الثنائيّات الجندرية والعنف الجنسي في القصص المصوّرة للبالغين/ات في فترة ما بعد الثورة في مصر
ينظر هذا المقال في إنتاج القصص المصوّرة المصرية الموجّهة إلى البالغين/ات والمتمحورة حول الرجال في فترة ما بعد الثورة في مصر، وما إذا كانت تتحدّى الصور النمطية والثنائيات الجندرية للأنوثة والذكورة وتقوّضها، مع تركيزٍ خاصٍ على مجلّتين للقصص المصوّرة هما الشكمجيّة وتوك توك. ويقدّم المقال أعمال بعض ناشطي/ات وفنّاني/ات القصص المصوّرة في مصر، في محاولةٍ لملء الفراغ التحليلي في تصوير جنسانيّات النساء، سواء في القصص المصوّرة المصريّة أو في الإعلام عمومًا. ويتألّف هذا المقال من أربعة أقسامٍ رئيسة: يبيّن القسم الأوّل أهمية دراسة القصص المصوّرة والعوائق البارزة التي تواجه توزيعها وتطويرها داخل مصر، بينما يقدّم القسم الثاني خلفيةً موجزةً عن تاريخ القصص المصوّرة للبالغين/ات في مصر. أما القسم الثالث، فيستكشف مفاهيم الأنوثة والذكورة في القصص المصوّرة ويعيد النظر فيها، بينما يركّز الرابع على العنف الجنسي وإعادة تعريف مفهوم التراضي. أخيرًا، يعالج القسم الأخير سؤال ندرة وجود الفنانات النساء في مجال القصص المصوّرة، مسلّطًا الضوء على تغلغل الذكورة المهيمِنة، سواءً عمليًا أو في التمثيلات الواردة في القصص المصوّرة. (online/offline).
لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".
cover-issue-6-2.jpg
مقدّمة
غالبًا ما يتكيّف السرد القصصي للحياة اليومية في مصر وفقًا للمناخ السياسي، لاسيما بعد المنعطفات السياسية الهامة في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 و30 حزيران/ يونيو 2013. بالتالي، من الضروري خلق وتعزيز المساحات القادرة على التفاعل مع السرد القصصي وتسليط الضوء على المخيّلات الجنسية والجندرية للناشطات/ين والنسويات/ين المصريات/ين. وتُعدّ القصص المصوّرة كوسيطٍ أقدم زمنيًا من الأفلام والتلفزيون وألعاب الفيديو، لكن لطالما قاومت الأوساط الأكاديمية دراسة القصص المصوّرة وتحليلها كوسيطٍ متماسك (Ndalianis 2011:113). ومن خلال “الأعراف البصرية” للقصص المصوّرة، “ندرك فهمنا للعالم حولنا ونتناقله” (Gilman 1992:223). وفي القصص المصوّرة، يمكن العثور على الأعراف البصرية حيث “يُعاد تمثيل” الوقائع الاجتماعية بدلًا من “تمثيلها.” ويستخدم فنانو/ات القصص المصوّرة إعادةَ التمثيل هذه في صياغة فهمنا لنظرتنا لذاتنا وللأخريات والآخرين. نحن نقرأ القصص المصوّرة باستخدام مخيّلاتنا، متوسّلاتٍ ومتوسّلين إعادة تمثيل واختبار العالم، سواء من خلال عينَي الرسّام/ة أو عبر مخيّلاتنا الخاصة. وتسمح لنا القصص المصوّرة بمنح معنًى بصريٍ للذكريات، وللبُنى الأسريّة، والقرابة، والحرب، والموت، والتروما، والفرح، والضحك، والشغف وحتى كائنات الزومبي. لقد باتت المشهديّة البصرية إحدى أكثر أدوات التواصل فعاليةً لإيصال الأفكار المجرّدة وغير الملموسة التي تساهم في تحقيق التغيير السياسي وتفعيله.
ومن خلال التصوير البصري، يحاول هذا المقال مخاطبة خيال الرسّامين/ات والقرّاء، متحديًا ثنائية الأنوثة والذكورة، ومستكشفًا أعمال بعض ناشطي/ات وفنّاني/ات القصص المصوّرة في مصر، في محاولةٍ لملء الفراغ التحليلي في تصوير جنسانيّات النساء في القصص المصوّرة المصرية. ويتحدّى البحث المعروض هنا الوضعَ الراهن للتمثيلات السائدة للجندر والجنسانية في السياق المصري، مظهرًا المخيّلات والرّؤى السياسية التي – من خلال القصص المصوّرة – تنأى بنفسها عن ثقافة الاغتصاب وعن النظرة المهيمِنة للذكورة. لكن المقال يجادل أيضًا أن بعض محاولات تصوير النساء، وإن كانت حسنة النيّة، تؤدّي في نهاية المطاف إلى السخرية من النساء القويّات ومن المطالب النسوية في الإعلام المصري، بما في ذلك القصص المصوّرة، معيدةً بذلك إنتاج الصور الجندرية النمطية بدلًا من تقويضها. ويعتمد المقال على التحليل الخطابي وتحليل النصوص البصرية، بالإضافة إلى مقابلاتٍ مع فنانين/ات ومنسّقين/ات فنّيين/ات بغرض استكشاف الرسوم الواردة في القصص المصوّرة.
لماذا تجب دراسة القصص المصوّرة في مصر
تستمرّ القصص المصوّرة في حجز مساحةٍ في المجلات والصحف، حيث تنتشر الاستعارات والفكاهة والهجاء من دون تمثيلٍ رائد للاجماع الستاتيكي أو غير المتكرر، كما تشكّل نافذة قيّمةً للوصول إلى أذهان وسياسات الشابّات والشبّان من خلال نقلها وتحدّيها القواعد الاجتماعية وتسييسها على نحوٍ متكّرر. وفي التمهيد لكتاب فلسطين لـ”جو ساكو” (Joe Sacco, 2001)، يتناول “إدوارد سعيد” القصص المصوّرة كإحدى وجهات الفكر الثائر من خلال ألواحها وألوانها المبتكرة (2001: 2). وتتّسم القصص المصوّرة بتبصّرٍ غريب الأطوار ومتنازعٍ عليه في مسألة حرية التعبير. ووفقًا لـ”مارتن بدلر”، لا تخضع القصص المصوّرة إلى عملية مستمرة من التعديل والتنقيح من أجل تحقيق مبيعاتٍ عالية، بل يُترك الخيار للقارئ/ة لتصفّح الصفحات والتجوّل فيها (مقتبس في Ndalianis, 2011:114). ويؤدّي منبر القصص المصوّرة عمل القناة التواصلية التي تجلب إلى السطح المسائل غير المحكيّة. واليوم، تعكس هذه القصص النقاشات المحتدمة حول الوقائع السياقية في مصر مصحوبةً باللهجات العامّية، ومستكشفةً تابوهاتٍ مثل جنسانيات النساء. وعلى سبيل المثال، أثارت قصّةٌ بعنوان “الجلد” للفنان “مخلوف” نُشرت في العدد الثاني من مجلّة توك توك ضجةً في أحد فروع مكتبة الشروق. وتدور القصة حول رجلٍ يُدعى “ابراهيم” يرغب في مجامعة زوجته، لكنه لا يحبّ طعم أحمر الشفاه خاصّتها، إلا أنها تصرّ على وضعه على الرغم من إصرار زوجها على الإحساس بملمس جلدها. وبدلًا من الإصغاء إلى نصيحة أصدقائه بقتل زوجته، يستسلم “ابراهيم” في نهاية المطاف رافضًا أي اتصالٍ جنسيٍ بها. ويستمرّ الرجل في زواجه لكنه يعيش في خوفٍ مستمرٍ من كابوسٍ اسمه أحمر الشفاه. وبينما كانت إحدى الأمهات تتصفّح القصّة، أخذت تصيح في وجه الموظّفين/ات اعتراضًا على مضمونها، ما دفع بالإدارة إلى سحب كافّة النسخ من السوق.
حتى اليوم، تواجه عوائق بارزةٌ توزيع الرسوم المصوّرة وتطويرها في مصر، على الرغم من أن مجلات القصص المصوّرة لا تخضع لأي شكلٍ من أشكال الرقابة من أيٍ هيئة اشرافية أو تنظمية. أولًا، إنّ عدم توثيق مجلات القصص المصوّرة للبالغين/ات وتعذّر الوصول إلى الموارد جعلا من الصعب جدًا دراسة أشكال الفهم ووجهات النظر المختلفة للجنسانية. ولا بد من الإشارة إلى عدم وجود قسمٍ مخصصٍ للقصص المصوّرة المصرية الموجّهة للبالغين/ات في أيٍ من المكتبات أو متاجر الكتب المصرية. لذا، لم يكن هذا البحث ممكنًا لولا اتصالي بـ”محمد الشنّاوي”، أحد مؤسّسي توك توك، الذي قام بجمع كافة القصص المصوّرة للبالغين/ات التي أُنتجَت في مصر بعد الثورة. وثانيًا، إنّ غياب مساهمة غالبية فنانات القصص المصوّرة، باستثناء “دعاء العدل” و”هديل محمد”، يجعل من الصعب جدًا تقديم منظورات الفنانات الإناث اللواتي تُسكت أصواتَهنّ التحكم البطريركي على أجساد النساء وجنسانيّتهن، سواء من خلال الأسرة أو الدولة، أو المؤسّسات الدينية. وثالثًا، باستثناء أعمال “جاكوب هويغلت” (Høigilt, 2017) و”دوغلاس” و”مالتي-دوغلاس” (Douglas and Malti-Douglas, 1994) على شرائط القصص المصوّرة في العالم العربي، تندر النقاشات الأكاديمية حول القصص المصوّرة المصرية، ما يجعل من تقديم فهمٍ أو شرحٍ دقيقٍ للجندر والجنسانية أحد التحدّيات الرئيسة التي واجهت هذا البحث.
لكن على أيّ حالٍ، تُعالَج هذه العوائق في أعمال “أحمد الهوّاري” و”محمد اسماعيل” (Al-Saadi, 2013). “الهوّاري” هو المؤسّس الرئيس لموقع arabcomics.net، وهو موقعٌ يضمّ مجموعةً من القصص المصوّرة العربية، كما يحتوي على نسخٍ من القصص المصوّرة المُعرّبة، بالإضافة إلى بعض قصص “ميكي”1 القديمة. ويشرح “الهوّاري” بأنّ “هدفنا الرئيس هو إعادة هذا النوع من الفن إلى الناس، فالجيل الجديد لا يعي هذا التاريخ الأيقونيّ للقصص المصوّرة، ذلك العصر الذهبي، حين كانت القصص المصوّرة تصدر أسبوعيًا وتحصد مبيعاتٍ كبيرة جدًا” (Al-Saadi, 2013:3). اليوم، توجد مبادراتٌ أخرى إلى جانب موقع arabcomics.net، مثل “كشك للقصص المصوّرة”، و”كومكساوي” (Comixawy)، وarab-comics.byethost15.com، وcomics4arabs.com وthecomicsman.blogpost.com، التي تهدف جميعها إلى ضمان استمرار ثقافة القصص المصوّرة المصرية المثبتة تاريخيًا (Al-Saadi, 2013). وبالإضافة إلى المواقع الإلكترونية، تلحظ الأفلام الوثائقية أهمية القصص المصوّرة، مثل “كومكس بالمصري” (Comex BelMasry)، وهو فيلم وثائقيٌ يجمع تاريخ القصص المصوّرة المصرية منذ عصور مصر القديمة (غير منشورٍ بعد: بناءً على بحث أوّلي).
خلفيةٌ عن القصص المصوّرة للبالغين/ات في مصر
قبل العام 2011، اعتُبرَت رواية “مترو” المصوّرة للفنان “مجدي الشافعي” نقطة التحوّل الأولى في مجال تطوير القصص المصوّرة المستقلّة للبالغين/ات في المنطقة. وتتناول الرواية نظام “حسني مبارك” السابق، مع تسليط الضوء على وزارة الداخلية. واعتُبرَت الرواية أحد أول النصوص الثقافية المعاصرة التي تعكس مواقف المصريين/ات إزاء ظروف الحياة البائسة وانعدام الفرص المتساوية المتاحة للشباب. ونظرًا لهذا الموقف النقدي، اعتقلت السلطات المصرية ناشر الرواية “محمد الشرقاوي” والفنان “الشافعي” لتحدّيهما سلطة الدولة المصرية. وتُرجمَت رواية “مترو” إلى الإنكليزية والألمانية والإيطالية، وحصدت إعجابًا كبيرًا في مصر والخارج، ما أدّى إلى زيادة الدعم لإنتاج القصص المصوّرة للبالغين/ات في المنطقة.
وفي فترة ما قبل الثورة في مصر، أصبحت القصص المصوّرة أداة تعبيرٍ لكثيرٍ من الأصوات المتمرّدة، فعلى سبيل المثال، أنشأ “طارق شاهين” في العام 2008 سلسلة قصصٍ مصورةٍ على الإنترنت بعنوان الخان تحت رعاية “يوميّات مصر الإخبارية” (Daily News Egypt). وتسرد الخان قصة “عمر شكري” الذي ترك عمله في أحد مصارف لندن وقفل عائدًا إلى مصر.2 واشتهرت السلسلة بنقدها الخطابات المهيمِنة للدولة المصرية، مثبتًا قدرة القصص المصوّرة على تقويض التمثيلات السياسية المهيمِنة للنظام القائم (Mitchell, 2013). وشكّك “شاهين” في خطاب الاستقرار الذي كان نظام “مبارك” يطرحه في خلال فترة حكمه، مقدمًا تصويرًا بصريًا مختلفًا لمصر وناسها.
ومع انطلاق ثورة 25 يناير، أصبح المشهد الأدبي المصري مُحاطًا بوفرةٍ من القصص المصوّرة البالغة التي أخذت تزدهر وتضمّ مروحةً واسعةً من الأساليب، من “المانغا” اليابانية إلى الباند ديسينيه. وفي العام 2011، صدر العدد الأول من توك توك، وهي مجلّة نصف شهرية مستقلّة للقصص المصوّرة أسّسها ويديرها كلٌ من “محمد الشنّاوي”، و”محمد توفيق”، و”مخلوف” و”هشام رحمة.” ويدلّ اسم توك توك على عرباة النقل الصغيرة ذات الدواليب الثلاثة التي يستخدمها معظم المصريين/ات للتنقل في شوارع القاهرة، والتي تشهد على الحياة اليومية للناس من أصغر زقاقٍ إلى أكبر ساحةٍ في المدينة. كذلك يشكّل الإسم محاكاةً صوتيةً ترمز إلى صوت الطرق على الأبواب: توك توك. ومن أجل ضمان استمرارية توك توك، اعتمد الأعضاء المؤسّسون على عائدات المبيع بدلًا من الاعتماد على الجهات المانحة. وصدرت الأعداد الستّ الأولى من المجلّة بتمويلٍ من “الإتحاد الأوروبي”، لكن المؤسّسين شدّدوا على عدم وجود أي تدخلٍ من الجهة المانحة في محتوى المجلّة (مقابلتان مع العضوَين المؤسّسَين في توك توك محمد توفيق وهشام رحمة، أُجريَتا تباعًا بتاريخ 1 و5 حزيران/ يونيو 2015).
وبإلهامٍ من النجاح الذي حصدته توك توك، هدفت جمعية “نظرة للدراسات النسوية” إلى نشر قصص المجموعات المهمّشة من خلال مساحاتٍ تعبير أكثر أمانًا كالقصص المصوّرة. وفي العام 2014، انطلقتالشكمجيّة، وهي مجلّة للقصص المصوّرة تصدر بشكل موسمي. ولدى تسلّمها الإدارة، بحثت رئيسة التحرير “فاطمة منصور” في السوق المصرية لمجلّات القصص المصوّرة السياسية بحثًا عن فنانين/ات من ذوي/ات الخبرة في هذا المجال، لذا فإنّ غالبية الفنانين/ات والكتاب والكاتبات العاملين/ات في توك توك يعملون أيضًا في الشكمجيّة. وتشرح “منصور” أن الشكمجيّة (أي صندوق الحُلِيّ) هي قطعةٌ يعثر عليها المرء في كل البيوت وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة. وعلى الرغم من تلقّي الدعم من الجمعيات النسوية غير الحكومية الأجنبية، يرفض الفريق تمامًا أي فرضٍ أو تدخلٍ في عملية إنتاج وتقديم الفن المصوّر خاصّته (مقابلة مع فاطمة منصور، رئيسة تحرير الشكمجيّة، 11 حزيران/ يونيو 2015). وتتوفّر النسخ الإلكترونية من الشكمجيّة على موقعKotobna الإلكتروني، حيث تُعدّ المجلّة من بين أكثر المواد تحميلًا وفقًا لـ”منصور.”3
إعادة النظر في مفهومَي الذكورة والأنوثة
يمكن اعتبار القصص المصوّرة، كشكلٍ من أشكال الفن البصري، نوعًا من النضال الذي يعرض المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية في محاولةٍ لتحقيق التغيير؛ فمن جهةٍ، يستخدم الفنانون/ات المجال العام لزيادة الوعي السياسي ومنح صوتٍ لمن يجري إسكاتهم/ن وإقصاؤهم/ن عن المجال الاجتماعي والسياسي، ومن جهةٍ أخرى، يحتلّ هؤلاء كناشطين/ات المجال العام بحكم تفاعلهم/ن النضالي مع المنبر السياسي. لكن “إلى أيّ حدٍ يقوم هؤلاء الفنانون/ات – الناشطون/ات بمجرّد التنظير لفنّهم/ن مقابل تطوير الأدوات العملية للنشاط السياسي والاجتماعي ” وتحقيق التغيير في نهاية المطاف، لاسيما في مجال جنسانيّات النساء؟ (Acevedo-Yates, 2013). يجادل “دي كوتر” (De Cauter, 2011) أن للفن قدرةٌ على خلق وإحداث فتحاتٍ جديدة في جدران النظام القائم، وبالتالي أداء دورٍ أكبر في المجال الخاص. ومنذ السبعينات، تعمل الحركة النسوية المصرية الفنية على تفكيك ثنائية العام/ الخاص، جالبةً الخاص إلى المجال العام، ومصيغةً تجارب النساء من موقعٍ سياسيٍ واجتماعيٍ على حدٍ سواء. وعلى سبيل المثال، يفتح فن “هبة حلمي” إمكاناتٍ جديدةً للتدخّل النسوي لاسيما في مصر؛ فقد أنتجت هذه الناشطة والفنانة البصرية سلسلةً من الملصقات بعنوان “الستّات هتحرّر مصر”، خصّصتها لنساءٍ مصرياتٍ رائداتٍ في مختلف المجالات الفنية، والعلمية، والتربوية والنضالية. وتصوّر الملصقات تاريخ شخصياتٍ نسائيةٍ مصريةٍ بارزة، محييةً ذكراهنّ، ومانحةً إياهنّ الصوت، وحافظةً الصلة مع الأجيال السابقة من المناضلات النسويات (مقتبس في Soliman, 2014:7). لكن ما درجة تأثير وفاعلية الفن البصري في دعم وتعزيز القضية النسوية؟ وفقًا لـ”منيرة سليمان” (2014)، يمتلك الفن البصري القدرة على استعادة المكان العام على نطاقٍ أوسع، جاذبًا الانتباه إلى المحاولات المستمرّة لتهميش النساء في الأنظمة البطريركية.
وفي مجلّتَي توك توك والشكمجيّة للقصص المصوّرة، يسعى الفنانون/ات إلى تحدّي التحرش الجنسي وتصويراته في الإنتاج الاعلامي، كما يحاولون تجاوز التصوير البصري النمطي للأنوثة والذكورة والثنائية القائمة عليهما. ففي المجلّتَين، لا تتّسم صور النساء بالأثداء الكبيرة، أو الأجساد النحيفة، أو الأرجل المكشوفة أو الأجسام شبه العاربة، كما أنهما لا تقدّمان صورةً مثاليةً للأنوثة. لكن في بعض الأحيان، تفشل القصص في مقاومة ومناهضة الخطابات المعيارية عن الأنوثة، أو في تقديم وجود النساء في صورةٍ مختلفةٍ تمامًا عن السائد، أو في تناول البُعد المُجندَر للعنف.
وفي قصة “نص الطريق” التي نشرتها الشكمجيّة في العام 2015 من كتابة “محمد اسماعيل أمين” ورسم “هشام رحمة”، تفاوض النساء هويّاتهن الذاتية خارج المفاهيم الثنائية للجسد كأنثويٍ وذكري. وتبدأ الحكاية ببثٍ لجنازة “حمادة أحمد التهامي”، الرجل الأخير الذي توفّي بعد إصابته بفيروس y2h1 الذي قضى على كل الرجال في العالم. وتغطّي البثّ “صفاء المهدي”، رئيسة جمهورية مصر العربية. وتتألف القصة من شخصياتٍ نسائيةٍ مثل “ألفت”، و”زينب” سائقة التوك توك وممثلات البعثة الصومالية. وتتوجّه “زينب” برفقة “ألفت” في التوك التوك إلى المطار لاستقبال البعثة الصومالية، ولدى وصولهنّ إلى وسط البلد، تطلب ممثلات البعثة من “ألفت” اصطحابهنّ إلى مختبر الدكتورة “ريم” (الذي تحوّل لاحقًا إلى متحف)، حيث طُوّر الفيروس الذي قضى على الرجال وحيث أقدمت الدكتورة “ريم” على الانتحار. “ما الذي دفع بها إلى ذلك؟”، تسأل إحدى ممثلات البعثة الصومالية، فتجيبها “ألفت” بأنّ الدكتورة “ريم” تعرّضت للاعتداء الجنسي والاغتصاب الجماعي، ما تسبّب لها بصدمة دفعت بها إلى تطوير الفيروس. بعد ذلك، تصطحب “ألفت” البعثة الصومالية إلى ميدان “طلعت حرب” في وسط البلد في القاهرة، حيث تتحرّش بهنّ البائعات المتجوّلات لفظيًا وجسديًا. ونتيجةً لذلك، تستقيل إحدى النساء الصوماليات من وظيفتها الحكومية، متعهّدةً بإكمال عمل الدكتورة “ريم” التي لم تتمّ سوى “نص الطريق.”
وسواء عن قصدٍ أو عن غير قصد، تبرّئ قصة “رحمة” مفهوم الذكورة المهيمِنة المترسّخة في مجتمعاتنا البطريركية. ويشير مصطلح “الذكورة المهيمِنة” الذي سكّته عالمة الاجتماع الأسترالية “رايون كونيل” إلى الخصائص التي تُسنَد إلى الرجال في الثقافات المختلفة، وكيف تتيح تلك السّمات للرجال الهيمنةَ على النساء (2005: 832). وفي ثقافة الإعلام، تُعرّف الذكورة المهيمِنة من خلال أربعة ملامح للقوّة: أولًا، “لجهة القوّة الجسدية والسيطرة (المتمثّلة تحديدًا في طريقة تصوير الجسد)؛” وثانيًا، “لجهة الإنجاز المهنيّ في المجتمع الصناعي والرأسمالي؛” وثالثًا “لجهة البطريركية الأسرية؛” ورابعًا “لجهة الغيرية الجنسية المُعرّفة والمرتكزة على تمثيل الإحليل” ( Trujillo 1991: 291-292). بمعنًى آخر، تُعيد الذكورة المُهيمِنة نقش الممارسات الجندرية التي تكرّس سيطرة الرجال على النساء وتفوّقهم الاقتصادي-الاجتماعي. ويُحفظ هذا النظام الجندري من خلال تشريعاتٍ ثابتةٍ للذكورة والأنوثة كثنائيةٍ تقع في قلب هرميّة علاقات القوّة الهيكلية. وتصبح الذكورة المُهيمِنة أكثر الممارسات المرغوبة، يعزّز مظاهر الغيرية الجنسية والعدائية وتوكيد الذات بين الرجال (Connell 2005: 848).
وعند النظرة الأولى، يبدو تصوير الشخصيات النسائية في “نص الطريق” متحديًا مفهوم الأنوثة الثابتة من خلال إظهار خصائص النساء تُسنَد في العادة إلى الرجال مثل القوّة الجسدية، وتبنّيهن وظائف تُعتبَر في العادة للرجال مثل العمل الدبلوماسي، وقيادة التوك توك والطب. وتصوّر هذه القصة النساءَ في مراكز القوة، ما يشكّل تحولا للتصور الشائع في أدوارٍ ثانويةٍ في معظم القصص المصوّرة: “لم تتعرّض كل امرأةٍ في القصص المصوّرة للقتل، والاغتصاب، والإعاقة، والإهمال، والتشويه، والتعذيب، كما لم تتحوّل كل امرأةٍ إلى شريرةٍ أو أُصيبت بمرضٍ أو بأحداثٍ تراجيديةٍ أخرى تهدّد الحياة، لكن عند النظر في تلك اللائحة… من الصعب التفكير في أيّ استثناءات” (مقتبس عن “غايل سيمون” في Phillips & Strobl, 2013: 166). لكن على أيّ حالٍ، تمحي قصة “نص الطريق” في بعض الأحيان الوجهَ المُجندَر للعنف الجنسي والتحرش، إذ بتحدي التصوير الكارثي التالي للجندر بأن النساء أيضًا يمكنهنّ ارتكاب العنف ضد النساء الأخريات، وليس فقط الرجال. إن تحويل البائعات المتجوّلات إلى متحرّشات، ولاسيما في تلك المنطقة من ميدان “طلعت حرب” التي عُرفَت بكونها موقعًا لعمليات الاغتصاب الجماعية في خلال الثورة، يحجب الوقائع المادية للاعتداء والتحرش والعنف، وينتقص من التواريخ السياسية والذاكرة الجماعية للعنف الذي واجهته النساء المصريات. وإذ حاول “رحمة” تحدّي ثنائيات الذكورة والأنوثة، فإنّ قصته المصوّرة أبعدت الانتباه عن العنف الجنسي ضد النساء، ولم تأخذ بالحسبان أنواع الذكورة التي لا تقع ضمن فئة الذكورة المهيمِنة، كما لم تلحظ كيف تتحقّق الذكورة ويُعاد إنتاجها في الحياة اليومية. وتجادل “فرحة غنّام” (2013: 24، 105) أنه “عندما يفكّر الناس في مسائل الجندر في الشرق الأوسط، عادةً ما يفكّرون في النساء وكيف يُقمَعن دومًا على يد الرجال. لكن يمكن النظر في تقاطع عناصر مختلفة مثل االطبقة مع الجندر، واستكشاف كيف يُقمَع الكثير من الرجال أيضًا سواءً اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا.” لكن بدلًا من ذلك، تعيد هذه القصة المصوّرة إنتاج مفهوم ارتباط القمع الطبقي بارتفاع إمكانية ارتكاب العنف، ماضيةً فيه قدمًا من خلال التخيّل أنه في غياب الرجال، سوف تقوم النساء ذوات المظهر الرجالي بتأدية دورهم. وبالإضافة إلى ذلك، تُحوّل القصة الانسيابيةَ الجندرية إلى كاريكاتور، بينما تظلّ الأدوار الجندرية ثابتةً ضمن ثنائية الذكورة والأنوثة، مع فارقٍ وحيدٍ هو إمكانية تبديل الطرفَين بعضهما ببعض.
إستعادة الجسد، إعادة تعريف العنف
على الرغم من أنّ القصص المصوّرة تميل إلى معالجة الحياة الواقعية، غالبًا ما تُسنِد كتب القصص المصوّرة إلى النساء أدوارًا سالبةً يُصوّرن من خلالها ككائناتٍ جنسيةٍ في حاجةٍ إلى الحماية (Robbins n.d). وحتى حين يُصوّرن كشخصياتٍ قويةٍ غير مشكوكٍ فيها في مجال صناعة القصص المصوّرة التي يهيمِن عليها الرجال، فإنّ السردية تتبدّل لينتهي الأمر بتصنيفهنّ كرموزٍ جنسيةٍ يستغلّها الرجال. إذًا، على الرغم من تصوير النساء كقوياتٍ، يتمّ في نهاية الأمر إخضاعهنّ (Robbins n.d). لكن قصة “شوك”4 المنشورة في مجلة توك توك (2015) للفنانة الجزائريّة “ريم”، وهي إحدى رسّامات القصص المصوّرة القليلات، تستعيد سرديّة الاغتصاب، كاشفةً ثقافة الاغتصاب في العالم العربي. ووفقًا لـ”رحمة”، أحد مؤسّسي توك توك، التقت الفنانة “ريم” به وبـ”محمد الشناوي” (المؤسّس الرئيسي لمجلة توك توك) في “مهرجان الجزائر الدولي للقصص المصوّرة”5 في الجزائر، وهو الحدث الأهمّ للقصص المصوّرة في العالم العربي. وفي خلال المؤتمر، التقى “رحمة” و”الشناوي” بعددٍ من الفنانين/ات الجزائريين/ات من بينهم/ن “ريم”، وأدّى ذلك اللقاء إلى نشر قصّتها في العدد السابع من توك توك. وتتحدّى “شوك” تسخيف وتطبيع الاغتصاب والعنف الجنسي عن طريق إظهار تفشّي ثقافة الاغتصاب، معيدةً بذلك النقاش إلى مسألة الرضا. ومن خلال تقنيات الرسم خاصّتها، تصوّر “ريم” سلسلةً من صور العنف والاعتداء الجنسي الذي لا يتضمّن الإخضاع عن طريق القوّة الجسدية، مبرزةً أشكالًا خفيةً من العنف المتفشّي على الرغم من استراتيجيات حماية الذات التي تتبعها النساء. بالطبع، القصة صامتةٌ ولا تتضمّن أيّ كلامٍ باستثناء العنوان. ومن المثير للاهتمام أن مظهر البطلة مغطًى برمّته بالأشواك، لكن الاختلاف في الحجم بين المرأة صغيرة الحجم والرجل العملاق يجعل من المستحيل ألا تُبتلَع المرأة بكلّيتها (حرفيًا). أما الرجل العملاق فلا وجه له، ويمكن للقارئ/ة فقط رؤية أيادٍ تعرّي أجزاء معيّنةً من الجسد كالمؤخرة والثديين، والفم المفترس.
ولا تبدي المرأة في قصة “شوك” أيّ شعورٍ ظاهر، حتى أن تعبيرات وجهها تتّسم بالحيادية، كما أنها لا تقاوم اليد التي تمتدّ إليها عن طريق العضّ، أو البصق، أو الحرق، أو الصراخ أو حتى البكاء. لكن الرضا لا يعني انعدام ردّ الفعل أو انعدام المقاومة، ففي كثيرٍ من الأحيان، يقع العنف الجنسي عن طريق التلاعب والإكراه النفسي سواء في المجال العام أو الخاص. لذا، يتحدّى التصوير البصري للحادث المفاهيم المسبَقة المتفشّية في المخيّلة المصرية السائدة عن الطريقة التي يجدر بالضحايا والمُعتدين أن يتصرّفوا/ن وفقًا لها. وتعزّز غالبية مجلات وكتب القصص المصوّرة المفاهيم الخاطئة عمّا يشكّل أو لا يشكّل اغتصابًا، متجاهلةً إمكانية حدوث اعتداء جنسي من دون استعراضٍ علنيٍ للقوة الجسدية. أكثر من ذلك، تصوّر معظم القصص المصوّرة الاغتصابَ على نحوٍ يلقي باللوم على المرأة لـ”استفزازها” شخصًا ما ليقوم باغتصابها، أو لعدم مقاومتها له بما يكفي لإرغامه على التوقف. بالتالي، تكرّر معظم القصص المصوّرة عن غير قصدٍ الحجّة الذكورية بأن النساء يجلبن الاغتصاب على أنفسهن. وعلى عكس التصويرات غير الواقعية للاعتداء الجنسي في بعض كتب القصص المصوّرة، تتحدّى قصة “شوك” ثقافة الاغتصاب في المجتمعات البطريركية، بالإضافة إلى المفاهيم الخاطئة عن الجنس والرضا، مشدّدةً على ضرورة أن يُمنَح الرضا على نحوٍ واضحٍ وصريحٍ وعلى إمكانية سحبه أو إلغائه في أيّ وقت. بالإضافة إلى ذلك، تفكّك القصة الافتراض الذكوري بأنّ الرجال “غير قادرين” على التحكّم بـ”نزعاتهم” الجنسية. إنّ الاستثنائية الاعتذارية التي تتغاضى عن الاغتصاب بصفته مجموعة حوادث منفصلة يرتكبها أشخاصٌ “غير أسوياء” تؤدّي إلى الوصم لجهة الصحة النفسية، كما أنّ قصة “ريم” تظهر تفشّي العنف الجنسي على مستوًى بنيوي، كاشفةً إمكانية حدوثه في كافّة المجتمعات.
عن ندرة فنانات القصص المصوّرة
إنّ هدف توك توك والشكمجيّة، وفقًا لـ”محمد توفيق”، أحد مؤسّسيتوك توك، ليس تقديم الحلول للمشكلات القائمة كالتحرش والاغتصاب وغيرهما من الأفعال العنيفة، بل تشكيل منبرٍ يتيح لفنّاني/ات القصص المصوّرة تناول المواضيع التي تُعدّ تابوهاتٍ مثل موضوع الجنسانية، من دون رقابة. وبفضل صورها الساحرة، يتابع “توفيق”، تجتذب القصص المصوّرة القارئ/ة مزيلةً عن كاهله/ا عبء القراءة، ما يجعل منها أداةً فعالةً لنشر الرسائل. وكما تجادل “شوت”، “إنّ القرف والمتعة اللذين يحملهما المكوّن البصري يرتبطان بالإيقاع الجسدي للقراءة، وهو شعورٌ يؤكّده ويحفّزه إيقاعُ الصفحة البصرية – اللفظية، مشكلًا اغترابًا متشظّيًا بين العواطف” (2010: 71). وفي الوقت عينه، وعلى عكس السينما المصرية، لا توجد أي جهةٍ رقابيةٍ تشرف على القصص المصوّرة أو تفرض الرقابة عليها قبل نشرها (مقابلة أجرتها الباحثة في 1 حزيران/ يونيو 2015). ويشدّد “توفيق” على أن القصص المصوّرة باتت تشكّل منصةً فعالةً للنساء لمعاينة المسائل المتعلّقة بالجندر. هنا، قاطعته لأشير إلى التناقض في زعمه هذا، إذ أن معظم الرسوم والنصوص هي من عمل فنانين وكتابٍ من الرجال، سواء في توك توك أو فيالشكمجيّة، لكنه تابع زاعمًا أن لا فرق بين الفنان الرجل والفنانة المرأة في تصوير معاناة النساء، وأنه لا يجد مشكلةً في معرفة وجهة نظر الرجل في مسائل كالجنسانية من خلال القصص المصوّرة.
ويشدّد “هشام رحمة” على أن توك توك مفتوحة أمام جميع الفنانين/ات من العالم العربي وليس فقط المصريين/ات. ويمكن العثور في أعداد المجلّة على مجموعةٍ متنوعةٍ من الفنانين/ات من لبنان والمغرب وتونس. وفي أثناء حواري مع “رحمة”، كان من المثير للاهتمام توقّفه عند المساهمة المحدودة للفنانات الإناث، إذ من شأن ذلك تغيير منظورات توك توك لمروحةٍ واسعةٍ من القضايا. ولدى سؤالي عن الحضور المحدود للفنانات الإناث في توك توك، اعترف “رحمة” بأنه لا يعرف سبب ذلك، مجادلًا أن توك توك مفتوحةٌ أمام الجميع من الرجال والنساء على حدٍ سواء. وعلى سبيل المثال، لدى تناولنا موضوع التحرش الجنسي، قال “رحمة” أن بإمكانه كرجلٍ مصريٍ السير في الطريق مرتديًا سروالًا قصيرًا من دون أن يتجرّأ أحدٌ على توجيه الكلام له، لذا هو يعتقد بأنّ من الأفضل تصوير وسرد تجربةٍ كهذه من وجهة نظر فنانةٍ امرأة، إذ أن النساء يختبرن على نحوٍ مباشرٍ الشعور بالحبس والتعرض للمراقبة في أثناء المشي في الشارع. وبالنسبة إلى “رحمة”، تمنح القصص المصوّرة الفرصة للآخر والأخرى للتكلّم عن ذواتهن/م. إن الطبيعة الجماليّة والقهريّة للاغتصاب، لدى سردها بصريًا، تتيح للقارئ/ة التفاعل مع درجة التعقيد التي يتّسم بها الاغتصاب (Tolmie, “Introduction,” 2013). وتشرح “فاطمة منصور” و”محمد الشنّاوي” و”هشام رحمة” أنّ البحث عن فناناتٍ ينتجن القصص المصوّرة يشبه البحث عن إبرةٍ في كومةٍ من القشّ. ووفقًا لـ”منصور”، يصعب العثور على فنانات القصص المصوّرة لأنّ العمل في هذا المجال يتطلّب الابتكار خارج السرديات التقليدية، في وقتٍ ما زالت فيه النساء خجولات في التعبير عن أنفسهنّ مقارنةً بالرجال، بسبب الضغط الاجتماعي الذي يحصرهنّ في أدوارٍ جندريةٍ معيّنة. وبالإضافة إلى ذلك، يرتبط العدد المحدود من فنانات القصص المصوّرة بأنّهن – على عكس الرجال – لا يستطعن البقاء خارج المنزل حتى وقتٍ متأخرٍ لتسويق أعمالهنّ (وفقًا للمقابلات). ويتردّد أصحاب العمل في مجال صناعة القصص المصوّرة في توظيف النساء خوفًا من قيود الوقت التي قد تفرضها أسرهنّ عليهنّ. وفي الوقت عينه، يندر العثور على فنانةٍ تتخصّص في دراسة القصص المصوّرة، لاسيما في مصر.
وأشارت “فاطمة منصور” في المقابلة التي أجريتها معها إلى أنّ “هشام رحمة” و”محمد اسماعيل أمين”، مؤلّفا قصة “نص الطريق”، لم يكونا راضيَين عن طريقة إنتاجها. وكان “رحمة” أخبرني أن الكاتب أرسل له النص في بادئ الأمر، وأنه تخيّل تقديم القصة على نحوٍ لا يوجّه أيّ رسالةٍ محدّدةٍ إلى القارئ/ة، مشدّدًا على أنّ القصص المصوّرة – على عكس الكاريكاتور الذي يحمل في العادة رسائل مبطّنة – ترتكز أكثر على السرد الذي من خلاله يمكن للفنان/ة التعبير عن رأيه/ا الخاص. أما “منصور”، فترى أن إشكالية القصة ناتجةٌ عن معرفةٍ محدودةٍ في مسائل الجندر، مشدّدةً على أن الرسّامين ليسوا نسويّين، لكن من خلال فنّهم، يستطيعون العثور على أرضيةٍ مشتركةٍ تربطهم بالجمهور الأكبر وبمفاهيم الجندر المختلفة. وعلى سبيل المثال، تشير “منصور” إلى تنظيمها جلسة توجيهٍ نسويةٍ تحت رعاية “نظرة للدراسات النسوية” لفناني/ات وكتّاب القصص المصوّرة، هدفت إلى شرح مفاهيم الجندر، والنسوية، والذكورة، والأنوثة والبطريركية وغيرها. وتجادل “منصور” أن الثيمة الجوهرية لقصة “نص الطريق” هي التركيز على التحرش الجنسي، إلا أنه لا يمكن تجاهل محاولات “هشام رحمة” تجاوز المفاهيم الثنائية للذكورة والأنوثة في رسومات القصة، على الرغم من أن ذلك تسبّب في تمييع العنف الجندري في بعض الأحيان (مقابلة أجرتها الباحثة في 5 حزيران/ يونيو 2015).
الخاتمة
يكشف هذا المقال أن إنتاج مجلات القصص المصوّرة من قبل الفنانين/ات في مصر، وعلى الرغم من هيمنة الرجال عليه، يحاول النأي بنفسه عن تمثيل الرجال في صورٍ مفرطة الذكورة، وعن تمثيل النساء في صورٍ ذات طابعٍ جنسيٍ مفرطٍ وهنّ يؤدّين أفعالًا ترتبط بالجنسانية؛ كما أنه يحاول جعل وسائل إنتاج القصص المصوّرة أكثر شمولًا للنساء، لكنه يتجاهل أنواع الذكورة المهيمِنة التي تتحقّق ويُعاد إنتاجها في الحياة اليومية. وفي وقتٍ يكاد ينعدم فيه وجود الفنانات النساء في مجال القصص المصوّرة المصرية، تمكّنت قصة “شوك” للفنانة الجزائرية “ريم” من كسر تلك الهيمَنة، سواء ماديًا أو موضوعيًا بتناولها مسألة العنف الجنسي. وتمكّنت “ريم” من تصوير هول الاعتداء من دون استخدام أيّ كلام، ملتقطةً برسومها درجة العنف والوحشية واللا إنسانية في فعل الاعتداء والتحرش الجنسي. لكن ما تقدّمه لنا قصّتا “نص الطريق” و”شوك”، هو أنّ تعرّض النساء للتحرّش لا يرتبط بانتمائهنّ إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ معينةٍ أو امتلاكهنّ معايير جمالٍ محدّدة، كما أنّه لا يجب إنتاجهنّ وتصويرهنّ دومًا كضحايا مقصياتٍ إلى مرتبةٍ ثانيةٍ حتى لدى سرد قصصهنّ الخاصة.
http://kotobna.net/Book/Details?bookID=17
- 1. “ميكي” (Miki): قصصٌ مصورةٌ أنتجتها شركة “ديزني” وترجمتها إلى اللغة العربية “دار الهلال للنشر” في مصر في العام 1959.
- 2. طارق شاهين، الخان: https://alkhancomics.com/
- 3. تتوفّر النسخة الإلكترونية من مجلّة الشكمجيّة على موقع Kotobna عبر الوصلة التالية:
- 4. بالإمكان العثور على مقتطفات من “شوك” على الرابط التالي:https://blogs.prio.org/2015/04/comics-and-the-liberation-from-patriarchy/
- 5. Festival International de la Bande Dessinée d’Alger.
Acevedo-Yates, Carla (June 27, 2013). “Considering Activist Art in the Age of Occupations.” ArtPulse. Accessed from http://artpulsemagazine.com/considering-activist-art-in-the-age-of-occupations
Al-Saadi, Yazan (April 1st, 2013). “Arab Comics: Creating Communities, Archiving History.” Al-Akhbar. Accessed from http://english.al-akhbar.com/content/arab-comics-creating-communities-archiving-history
Chute, Hillary L. (2010). Graphic Women: Life Narrative and Contemporary Comics. New York: Columbia UP. Print.
Connell, Raewyn & Messerschmidt, James (2005). “Hegemonic Masculinity: Rethinking the Concept.” Gender Society 19, pp.829-859. DOI: 10.1177/0891243205278639
De Cauter, Lieven, De Roo, Ruben & Vanhaesebrouck, Karel (2011). Art and Activism in the Age of Globalization. Rotterdam: Nai Utigevers/Publishers Stichting. Print.
Douglas, Allen & Malti-Douglas, Fedwa (1994). Arab Comic Strips: Politics of an Emerging Mass Culture. Indiana University Press: Bloomington and Indianapolis. Print.
Gilman, Sander L. (1992). “Black Bodies, White Bodies: Toward an Iconography of Female Sexuality in Late Nineteenth Century Art, Medicine, and Literature.” In Henry Louis Gates Jr. (ed.), “Race,” Writing, and Difference. Chicago: University of Chicago Press. Print.
Ghannam, Farha (2013). Live and Die Like a Man: Gender Dynamics in Urban Egypt. Stanford University Press. Print.
Høigilt, Jacob (2017). “Egyptian Comics and the Challenge of Patriarchal Authoritarianism.” International Journal of Middle East Studies 49 (1), pp.111-131.
Mitchell, Laura T. (2013). “‘The People Want The Regime Brought Down’: Popular Geopolitics and The 2011 Egyptian Revolution.” Master thesis, Durham University. Accessed from Durham e-Theses: http://etheses.dur.ac.uk/7280
Ndalianis, Angela (2011). “Why Comics Studies?” Cinema Journal50 (3), pp.113-122.
Phillips, Nickie & Strobl, Staci (2013). Comic Book Crime: Truth, Justice, and the American Way. New York: NYU Press. Print.
Robbins, Trina (n.d). “Women in Comics: An Introductory Guide.” NACAE: National Association of Comics Art Educators. Accessed from https://www.cartoonstudies.org/wp-content/uploads/2014/06/women.pdf
Soliman, Mounira (2014). “Between Art and Activism: Egyptian Women and the Revolution.” The Singapore Middle East Papers (SMEP) 12 (3), pp. 1-12. Accessed from https://mei.nus.edu.sg/themes/site_themes/agile_records/images/uploads/SMEP_12-3_Soliman.pdf
Tolmie, Jane (2013). Drawing from Life: Memory and Subjectivity in Comic Art. Univ. Press of Mississippi. Print.
Trujillo, N., (1991). “Hegemonic Masculinity on the Mound: Media Representations of Nolan Ryan and American Sports Culture.” Critical Studies in Mass Communication, 8, pp. 290-308.
Comics:
Al-Shakmgia Magazine [Printed Format].
Arab Comics. Accessed from http://www.arabcomics.net/phpbb3/portal.php
Comics Man. Accessed from http://thecomicsman.blogspot.com.eg/
Comixawy Comics. Accessed from http://www.facebook.com/comixawy.comics
Koshk Comics. Accessed from https://www.koshkcomics.org/public/start
Majdi Al-Shafii (2008). Metro. Malameh publishing house [Printed Format]
Tarek Shahin. Al-Khan Comic. Accessed from http://alkhancomics.com/
TukTuk Magazine [Printed Format].
Sacco, J., & Said, E.W. (2001). Palestine.
Documentaries:
Mazg (Producer) & Mohammed, Ismail (Director).(2013). Comex BelMasry. Egypt (Unpublished).