الاقتصادات البديلة رأسمال نسوي
kohl2.jpg
عندما حاولنا تخيّل ما ستظهر عليه الاقتصادات البديلة في إطارها الخطابي، فكّرنا في الأنظمة العالمية، الامبراطوريات، الشركات، الأسواق الرأسمالية، وآلات السيطرة والسلطة غير المحدودة. بدلا من تناول تلك المواضيع، يعود هذا العدد إلى الجذور. قامت كاتباتنا بالنّظر داخليّا لكي يجمّعن ما يعنيهنّ عن اقتصادات أجسادهنّ الخاصة والعمل والرّعاية. ورغم عدم وجودهنّ في محادثة مباشرة بين أنفسهنّ إلى حدّ الآن، فقد حلمن باقتصادات تهرب من قبضة الترسبات الهيكليّة.
هذه هي العملية الجماعية التي نريد أن نرى تبلورها، لأنه من خلال المشاركة الحاسمة يمكننا أن ندفع باتجاه رؤية سياسية. ينبثق مؤتمر "الاقتصادات البديلة" المنظّم من قبل كحل من هذه الفكرة، وهو واقع يومي الجمعة والسبت في ٢١-٢٢ حزيران من عام ٢٠١٩. نأمل أولاً أن نساهم في وضع الأسس من خلال إعادة النظر في نظرية وممارسة الاقتصادات البديلة ومناقشة السياسات الليبرالية الجديدة والتحدث عن الحركات والوصول إلى الموارد. سننتقل بعد ذلك إلى البحث عن تقاطعات – وهي كلمة يساء استخدامها إلى حد كبير اليوم وتستخدم على سبيل الترادف مع "المصالح" المتنوعة – العمل والهجرة والأبوية الطبية والأرض والتنظيم النسوي. من الناحية الهيكلية، لم يكن لدينا الموارد اللازمة لتنظيم هذا المؤتمر. ومع ذلك، تمكنا من استخدام الموارد الشحيحة والوقت والمشاعر والعمل من أجل تحقيق ذلك. مؤتمرنا سيعقد في مبنى مهجور قد تحول إلى فضاء مشترك في قلب بيروت. في تطبيقنا العملي كل يوم، نحاول احتضان فوضى العمليات التي تشكل، في نهاية المطاف، ما أسميه رأسمالنا النسوية.
كيف تبدو الاقتصادات البديلة لطرق التّنظيم؟ وكيف تبرز البعض من خيالاتنا الثورية؟ يقدّم بيان تعاونية الضمة آمال عضواته وأعضائه في اقتصاد نسوي وعدالة تقاطعية. التعاونية هي نموذج عمليّ لممارسات اقتصادية نسوية مستدامة ذاتيا ومعتمدة على مواردها الخاصة. ليست هذه الممارسة بعيدة عن الجمعية التّي توثّقها منّة آغا في بحثها المعنون "لا عمل غير المهمّين/ات: اقتصاد الظّل للنساء النوبيات في قرى التّهجير". رغم اعتبارها "بنك الفقراء"، فإنّ الجمعية هي نموذج بديل للرّأسمال والموارد الاقتصادية المقنّنة من طرف الدّولة. تمسح الاثنوغرافيا الذاتية التي تقوم بها آغا اقتصاد الظل للنساء النوبيات بمفهوميه الفعلي والسردي، وتطرح الأسئلة عمّا يعنيه "العمل" تحت الأنظمة الاقتصادية التّي نعتبرها سائدة وبالتالي طبيعية.
من خلال كلّ العدد، يتمّ انشاء النظريات عن الأبوية والرّأسمالية باعتبارهما عمودين أساسيين للوضع الراهن. مع هياكل كلّية مثل تلك، ما هي الاقتصادات الرّسمية وما هي الأعمال المثمّنة؟ في "كيف يؤثّر التقشّف على النساء: الاقتصاد السياسي الأعمى"، تؤكّد فيفيان عقيقي أنّ العدالة الاقتصادية للنّساء ليست ممكنة تحت سياسات التّقشّف وفشل دولة الرّفاه. فالنساء تصارعن بين شروط العمل الجائرة والعمل غير مدفوع الأجر في المنزل. ولكنّ العمل الرعائي داخل المجال المنزلي، تحت الاقتصاد الرسمي، دائما ما يكون مبخّسا. في بلدان مثل لبنان، لا يعطى أيّ خيار لعاملات المنازل المهاجرات سوى عملهنّ تحت نظام الكفالة "القانوني"، كما تفسّر ياسمين خرفي في "الهيستيريا النسائية، العمل المحجوب، ونظام الكفالة". تربط خرفي بين عمل النساء تحت الأنظمة الاقتصادية الليبرالية والتاريخ الطبي في وسم النّساء وطرق صراعهنّ بالمرض. إلى يومنا هذا، يتمّ إلصاق تمرّد عاملات المنازل المهاجرات وغضبهنّ بمسائل الصحة النفسية و"الهستيريا" من خلال منظومة ترفض أن تُسائل نفسها.
مع الأبوية الطبية، قام المجال الطبي بمأسسة ممارسات العلاج، بفصلها عن جذورها في الرّعاية المجتمعية. صار البحث عن الرعاية الصحية مجالا لاستنزاف الموارد، مصمّما خصيصا من أجل تضخيم الفوائد على حساب الأجساد الحية والمحتضرة. في "الأبوية الطبية: تجارب القابلات القانونيات في لبنان نموذجًا" يبحث التوثيق الاثنوغرافي لهبة عبّاني في تواريخ القابلات وبروز التّخصص. ممنوعات من الممارسة بسبب المحو التاريخي، والعنف الممنهج، والتّغريب، أبعدت الدايات وقلّل من شأنهنّ إلى أن أصبحن ثانويات في أنظمة طبّية تقلّل من شأنهنّ وشأن معارفهنّ. أمّا "عقم الشرّ"، فهو إهداء صوفي شمّاس المؤثر إلى جدّتها، إذ أنّها تفضح العمل المطلوب من الأجساد المحتضرة والمستغلّة من طرف المنظومة الصناعية الطبية. مقال شمّاس هو إهداء لوالدتها كذلك، نظرا للذنب والرعاية والكدح المسلّم بهم والمستعملين ضدّها تحت الأبوية والرّأسمالية.
إن كان في نشاطنا النسوي والكويري أو في محادثاتنا عن الاقتصادات البديلة، ينقصنا بناء النظريات عن الطبقة، كما تشير إليه نوف ناصر الدين في "التنظير حول الطبقية في الدول الناطقة باللغة العربية: أفكار وانعكاسات". بالاعتماد على بحثها الميداني، تتناول ناصر الدين مفهوم الكويرية كمفهوم تفاضليّ للطبقة، في علاقته بالفضاء المنزليّ وبنية العائلة. ومع ذلك، رغم كون الأشخاص غير المعياريين/ات عرضة للـ"عقاب"، على كويريّتهم/نّ، فلا تزال التوقعات تنتظر منهم/نّ التطابق مع المعايير والسلوكيات النمطية في الفضاء العام. تتناول سعدى علوة الحديث عن الطبقة كذلك في "فصل من تلك الحياة". رافضة أن تخلق صبغة استثنائية للسياقات الريفية قد تعيد انتاج الريف كـ"متخلّف"، لا تزال علوة تدين دون اعتذار العنف وهي تقصّ الحوادث التي شهدتها حولها وهي تكبر. شكّلت هذه التجارب فهمها للظروف اللازمة لتحرّر النساء في سياقات غير حضرية ومن غير الطبقة المتوسطة أو العالية، ألا وهي "طيبة" الشخصية الأبوية. أمّا قصّة شروق نصري القصيرة، "رحلة حافلة إلى واد الناشف"، فهي تربط بين التمييز المكاني والطبقة. فالعنف المجندر في المواصلات العامّة هو مظهر واضح من مظاهر الأبويّة والرأسمالية، رغم كونه غير مباشر، في محاولته لإبقاء المجال والخدمات العامّة استثنائيا في خدمة الرجال المطابقين للنوع الاجتماعي.
تأتي قوى الأبوية والرأسمالية سويّة لتجمع الموارد والثروة التي لا يمكن الوصول إليها عن طريق بدائل التنظيمات السائدة. ومع ذلك، بالنسبة إلى فرح بابا، لا يعني الأمر وجوب التوقف عن تصور هذه المحاولات التقاطعيّة للطعن في الوضع الراهن. يكشف مقالها "في تغييب السياسي من الإقتصاد والنشاطية: ملاحظات نسوية حديثة التخرج عن الإغتراب والإحتواء" عن محاولات احتواء الحركات السياسية وبالتالي السياسية عنها، من طرف منظمات غير ربحية أكبر حجما، حتّى تلك منها التّي تعتبر نفسها تقدّمية. تعرب بابا عن غضبها إزاء عزل وإسكات النساء والناشطات والطلاب والطالبات الرافضين/ات اتباع المسار المحدد للمنظمات غير الحكومية نحو التعميم. يمكننا استعادة قيمة الأشياء والعمل غير المرئي المفقود في ظل النظم النيوليبرالية من خلال إعادة التجسيد والفن، وفقًا لعزة زين في "استعادة المادة، الفن والاقتصادات العاطفية". متابعة خطّ هجرتها الذاتي، تجد زين القيمة في ذكريات طفولتها، مثل الليرة اللبنانية التي تم تخفيض قيمتها، وهو مبدأ اقتصادي تطبقه في عملياتها الفنية. إنّ تبنّي اقتصادات بديلة كخيار عملي يتطلب عملاً عاطفيًا، كما يوضّح الحوار بين نادين النابلي وأميرة الوكيل، "الوعي النيوليبرالي والعمل العاطفي للتأقلم: حديث بين صديقتين". من خلال الربط بين العمل مدفوع الأجر والصحة النفسية، والليبرالية الجديدة، والبقاء على قيد الحياة، تتأمّل المتحدّثتان بشكل جماعي العمل العاطفي الذي يتخلل العمل من الرعاية التي يمارسانها سويّة. في النهاية، تذكّرنا النابلي والوكيل بأنّ العمل الذي نختاره للاستثمار في بعضنا البعض وفي مجتمعاتنا ربما يكون اقتصادنا الأكثر ثراء – أي رأسمال لديه القدرة على تحدي حدود النظام النيوليبرالي.