من داخله بكافة الحقوق السياسية والمدنية من ترشح وانتخاب: قالت لزميلاتها فور تجمعهن "هذا ليس اجتماعًا، إن هذه مظاهرة" (نيلسون، 1996). والجمعية نفسها هجمت في بداية عام 1952 قبل سقوط الملكية على مصرف بريطاني معترضة على التدخل البريطاني في الشؤون المالية والمصرفية في البلد. لم تحصل الحركة على ما أرادته يومها لكن ذلك كان المشهد النسوي الأول نحو نيل الحقوق المدنية والسياسية داخل الوطن وقد تحققت المطالب لاحقاً عام 1956 إذ استطاعت درية شفيق ورفيقاتها أن يتابعن نضالهن حتى نيل تلك الحقوق في عهد جمال عبد الناصر. وقد قامت ثورة يوليو التي لم تشارك فيها النساء والتي وصفت بأنها "ثورة بلا نساء"، ولنا أن نتخيل ما يمكن أن تكون عليه ثورة بلا نساء ولنا أن نسأل هنا هل ما إن كان التغيير الذي حصب ثورياً بالفعل؟ وإن كان انقلاباً شرعياً أليست النساء من مهد من خلال مراكمة العمل الثوري كالرجل تماماً في الأربعينيات؟ هي "ثورة انقلب فيها العسكر على الملكية منهية حكم أسرة محمد علي". على ضوء تلك الثورة اكتسبت النساء المصريات العديد من الأدوار الجديدة المتطورة قياساً لما سبق لا سيما مع التأميم والصعود العمّالي الذي أعاد الكثير من الحقوق الاقتصادية للرجال والنساء على حد سواء لا سيما في المناطق الريفية وتوزيع الأراضي ومع جعل التعليم مجانياً وإلزامياً للفتيات والفتيان. كما أن معظم الحقوق المدنية السياسية التي سبق ونادت بها درّية شفيق تم انتزاعها في تلك الفترة وتحوّلت حركة "اتحاد بنت النيل" إلى حزب سياسي في حقبة أظهر فيها النظام تبنّي النسوية كجزء من هويته الإصلاحية. ولكن من الجدير ذكره أن العلاقة بين المناضلة النسوية وعبد الناصر شابها الكثير من المشكلات عندما انتقدت أداءه السياسي فتمّ وضعها في الإقامة الجبرية هي التي في زمن ليس ببعيد كانت تنادي بالمطالب التي تبنّاها عبد الناصر في خطابه الوطني القومي الإصلاحي. وبالرغم من السمات الاشتراكية لتلك السنوات التأسيسية فإن القوة التي قابل بها عبد الناصر كلّ من خالفه الرأي أدّت إلى تدهور الحريات السياسية بشكل هائل مع الاعتقالات التي طالت اليسار والإسلاميين حيث دوّنت زينب الغزالي الناشطة الإسلامية الإخوانية أن عبد الناصر وضع ما يزيد عن مئتي امرأة إخوانية في المعتقلات عام 1965 خوفاً من إعادة بناء قوة إخوانية والأمر نفسه ينطلي على المنتسبات للحركات الشيوعية.11
أما في عهد السادات ومع الانفتاح الاقتصادي على العالم والذي رافقه انفتاح على السياسات الأميركية وسعي "للسلام مع والتقرّب من إسرائيل"، أصبح المشهد فسيفسائياً للغاية، فمن جهة انفتاح أيديولوجي سياسي ومن جهة ثانية تزمّت على أكثر من صعيد. إذ كان للإخوان المسلمين وللسلفيين الوهابيين حصتهم من الصعود والتأثير على وضع المرأة المصرية في إطار وجودها في الحيز الاجتماعي الخاص بهاتين الحركتين وفي إطار سيل الفتاوى والأجندة الإسلامية المناوئة لكل ما كان يمثله ويروج له أنور السادات. وبالرغم من الرخاء الاقتصادي الذي وعد به السادات بعد تحويل مصر من الاشتراكية للرأسمالية وتقرّبه من الولايات المتحدة الأمريكية، اتخذت حكومته العديد من الاجراءات التقشفية الشديدة فرفعت الدعم عن سلع أساسية مما فجر انتفاضة الخبز في عام 1977. في هذه الانتفاضة تحديداً، كانت الفاعلية النسائية كبيرة فتم~ اعتقال الرجال والنساء لا سيما من الخلفيات اليسارية والشيوعية. تتحدث الناشطة النسوية المصرية شاهندة مقلد عن تلك الفترة وعمّا قاسته النساء في ظل نظام يسعى لإظهار التحرّر يمرّر الحريات المؤقتة بينما يستمرّ بالبطش كلّما اعترض أحد ما على سياساته الجوهرية. اللافت في الأمر أن العديد من المعتقلات كنّ من المنتميات إلى الحركة الناصرية. وبالرغم من أن "نسوية الدولة" بدأت أيام عبد الناصر إلا أنها ازدهرت أيام سوزان مبارك في محاولة لذرّ الرماد في عيون المتطلّعات لنيل حقوقهن وأصبحت قضايا المرأة محصورة بالأسرة. جلّ ما كان يناقش بعدما واجهت النسويات المصرية الكولونيالية بأعتى وجوهها، شؤون الخُلع والعمل النسوي "الإنساني الخيري"، ليس الهدف هنا التقليل من شأن أي انجاز حقوقي قامت به الحركة النسوية آنذاك ولكن توضيحاً لمآرب نسوية الدولة والأزقة التي أدخلت فيها الوعي الجمعي تجاه حقوق النساء. لم ينفع احتضان الخطاب النسوي من خلال مجالس ذات أجندات وهمية وميزانيات خيالية قادت الوعي النسوي لإدراك خطورة تلك الأساليب. فنظمت المرأة بين عامي 2005 و2006 الاحتجاجات والإضرابات النقابية الأضخم منذ أربعينيات القرن الماضي وتواجدت فيها رصداً لمخاطر سياسات مبارك الاقتصادية. وبالإمكان القول إنها أطوار تفسر التراكم الهائل الذي أدى إلى الانخراط في ثورة يناير من عام 2011 التي شاركت فيه نساء مصر من كافة التيارات في إسقاط النظام والذي أسس فيما بعد لتنبّه اجتماعي فيه قدر لا يستهان به من الشجاعة في مواجهة الرجل في المنزل وفي الشارع.
كما لا بد من الالتفات إلى أن وعي المرأة الثوري في انتفاضات 2019 ومن قبلها 2011 لم يكن سياسياً أو حقوقياً حصراً بل كان متأتياً من الوقائع المعيشية والاقتصادية المتدهورة وكان الدافع الأبرز لتتصدر النساء المشهد كما حصل في السودان (موسوي، 2019) وقبلها في مصر. كما أنه كان سبباً لتبنّي المرأة في المجتمعات الزراعية والأرياف في أكثر من بلد الخيار الثوري بالرغم من كل الحواجز النفسية والاجتماعية. فمع تحوّل الاقتصاد المصري إلى الرأسمالية وترافق ذلك مع هجرة الرجال إلى الخليج، تأثرت أنماط حياة النساء ومسؤولياتهن وطرق كسب معيشتهن وزادت الضغوط عليهن وبتن على استعداد للعمل مقابل أجور زهيدة وفي كثير من الأحيان في مهن غير مسجلة وغير منظمة، بدون تأمينات وضمانات مما ولّد طبقة جديدة من القهر والنقمة. كلها طبقات تتراصف لتدفع بالمرأة إلى أن تكون وقوداً للثورة دون أن تتحدد بالضرورة ملامح حركة نسوية جماعية على قياس الثورات والأحداث القائمة، فتحصل الاضطرابات في المنتصف أو مع بدء تشكيل السلطة من جديد.
وجود المرأة في مشاهد الثورات العربية، ليس بالضرورة تأكيداً لصيرورة فعل الاشتباك المرئي الذي قد يشبه إلى حد كبير ما خبرناه في الساحات الكبرى للعواصم أو أمام السجون المركزية ومعاقل العسكر (الذي غالباً ما ينقض على السلطة الشاغرة) بل هو أبعد. فالنسوية حالة ثورة داخل الثورة نفسها وحالة ثورة مع الثورة نفسها إذ تتخذ أشكالها الطورية والأخيرة في محاولة لحماية كينونتها كفعل ثوري وجودي لا تغييري. فلا ترضخ النسوية لأي غطاء أو مساومة أو عصمة ثورية وتستمر المرأة بالتمرّد على السلطة المطلقة، على الحاكم الجائر، على الدستور العقيم، على الشريك الثوري المتسلط، على الهمس الذي صدر ضدّ فكرها أو جسدها ضمن مظاهرة ما خرجت للمطالبة بسقوط النظام: تخلق ثورة لتحمي الثورة الأولى من بعض آبائها، لأنها لا يصحّ لها أن تتعايش مع نقيض أو منغصّات. وهذه الثورات اليومية الصغيرة التي حملت نساؤها الرايات ضد ثورات سبقت والتي غالباً ما كانت همّاً ثانوياً لشريك سابق في النضال أو مدعاة لسخرية أصحاب الهموم السياسية الكبيرة، هي الصيرورة الفعلية للاشتباك غير المعلن بين النساء وكل ما يقصيهن، يهمّشهن، يشوّههن ويوصمهن. لأن النساء اللواتي رضين بالثورة كفعل لا ينتهي هنّ الأقدر على توقع وفهم إعادة إنتاج الظلم ولأنهن خبرنه منذ الأزل وعرفن ملامحه الأولى وأقنعته المجرّدة وأطواره الأخيرة.
- 1. حوار أجرته "أخبار الأمم المتحدة" مع ناشطات فاعلات في الثورة السودانية: "المرأة السودانية وقضايا ما بعد الثورة: حوار مع الناشطتين آلاء صلاح وصفاء العاقب".
- 2. مستند إلى نص كتبته رابحة السودانية في السفير العربي في ٢٠١٩: "دور النساء السودانيات المميز في الاحتجاجات الحالية" وإلى نص آخر كتبته نور علوان في نون بوست: "المرأة في السودان.. أيقونة الثورة تقاتل لنيل مكانتها السياسية".
- 3. من قصيدة الشاعر العراقي: "محاولة لتحطيم أنف العالم" من ديوان: "الحب حسب التقويم البغدادي".
- 4. عن نص لريتشارد هول "في لبنان المرأة في صدارة الثورة" عن موقع الاندبندنت العربي.
- 5. يستند إلى نص لحليمة القعقور في جريدة النهار اللبنانية: "هل تستحق المرأة العقاب لدخولها المعترك السياسي؟"
- 6. المقطع يستند إلى سلسلة مقالات وتغريدات كتبت منذ عام ٢٠١١ حتى اليوم وتتناول الانتهاكات الجنسية، الجسمانية والنفسية التي تتعرض لها في الثورة والثمن الذي دفعته نساء الثورات العربية.
- 7. تستند هذه الشهادة إلى مذكرات مليكة أوفقير المروية في كتابي "السجينة" و"الغريبة" بالإضافة إلى مذكرات والدتها فاطمة الشنا "حدائق الملك".
- 8. مروي عن أحمد المرزوقي أحد الناجين من سجن تزمامرت السياسي.
- 9. مستند إلى مقابلات تلفزيونية بِثت على التلفزيون الجزائري لناجيات (كبيرات في السن) من المعتقل روين ما تعرضن له.
- 10. من نص إخباري على موقع السياسي الجزائري: "جميلة بوحيرد تقود الجزائر للانتفاضة على بوتفليقة".
- 11. مراجعات من الفترة الناصرية وفترتي حكم السادات ومبارك بعنوان "كيف انتهكت مصر نساءها منذ انشاء الجمهورية وحتى اليوم؟"
Barazi, H. (2016). The Egyptian feminist movement: Between the Cultural Legacy and Political Activism (Women of Tahrir Square as an example). Insaniyat Open Edition Journals. Cairo, Egypt.
Coleman, I. (2011). Is the Arab Spring bad for women?. Foreign Policy, 20.
Emara, I. (2018). On the Contemporary Feminsit Movement in Algeria: Its Roots, Particularity, and the Current Situation. Nahwa Wae’ Nasawi. Beirut, Lebanon.
Golley, N. A. H. (2004). Is feminism relevant to Arab women?. Third World Quarterly, 25(3), 521-536.
Holdo, M. (2017). Post-Islamism and fields of contention after the Arab Spring: feminism, Salafism and the revolutionary youth. Third World Quarterly, 38(8), 1800-1815.
Johansson-Nogués, E. (2013). Gendering the Arab Spring? Rights and (in) security of Tunisian, Egyptian and Libyan women. Security Dialogue, 44(5-6), 393-409.
Kiwan, D. (2015). Contesting citizenship in the Arab revolutions: Youth, women, and refugees. Democracy and Security, 11(2), 129-144.
Moussawi, F., & Koujok, S. (2019). Arab Women, Islam and Feminism. Women, Civil Society and Policy Change in the Arab World, 33.
Moussawi, F. (2019). The Economic Determinants Behind the Participation of Sudanese Women in the Revolution. Al Akhbar Newspaper. Beirut, Lebanon.
Moghadam, V. M. (1995). Gender and revolutionary transformation: Iran 1979 and East central Europe 1989. Gender & Society, 9(3), 328-358.
Moghadam, V. M. (2018). Feminism and the future of revolutions. Socialism and Democracy, 32(1), 31-53.
Morsy, M. (2014). Egyptian women and the 25th of January Revolution: presence and absence. The Journal of North African Studies, 19(2), 211-229.
Nelson, C. (1996). Doria Shafik Egyptian Feminist: A Woman Apart. American Univ in Cairo Press.
Rifai, L. (2017). Is there a need for a new feminist wave in the Arab World? Al Jazeera English.
Salhi, Z. S. (2003). Algerian women, citizenship, and the ‘Family Code’. Gender & Development, 11(3), 27-35.
Salhi, Z. S. (2010, March). The Algerian feminist movement between nationalism, patriarchy and Islamism. In Women's Studies International Forum, 33(2), 113-124. Pergamon.
Shaʻrāwī, H. (1987). Harem years: The memoirs of an Egyptian feminist (1879-1924). Feminist Press at CUNY.
Sjoberg, L., & Whooley, J. (2015). The Arab Spring for women? Representations of women in Middle East politics in 2011. Journal of Women, Politics & Policy, 36(3), 261-284.