الحروب المُجندَرة في أهل الهوى
في هذا المقال، أقرأ رواية أهل الهوى لهدى بركات من خلال عدسةٍ كويريّةٍ، مؤطّرةً النقاش عبر الاستقبال الأدبي لعمل بركات. تتجسّد العواطف الكويريّة من خلال سرديّة بركات المتقطّعة والمُستولدة من الذّاكرة. أقترح أنّ السرديّة تكشف تشابك الرغبة الجنسيّة لدى الرّاوي تجاه حبيبته برغبته في أن يكون له جسدٌ غير محدّد الجنس سابقٌ على الولادة والمجتمع. إنّ إقدام الرّاوي على قتل حبيبته ومن ثمّ (إعادة) تركيب شخصيّتها من خلال الذّاكرة، لا يمكن فصله عن صراعه الخاصّ من أجل مقاربة المُثُل المُجندَرة للرّغبة والتجسيد.إن قراءتي تموضِع الحبيبةَ في داخل الرّاوي وخارجه في آنٍ معًا – وهي ملاحظةٌ يمكنها أن تفتح المجال أمام مسارٍ قصصيٍّ بديلٍ لرواية بركات.
لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".
في أهل الهوى لهدى بركات، الرّاوي هو رجلٌ مجهول الهويّة كان اختُطِف وعُذّبَ خلال الحرب الأهليّة في لبنان. ويقصّ الرّاوي حكايته انطلاقًا من الذّاكرة في أثناء إقامته في “دير الصّليب”، وهي مصحّةٌ نفسيّةٌ تبشيريّةٌ. تفتتح الرّواية في اللّحظة التي كان فيها الرّاوي قتل للتّو حبيبته، وهي لحظةٌ “استردّ” فيها جلده و”استعاد غلاف(ه) الحافظ متينًا كاملًا خاليًا من أي تشقّقٍ أو ثقوبٍ” (بركات 2002: 9). إذ تتقدّم بنا الرّواية، تدرك القارئة أنّ الرّاوي يعاني انعدام الترابط والوضوح في ذاكرته: سرديّته هي محاولةٌ لموضَعَة نفسه وحبيبته في مسارٍ قصصيٍّ يُظهر كيف اتّقد شغفه وتطوّر لينتهي بجريمة القتل. يقول: “حين أعود أحيانًا من نسياناتي الكثيرة، أفكّر بأنّي لم أقتلها. بأنّي لم أقتل أحدًا، بأنّ عقلي المريض كان، مفكّكًا، يتقافز في رأسي، فالتًا على هواه” (187). وفي خلال الرّواية، يتنقّل الرّاوي باستمرارٍ بين مساحات ذاكرته والمصحّة النفسيّة، طامسًا الحدود بين الحاضر والماضي، وبين “دير الصّليب” ولبنان في خلال الحرب.
راوي بركات هو مسافرٌ في الذّاكرة، منخرطٌ في سيرورةٍ من (إعادة) تركيب ذاته والآخرين/ الأخريات. وتكشف الحدود المتبدّلة تأرجحه بين التعلّق بالآخرين/ات وشعوره بالعزلة في الوقت عينه، وهو وضعٌ يفاقمه موقعه المهمّش في “دير الصّليب”. إنّ تروما اختطافه وتعذيبه تشتغل عمليًا شغل “أزمة المعرفة” وفقًا لتسمية دينا جرجس، بحيث ينهار “السّياق الرّمزي الذي يهِب المعنى للحياة اليوميّة، ويغدو العالم البديهيّ مفقودًا أو مهدّدًا” (10). وتسمح أزمة المعرفة هذه للرّاوي باستكشاف أمكنةٍ تخرج عن المعياريّة التي شكّلتها العلاقات والبُنى الاجتماعيّة في الحرب. بالطّبع، هو يتحرّك في مساحةٍ من التمرّد التي – للمفارقة – تجسّد ذاته وتنبذها وتعيد تخيّلها، وكذلك انتماءه وانتماء الآخرين/ات إلى الجماعات والهويّات الاجتماعيّة. وتكشف مساحة التمرّد هذه وتؤكّد “العواطف الكويريّة” التي تصفها جرجس بأنّها “خلقٌ وإعادة خلقٍ لمعضلات العلائقيّة” (14). وإحدى هذه المعضلات بين الذّات والآخر تقع في الرّاوية بين الرّاوي وحبيبته. يتشكّل مسارها بالعنف والعطف، وبالتمايز والتماثل في آنٍ معًا. أكثر من ذلك، تمتدّ معضلات الرّاوي لتطال ذاته هو: تكاثر جسده ورغبته بتجسّدٍ مختلفٍ يتحدّى الصّلة بين جسده والجنس والجندر المحدّدَين له.
في هذه القراءة، أركّز على اللّحظات التي تخلق احتمال اللّقاء بعواطف كويريّةٍ ضمن السرديّة. وبحسب فهمي للعواطف الكويريّة، فإنّها تحوي الرّغبات التي لا يُمكن احتسابها في المعايير الاجتماعيّة. أبدأ بمناقشة الباروديا والإمكانيّات التي تنبثق عن منحى وبنية السّرد المضطربَين لدى بركات. بعد ذلك، أعود إلى زيارة فقرات تقتفي أثر الحدود المتحرّكة للرّاوي، وتلقي الضّوء على انتمائه المضطرب إلى مجالات العلاقة. في الختام، أناقش ذات الرّاوي ورغبته وجسده في العلاقة بشخص الحبيبة بصفتها المرأة الكامنة في داخله. وتموضِع قراءتي الحبيبةَ في داخل الرّاوي وخارجه في آنٍ معًا، بحسب ما ترشدنا لغة بركات وانفتاح بنيتها السرديّة. وتتبع هذه الملاحظة خطى الناقدات والنقّاد1 في قراءة الجندر وتجسيده في الرّواية بصفته مكوّنًا بشكلٍ يتجاوز ثنائيّات الرجل/ المرأة والذّكر/ الأنثى. إنّ الحضور الصّاعد للحبيبة المتّصفة بكونها “المرأة في الدّاخل”، يربط ذاكرة الرّاوي بالأصل الأنثوي وغير محدّد الجنس لجسده الخاصّ.
المنحَى السّردي: الباروديا
تطرح قراءات أهل الهوى تصوير الرّاوية لاستبطان الرّاوي عنف الحرب الأهليّة. وتكتب منى تقيّ الدّين أميوني أنّ بركات تستخدم الباروديا “لتُضمّن وتتحدّى، بسخريةٍ دراميّةٍ حادّة ، الممارسات الوحشيّة” للحرب (39). إنّ موقعيّات الرّاوي المتعدّدة، سواء في الإقصاء أو الانتماء الجماعي أو في الهويّة وخارجها، تصوّره كمعتدٍ وكضحيّة. وفي حركته بين الأقطاب، يكشف الرّاوي ويجسّد عنفَ صناعة الحدود المُمارَس على الذّات وعلى الآخرين/ات. ويحدث العنف المُوجّه على “الآخر/ الأخرى” بفعل الإقصاء القاطع له/ا من الذّات وانتمائها الجماعيّ، ما يجعل من هذا/ هذه “الآخر/ الأخرى” جسدًا هشًّا، مريبًا ومجرّدًا من الشّخصيّة. لكنّي أقترح أنّ قراءة أميوني للباروديا يمكن أن تمتدّ إلى ما بعد ممارسات الحرب، وفي اتّجاه ديناميّاتٍ تجعل العلاقات بين العنف، والجندر، والجسد والرّغبة مقروءة. في الواقع، تنخرط بركات في باروديا متقاطعةٍ ومتعدّدة المستويات للجندر والرّغبة في سياق الحرب الأهليّة2. ومن الممكن أن يكون أحد مفاهيم الباروديا المنطبقة على السرديّة هو مفهوم محاكاة الجندر كما تشرحه جوديث باتلر. أما المفهوم الآخر للباروديا، فقد يكون محاكاة مفهوم الحبّ المثاليّ المستحيل الذي تُشير إليه باربرا وينكلر في قراءتها للرّواية.
وفي سياق النظريّة الكويريّة، تقدّم باتلر مفهوم الباروديا كمحاكاةٍ واعيةٍ للجندر المنسوب اجتماعيًا، ما يهدّد ترسيخ استقرار واستمراريّة هذا المركّب بفعل المغالاة (174). وتتصوّر باتلر الجندر كأداءٍ يُحاكي الهويّة المثاليّة التي هي مركّبٌ اجتماعيٌّ غير حقيقيٍّ للأنوثة والذّكورة. وبما أنّ حكاية الرّاوي تتّسم بالتقطّعات الناجمة عن فقدان الذّاكرة، فإنّ السرديّة تُعير ذاتها بشكلٍ خاصٍّ لخلق الشخصيّات من خلال الانقطاع الباتلريّ (نسبةً لباتلر) الذي يسِم الجندر. وتستخدم بركات البنى السرديّة المتقطّعة لإظهار الحركة باتّجاه مركّبات الهويّة: في التقرّب والتهرّب من موقع الرّجولة، يتزعزع الرّابط بين جسد الرّاوي “الذّكر” والجندر المذكّر. إنّ الصّدع بين ذات الرّاوي وجسده يزيد من اضطراب الاستقرار المُشكّل اجتماعيًا لذكورته، مزعزعًا بذلك ثنائيّة فئة الجنس (الذّكر/ الأنثى).
في قراءتها للرّواية، تصف وينكلر الرّاوي كشخصٍ استحال مجنونًا بفعل رغبته الهوسيّة بـ”مثالٍ عن الحبّ المُطلق الذي لا يُمكن عيشه في الواقع”، وهو مجازٌ تُعيده إلى مجنون ليلى والشّعر العذريّ (160). وعلى الرّغم من أنّ هذا المفهوم للمثال يشكّل استراتيجيةً مفيدةً لمقاربة معضلة الرّاوي ومنحاه السرديّ، تبتعد وينكلر عن قراءة الحرب والتروما كعاملَين أساسيّين في الرّواية وتزعم أنّ الجنون يعمل فقط من خلال تقاليد “عذاب الحبّ والتجارب الروحانيّة ” المتجاورة في الأدب العربيّ وفي الصوفيّة (166). وبينما تتغلغل على امتداد الرّواية رغبةُ الرّاوي في بلوغ المثال، لا يمكن استبعاد السّياق الاجتماعي – التاريخي في الرّواية. إنّ سياق الحرب الأهليّة (يعيد) تركيب مُثُل الرّغبة والجندر، ممعنًا في إبعاد رغبة الرّاوي المسيحي بالحبيبة المسلمة عن التحقّق في الحياة الواقعيّة. بالإضافة إلى هذا، وكما يبيّن طارق العريس، الجنون “يكشف الرّغبة”، وبالتالي قد يعمل كمساحةٍ للتمرّد الذي “يزعزع الأعراف الاجتماعيّة والثقافيّة للحبّ والجنسانيّة” (299). ومن الممكن قراءة جنون الرّاوي كجنونٍ ناتجٍ عن هوسه بالحبّ المثالي، لكن السّياق الذي يتصوّر فيه الرّاوي حبّه المُطلق المُستلهَم من “الرموز الاجتماعيّة والثقافيّة للحبّ” والمُتموضِع ضدّها، يؤثّر في مساره تجاه هذا الحبّ.
أقترح أنّ جزم وينكلر بوجود حركةٍ نحو الرّغبة المطلقة يعقّده مفهومُ الباروديا لدى باتلر كحركةٍ نحو الجندر المثالي. إنّ تصوّر حركةٍ نحو الرّغبة المثاليّة غير القابلة للانفكاك عن الجندر في “انعدام واقعيّته”، قد يصقل بفاعليّةٍ باروديا بركات بصفتها تقاطعيّةٍ ومتعدّدة المستويات. وغالبًا ما يتجاوز راوي بركات الحدود التي تفرّق بين جسده وجسد حبيبته، كما تتداخل في غالب الأحيان مساحات الجندر والرّغبة في تأمّلاته، طامسةً عمليًا الحدود بين باروديا الجندر وباروديا الرّغبة.
العواطف الكويريّة في الجسد الجماعيّ
إنّ حركة الرّاوي بين الفرديّة والحسّ الجماعيّ أو الانتماء الجماعيّ تكشف عن العواطف الكويريّة التي تصفها جرجس بـ”الرّغبات غير القابلة للمعرفة” (15). وتحدث بعض هذه العواطف في اللّحظات التي يستخدم فيها الرّاوي صيغة جمع المتكلّم لوصف نفسه ومرضى “دير الصّليب”. على سبيل المثال، يورد الرّاوي تشبيهًا بين مرضى “دير الصّليب” والنباتات التي تتحدّى الفهم العام بعدم ميلها نحو أشعّة الشّمس (بركات 2002: 39). ويكسر هذا الارتباطُ الانقسامَ بين النبات والإنسان، كاشفًا عن الرغبة في الهرب من أشعّة الشّمس كنقيضٍ للمسار المعياريّ نحو الخلاص. إنّ حركة الابتعاد عن أشعّة الشّمس هذه تشي بالأثر التعذيبيّ للضّوء – فالضّوء يستثير الألم في الجسد بفعل تكثّفه عندما ينعكس من على جدران وأرضيّة المستشفى (بركات 2002: 39). وتتواطأ هندسة المستشفى وطاقمها في هجوم الضّوء على أجساد المرضى، ما يضع الـ”نحن” الجماعيّة للرّاوي في مساحةٍ هامشيّةٍ تتّصف بالهشاشة التناقضيّة أمام ضرورات الحياة المعتادة.
ينزلق الرّاوي من صيغة المفرد المتكلّم إلى صيغة الجمع في وصفه مسار حركة الضّوء في الغرفة ومن ثم إلى داخل أعضاء جسده. ويُتاح له مهربٌ من هذا الألم والعذاب عندما تُمطر: يحصل المرضى على قليلٍ من الرّاحة “إذ تحنو السماء وتكفهر، وتنسحب من رؤوس(هم) تلك الإبر الدقيقة” (بركات 2002: 41). وبينما يستمعون إلى صوت المطر يتساقط على السّطح، “”ذلك الصوت الخارجيّ اللذيذ الذي يلفّ الأبنية والتلّة بكاملها” (41)، يلِج المرضى ذكريات الطّفولة حيث الصّوت يحدث في زمانٍ ومكانٍ مختلفَين. وتوصف ذكريات الطّفولة هذه من خلال السّمع واللّمس، ما يستبدل الحِمْل الحسّي الزّائد للبصر المرتبط بالألم والمعاناة، والمُصاغ بفعل الأداة الطبيّة المتمثّلة في صورة الإبر.
ويصف الرّاوي الطّفولة كـ”طعمٍ يرجع سهلًا ولا يقيم. يرجع سهلًا، ويغيب سريعًا، ويتركنا في دهشةٍ وحيرةٍ من أجسامٍ كبيرةٍ نجدها أمامنا” (42). ويموضِع الرّاوي ذكرى أن يكون المرء طفلًا في جسد جميع مرضى “دير الصّليب”، ما يزعزع التقسيم الثنائيّ بين الفرد والجماعة، ويدمج الحاضر في الماضي. وهذه الرّغبة في الهرب عبر الجسد الجماعيّ المُستبدَل بالطّفولة، تعمل على نحوٍ مشابهٍ لوصف جرجس للعواطف الكويريّة كـ”مقاطعةٍ” للمنظومة الرمزيّة الاجتماعيّة (15). ويضمّ الرّاوي نفسه هنا إلى المرضى الآخرين في جسدٍ جماعيٍّ مهمّشٍ وفي “نحن” تفويضيّةٍ للهروب من الواقع عبر الذّاكرة. لكن المفاجأة التي ترافق الانفصال عن الجماعة والعودة إلى الاصطفاف كأجسادٍ فرديّةٍ بالغةٍ تكشف عن لحظةٍ من التحوّل الجسدي غير المؤرخَن، مستحضرةً ومزعزعةً في آنٍ معًا الحدود بين الطّفولة والرّشد. ويصوغ الرّاوي التجربة الحسيّة للتجوّل في الذّاكرة والعودة إلى الحاضر، كلحظةٍ جماعيّةٍ للحركة التي تحدّد جسده وأجساد غيره من المرضى كأجسادٍ “ضعيفةٍ وخاضعةٍ”، وكـ”أجسامٍ لا نألفها حتى نقدر على تطويعها” (بركات 2002: 42).
ما إن يعود الرّاوي ويصطفّ في جسده البالغ حتى ينفصل عن “نحن” الجماعة، معتمدًا “أنا” المفرد المتكلّم. ويمثّل هذا التحوّل اتّخاذ مسافةٍ قصديّةٍ من الجسد الجماعيّ للمرضى، نحو احتلال موقعٍ خارج الخضوع. هكذا، يعلن الرّاوي إرادته: أن “أبتعد عنهم وأنساهم وأنسى كم أني أشبههم. لأنسى اشتباك جسمي في أجسامهم وضياعه فيها” (المرجع السّابق: 42). وفي نهاية الفصل، يصف الرّاوي “كثرة” المرضى كماشية الرّب التي “أنزل فيها قصاصه. أنزل فيها شكله الناقص” مما أدّى إلى إقصائها واحتقارها (المرجع السّابق: 42). وتربط السمّان نموذج الرّاعي/ الرعيّة هذا بنموذج “الرّب، الأب والحاكم”، مقترحةً أنّ بركات “تكشف خطر هذا الارتباط، وخطر تبجيل المقدّس، عندما تقدّم الرّب بصفته منحازًا إلى الأكثريّة القويّة ضدّ أقليّة المصحّة المطرودة” (183-4). لكن هامشيّة المرضى حمائيّةٌ أيضًا، إذ أنّ “دير الصّليب” يسبغ على المرضى مدنيّةً مستحيلةً خارجه في سياق الحرب الأهليّة. وبين جدران هذه المصحّة، صار المرضى “المدنيّون الوحيدون الأخيرون ، إذ لم يعد من سبيل لدينا لحمل السّلاح، نهائيا” (بركات 2002: 154).
تُعرّف جماعة المرضى المُخضَعين أيضًا من خلال إقصائها عن الواقع: أجساد المرضى الحيّة لم تعد تضمن مشاركتهم في الحياة (بركات 2002: 96). في لحظةٍ أخرى من لحظات تماهيه مع “نحن” الجماعة، يشير الرّاوي إلى الفصل بين المرضى على أساس الجندر، والانزعاج الذي يبديه موظّفو/ات “دير الصّليب” عندما يلامس المرضى أجسادهم بطريقةٍ جنسيّة. هكذا، تُنكَر جنسانيّة المرضى بناءً على إقصائهم عن الأدوار المُجندَرة للحرب. ويضع هذا الإقصاء رغبة المرضى خارج المنظومة الرمزيّة الاجتماعيّة المتّسمة بالرّبح أو الخسارة، ويبني رغبتهم في الممارسة الجنسيّة على أساس “اللّعب الخالص”. يقول الرّاوي:
لا نفهم لماذا لا يعرفون كم أنّ أجسادنا وحيدةٌ ومقطوعةٌ، وأنّ رغبتنا، إذا جاءت، فإنّ لها هيئة اللّعب. اللّعب الخالص الذي لا يعرف الخسارة أو الرّبح، البداية أو النهاية. ربما لأننا أضعنا بداية أجسادنا صرنا كمن بين يديه لعبةٌ ناقصةٌ جدًا” (بركات 2002: 155).
إنّ تعليق اكتمال الرغبة سواء في موقف الهيمنة أو الخضوع، يتحرّر من التصوّر الذي يفترض أنّ الممارسة الجنسيّة تتشكّل حتمًا من خلال ديناميّات القوّة. هذا “اللّعب الخالص” يتعارض أيضًا مع مفهوم الذّكورة الذي تشير إليه إيفلين العقّاد في سياق الحرب الأهليّة. في “جانبٌ خفيٌّ من الحرب في لبنان”، تتفكّر العقّاد في العلاقة بين العنف والجنس التي تتجسّد في الاغتصاب، مقترحةً أنّ العنف مكوّنٌ للذّكورة، وأنّ الاغتصاب يغدو موقعًا للتجريب وتحقيق الهيمنة في سياق الحرب الأهليّة. إنّ وصف الرّاوي “للّعب الخالص” بصفته غافلًا عن علامات الزّمن، يصطفّ أيضًا إلى جانب مفهوم جرجس للعواطف الكويريّة كعواطف “تعلّق الزّمن الغائيّ القابل للمعرفة، وتشوّش الحدود المناسبة والعلائقيّات الاجتماعيّة الاعتياديّة لصالح الشّهوانيّة” (15). يُحرَم المرضى من إظهار جنسانيّتهم لأنّ رغباتهم تثير مشاعر “كالخوف أو كالقرف” لدى الممرّضين/ات (بركات 2002: 155). أكثر من ذلك، تُموضَع رغبات المرضى خارج العلاقات المُشكّلة اجتماعيًا والمتّسمة بالانتماء القَبَلي، إذ إنّ رغباتهم لا تنبثق عن “وراثة” الإحليل كعلامةِ الذّكورة التي ينبغي تقديمها للنساء (المرجع السّابق: 156). بالتالي، تُحتقَر أجساد ورغبات المرضى، ما يجعل من وصف بركات “اللّعب الخالص” موقعًا كويريًا الانحطاط العاطفي3.
الرّاوي والحبيبة: المرأة التي في الدّاخل
تلاحظ غنوة حايك بشكلٍ مقنعٍ أنّ فقدان الذّاكرة جعل من الشّخصيّة الرّئيسة راويًا وجمهورًا معًا، وفاعلًا ومفعولًا به في حكايته، إذ على الشخصيّات الأخرى تذكيره بالأحداث التي حدثت له (65). وهذا التّزامن بين الفاعل والمفعول به يسلّط الضّوء على التّموضع الصّعب الذي يجسّده الرّاوي. كذلك تتناول منيرة الغدير غموض الرّاوي وازدواجيّته، مشيرةً إلى أنّه مع كونه غير جديرٍ بالثّقة في بعض الأحيان، إلا أنّه يغدو “واعيًا ذاته، ذا بصيرةٍ وأكثر حكمةً من العقلاء” في أحيانٍ أخرى (116).
في إحدى الذّكريات، يدخل الرّاوي في مشادّةٍ مع حبيبته، مستخفًّا برغبتها المستقلّة في العثور على عملٍ ومغادرة المنزل. بعد ذلك، يعترف الرّاوي بازدواجيّته الخاصّة كمتكلّم، ويرفض أن يتزحزح عن تناقضاته القصديّة: “ربّما أقول لك اليوم شيئًا مغايرًا، مناقضًا لما قلته بالأمس. تلك إذن هي أغنيتي. مشيئة روحي في التجوّل والبحث، وألم النقض” (بركات 2002: 110). هو يرى المحادثة مصبوغة بما “يشبه المنافسة، القتال، القتل المتعمّد” (المرجع السّابق).
ويتعارض وصف الرّاوي للمحادثة مع وصفه لصوته الخاصّ، إذ يتوجّه إلى نفسه قائلًا:
لا أحد يسمع صوتك كغناء. لا أحد ينصت لموسيقى حنجرتك، أو يتفرّج على دوائر الصّوت تنداح كالأرغفة في السماء. لا أحد يسمع حركته طالعةً من القصبة أو شعيبات الرّئة، من شفتين ناشفتين أو من حنكٍ مرتجفٍ (المرجع السّابق: 109).
إنّ ارتباط الصّوت بالموسيقى يسلّط الضّوء على الفجوة بين إنتاج الجسد للصّوت وتلقّي الجمهور للمعنى. وتحسّر الرّاوي على انفصاله ينبثق عن انتظاره قيام الجمهور بـ(إعادة) تركيب “الإشارات”، ما يؤدّي إلى إنتاجه كشخصٍ متكلّم. ويعترف الرّاوي بأدائه الكاذب في المحادثة المُشكّلة اجتماعيًا، لكنّه يفضّل الطّبيعة أيضًا، حرفيًا، من خلال سحب حركة اللّغة من الجسد، والتشديد على تلقّي الصّوت أكثر من المعنى. وكما تشير جرجس، إنّ “بلوغ الذاتيّة عبر اللّغة” يأتي على حساب اللذّة التي تُستبدَل بالرّوابط الاجتماعيّة المكوّنة من الرّمزيّة الاجتماعيّة (14). ويُشار إلى اللذّة هنا بالـ”غناء”، و”الموسيقى”، و”الحركة الطّالعة”، والصّور الشعريّة للدّوائر والأرغفة وأجزاء الجسد (بركات 2002: 109). بالنسبة إلى الرّواي، يكمن المعنى في الصّوت لا في “الدّلالة التي للكلام” (المرجع السّابق).
إنّ مفهومَي غموض الرّاوي وتزامن موقعَي الفاعل والمفعول به يتيحان منعطفًا كويريًّا يعاين العلاقة بين الرّاوي والحبيبة. إنّ ازدواج شخصيّة المرأة يعمل من خلال التوتّر القائم بين بروزها كفاعلٍ وكمفعولٍ به في رغبة الرّاوي وسرديّته. على امتداد الرّواية، يتّسم موقع الحبيبة بالمواربة والتبدّل: فهي إمّا تتداخل مع الرّاوي، أو تتموضَع ضدّه، أو تتماثل به. إنّ الإقامة الملتبسة للحبيبة في ذاكرة الرّاوي تزعزع المنحى السّردي، إذ يُشترط توصيفها بتمايزها ضمن ذات وذاكرة الرّاوي وعنهما. في الخاتمة، يعترف الرّاوي أن “ربما لم توجد أبدًا تلك المرأة التي كنت أراها في دائرةٍ من الشمس، قاعدةً بلا حراكٍ في الحديقة تحت نافذتي” (بركات 2002: 187). ومع أنّ الشخصيّة هي على الأرجح حبيبةٌ “حقيقيّةٌ” خطفها الرّاوي، إلا أنّ تداخلها مع موقع الرّاوي كضحيّةٍ مخطوفةٍ بلا إسمٍ يدحض وجودها كـ”حقيقة”. بعد قتله حبيبته، يلتقي الرّاوي برجلَين يختطفانه ويعذّبانه. وفي مشهد اعتقاله، يغدو الرّاوي شاهدًا على تعرّض جسده للضّرب، فيقول:
أنا ولست أنا. جسمي وليس جسمي. وكأنني أتفرّج. وكأنّ لي جسمين. ليس كهذين الجسمين الماضيين اللّذين كانا يعذّبانني في افتراقهما، وفي اجتماعهما. جسمان اثنان، ولكن آخران. مختلفان (بركات 2002: 21).
هكذا، ينكشف جسده كجسدٍ مُثنّى ومربّعٍ: يشهد تعذيبه في جسدَين مختلفَين عن الجسدَين اللّذين كانا له سابقًا. ويكشف الرّاوي ازدواجيّة جسده بصفتها سابقةً لاختطافه ومكوّنةً لشخصيّته، ما يعقّد عزوَ الأجساد المتعدّدة إلى انفصالٍ ناتجٍ عن التروما.
وتقرأ حايك استبطان الرّاوي العنف الذي اختبره في خلال اختطافه وتعذيبه كاستبطانٍ مشرّعٍ عبر “فنتازيا” القتل التي تبلغ الأَوج في “إعادة توحيد روحه وجسده المفصولَين” (65). ويقدّم الفصل الأوّل من الرّواية إعادة التوحيد هذه كإدماجٍ لروح الحبيبة في الرّاوي، كولادةٍ للذّات، كانسياب بين الرّاوي والطبيعة حوله، وكتشبيهٍ بارتقاء جسد المسيح (بركات 2002: 10). وبينما تصحّ ملاحظة حايك، تتعقّد إعادةُ التوحيد هذه نتيجة إدماج الحبيبة في الرّاوي، ما يطرح تحوّلها إلى جزءٍ من “روحه وجسده المفصولَين”. أكثر من ذلك، يكشف الرّاوي في أحيانٍ كثيرةٍ أنّ هذا الفصل يتجاوز ازدواجيّة الرّوح/ الجسد ليبلغ تكاثر الأجساد.
إنّ السرديّات المتراكِبة للخاطف والمخطوف تشير إلى العجز المُشكّل اجتماعيًا لدى جسد الرّاوي المفرط في “الذّكورة” عن استيعاب أكثر من جندرٍ واحد. هو يتوق إلى أن تُتوّج رغبته الجنسيّة في الحبيبة في التحامه في جسدٍ أنثويٍّ أو العودة إلى الجسد غير محدّد الجنس. وتتعارض هذه اللّحظات مع المفهوم المعياريّ للذّكورة والرّجولة المتماسِكتين. كذلك تلحظ ميشيل هارتمان وألين هيبارد تأمّل الرّاوي في الخنوثة في الرّواية (100، 134). على سبيل المثال، يُعبّر الرّاوي عن إعجابه بصوت أمّ كلثوم الـ”لا جنسيّ” و”ثنائيّ الجنس” في آنٍ معًا، المتضمّن “أكثر من جنسٍ واحدٍ”، والذي يسمعه الرجال على أنّه صوت امرأةٍ، وتسمعه النساء على أنّه صوت رجلٍ (بركات 2002: 93). بالنسبة إلى الرّاوي، تجسّد أمّ كلثوم إمكانيّة الانسيابيّة الجندريّة، وإمكانيّة أن يُسمع المرء أو تُقرأ كأيٍّ من الجندرَين بحسب رغبة الآخر/ الأخرى. ولعلّ هذه اللّحظة تعقّد تأمّل الرّاوي في المحادثة، ملقيةً الضّوء على صراعه ليس فقط مع إعادة تركيب جمهوره للإشارات، بل أيضًا مع جندرته المحتملة كشخصٍ متكلّم.
في المقابل، وفي لحظاتٍ أخرى في الرّواية، يُشير الرّاوي إلى اختفاء جسده أو إلى حسٍّ بالفراغ والخسارة والغياب المحسوس. إنّ أصل الحبيبة المتجسّدة على حدةٍ لا يمكن إصلاحه في الزمان والمكان المُتاحَين في السرديّة: تفتتح الرّواية بقتلها وتنتهي بانعدام اليقين حول موتها ووجودها. ويلفت الرّاوي إلى مساراتٍ مختلفةٍ يمكنها أن تعرّف الحبيبة، معترفًا بأنّه “ربما ]جمّعها[ من نساءٍ عديداتٍ ]عرفهنّ[ لـ]ي[ملأ فراغ جسمـ]ه[ من الرغبة” (بركات 2002: 187(. بهذا المعنى، تُنتج المرأة سرديًّا من دون موقعٍ ثابتٍ خارج حضورها في النافذة وفي الذّاكرة – هي في الوقت عينه متجسّدةٌ وغير متجسّدةٍ على حدة. هي تهرب بشكلٍ متكرّرٍ، حرفيًا ومجازًا، عبر حدود الرّاوي.
في السياسات الثّقافيّة للعاطفة، تلحظ سارة أحمد أنّه “غالبًا ما تتضمّن تسمية العواطف التمييز بين الفاعل والمفعول به موضوع العاطفة” (13). تحتلّ المرأة في ذهن الرّاوي مواقع متعدّدةً كفاعلٍ للحبّ وكمفعولٍ به، ويكتنف الغموض حضورَها في ذاكرة الرّاوي. تكتب بركات:
احتار وارتبك أين أضع تلك المرأة في داخلي وهي هكذا مقيمة جامدة أمام النافذة. أين أضعها في داخلي. في أي منطقة أفرد لها. في الفرح أم في الحزن. في الذكرى أم في النسيان. في الرغبة أم في الضجر. في الشوق أم في ملل التكرار. تكرارها. تكرارها. تكرارها علي. (بركات 2002: 46)
يُظهر الموقف هنا الرّاوي عند النافذة التي تمثّل سطحًا عاكسًا وحدودًا شفّافةً في آنٍ معًا. تموضِع لغة بركات المرأة في داخل المتكلّم، وهو حضورٌ يتطلّب تصنيفًا عبر جعلها مشروطةً بهذه المشاعر المتّسقة والمتناقضة. إنّ الحاجة إلى تركيز حضور المرأة في عاطفةٍ ما يعمل كعتبةٍ للتوصيف المُجندر والمتجسّد. هكذا، يتراصف ويتهافت العالمان الخارجيّان للنافذة والمساحة في ذهن الرّاوي: كلاهما عتبةٌ للرّؤية وللصّيرورة. يتفكّر الرّاوي في إعداد مساحةٍ للمرأة لتمييزها عن الآخرين والأخريات، مساحة لإطلاق ذاتها؟ لذوتنتِها و/أو تشييئها ضمن القصّة. المرأة هي في آنٍ معًا جزءٌ من المتكلّم، وعلى وشك أن تصبح تجسيدًا للآخر/ الأخرى.
في مكانٍ آخر، يصوغ الرّاوي غيابًا وحضورًا متناقضَين للحبيبة عبر سلسلةٍ من الاستعارات عن عدم الاكتمال التي تبلغ أوجها في قوله “ثديًا دون امرأةٍ، دون انتفاضةٍ تحت يدي” (بركات 2002: 120). وتمتدّ هذه الاستعارة لتشمل موقع الرّاوي كـ”أمٍّ مرضعةٍ” وحبيبته كـ”حليب” هذه الأمّ (المرجع السّابق). يقول:
كالحليب تطلع فيّ هذه المرأة. كالحليب يطلع في ثدي المرضعة، ويبقع أرديتها، يطلع غيابها فيَ. أبحث محمومًا ربّما عن ثديها دونها لأني أعرف منذ تركتني في المرة الأولى أنها لن تعود. لن تكون. وفي غياب ثديها النهائي يطلع فيَ حليبها الحارّ متدفقًا من يديّ ورأسي (بركات 2002: 120).
تتجاوز لغة بركات المجازيّة الحدودَ الجسديّة للرّاوي وللحبيبة، إذ تُصاغ الحبيبة كجزءٍ ناقصٍ من جسده، متمظهرةً في الافتقار إلى مُفرزات الجسد. الاستعارة تتخطّى الافتراض المعياريّ بـ”ذكورة” الرّاوي، إذ أنّ غياب جسدها محدّد الجنس يقلب تحديد جنس جسده هو. بالإضافة إلى هذا، يقترح الرّاوي أنّ كينونتها في حدّ ذاتها مشروطةٌ بـ”عودتها”.
تقرأ وينكلر جنون الشخصيّة ومعاناته بصفتهما نابعَين من الفجوة غير القابلة للحلّ بين الحبيبَين، ما يجعل من اتّحادهما أمرًا مستحيلًا، وهو مجازٌ أدبيٌّ يستحضر مفهوم التّماهي الفرويدي. بحسب أحمد، التّماهي هو “شكلٌ ناشطٌ من الحبّ” الذي يهدف إلى محو الاختلاف في المستقبل (126). لكنّ محو الاختلاف يعتمد على تدمير حدود الذّات والآخر/ الأخرى التي تكوّن الرّغبة في المقام الأوّل (126). إنّ قتل الحبيبة و”شرب روحها” هو المحو الأقصى للاختلاف الذي يقدم عليه الرّاوي، هو البتّ العنيف في سدّ الفجوة بينهما (بركات 2002: 10). بالتالي، يندرج التّماثل بالحبيبة ضمن التّسامي الصّوفي عن الماديّة والاقتران بقيامةٍ وارتقاءٍ مشابهيَن لقيامة وارتقاء المسيح.
وتلحظ السمّان في قراءتها لعمل بركات أنّ “رغبة الشخصيّات في تجاوز…الازدواجيّات، للمكوث في المساحة الحديّة المولّدة في الما بَين بَين، تخطّ معاناتهم/ن وخلاصهم/ن في آنٍ معًا” (186). الخلاص المُحقّق إمّا بقتل الحبيبة أو بالبقاء معها، يُقدّم كحسمٍ لمعاناة الرّاوي. لكن هذه المعاناة يُعبّر عنها كنتيجةٍ لرغبته في الحبيبة وترقّب رحيلها. ويتعقّد هذا التّزامن بين المعاناة والخلاص بالتحام وانطماس الشخصيّتَين وجسدَيهما. وفي حالة القتل، يُدخِل الرّاوي روح حبيبته في ذاته، بينما في أثناء ممارسة الجنس، يغدو جسداهما غير مرئيّين. وبما أنّ الحبيبة مسلمةٌ والرّاوي مسيحيّ، يغذّي هذا النّموذج من المعاناة/ الخلاص حلقةً انتقاميّةً من العنف الطّائفي. إذًا وللمفارقة، يتشابك الخلاص والمعاناة ويُعبّر عنهما من خلال العنف والجنس، كما يتشكّلان عبر الفجوات والتداخلات بين رغبة الرّاوي وتجسّده.
وعلى الرّغم من إمكانيّة قراءة التّماهي في اللّحظات التي يتأمّل فيها الرّاوي في مسار علاقته بالحبيبة، أقترح وجود لحظةٍ كويريّةٍ لا يحتسبها هذا التّماهي. في تأمّله في مرور الزمن الذي “يعقّم” جنس الأجساد المسنّة؟ المتقدّمة في العمر؟، يقول الرّاوي: “يمرّ علينا زمنٌ أنا وإمرأتي، ثم سنتشابه. سيصير لنا جسدًا واحدًا. جنسًا واحدًا لا اثنين. أستعيد جنسها وأحتمله وأتطابق معه وأخلُص” (بركات 2002: 74). في هذه اللّحظة، يعمل التّماهي مساحيًا من خلال “توسيع مساحة الفاعل” في محاولةٍ متناقضةٍ لـ”صنع الشّبه”، عبر السّعي إلى “إبطال الفرق نفسه الذي يتطلّبه التّماهي” (Ahmed 126). لكن بركات تستحضر الوجود السّابق للجسد ذي الجنس المحدّد من خلال استخدامها كلمة “أستعيد” (بركات 2002: 74). في هذه اللّحظة، تغدو الرّغبة في العودة المتجسّدة إلى الجسد الأنثويّ مكوّنةً للرغبة المستقبليّة بالحبيبة. تتكاثر الأجساد لتصبح ثلاثةً في محاولةٍ لتحقيق الوحدة، وتظهر هنا مفارقةٌ زمنيّةٌ، إذ تنتج رغبة الرّاوي في المستقبل جسدًا ذا جنسٍ محدّدٍ مختلفٍ عن ذاك الذي في الماضي. أكثر من ذلك، يشير الخلاص في هذه اللّحظة إلى معانٍ معياريّةٍ وأخرى غير معياريّة. في المعنى المعياريّ، أن يصير الرّاوي أنثى قد يخفّف من الهشاشة التي يختبرها كذكرٍ لم يحمل السّلاح وبالتالي فقد “رجولته”، وهو موقعٌ ذو امتيازٍ في مجتمعه الطّائفي. أما في المعنى غير المعياريّ، فلعلّ الخلاص يشير إلى استقرار الرّاوي في جسدٍ يتماهى معه، متوّجًا ذلك باتّساق الجسد والجنس.
حينما يحاول الرّاوي تحديد أصل رغبته بالحبيبة، لا يركّز على شخصيّتها ولا على علاقته بها. بدلًا من ذلك، ينسحب الرّاوي إلى جسده الخاصّ، فتتهاوى صياغاته للجنس والجندر والرّغبة في بعضها البعض.
لكنّي أنا أتذكّر سبب غرامي بها أوّل زمان تكوّني. حين كنت جنينًا أوليًا، في الشّهور الأولى، حين كانت كروموزوماتي كلّها مؤنثة. كلّها xx و قبل أن تدخلy في شهور سكناي الأخيرة في بطن أمي وتحوّلني إلى ذكر. حتى ذكرًا كنت سابحًا في مياه الرّحم الأنثى وحتى ذكرًا لم تكن ذكورتي معطاة. أتذكّر ما قبل نضالي المستميت لأن أكون رجلًا قبيل ولادتي وبعدها، وبعد بلوغي. وهي تنسى.
أنا أخسر، وهي تنسى أنّ روحها ليست في مكانٍ آخر (بركات 2002: 116).
تجعل بركات من هذه اللّحظة لحظةَ خلعٍ لجندر الرّاوي وجنسه المتماسكَين، وهي لحظةٌ تكشف عن عتبة صيرورة الجسد. يتشابك أصل وجود الرّاوي ورغبته بالحبيبة: هو يضع المرأة في آنٍ معًا في مجالَي جنسانيّته ووجوده غير محدّد الجنس. “أسس” رغبته موجودةٌ في ذاكرة أصله الأنثويّ، وهو تجسيدٌ يغيب عنه افتراض الذّكورة. تخلّ هذه اللّحظة بالافتراض المعياريّ بأنّ الغيريّة الجنسيّة تنبثق عن الانجذاب إلى الاختلاف في الجنس أو الجندر. في النهاية، يسعى أصل الرّغبة بالحبيبة للوصول إلى جسد الرّاوي غير محدّد الجنس والسّابق على الولادة والمجتمع. رغبته في الحبيبة تستحضر الأنثى في داخل الرّاوي؛ هكذا تزدوج المرأة كجزءٍ من باطنه. لكن، سواء هي “نسيت” أصل رغبتها بالرّاوي أو “نضاله ليكون رجلًا”، فروحها تقيم في داخل جسده. وفي تلك اللّحظة، تندمج مساحات الرّغبة والجندر وتتداخل في بعضها البعض.
ومن الممكن قراءة هذه اللّحظة كتعقيدٍ لادّعاء باتلر بأنّ مَوضَعة سبب الرّغبة في داخل الذّات يمحو خطابيًا “الممارسات الانضباطيّة” التي تولّد الجندر، محوّلًا إيّاها “على “جوهرٍ” نفسيٍّ يعيق تحليل التكوين السّياسي للشّخص المُجندر” (4-173). هنا، ينحّي الرّاوي ويعترف في آنٍ معًا بالممارسات الانضباطيّة في ما يتعلّق بمركّبات الرّغبة والجندر، كما يعبّر عن الفروق بين ذاته وجسده محدّد الجنس في العلاقة بأصل رغبته، كاشفًا أنّ تحديد أجناس الأجساد يُصاغ عبر الافتراضات. إنّ “نضاله المستميت لأن يكون رجلًا” هو إدراكٌ للصّيرورة الأدائيّة من أجل مقاربة مركّبٍ جندريٍّ مثالي. ومن خلال موضَعة الحبيبة في داخل باطنٍ عميقٍ منبثقٍ عن جسدٍ غير محدّد الجنس، يزعزع الرّاوي قراءة شخصيّتها كموضوعٍ للحبّ حصرًا. لكن هذه الموضَعة تسمح أيضًا للرّاوي بنبذ مزاعم الحبيبة عن تشييئه القمعيّ لها. يدرك الرّاوي ضبط تجسّده عبر الافتراضات، ويهرب منها من خلال الرّغبة، لكنّه يتغاضى عن ذكوريّته وتشييئه للحبيبة.
على مستوىً معياريٍ صرْف، إنّ مصداقيّة ذكورة الرّاوي هي موضع سؤالٍ لأنّ وجوده في “دير الصّليب” يعني أنّه لا يقاتل إلى جانب الميليشيا. على سبيل المثال، تقرأ حايك الرّاوي كشخصٍ “مخصيٍّ” على يد الأدوار الجندريّة في الحرب التي تُقصي الرّجال غير المسلّحين عن المشاركة في الجنسانيّة المُجندَرة (65). وكما تلحظ منى فيّاض في مراجعتها لرواية حجر الضّحك، إنّ “بركات تعرض وضع الحرب كوضعٍ تُحسَم فيه الهويّة الجندريّة بصرامةٍ بالغةٍ، بحيث تغدو المشاركة في المجتمع من خلال القتال هي الحجر الأساس في الهويّة المذكّرة، وبحيث يُقاس الإخلاص إلى جماعةٍ إثنيّةٍ معيّنةٍ باستعداد المرء للتضحية بنفسه في المعركة” (163). ويحدث مفهوم الخصاء الجنسيّ للرجال غير الميليشياويّين على امتداد الرّاوية، ويُصوّر عبر شخصيّاتٍ داخل وخارج “دير الصّليب”، كما في تذكّر الرّاوي صديقه سمعان، وحديثه مع صديقه وزميله المريض جابر، وسخرية الممرّضين/ات منه، وتفاعله مع الجنود عند الحدود.
سواء في (إعادة) إنتاج “الآخريّة” في/ من أجل العنف والموت، أو إعادة الإنتاج البيولوجيّة من خلال الحمْل، ينبثق في خلفيّة الحرب اقتصادٌ قطبيٌّ جندريٌ لإعادة الإنتاج، عندما يقاوم الرّاوي اتّهام الحبيبة له بتشييئها صائحًا:
أقفلت عليّ كلّ المنافذ. فلم أردّ عليها، وأنا أرى الخسارة الباهرة في وضوحها. خسارة حسبانها بأن جسدها في مكانٍ آخر. أنّه ملكها وحدها. وبالتعصّب اللّازم للحجز والمنع. وبأنّها ستستعمله ضدّي لتنفصل عنه جيدًا وبالقدر اللّازم وتقذف به في كثرة الأجساد المتشابهة. تلك التي للآخرين. تلك التي تُستعمل في الحروب وفي التكاثر” (بركات 2002: 112).
من خلال تحسّره على فقدان الحدود الفاصلة بين الزّوجَين و”أجساد الآخرين”، يستحضر الرّاوي الأدوار الجندريّة في المجتمع في سياق الحرب. يرفض التصديق أنّ روح حبيبته لا تقيم في جسدها، وهي الطّريقة التي يفسّر فيها مشاعرها وتعبيرها عن استقلاليّتها الذاتيّة. الحدود التي يرسمها بين نفسه، وحبيبته، وكلّ الآخرين/ات تتزعزع بادّعاء حبيبته أنّه “يحتقر كلّ النساء” (بركات 2002: 111). ولأنّ الحبيبة تعرّف نفسها من خلال جماعةٍ مجندرةٍ في أثناء تحدّيها له، تهتزّ ثقة الرّاوي في تمييزها عن بقيّة النساء، فيصف ردّ فعله على مواجهتها له باستخدام تعابير المنافسة والانسحاب القُطريّين. “يتراجع” ويبدّل سلوكه عمدًا عبر القيام بإشاراتٍ يعتقد أنّ الحبيبة تريدها:
صرت أحاول إشعارها، بأنّ بي حاجةٌ للكلام إليها ومعها. وبأنّ لكلّ ما تقول أهميّة كبيرة تستوجب الإنصات العميق، الفهم، والتعليق. صرت كذلك أقيس بمقاييس جعلتُها للضّرورة. أقيس متى يجب أن أناقضها في ما تقول حتى أعطي إنصاتي لها صدقيّةً عاليةً (بركات 2002: 113).
إنّ تبنّي الرّاوي سلوكًا جندريًا مختلفًا يحاول مقاربة واكتساب إدراكه الخاصّ لذات الحبيبة المُجندَرة، وهو ما يفترض أنّها ترغب. إنّ الأداء الذي ينخرط فيه في سبيل المنفعة المفترضة للحبيبة يُتوّج بالنّقمة والعدوانيّة والعنف. في الواقع، إن اللّحظة التي يتحوّل فيها الرّاوي إلى العنف في علاقتهما هي اللّحظة التي يتبدّد فيها تميّز الحبيبة عن باقي النساء.
أتّفق مع النّاقدات والنّقاد ممّن يطرحون أنّ الحرب (تعيد) إنتاج أدوارٍ جندريّةٍ صلبةٍ تربط الذّكورة بالموت. ونظرًا إلى أنّ عنف الحرب موجّهٌ ضدّ الأجساد المتمايزة بالجندر والطّائفة والموقع، تُعاد صياغة مساحات الهشاشة التي يحتلّها الرّاوي في ذاكرته: تتمدّد، وتتهافت وتندمج. ينخرط راوي بركات بشكلٍ رئيسٍ في خوض العلاقات، مبيّنًا الصّيرورات التي تتجسّد عبرها مواقعُه خارج الجماعة والمجتمع من خلال التمايز. إذًا، رفضه للمجتمع وللجمعيّة الطّائفيّة يخاطب الفشل في الإقامة في المساحات المُجندرة التي يحدّدها مجتمعٌ غارقٌ في الحرب، ما يزيد من هشاشة الرّاوي.
تنبع صعوبة الموضَعة المنفردة لشخصيّات أهل الهوى من تقطّع السرديّة وخوضها الحدود وإرسائها وتهديمها. هكذا، تغدو العواطف الكويريّة مقروءةً من خلال السرديّة التي تولّدها الذّاكرة، كاشفةً عن تشابك الرّغبة الجنسيّة لدى الرّاوي مع رغبته بجسدٍ غير محدّد الجنس، سابقٍ على الولادة والمجتمع. إنّ قتل الرّاوي للمرأة ومن ثمّ (إعادة) إنتاجها من خلال الذّاكرة لا يمكن فصله عن صراعه لمقاربة المُثُل الجندريّة للرّغبة والتجسّد. فقط من خلال تجسّدها في جسدٍ، يغدو قتل الحبيبة ممكنًا في المقام الأوّل. هي توصف عبر حضورها في داخل المساحات المتداخِلة والمندمجة من الرّغبة، والعنف، والمعاناة والخلاص، وكذلك الجندر، والجنس والتجسّد. ويكشف توصيفها المركّبات الاجتماعيّة، ويخضع لها ويتحدّاها. في الواقع، إن توصيف المرأة يعكس الرّاوي نفسه أكثر ممّا يعكسها هي: لعلّ النافذة التي تمكث عندها تعكس وجهه وجسده الخاصّين.
أخيرًا، أقترح أنّ تفضيل تفسيرٍ واحدٍ للرّاوي والحبيبة يمثّل سوء قراءةٍ لانفتاح رواية بركات. بالتّالي، أتردّد في اقتراح إضفاء هويّةٍ محدّدةٍ على الرّاوي، إذ يتعارض هذا مع تقنيّات بركات الرّوائيّة التي تخلق التعدّديات وتحويها. لكنّي أطرح أنّ العلاقة بين الرّغبة والتجسّد مُحاكةٌ بتعقيدٍ في هذه الرّواية، ما ينتج فرصًا لقراءة العواطف الكويريّة التي تسِم الرّاوي خارج الافتراضات والمركّبات المعياريّة للغيريّة الجنسيّة، والذّكورة والرّجولة.
- 1. في قراءاتهن/م لعملها، ناقشت كلٌّ من هنادي السمّان، وسميرة أغاسي، ومنيرة الغدير، ومنى فيّاض وخالد حديد زعزعة بركات لثنائيّات ومركّبات الجندر والجنسانيّة.
- 2. أحد مستويات الباروديا المثيرة للاهتمام إنّما الكامنة خارج نطاق هذا المقال، ملاحظة ميشيل هارتمان أنّ بركات تسرد “الحكاية المعاكسة” لأغنية أهل الهوى لأم كلثوم.
- 3. الانحطاط العاطفي هو ترجمة لكلمة “abjection” التي تعني في هذا السياق ما تستبعده الذات، أو يستبعده المجتمع، عن الحدود التي تعرّف كيانه/ها.
Primary Text
Barakāt, Hudá. Disciples of Passion. Transl. Marilyn Booth. 1st ed. Syracuse: Syracuse University Press, 2005. Print.
Secondary Sources
Accad, Evelyne. Sexuality and War Literary Masks of the Middle East. New York: NYU Press, 1990. Web. 15 Oct. 2015.
Ahmed, Sara. The Cultural Politics of Emotion. Second edition. New York: Routledge, 2015. Print.
al-Ghadeer, Moneera. “Book Review: Hoda Barakat, Translated by Marilyn Booth, Disciples of Passion.” Syracuse: Syracuse University Press, 2005. 2.3 (2006): 115-8. Web. 1 Oct. 2015.
Al-Samman, Hanadi. “Paradigms of Dis-ease and Domination.” Anxiety of Erasure: Trauma, Authorship, and the Diaspora in Arab Women’s Writings. Syracuse University Press, 2015: 166-196. Print.
Amyuni, Mona Takieddine. “Literature and War, Beirut 1993-1995: Three Case Studies.” World Literature Today 73.1 (1999): 37. Web. 15 Oct. 2015.
Butler, Judith. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. Hoboken: Taylor and Francis, 1999. Web.
El-Ariss, Tarek. “Majnun Strikes Back: Crossings of Madness and Homosexuality in Contemporary Arabic Literature.” International Journal of Middle East Studies 45.2 (2013): 293-312. Web.
Georgis, Dina. Better Story Queer Affects from the Middle East. Albany: State U of New York, 2013. Web.
Hartman, Michelle. (1998). Subversions from the borderlands: Readings of intertextual strategies in contemporary Lebanese women’s literature in Arabic and French (Order No. 9910166). Available from ProQuest Dissertations & Theses A&I; ProQuest Dissertations & Theses Global. (304464132). Retrieved from http://search.proquest.com/docview/304464132?accountid=35516
Hayek, Ghenwa. “Disciples of Passion.” Arab Studies Quarterly (ASQ) 29.2 (2007): 63. Web. 15 Oct. 2015.
Hibbard, Allen. “Disciples of Passion: Hoda Barakat.” Digest of Middle East Studies 16.1 (2007): 132-35. Web. 1 Oct. 2015.
Winckler, Barbara. “Majnūn Laylā in Modern Lebanon: Madness between Lovesickness and Mystical Experience in Hudā Barakāt’s Novel Ahl al-hawā.” Desire, Pleasure and the Taboo: New Voices and Freedom of Expression in Contemporary Arabic Literature. Eds. Boustani, Sobhi; d’Afflitto, Isabella Camera; El-Enany, Rasheed; Granara, William. Fabrizio Serra Editore, 2014: 153-167. Web.