سواقين التكتك: البروليتاريا الجديدة | العراق
مع اقتراب نهاية هذا العام، واستمرار الانتفاضة والمظاهرات بقيادة الشباب، برز الى سطح الاحداث تحول محتمل في الصورة النمطية المبنية اعتمادا على التصنيف الطبقي للمجتمع العراقي. تعززت أركان هذا النظام الاقتصادي ذي الجذور التاريخية في المجتمع العراقي وانعكس على الحياة اليومية للمواطن بعد غزو العراق والحرب. كما ازداد انتشاراً وصلابة بعدما تغذى من العنف الطائفي الذي انتشر في الشوارع، ليصبح مُكوِّناً حتمياً لنظام طبقي يقدر له أن يخيم على النسيج الاجتماعي العراقي لأجيال. يقع ضحية هذا التصنيف فئة الشباب (الذين يشكلون عماد الاحتجاجات الدائرة الآن) والذين يتحملون عبء هذا الصراع، على الرغم من عدم مشاركتهم فيه بشكل مباشر، إلا أنهم برزوا كجزء من نسيج اجتماعي اقتصادي يميز بين الناس على أساس الطبقة والمكانة الاجتماعيتين. لذا، فقد تمركزت احتجاجاتهم حول مواجهة ومحاربة وإزالة هذا النظام الطبقي الكامن الذي خلقه المسؤولون الحكوميون والذي تدعمه أحزابهم. ردد المتظاهرون شعارات مثل "نريد وطن" و"نازل آخذ حقي"، فلم تقتصر مطالبهم على وطن بمفهومه الجغرافي فقط، وإنما امتدت إلى المطالبة بإصلاح نظام أفسدته عقود من الحرب والتمييز الطبقي. بيد أنه، في الوقت الذي تُسخّر فيه الطبقة الحاكمة جل مواردها وقوتها في محاولة لإحباط الثورة المحتملة، فإن الطبقات الدنيا والعاملة تدعمها من خلال العمل كنواتها ومحركها، والوقوف يوماً بعد يوم في الشوارع، وضمان إبقاء الثورة على قيد الحياة. من الأمثلة على ذلك، سائقو "التكتك" وهم محرك الثورة العراقية: لم يثبتوا أنهم "ظاهرة" الإضراب الحالي فحسب، بل أصبحوا يمثلون أيضاً وجهاً لبروليتاريا1 جديدة. و"التكتك" لمن لا يعرفه هو دراجة نارية بثلاث عجلات تستخدم كوسيلة نقل رخيصة في الأحياء الشعبية، وهي غير قانونية في مناطق بغداد الرئيسية. بعبارة أخرى، عملهم تُحدده خطوط طبقية ضمن الحدود الجغرافية للمدينة نفسها.
بناءً على مشاركتي في معظم المظاهرات الأخيرة في العراق، أعتقد أنه بالإمكان تسمية الحراكات الأخيرة بالثورة، حتى لو لمجرد قيادتها العفوية والشابة. والأهم من ذلك، أنها تُغير ملامح الحدود الاقتصادية، والتصورات السائدة عن الطبقة العاملة، وفي الحالة المذكورة في هذا المقال، سائقي "التكتك".
يُعتبر سائقو "التكتك" من أبرز الأمثلة على الصورة النمطية المتداولة في بغداد. حيث ينظر اليهم من قبل سكان الاحياء "الراقية" كطبقة خارجة عن "النظام". وبالتالي، فإن التمييز الطبقي يستتر خلف قناع من القوالب النمطية التي تستهجن عاداتهم وسلوكهم في القيادة والتي تُعتبر "بغيضة" وغير لائقة في الشوارع. كما تصورهم بأنهم ناتج مجتمع متضرر ووجه لمدينة تخلو من القانون، كما أُلقي اللوم عليهم في حوادث السيارات والأحداث العدوانية التي وقعت في أرجاء المدينة. تجدر الملاحظة بأن معظم سائقي "التكتك" هم في الغالب مراهقون قُصّر من أفقر أحياء بغداد، مثل مدينة الصدر. نتيجة لعملهم كوسيلة نقل بديلة رخيصة التكلفة، أُدرجوا في نظام طبقي وعُوملوا كعمالة رخيصة تمت شيطنتها. وجد سكان المناطق المحيطة، وأنا منهم، صعوبة في التعامل مع هؤلاء السائقين وقيادتهم الفوضوية. إلا انه، مع الثورة، تغيرت نظرتي وحتى مشاعري تجاههم، الأمر الذي كان مدفوعاً بالدور الذي لعبه سائقو "التكتك" في المظاهرات. من خلال عملهم كبنية تحتية للنقل في الثورة، حيث أخذوا على عاتقهم أن يُقلوا المحتجين والإمدادات إلى مناطق التظاهر، مجاناً. وأصبحوا في لمح البصر وسيلة النقل الوحيدة الناجعة من وإلى ساحة التحرير، وعملوا بلا كلل ليلاً ونهاراً. انطلاقاً من كونهم سائقين يعملون بالمجان، أصبحوا أيضاً عمال نظافة، وسيارات إسعاف، وحُماة، ومتظاهرين هم أنفسهم. وبالفعل، اعتُرف بهم في نهاية المطاف كجزء من الثورة، بدلاً من ربطهم بالوصمة المصاحبة لسكان الأحياء الشعبية.
أصبح سائقو "التكتك" المراهقون عملاء للتغيير بدلاً من التبعات المتوقعة للحرب، ومع هذا التحول الجذري، غيّر المجتمع نظرته إليهم، ليصل الأمر إلى درجة تمجيدهم. من خلال الأغاني والرسومات التي تتطلع للسائقين على أنهم مثل أعلى في ساحة التحرير. قبل الثورة، إذا سألت أي امرأة في بغداد عما إذا كان من الممكن أن تركب التكتك، ستعتبر السؤال مزحة. أما الآن، تغني الشابات في ساحة التحرير، "أبو التكتك علم"، أو "والنعم من أبو التكتك". حتى أن المتظاهرين أسموا جريدتهم (يحررها وينشرها متطوعون من المتظاهرين) "تكتك".
إلا أنه، ومع الشعور العام بالوحدة في الشوارع، لا يمكن إنكار أن الأفكار والصور النمطية المسبقة تتهاوى مع الأحداث الهامة. لا يقتصر الأمر على تحدي الحدود الطائفية، بل يتعداها إلى حدود الطبقة الاجتماعية أيضاً، لدرجة أنه لا يمكن اعتبار الاختلافات الطائفية والطبقية منفصلة عن بعضها البعض؛ معاً، تشكلان سوراً يحمي مصالح الطبقة الحاكمة. مع فقدان الاختلافات الدينية والاجتماعية - الاقتصادية أخيراً تأثيرها في أعين الكثير من العراقيين، فإن هذا السور هو الحاجز المتوقع سقوطه.
- 1. بروليتاريا: (بالإنجليزية Proletariat)، مصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية (proletarius) والذي يعني الطبقة العاملة التي تنشأ بسبب الأنظمة الرأسمالية الاحتكارية، ويعتبر كارل ماركس أنها الطبقة التي ستنتفض في وجه أصحاب رؤوس المال لتحرر المجتمعات.