البورنو العلاجي: البورنوغرافيا كسيرورةٍ علاجيةٍ لمن اختبرن العنف الجنسي
انطلاقًا من “لائحة البظر” (The Clit List)، وهي قاعدة بياناتٍ بورنوغرافيةٍ تحتوي مواد موجّهةً إلى أفرادٍ اختبرن التحرش و/أو العنف الجنسي، يطرح هذا المقال السؤال التالي: هل يمكن للبورنوغرافيا أن تكون أحد أشكال السيرورة العلاجية لمن اختبرن تاريخًا من العنف الجنسي؟ وبغرض الإجابة على هذا السؤال، يستكشف المقال استخداماتٍ وجوانب بديلةً للبورنوغرافيا مركّزًا على نحوٍ خاصٍ على البورنوغرافيا الكويرية والنسوية والأخلاقية. وتبعًا للتاريخ المعاصر للبورنوغرافيا، أتفاعل في هذا المقال مع النظرية الكويرية من خلال مناقشة المقارَبات النسوية الكويرية للبورنوغرافيا، وكذلك مع النظرية الوجدانية (Affect Theory) عن طريق مشاركة المقارَبات النسوية الكويرية للتروما والإمكانية العلاجية التي يمكن للفيلم (الإيروتيكي) أن يثيرها لدى المشاهدة. ويتجاوز هذا المقال مجرد البحث عن جوانب بديلةٍ للبورنوغرافيا، إذ يسعى أيضًا إلى (إعادة) تقديم البورنوغرافيا كإعلامٍ منتجٍ يحمل في طيّاته إمكانية العلاج الجنسي.
لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".
cover-issue-6-2.jpg
مقدّمة1
منذ عامَين تقريبًا، اكتشفتُ مشروعًا بريطانيًا يُدعى “لأستعيد جسدي” (My Body Back)، يقدّم فحوصًا طبيةً للنساء اللواتي تعرّضن للعنف الجنسي بعد مواجهتهنّ تلك الأحداث العنيفة، بالإضافة إلى جلسات علاجٍ جماعي تؤمّن لهنّ الدعم النفسي. وبمعزلٍ عن هذه النشاطات، يمتلك هذا المشروع قاعدة بياناتٍ بورنوغرافية تتضمّن مواد موجّهةً إلى النساء اللواتي اختبرن تاريخًا من العنف الجنسي، سواءً كان تحرشًا أو اعتداءً جنسيًا. ويُدعى هذا المشروع “لائحة البظر” (The Clit List)، ويوفّر للناجيات من العنف الجنسي مواد إعلاميةً إيروتيكيةً2 قد تساعدهنّ في استكشاف رغباتهنّ الجنسية.
ووجدتُ قاعدة البيانات البورنوغرافية هذه مبتكرةً ومثيرةً على نحوٍ بارزٍ لكوني في الأساس مهتمة في الاستخدامات والجوانب البديلة للبورنوغرافيا. لكن السؤال البحثي التالي شغلني على نحوٍ خاص: هل يمكن للبورنوغرافيا أن تكون أحد أشكال السيرورة العلاجية لمن اختبرن تاريخًا من العنف الجنسي؟ ويهدف بحثي إلى معاينة ما إذا كانت النساء اللواتي اختبرن التحرش و/أو الاعتداء الجنسي يشاهدن الأفلام البورنوغرافية النسوية والأخلاقية3 والكويرية4 غير المستفزّة لهنّ، كتلك الأفلام التي تضمّها “لائحة البظر،” من أجل بلوغ الاستثارة الجنسية بعد تلك الأحداث الصادمة التي مررن بها وإعادة تعريف مقارَبتهنّ للممارسة الجنسية بشكلٍ عامٍ، أم لمجرّد احتضان أجسادهنّ على نحوٍ إيجابي.
وينقسم هذا المقال إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسة: الأول يستعرض التاريخ المعاصر للبورنوغرافيا، والثاني يناقش ثلاثة أفلامٍ بورنوغرافية مختلفة، والثالث يقدّم تحليلًا لنتائج استطلاع رأيٍ إلكترونيٍ يتناول المعرفة العامة بالبورنو النسويّ ومشكلة الوصول إليه. ويترافق هذا الاستطلاع مع ثلاث مقابلاتٍ تروي قصص نساءٍ اختبرن حوادث عنفٍ جنسي، وتفضيلاتهنّ البورنوغرافية المختلفة، مع الإشارة إلى تشابه تلك التفضيلات في طابعها السياسي.
1. سيرةٌ ذاتيةٌ للبورنوغرافيا
1.1 البورنو: الأعوام الذهبية
يعود الأصل الأتيمولوجيّ للبورنوغرافيا إلى المصطلح الإغريقيبورنوغرافوس (pornographos) المؤلّف من مفردتَين: بورن (porne) وتعني عامل/ة الجنس، وغرافين (graphien) وتعني فعل الكتابة. ووفقًا لـ”ديبي ناثان،” الصحافية والكاتبة النسوية الأميركية، “ظهرت كلمة بورنوغرافيا للمرة الأولى في قاموس أوكسفورد للغة الإنكليزية في العام 1857، وهو العام الذي أقرّت فيه إنكلترا قانونًا يحظر بيع وتوزيع المواد الجنسية التي تُعتبر “خلاعيّة”” (مقتبس في Wosick، 2015، ص. 414). وتغيّر تعريف تلك المفردة جذريًا على امتداد العصور نتيجة اختلاف مكانة وشأن البورن (عامل/ة الجنس) في المجتمعات المعاصرة، لكن ليس من إجماعٍ على كيفية تعريف البورنوغرافيا على وجه الخصوص؛ إذ ما يُمكن أن يبدو بورنوغرافيًا لشخصٍ ما، قد يبدو حسّيًا أو إيروتيكيًا أو حتى فنيًا لشخصٍ آخر/ أخرى.
وتواكب صناعة البورنو التطوّرَ التكنولوجي على نحوٍ سريعٍ، فبعد البطاقات البريدية البورنوغرافية، شرعت البورنوغرافيا باتخاذ شكلها المعاصر: إذ بدأ إنتاج أولى الأفلام البورنوغرافية5 في مطلع القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية وفقًا لـ”ووزيك” (2015). وفي تلك الفترة، انتشرت المجلات الرجالية مثل “بلاي بوي” لـ”هيو هفنر” (Playboy, 1953) و”بنت هاوس” لـ”بوب غوتشيوني” (Penthouse, 1969)، وبدأت دور العرض العامة في الولايات المتحدة بعرض الأفلام البورنوغرافية مثل “عميقًا في الحنجرة” (Deep Throat, 1972)، و”الشيطان في الآنسة جونز” (The Devil in Miss Jones, 1973) و”ديبي ودالاس” (Debbie Does Dallas, 1978).
وبحلول الثمانينات، حلّت الفيديوهات مكان الأفلام. ووفقًا للأسطورة المدينية، بات شربط الفيديو هو المعيار الرئيس لجهاز تشغيل الفيديو بفضل صناعة البورنو التي ازدهرت في خلال الثمانينات، إذ اعتمدته في عمليات الإنتاج، مؤثّرةً بالتالي في السوق برمّته. لكن نتيجةً لذلك، “تراجعت نوعية الإنتاج البورنوغرافي بشكلٍ عامٍ نظرًا لإقدام المزيد من الناس على الإنتاج السريع للبورنو – وبميزانياتٍ منخفضةٍ في غالب الأحيان. لذلك، تُعرف الفترة السابقة لفترة الفيديو بالـ”فترة الذهبية” للبورنوغرافيا لاتّسام إنتاجاتها بالجودة العالية” (Terrant, 2016,، ص. 23).
لكن نهضة البورنوغرافيا واجهت الكثير من العوائق، ففي الخمسينات والستينات، حين هيمنت المعتقدات المحافظة بشأن الجندر والمعيارية على أساس الغيرية الجنسية، كما هو الحال اليوم، بدأت بعض الحجج النيو-فرويدية عن السلوك الجنسي “السّوي” تحصد الانتشار والشعبية، كما تجادل “ريبيكا سوليفان” و”آلان ماكّي” في كتاب “بورنوغرافيا.” ووفقًا لهما، شهدت فترة السبعينات ازديادًا كبيرًا في الاهتمام بالبورنوغرافيا وآثارها العنيفة.6 وفي العام ذاته، أصدرت “اللجنة الرئاسية الأميركية لشؤون البورنوغرافيا والفن الإباحي” تقريرًا بشأن البورنوغرافيا وتبِعاتها على المواطنين/ات الأميركيين/ات. وعلى الرغم من أن النتائج التي استخلصتها اللجنة لم تشِر إلى صلةٍ مثبتةٍ بين البورنوغرافيا والعنف، يقول “جون لويس” أن “مجرد طرح السؤال يعزّز الصلة في أذهان الناس” (مقتبس في Sullivan and McKee، 2015، ص.77). وعثرت هذه المشاعر المناهضة للبورنو على مكانٍ لها في السياسات والنظريات النسوية، مثيرةً نزاعاتٍ داخليةٍ بين النسويات. وفي هذا السياق، وقعت في تلك الفترة “حروب الجنس” بين التيارات النسوية المختلفة.
2.1. حروب الجنس وما بعدها
ساهم جنون المعيارية على أساس الغيرية الجنسية الذي وسَم تلك الفترة في صعود تيارَين نسويّين متعارضَين على نحوٍ حاد: النسويات المناهضات للبورنو مقابل النسويات المؤيّدات له. وانطلقت هذه النقاشات النسوية في منتصف السبعينات واستمرت حتى الثمانينات وعُرفت بـ”حروب الجنس.”7 ووفقًا لـ”باتريك كيلتي” (2012)، جادلت النسويات المناهضات للبورنو مثل “أندريا دووركن” و”كاثرين ماكينون” و”ديانا راسل” أن البورنوغرافيا تعيد إنتاج علاقات القوى المُجندَرة، معززةً الثنائية القائمة على المعيارية على أساس الغيرية الجنسية حيث الرجال مفترِسون جنسيًا والنساء أغراضٌ جنسيةٌ سالبة. وتركّز نقد هؤلاء النسويات تحديدًا على الإنتاجات البورنوغرافية الخلاعيّة السائدة، وهو نقدٌ صحيحٌ لجهة الأدوار النمطية القائمة على المعيارية على أساس الغيرية الجنسية لكلٍ من المؤدّين والمؤدّيات، ما يعكس فعليًا الثنائية الجندرية المجتمعية وإعادة إنتاجها.
لكن بعض الأفكار الراديكالية، مثل المبدأ القائل بأن الجنس الإيلاجي هو جنسٌ قمعيٌ للمرأة عمومًا، أو أن هناك علاقةٌ سببيةٌ مباشرةٌ بين البورنوغرافيا والاغتصاب، استدعت ردًا مما بات يُعرف بالحركة المؤيّدة للجنس. واتّحدت النسويات المؤيّدات للجنس مثل “ليندا وليامز” و”دروسيلا كورنيل” و”لارا كيبنيس” مع المثليين/ات ومزدوجي/ات الميول الجنسية والمتحولين/ات جنسيًا والكويريين/ات واللاجنسيين/ات وثنائيي/الجنس (intersex)، وكذلك مع النساء المنخرطات في الجنس الإيلاجي و/أو الجنس القائم على التقييد والتأديب والسّادو – مازوخيّة (BDSM)، ومنتِجات البورنو المثليات وغيرهنّ، من أجل مواجهة مفاهيم “دووركن” و”ماكينون” بشأن البورنوغرافيا.
وساهم الطرفان في توليد خطابٍ عن البورنوغرافيا القائمة على المعيارية على أساس الغيرية الجنسية وجوانبها الإشكالية، لكن من المستحيل المساواة بينهما، أو وفقًا لتعبير “غايل س. روبن” (1984، ص. 167)، ليس من الممكن تصنيفهما على أنهما “على القدر ذاته من التطرّف.” لكن ماذا لو لم يكن الجواب على هذه البورنوغرافيا الغيرية السائدة هو حظر هذا الإعلام الإيروتيكي برمّته، بل خلق أصنافٍ بورنوغرافية بديلةٍ يمكنها ويتوجّب عليها تظهير أفعالٍ جنسيةٍ أكثر شمولًا وتنوعًا، بل وإعادة تشكيل مفهوم الجنس الإيلاجي في حدّ ذاته؟ تقدّم المقارَبة الكويرية للبورنو نوعًا من الإعلام البورنوغرافي المتّسم بتركيزٍ واضحٍ على ما هو سياسي. ويختلف البورنو الكويريّ عن بورنو المثليّات في عدم اقتصاره على عرض أفعالٍ جنسيةٍ اعتُبرَت في السابق غير مرئيةٍ أو غير سويّةٍ أو حتى غير نسوية، وفي محاولته تحويل مفاهيم الهوية الجندرية والعرقية والميول الجنسية والإيجابية الجسدية إلى ثيماتٍ جليّة، وجعل الهويات والأجساد غير المعيارية مرئيةً، متيحًا بذلك آليةً علاجيةً ممكنة. بالتالي، يمكن تصنيف البورنو الكويري ليس فقط كبديلٍ نتيجة مشهديّته المثلية، بل أيضًا كصنفٍ منتجٍ: فتمثيل تلك الأجساد يشكّل أداةً علاجيةً تميّز البورنو الكويري عن نسَبه العائد إلى التيار النسوي المؤيّد للجنس.
ومن جهةٍ أخرى، تثبت المنظورات الكويرية القدرة الإنتاجية للبورنو عن طريق إمكانيّة الإنتاج الذاتي8 الكامنة فيه. وتسمح التقنيات الجديدة للناس في خلق مساحاتٍ من القوة الخاصة بهن/م في مجال إنتاج البورنو. ويقدّم “بول بريسيادو”9 (2013، ص.37) مفهوم “الجسد البورنوغرافي ذاتيًا”10 (autopornographic body) بصفته قوةً جديدةً في الاقتصاد العالمي: “اليوم، يمكن لأي مستخدم/ة للإنترنت يمتلك أو تمتلك جسدًا، وحاسوبًا، وكاميرا فيديو أو كاميرا الويب، واتصالًا بشبكة الإنترنت وحسابًا مصرفيًا، إنشاء موقعٍ بورنوغرافيٍ والوصول إلى السوق الافتراضي الخاصّ بصناعة الجنس.” وإذ يشير “بريسيادو” إلى الصناعة البورنوغرافية الذاتية كتحدٍ محتملٍ لاحتكار الشركات البورنوغرافية الكبرى للسوق، يمكن للجسد البورنوغرافي ذاتيًا أن يعبّر أيضًا عن الجسد المُجنسَن إيجابيًا. ويمكن لوفرة المؤدّيات والمؤدّين الهواة ممّن ينتجن وينتجون أفلامهن/م الخاصة المساهمة في بناء صورةٍ إيجابيةٍ للجسد. ونورد هنا مجموعة الأفلام البورنوغرافية النسوية بعنوان “مذكراتٌ قذرة: 12 فيلمًا قصيرًا من البورنو النسوي” (Mia Engberg, 2009) ،11 وهي سلسلةٌ من الأفلام البورنوغرافية النسوية القصيرة من إنتاج مجموعةٍ من الفنانات/ين والناشطات/ين وصانعات/ي الأفلام، وبتمويلٍ من الحكومة السويدية، كمثالٍ على المقاومة البورنوغرافية.
بالطبع، يمثّل الإنتاج البورنوغرافي الهاوي إحدى سبُل تداول صور الجسد المختلفة، بحيث يُعاد توزيع الأرباح والعائدات خارج الحلقات التي تهيمن عليها الشركات البورنوغرافية. لكن على أيّ حالٍ، يركّز هذا المقال على طريقةٍ مختلفةٍ يمكن من خلالها للبورنو أن يكون منتجًا – سواءً كان هاويًا أو احترافيًا – وهي مساهماته المحتملة في السيرورات العلاجية.
3.1. البورنوغرافيا كسيرورةٍ علاجية
حتى اليوم، يستخدم التيار النسوي الراديكالي المناهض للبورنو الصلة السببية بين البورنو والاغتصاب كإحدى حججه الرئيسة، لكن المشاريع الثقافية والأكاديمية والنضالية المعاصِرة مثل مشروع “لأستعيد جسدي” في لندن، فلا تكتفي بالعمل على فكّ الارتباط السببي بين البورنوغرافيا والاغتصاب وفق مزاعم النسوية الراديكالية والأصوات اليمينية المحافظة المنتقدة للبورنو، بل تذهب إلى حد طرح البورنوغرافيا كأداةٍ علاجيةٍ لمن اختبرن العنف الجنسي.
ويمكن للعنف الجنسي أن يتسبّب بضررٍ وآلامٍ جسديةٍ ونفسية، وقد يترك أيضًا آثارًا سلبيةً على التعبير الجنسي لدى الناجية: فقد يشكّل التحرش و/أو الاعتداء الجنسي تجربةً صادمةً على نحوٍ بالغ (تروما). وتكتب “جريزلدا بولوك” (2013، ص.2): “تعود مفردة تروما في الأصل إلى القاموس الطبّي الإغريقي، وتشير إلى شيءٍ يخترق الجسد (…) لذا، فالأحداث والاعتداءات التي يعجز الجهاز النفسي عن معالجتها أو “هضمها،” تُعتبر صادمةً أو مسببةً للتروما.”
وعلى أي حالٍ، لا تشكّل التروما اضطرابًا أو شكلًا من أشكال المرض، لكنها تحتوي التجربة والذكرى. وكما تقول “بولوك” (2013، ص.1)، “التروما تتلبّسنا وتسكننا.” بالتالي، لا تبحث التروما عن الشفاء، لكنها تستدعي المواجهة. وفي كتاب “أرشيف المشاعر: التروما، والجنسانية والثقافات العامة المثلية النسائية،”12 تتناول “آن كفيتكوفتش” مشكلة إضفاء الطابع المرضي على التروما، والمقارَبة الإكلينيكية المعقّمة لها. وكما تفعل “جوديث هرمان،” تتطرّق “كفيتكوفتش” إلى الجانب الاجتماعي والسياسي للتروما، إذ يمكن للمقارَبات الجماعية مواجهتها عن طريق العلاج الجماعي، والانخراط والمشاركة في حركات ومجموعات النضال النسوي أو في نشاطاتٍ مثل مشروع “لأستعيد جسدي.”
وتقدّم “كفيتكوفتش” مثالًا محددًا على المواجهة العلاجية العامة للتروما، مستدعيةً عرض “القبيلة 8” (Tribe 8) في “مهرجان ميشيغان الموسيقي للنساء”13 في العام 1994، وهي فرقةٌ مثليةٌ نسائيةٌ تختص بموسيقى البانك. وفي خلال ورشة العمل التي تلت العرض، قامت “لين بريدلوف” – المغنية الرئيسة في الفرقة – “بتقديم الإرشادات للحاضرات عن كيفية العثور على قضبانٍ صناعيةٍ (ديلدو) رخيصة الثمن للتضحية بها، مقدمةً شهادةً بليغةً عن القدرة الشفائية للإخصاء الرّمزي” (Cvetkovich، 2009، ص.73). ويمكن لأفعالٍ مثل الإخصاء العلني لقضيبٍ صناعيٍ المساعدة في تنفيس التوتر الجسدي والمشاعر المكبوتة، إذ حين نتوقف عن النظر إليها كتعابير عنيفة، يمكن لهذه الأفعال التعامل مع العنف المُستبطَن عن طريق الطقوس العلاجية.
هل يمكن للبورنوغرافيا تحقيق نتائج مشابهة لعرض “القبيلة 8″؟ تناصر الكاتبة والنسوية المؤيّدة للجنس “دونا مينكوفتز” “المثلية النسائية والسادو-مازوخيّة المؤيّدة للجنس، طارحةً علاقات الهيمنة والخضوع كآليةٍ للشفاء من سفاح القربى بدلًا من كونها مقارَفةً له بطرقٍ أخرى” (Cvetkovich، 2009، ص.75). وتجادل “مينكوفتز” أن بمستطاع ممارساتٍ جنسيةٍ معينةٍ تحفيز السيرورات الشفائية. إذًا، يمكن للبورنوغرافيا بصفتها الشكل المطلق للإعلام الإيروتيكي والترفيه الراشد، أداء دورٍ جوهريٍ في مواجهة التروما المرتبطة بتجارب العنف الجنسي. لكن يبقى السؤال: هل يمكن للبورنوغرافيا ككلٍ المساهمة في السيرورات العلاجية للناجيات من العنف الجنسي، أم يجدر بنا التركيز حصرًا على فئاتٍ معينةٍ من البورنو؟
2. فيلموغرافيا زرقاء/ سياساتٌ زهرية14
1.2. كثيرٌ من المهابل؟ بل المزيد منها!
تتّسم البورنوغرافيا النسوية والكويرية والأخلاقية بمعتقداتٍ سياسيةٍ معينةٍ متأثرةٍ بالحركة النسوية، وهي تهدف إلى حماية المؤدّيات والمؤدّين، وشمل أفرادٍ كملوّنات وملوّني البشرة، والأشخاص ذوات وذوي الهويات الجندرية والجنسية غير النمطية وغير الممتثلة للمعايير السائدة، ومتنوّعات ومتنوّعي الوظائف الجسدية، وذوات وذوي الأجساد الأكبر حجمًا والندوب وشعر الجسم وغير ذلك. ويساهم هذا التغاير في أنواع الأجساد والجنسانيات والهويات الجندرية في تعزيز ظهوريّة الأشخاص خارج السياق المعياري الغيري، وهو أمرٌ يحتوي في حدّ ذاته على رسالةٍ سياسيةٍ تتّسق مع جانبٍ علاجي أيضًا.
ونورد كمثالٍ على هذا الصنف من البورنوغرافيا فيلمَي “كثيرٌ من المهابل: عاهراتٌ نسوياتٌ في عرض X الكويري” (2010) و”المزيد المزيد من المهابل” (2010) ،15 وكليهما من إخراج صانعة الأفلام الفرنسية “إيميلي جوفيت.” ويوثّق الفيلمان جولةً قامت بها سبع مؤدّياتٍ أوروبياتٍ في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية في صيف 2009، مقدّماتٍ عرضًا هزليًا بعنوان “عرض X الكويري،” كما يوثّقان الممارسات الجنسية التي حصلت بين عضوات الفرقة وغيرهنّ من الكويريات والكويريين، بالإضافة إلى تفاعلهنّ مع المجموعات النسوية والكويرية والمثلية الأخرى.
وفي فيلم “المزيد المزيد من المهابل” ومدّته ثماني دقائق، تقوم “سادي لون،” المؤدّية والمختصّة في التثقيف الجنسي، بالتعريف بنفسها والإعلان عن استعدادها لترينا عنق رحمها. تباعد “لون” ما بين رجليها، وتظهر دونما جهدٍ عنق رحمها أمام الحاضرات والكاميرا، مستعينةً بمنظارٍ مهبليٍ ومرآة. وتهدف “لون” من خلال إجراء هذه المعاينة الذاتية لعنق الرحم إلى إزالة الطابع الطبّي عن هذه الممارسة.
ووفقًا لـ”إنغريد رايبرغ” (2012، ص.84)، اشتهرت ممارسة معاينة عنق الرحم بفضل عرض “إعلاناتٌ عامةٌ لعنق الرحم”16 لـ”آني سبرنكل” في التسعينات، حين “دعت بعضًا من جمهور عرضها “حداثويةُ تاليةٌ للبورنو”17 إلى معاينة عنق رحمها باستخدام المنظار. أما في “عرض X الكويري،” فيرِد ذكرٌ صريحٌ لراديكاليات الجنس في الثمانينات مثل “سبرنكل”.” وعن طريق احتضان ممارسة المعاينة الذاتية، وتبرئة الطمث والاستثارة الذاتية الأنثوية، برزت في فترة الثمانينات حركةٌ تدعو إلى الإيجابية الجنسية والجسدية، معلنةً الاستقلال الذاتي للجسد (الأنثوي) وحقه في تقرير المصير.
هل يمكن لهذه الإيجابية الجنسية والجسدية التي تتخلّل فيلمَي “كثيرٌ من المهابل” و”المزيد المزيد من المهابل” أن تحقّق وظيفةً علاجيةً للنساء اللواتي تعرّضن للتحرش و/أو الاعتداء الجنسي؟ وهل يمكن لهذا النوع من الأفلام الإيروتيكية المساهمة في خلق مساحةٍ بورنوغرافيةٍ آمنةٍ تشجّع كل الأفراد على التعبير عن جنسانيتهنّ والتعرّف إلى أجسادهنّ؟ تقول “رايبرغ” (2012، ص.34): “يتّسم المجتمع التأويليّ للبورنوغرافيا النسوية والمثلية والكويرية بالصراعات النضالية الهادفة إلى تكوين مساحةٍ آمنةٍ للتمكين الجنسي،” مضيفةً أن “هذا المجتمع التأويليّ يعمل عمل العام الحميم والعام المضاد في آنٍ معًا.”
وتماشيًا مع هذا المفهوم، تستطيع البورنوغرافيا النسوية والكويرية والمثلية النسائية توفير مساحةٍ آمنةٍ حيث يمكن للمهمّشات/ين، ولاسيما النساء، تشارك حسٍ بالانتماء في ما بينهنّ. وحين تباعد “سادي لون” ما بين رجلَيها، مصرّحةً عن رغبتها بمعرفة ذاتها وما يجري في داخلها، فإنها تعبّر عن موقفٍ واضحٍ بأنّ الجنسانية ليست أمرًا مخزيًا. وبذلك، قد تساعد “لون” كل فتاةٍ تعرّضت للتحرش و/أو الاعتداء الجنسي، بدءًا بالتحرش اللفظي في الشارع ووصولًا إلى الاغتصاب، لتدرك أن ليس جسدها ما يجتذب تلك الأفعال، بل هي نتاج نظامٍ بطريركيٍ معتلّ.
2.2. الحذاء الفضّي
بالطبع، لا يهدف البورنو النسوي إلى تسييس الاستثارة الجنسية فحسب، لذا يُطرح السؤال التالي: هل يستطيع البورنو النسوي والكويري والأخلاقي الجمع ما بين السياسة والاستثارة؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل على هذا النوع من البورنو الاهتمام بالهويات والممارسات الجنسية غير النمطية حصرًا، أم يمكنه تضمين أفعالٍ كالجنس الغيري الإيلاجي أيضًا؟
يروي فيلم “الحذاء الفضّي”18 للمخرجة “جينيفر ليون بِل” (2015) ثلاث قصصٍ إيروتيكيةٍ صريحة. وفي القصة الثالثة، تقوم “لياندرا” – وهي امرأةٌ تنجذب إلى النساء والرجال والأشخاص بغضّ النظر عن جنسهم/ن – بممارسة الجنس مع صديق صديقتها، وهو شابٌ كويريٌ وحيدٌ برفقة مجموعةٍ من النساء، ويعبّر عن اهتمامه بالأزياء والموضة. وفي أحد المشاهد، ينتعل الشاب حذاءً فضيًا بكعبٍ عالٍ بينما يؤدّي مشيةً استعراضيةً بغرض تسلية رفيقاته. وحين يحدث اللقاء الجنسي بين المؤدّية والمؤدّي، تعتلي “لياندرا” شريكها الذي يبدو بمظهرٍ ناعمٍ وفتيٍّ مسحورًا بها. وعلى الرغم من كون المجامعة غيريةً، إلا أن “لياندرا” تبدو في موقع القوّة والسيطرة، إذ تتلقى المتعة وتمنحها في الوقت عينه برفقة رجلٍ من دون أن يتمّ تشييؤها. وفي هذا المشهد المحدّد، تُطمَس الحدود بين الجسدَين الموجب والسالب. وتنجح “بِل” في المزج بين هاتين الهويّتين، مقدّمةً تمثيلًا بديلًا للجماع المسمّى في العادة جنسًا غيريًا. ويشكّل طمس “الأدوار” هذا أحد المفاهيم الأساسية في البورنوغرافيا النسوية والكويرية والأخلاقية، بما يعيد تشكيل بل محو ثنائيّة الموجب/ السالب.
أكثر من ذلك، يمكن لفعل “الاعتلاء”19 في حد ذاته أن يكون علاجيًا. وعلى سبيل المثال، تلخّص “كفيتكوفتش” حجّة “مينكوفتز” المثيرة للاهتمام بشأن الاعتلاء، مشيرةً إلى أنها “توصّف ردّها المرِح على التروما بتجنّب ما تصفه بالنمط الذكريّ لنشر الإساءة، عن طريق التحوّل إلى مرتكبةٍ له. كما أن الاعتلاء يمثّل بديلًا عن الاستجابة “الأنثوية” التقليدية باتخاذ وضعية “الضحية،” وهو ما تعرّفه “مينكوفتز” وفقًا لـ”دووركن” بأنهالواسطة السالبة (via negativa) الرافضة لأي صلةٍ بالغضب والعدائية” (Cvetkovich، 2009، ص.75). وتبعًا لـ”مينكوفتز،” فإنّ الشريكة الأنثى تتخلّى من خلال فعل الاعتلاء هذا عن الدور السالب المرتبط عادةً بوضعيّة المفعول/ة به/ا، وبالتالي تتبنّى دورًا أكثر قوة. إذًا، عن طريق مشاهدة فيلمٍ يقدّم مقارَبةً مختلفةً للمجامعة الغيرية كفيلم “الحذاء الفضّي،” يمكن للنساء ممّن اختبرن العنف الجنسي العثور على طريقةٍ لإعادة تشكيل فعل الجنس الإيلاجي. إن الجنس، وبالتالي البورنو، لا يشكّلان مجرّد فعلٍ مبسّطٍ يقوم فيه الذكر المفترس بولوج فريسته الأنثى، بل يمكن لهما أن يتّسما بالحسّية، والتعقيد، والروحانية والرومانسية.20
3.2. مذكّراتٌ قذرة
“السلطة” (Marit Östberg, 2009) هو فيلمٌ قصيرٌ ضمن مجموعة “مذكراتٌ قذرة: 12 فيلمًا قصيرًا من البورنو النسوي” (Mia Engberg, 2009)، وهو يعرض علاقات قوّةٍ جليةٍ لجهة الهيمنة والخضوع، يؤدّيها أفرادٌ عن طريق الانخراط بأفعالٍ جنسيةٍ قائمةٍ على التقييد والتأديب والسّادو – مازوخيّة (BDSM). 21وعلى الرغم من أن هذه الأفعال قد تبدو خيارًا إشكاليًا في فيلمٍ بورنوغرافيٍ كويريٍ يتضمّن إمكانيةً علاجية، فإنّ التفاعل مع أشكالٍ أكثر تطرفًا من البورنو الكويري قد يكون ذا صلة. إذًا، ماذا تستطيع الممارسات السادو – مازوخيّة أن تقدّم للناجيات من العنف الجنسي؟
في “السلطة،” تلاحق شرطيةٌ فتاةً كانت ترسم الغرافيتي على أحد الجدران، وتنتهي المطاردة بالمرأتين إلى مبنًى مهجورٍ حيث تنجح الفتاة في تقييد الشرطيّة إلى كرسيٍ موجودٍ في المكان، ثم تعمد إلى ركل الكرسي حتى يقع أرضًا. بعد ذلك، تقوم الفتاة برفع الكرسي وفكّ قيود الشرطيّة التي تختار البقاء، فتبدأ المداعبة الإيروتيكية بين المرأتين. ويظهر هنا عاملا الرضا والثقة كعاملَين أساسيّين ومُحترمَين في تلك المداعبة، نظرًا إلى قرار الشرطية البقاء بعد أن فُكّت قيودها.
ويتّسم الفيلم بدرجةٍ معينةٍ من التعقيد، إذ يتحدّى أولًا طبيعة المكان العام في علاقته بالجنس، فتحدث جلسة السادو – مازوخيّة والمجامعة الجنسية بأكملها في مبنًى مهجور، في إشارةٍ واضحةٍ إلى مطالب الظهوريّة التي أطلقتها الناشطات المؤيّدات للجنس في فترة حروب الجنس النسوية. أكثر من ذلك، تقوم المؤدّيتان وهما شرطيّةٌ في موقع سلطةٍ، وفتاة الغرافيتي التي تخرّب المكان العام، بتحدّي موقعَي بعضهما البعض لجهة الهيمنة والخضوع، من خلال ممارسة الجنس القائم على التقييد والتأديب والسّادو – مازوخيّة. وأخيرًا، يقوّض الفيلم بقوةٍ التحيّزات الخاصة بالجنسانية الأنثوية التي يُنظر إليها في العادة على أنها رقيقةٌ ورومانسية، عن طريق تصوير مداعبةٍ جنسيةٍ عنيفةٍ بين امرأتين.
وقالت “أوستبرغ” في مقابلةٍ أجريتها معها: “ما أردتُ فعله هو قلبُ بُنى القوّة رأسًا على عقب، والأمر مرتبطٌ بماضيّ كمناضلةٍ (…) لذا، القصة في حد ذاتها ليست علاجيةً لكنها سياسية.” بالتالي، أرادت المخرجة التلاعب ببُنى القوّة عن طريق تصوير التفاعل الجنسي السادو – مازوخيّ بين الشرطيّة في موقع السلطة، وفتاة الغرافيتي التي تنتهك القانون. وبحسب “أوستبرغ،” يمكن فهم الفروق الكامنة بين نوايا المخرجة وأثر العمل على الجمهور. لكن ما صنعته “أوستبرغ” كردٍ على السلطة التي تفرضها الشرطة، تمكن قراءته كإعادة تمثيلٍ لتجربةٍ صادمةٍ تتحدّى الشخص في موقع السلطة وتقلب الأدوار، لكن على نحوٍ رضائي.
في كتابها،22 تشارك “كيكو لاين،” وهي معالجةٌ نفسيةٌ يابانيةٌ أميركيةٌ، قصة إحدى أولى زبوناتها، وهي امرأةٌ مثليةٌ خشنةٌ عاشت تجارب من العنف الجنسي في طفولتها. وكانت لهذه المرأة المثلية أهواءٌ جنسيةٌ مسيطِرةٌ، كما كانت تفضّل البورنو الذي يصنعه رجالٌ لرجالٍ آخرين، وقد اعترفَت لمعالجتها بأن تفضيلها الجنسي هذا كان يثيرها ويُشعرها بالذنب في الوقت عينه. وللأسف، تعترف “لاين” بأنها أقدمت على “]تعييرها[ بطرقٍ مماثلةٍ للطرق التي كانت تعرّضت فيها للتعيير من قبل الآخرين” (2013، ص.167) لأنها كانت تتبع إرشادات المشرف/ة على العلاج النفسي.
وانطلق/ت مشرف/ة “لاين” من فرضيّة أن إعادة التمثيل (الجنسي) تتّسم دومًا بالمرَضيّة وترتبط بالتجارب الصادمة. لكن مقارَبة “كفيتكوفتش” الواردة أعلاه، وجدليّة “بولوك” عن كون التروما “تسكننا،” وتأييد “مينكوفتز” للممارسات السادو – مازوخيّة كآلياتٍ علاجية، تشير كلها إلى أن مواجهة التروما وإعادة تمثيلها تشكّل احتمالاتٍ علاجية. في الواقع، يمكن لإعادة تمثيل التروما أن تكون شافيةً لأنها تتضمّن مواجهةً مع التجربة الصادمة ضمن سيرورةٍ واعيةٍ وخاضعةٍ للسيطرة.
أما لجهة مساهمة البورنوغرافيا، فإنّ التماهي مع مؤدّيةٍ أو مؤدٍّ غير نمطيّ/ةٍ في فيلمٍ نسويٍ أو كويريٍ أخلاقيٍ من خلال أفعالٍ جنسيةٍ تُعتبر غير معياريةٍ مثل اعتلاء الأنثى للذكر، والممارسات السادو – مازوخيّة، والجنس المثليّ، والقذف الأنثوي وغيرها، يسمح للنساء اللواتي يحملن تروما ذات صلةٍ بالتعبير الجنسيّ أن يختبرن أخيرًا هذه التخيّلات المستترة، وأن يواجهن قصصهنّ أو يُعدن تمثيلها من خلال عرضٍ بورنوغرافيٍ تحرّري.
وفي وقتٍ تعمد فيه أفلامٌ مثل “الحذاء الفضّي” إلى تقديم نوعٍ عاطفيٍ من الأفلام الإيروتيكية، يشتبك فيلم “السلطة” مع ممارسات التقييد والتأديب والسادو – مازوخيّة، مظهرًا قدرة الأفلام البورنوغرافية الكويرية السادو – مازوخيّة على أن تكون منتجة، إذ تسمح بتكرار العنف لكن في سياقٍ رضائي أكثر أمانًا. ويمكن للبورنو الكويري الأنثويّ أن يكون تثقيفيًا أيضًا، كما يبرهن فيلم “المزيد المزيد من المهابل.” لكن هل تقدم النساء اللواتي اختبرن نوعًا من العنف الجنسي على البحث عن البورنو النسوي والكويري الأخلاقي فعلًا؟ وهل يعثرن على أنواعٍ بديلةٍ من البورنو العلاجي؟ وإلى أي حدٍ يمكن الوصول إلى هذا النوع من البورنو في الأساس؟
3. البورنو العلاجي: من النظرية إلى الممارسة
1.3. طعم البورنو: استطلاع رأيٍ على الإنترنت
نُشر استطلاع الرأي الذي أعددتُه ضمن مجموعاتٍ نسويةٍ ومهتمةٍ بدراسات الجندر على موقع “فايسبوك،” وتوجّه بالدرجة الأولى إلى الشابات والشبان الهولنديات/يين واليونانيّات/يين، نظرًا لهويّتي الخاصة كطالبةٍ يونانيةٍ في هولندا آنذاك. لكن بما أن تلك المجموعات مفتوحةٌ لكافة المهتمات والمهتمين بالنسوية، وبالسياسات الخاصة بالمثليين/ات ومزدوجي/ات الميول الجنسية والمتحولين/ات جنسيًا والكويريين/ات واللاجنسيين/ات وثنائيي/الجنس، وبالأخبار والأحداث ذات الصّلة، شارك/ت في الاستطلاع 61 شخصًا من مختلف الدول الأوروبية، كان 39 منهن/م من مواليد الفترة الواقعة بين 1990 و2000، و22 منهن/م من مواليد الفترة الواقعة بين 1979 و1989.
أما لجهة الجندر والميول الجنسية، فعرّف 71% منهن/م عن أنفسهنّ كنساءٍ تُطابق هويّتهن الجندرية النسائية تكوينهنّ البيولوجيّ الأنثوي (cis females)، بينما اختار 19.7% منهن/م خانة “غير ذلك” وتراوحت إجابات هؤلاء بين الهوية الكويرية واللا ثنائية الجندرية. وشارك في الاستطلاع ثلاثة رجالٍ تُطابق هويّتهم الجندرية الرجالية تكوينهم البيولوجيّ الذكري (cis males)، وشخصٌ متحوّل/ة23 وشخصٌ ثنائي/ة الجنس. وإذ عرّف/ت 27 من هؤلاء عن أنفسهن/م كمزدوجي/ات الميول الجنسية وكمنجذباتٍ ومنجذبين إلى الناس بغضّ النظر عن جنسهن/م وجندرهن/م، لا بد من التنبّه إلى أن معظم المشاركات/ين كنّ نساءً مهتماتٍ بالسياسات النسوية والجندرية. بالتالي، فإن الجمع بين ميولهنّ الجنسية وآرائهنّ السياسية التي يمكن تصنيفها كآراءٍ منفتحةٍ وغير نمطية، قد ينتج جنسانيةً أكثر انفتاحًا.24
أشارت كل المشاركات تقريبًا إلى تعرّضهن للتحرش الجنسي، كما ذكرت معظمهن التعرض لاعتداء جنسي. وطرح الاستطلاع سؤالًا عن عادات الاستثارة الذاتية خاصتهن بهدف معرفة ما إذا كنّ يواجهن أي صعوبات، من أجل مقارنة النتائج مع تفضيلاتهن البورنوغرافية لاحقًا. ووفقًا للنتائج، توقفت ثلاثٌ منهنّ عن ممارسة عادات الاستثارة الذاتية خاصتهن بعد التعرض للعنف الجنسي.
وعندما يتعلّق الأمر بالتفضيلات البورنوغرافية، قالت معظم المشاركات أنهنّ يشاهدن كافّة الأنواع، من البورنو الغيري والمثلي السائد، مرورًا ببورنو التقييد والتأديب والسادو – مازوخيّة، ووصولًا إلى البورنو النسوي والكويري والأخلاقي. وأشارت 23% من المستطلَعات أنهنّ يشاهدن البورنو النسوي والكويري والأخلاقي حصرًا، بينما فضّلت 9.8% منهنّ بورنو التقييد والتأديب والسادو – مازوخيّة حصرًا. وأجابت 18% بالإيجاب عن سؤال ما إذا كنّ بدأن بتفضيل هذا النوع من البورنو بعد تعرّضهن لشكلٍ من أشكال العنف الجنسيّ، بينما أشارت 16.4% إلى أن اهتمامهنّ بهذا النوع من البورنو لا يرتبط بتجاربهنّ مع العنف الجنسي، أو أنهنّ لم يكنّ يبدين اهتمامًا بالبورنو السائد حتى قبل التعرض للتحرش و/أو الاعتداء الجنسي. لكن بغرض فهم ما إذا كانت هناك علاقةٌ سببيةٌ بين العنف الجنسي وتفضيل أنواعٍ معينةٍ من البورنوغرافيا، كان عليّ معاينة الإجابات على نحوٍ فردي.
وكانت الغالبية العظمى من المشاركات اللواتي يفضّلن البورنو النسوي والكويري والأخلاقي و/أو بورنو التقييد والتأديب والسادو – مازوخيّة قد تعرّضن للاعتداء الجنسي أو لشكلٍ آخر من أشكال العنف الجنسي. وتشير الأرقام إلى أن التفضيلات البورنوغرافية للمستطلَعات اللواتي اختبرن نوعًا من العنف الجنسي تختلف عنها لدى من لم يختبرنه، لكن جميع من أشرن إلى تفضيلهنّ البورنو النسوي والكويري والأخلاقي أو الأفلام الإيروتيكية السادو – مازوخيّة حصرًا، كنّ مررن في تجارب من العنف الجنسي، باستثناء واحدة. لكن بالطبع، لا يمكن فهم هذا التفضيل على نحوٍ وافٍ من خلال هذا الاستطلاع فقط. ويمكن إطلاق التخمينات بشأن الطبيعة غير الاستفزازية لهذه الأنواع البديلة من البورنو أو التلاعب بديناميات القوّة في بورنو التقييد والتأديب والسادو – مازوخيّة، لكن بالطبع، تبقى الحاجة قائمةً إلى المزيد من البحث في هذا الموضوع من أجل التوصّل إلى استنتاجاتٍ متينة.
ولجهة إمكانية الوصول إلى هذا النوع من البورنوغرافيا، أشارت الغالبية العظمى من المشاركات إلى محدودية أو انعدام وصولهنّ إلى البورنو النسوي والكويري والأخلاقي، وبالتالي توجّههن نحو البورنو المثلي أو الغيري السائد لعدم قدرتهنّ على تحمّل التكلفة الباهظة لذلك الصنف على الرغم من جودته العالية. وتجدر الإشارة إلى أن 98.4% من المستطلَعات يحملن إجازاتٍ جامعيةٍ أو شهادات ماجستير، كما أن 52.5% منهنّ ما زلن طالبات، ما يدفع إلى التساؤل عمّن يستطعن دفع المال لقاء الحصول على هذا النوع من البورنوغرافيا مقابل من لا يستطعن ذلك. وعلى الرغم من أن معظم المشاركات يتمتّعن بوضعٍ اجتماعي – اقتصادي جيد، فإنهنّ إما غير قادراتٍ أو غير راغباتٍ بإنفاق المال من أجل مشاهدة أفلامٍ بورنوغرافيةٍ عالية الجودة.
لكن “جيز لي،” وهي مؤدّيةٌ بورنوغرافيةٌ كويريةٌ، تجادل على موقعها الإلكتروني بأنّ “البورنو الأخلاقي يغدو متاحًا فقط عندما ندفع المال لقاء الحصول عليه” (Lee, 2015). ووفقًا لها، لا يمكن ضمان احترام حقوق العمل الأساسية للمؤدّيات والمؤدّين في خلال عملية إنتاج الفيلم ما لم يُدفع المال لقاء الحصول عليه. ولا تركّز “لي” على البورنو الأخلاقي فحسب، بل على الاستهلاك الأخلاقي له أيضًا. بالتالي، إنّ البورنو الأخلاقي لا يعني المؤدّيات والمؤدّين والمنتجات والمنتجين فحسب، بل هناك دورٌ أساسيٌ للمشاهدات والمشاهدين كذلك. وإذ تفضّل الكثيرات والكثيرون استثمار مواردهنّ/م في حاجاتٍ استهلاكيةٍ أساسية، فإنّ الاستثارة الذاتية والبورنو الأخلاقي لا يُعتبران ضرورةً حتى بالنسبة إلى المقتدرات والمقتدرين.
2.3. المقابلات: مشاركة ثلاث قصص
يتّسم البحث الكمّي بمحدودياتٍ معيّنة، إذ لا يسمح استطلاع الرأي للباحثة بالتعمّق في الأسئلة، كما أنه لا يعالج كل حالةٍ فرديةٍ على نحوٍ متين. لكن بعض المشارِكات والمشارِكين استجبن/وا لطلبي إجراء مقابلاتٍ معهنّ/م.25 وأجريتُ المقابلة الأولى مع رجلٍ يوناني تطابق هويّته الجندرية الرجالية تكوينه البيولوجيّ الذكري، يبلغ من العمر 32 عامًا، ويعيش في مدينة “غروننغن” في هولندا، وسوف أدعوه “أ.” ويعتبر الرجل نفسه غيريًا جنسيًا لكنه منفتحٌ على بعض الممارسات الجنسية مع ذكورٍ آخرين. وكان “أ” قد تعرّض للتحرش الجنسي في إحدى الحفلات المنزلية عندما كان يبلغ من العمر عشرين عامًا، حين أُرغم على خلع ملابسه في سياق إحدى الألعاب القائمة على تناول الكحول، ثم تعرّض لعدّة تعليقاتٍ سلبيةٍ استهدفت جسده. ولا أودّ التركيز أكثر على تجربة التحرش الجنسي التي اختبرها “أ،” لكن تجدر الإشارة إلى أن التحرش الجنسي لا يقتصر على الاغتصاب فحسب، ولا ينحصر برجالٍ غرباء يتهجّمون على النساء في الشوارع، بل يمكن للعنف أن يتخذ شكل “لعبةٍ” بين الأصدقاء، كما تُظهر قصّة “أ.”
أما لجهة تفضيلاته البورنوغرافية، فأشار “أ” أنه قد شاهد تقريبًا كافة أصناف البورنوغرافيا، لكنه بدأ تدريجيًا بالبحث عن بورنو الهواة أو البورنو الأكثر واقعية. وتعرّف “أ” إلى البورنو النسوي من خلال أفلام “إيريكا لاست” (Erica Lust)، ولدى سؤالي عن رأيه في تلك الأفلام أجاب: “كنت سعيدًا بها نوعًا ما، إذ ذكّرتني بنفسي حين كنت أبلغ من العمر 16 عامًا، وكيف كنت أتخيّل أن يكون المرء مع فتاةٍ، من دون أن تكون لي أيّ فتاة. ما كان يحدث في الأفلام كان الأقرب إلى ما كنت أتصوّره (…) عندما لم أكن أمتلك حاسوبًا.”
قد لا تكون تجربة التحرش الجنسي التي مرّ بها “أ” ذات ارتباطٍ مباشرٍ بتفضيلاته البورنوغرافية، بالإضافة إلى أنه لم يشِر إلى اختباره أي جوانب علاجيةٍ لتلك الأنواع البديلة من البورنو، لكنه كان يضفي طابعًا رومانسيًا على البورنوغرافيا النسوية، أو أقلّه على أعمال “إيريكا لاست.” ويمكن للرجال الذين تطابق هويّتهم الجندرية الرجالية تكوينهم البيولوجي والذين يولدون ويكبرون في مجتمعٍ بطريركيٍ تحكمه المعيارية الغيرية، يمكنهم أن يجدوا في البورنو النسوي تحريرًا من هويتهم الذكرية النمطية، ويمكن لهذا التحرّر من القواعد والممارسات الذكورية أن يكون في حدّ ذاته علاجيًا. لكن حين يتعلّق الأمر بأشكالٍ أكثر شراسةً من العنف الجنسي، كالاغتصاب، هل يمكن للبورنوغرافيا أن توفّر فعلًا سيرورةً علاجية؟ القصتان الواردتان أدناه لامرأتَين26 ممّن تطابق هويّتهما الجندرية النسائية تكوينهما البيولوجي الأنثوي، تسمحان للقارئ/ة بالتنقّل بين الحجج النظرية والتجارب الشخصية الفعلية، بينما أسعى إلى الإجابة على السؤال السابق.
الفتاتان اللتان قابلتهما تعيشان في اليونان، وتتابعان التحصيل العلمي في الجامعة، كما أن إحداهما تعمل. وتبلغ “ي” من العمر 23 عامًا وتعرّف عن نفسها كمزدوجة الميل الجنسي، أما “ز،” فتبلغ من العمر 22 عامًا وتميل إلى اعتبار نفسها مثلية، لكنها قد تمارس الجنس مع الرجال في ظروفٍ معيّنة. وتعرّضت “ي” للإساءة الجنسية على يد أحد جيرانها وكان فتًى يبلغ من العمر 16 عامًا، في حين كانت هي تبلغ من العمر سبعة أعوامٍ تقريبًا. أما “ز،” فتعرّضت لاعتداءَين جنسيّين، الأول في سنّ السادسة على يد قريبها الصغير، والثاني في سنّ الثامنة على يد مراهقٍ يبلغ من العمر 16 عامًا. وأخبرتني كلٌ من “ي” و”ز” أن التجارب كانت عبارةً عن ممارساتٍ تصعيدية، إذ بدأ الأمر بملامساتٍ وقبلاتٍ غير لائقةٍ وانتهى بالاغتصاب. وكان من الصعب جدًا لكلتيهما مشاركة تلك القصص. وكانت “ز” شاركت للمرة الأولى أجزاءً من تلك التجارب مع أمها قبل بضعة أشهر، بينما تعرف أمّ “ي” عن تجربتها لكنهما لا تتكلّمان عن الأمر.
أما لجهة تفضيلاتهما، فلا تشاهد “ز” غالبًا الأفلام البورنوغرافية، بل تفضّل استخدام خيالها وتذكّر الممارسات الجنسية التي اختبرتها بنفسها، مشيرةً إلى أن أفلام البورنو السائدة لا تستثيرها نظرًا لتركيبتها ولغياب “المشاعر” عنها. وكامرأةٍ نسوية، تقوم “ز” باستمرارٍ بتحليل تلك الصور النمطية والتراكيب المعيارية الغيرية التي تهمين على الأفلام البورنوغرافية السائدة، ما يتسبّب بإخماد مشاعر الاستثارة لديها. وعلى الرغم من اطّلاعها على الأفلام الكويرية والنسوية والأخلاقية، لا تستطيع “ز” الوصول إلى تلك الأفلام لعدم استعدادها لدفع المال لقاء ذلك، لكنها حتمًا تفضّل لو كان بإمكانها الحصول على الأفلام البورنوغرافية النسوية مجانًا. وسبق لـ”ز” أن شاهدت مقاطع من أفلامٍ بورنوغرافيةٍ نسويةٍ أو كويرية، لكن لدى سؤالي لها عمّا إذا كانت تجد إمكانيةً علاجيةً في ذلك الصنف، أجابت: “ستكون إجابتي افتراضيةً، لكني على الأرجح سأجيب بـ”نعم،” بناءً على ما تقدّمه النسوية والكويرية عمومًا من أدواتٍ وتحليلٍ للمسائل الجنسية وللتروما، وقد وجدتُ من خلال تجربتي وانخراطي في هذا النوع من السياسات أنّي تحسّنتُ كثيرًا وبتّ أشعر بالأمان.”
وعلى الرغم من أن “ز” تفضّل بوضوحٍ البورنو النسوي الذي يستثير المشاعر، إلا أنه يصعب عليها تحمّل تكاليفه. ومن جهةٍ أخرى، تنجذب “ي” إلى بورنو التقييد والتأديب والسادو – مازوخيّة وإلى الجنس المثلي الرجالي، كما أنها مطّلعةٌ على البورنو النسوي، لكن لم يحدث بعد أن شاهدت فيلمًا إيروتيكيًا من هذا النوع. أما بالنسبة إلى البورنو المثلي الرجالي، فهي تفضّل هذا الصنف لأنها لا تستمتع بمشاهدة مؤدّيات البورنو الإناث، فاستغلال النساء في صناعة البورنو لا يستثيرها بتاتًا. ومن المرجح جدًا أن “ي” تفضّل البورنو المثلي الرجالي لأنه يجمع بين رجلَين، ما يشعرها بالاغتراب عن الشخصيّتين، وبالتالي يسمح لها بالاستمتاع بالممارسة الجنسية بينهما.
وعندما يتعلّق الأمر بالتقييد والتأديب والسادو – مازوخيّة، تعرّف “ي” هذا النوع من البورنو كلعب أداورٍ بين شخصين بحيث تكون “الأمور واضحة،” فعندما يمنح المشاركون والمشاركات الرضا لبعضهم/ن البعض، يمكن للعنف أن يكون تحرّريًا. لكن “ي” تعترف أن مشاهدة البورنو السادو – مازوخيّ قد تكون صعبةً في بعض الأحيان، كما تعبّر عن نوعٍ من الشعور بالذنب تجاه تفضيلها هذا، إذ وفقًا لكلامها: “أفكّر أحيانًا أنّي ربما أرغب في أن أكون مسيطرةً بسبب تعرّضي للاعتداء الجنسي.”
ويذكّر جواب “ي” بزبونة “لاين” التي عبّرت عن شعورٍ مماثلٍ بالذنب تجاه تفضيلها البورنو السادو – مازوخيّ. وإذ تركّز “لاين” على الآثار الشفائية المحتملة للبورنوغرافيا الكويرية بالنسبة إلى من اختبرن/وا تجارب العنف الجنسي، فإنّ العامل الأساس هو العثور على النوع الصحيح من البورنوغرافيا. وإذا ما جمعنا نتائج الاستطلاع لجهة التفضيل الحصري لأنواع البورنو البديلة أو للأفلام الإيروتيكية السادو – مازوخيّة وفقًا لإجابات المشاركات والمشاركين ولاسيما “ي” و”ز،” يمكننا أن نلاحظ نمطًا يربط بين حدّة تجارب العنف الجنسي التي اختبرها هؤلاء الأفراد، وتحوّلهن/م أو تفضيلهنّ/م الواعي للبورنو النسوي والكويري والأخلاقي والسادو – مازوخيّ. وعلى الرغم من أن “ز” و”ي” تتشاركان تجربة التعرّض للإساءة الجنسية في الطفولة، فإنهما طوّرتا تفضيلاتٍ بورنوغرافيةً مختلفة جدًا بغضّ النظر عن التشابهات في الاعتداءات الجنسية وفي المعتقدات السياسية المشتركة بينهما؛ لكنهما قريبتان من الفئتَين الفرعيتَين من المستطلَعات ذوات التاريخ الثقيل من العنف الجنسي اللواتي يمِلن إلى تفضيل البورنو النسوي أو السادو – مازوخيّ. بالتالي، أستنتج أن بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من النساء، فإنّ حدّة العنف الجنسي الذي يختبرنه يشكّل عاملًا حاسمًا في تحديد تفضيلاتهنّ البورنوغرافية الحالية التي يعبّر عنها البورنو النسوي والكويري والأخلاقي، أو الممارسات والأفلام السادو – مازوخيّة.
الخاتمة
بإيجازٍ، تُظهر الإجابات الواردة في استطلاع الرأي والمقابلات التي أجريتها أن النساء اللواتي اختبرن نوعًا من أنواع العنف الجنسي يفضّلن مشاهدة البورنو النسوي والكويري والأخلاقي، إلا أنّ المعاملات المالية التي يتطلّبها الأمر تمثّل عائقًا أمامهنّ. لكن في واقع الحال، يمكن لدفع المال لقاء البورنو أن يشكّل عاملًا رئيسًا في ضمان صناعةٍ بورنوغرافيةٍ أكثر أخلاقية وجودة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ تصريح الكثير من النساء اللواتي تعرّضن للاعتداء الجنسي مثل “ز” بأنهنّ يرين أنفسهنّ في هذا النوع من البورنوغرافيا، يعني أن تلك الأفلام قد توفّر سيرورةً علاجيةً لهؤلاء النساء. ولا يمكن تقديم جوابٍ واضحٍ وشافٍ عمّا إذا كان البورنو النسوي والكويري والأخلاقي قادرًا فعلًا على توفير سيرورةٍ علاجيةٍ للنساء اللواتي مررن بتجارب العنف الجنسي، لكن يمكن القول أنه يساهم حتمًا في الجهود الرامية إلى التخلّص من ثقافة الاغتصاب ومن الصور النمطية المعيارية الضارّة. ولعلّ معرفة معظم المستطلَعات وكل من “أ” و”ز” و”ي” بالبورنو النسوي والكويري والأخلاقي إما بفضل هويّاتهن/م السياسية النسوية أو عن طريق المقالات والمجلات الإلكترونية، لهو أمرٌ مبشّرٌ يثبت أن هذا النوع من البورنو يكتسب المزيد من الشعبية، ما قد يؤدّي إلى نتائج إيجابيةٍ محتملةٍ لجهة تصوّراتنا وأفكارنا بشأن أجسادنا وتعبيراتنا عن جنسانيّاتنا.
وأودّ أن أشير في الختام إلى أن المقابلات الثلاث تطلّبت استثمارًا عاطفيًا من الطرفَين – الراوي/ي والمستمِعة – لذا أتوجّه بجزيل الشكر إلى كلٍ من “أ” و”ز” و”ي،” ولا يسعني سوى التعبير عن إعجابي وتقديري لشجاعتهنّ/م في مشاركة تجاربهنّ/م ليس فقط معي، بل مع كل قارئةٍ وقارئٍ لهذا المقال.
أخيرًا، من الممكن التعمّق أكثر في هذا البحث، لا بل يجب ذلك، إلا أن ضيق المجال المُتاح لا يسمح بالمزيد من التحليل. لكنّي آمل أن يجري البحث في هذا الموضوع مستقبلًا من منظورٍ أكثر تقاطعية، عن طريق شمل فئاتٍ كالعرق والقدرة الجسدية للمتعرّضات/ين للعنف الجنسي والإمكانية العلاجية للبورنوغرافيا.
- 1. سوف أعمد في مقدّمة المقال إلى تحليل نوع الإعلام الإيروتيكي الذي يقدّمه هذا المشروع و أسباب اختلافه عن غيره من قواعد البيانات البورنوغرافية.
- 2. وفقًا لمشروع “لأستعيد جسدي،” تزوّد “لائحة البظر” كلّ راغبةٍ في استكشاف جنسانيّتها بموادّ إيروتيكيةٍ نسويةٍ غير كارهةٍ للنساء، مثل الأفلام البورنوغرافية القصيرة أو الطويلة، والأدب والصور الإيروتيكية وغيرها. ومن خلال تزويد المشاهدة بشرحٍ مفصلٍ عن الفيلم الذي يثير اهتمامها واستبعاد المحتوى العنيف والكاره للنساء، يوفّر المشروع قاعدة بياناتٍ بورنوغرافية غير مستفزّة – أو أقلّه قاعدة بياناتٍ تتألّف حصرًا من المواد النسوية وتورد التحذيرات اللازمة – تلبّي مروحةً واسعةً من التفضيلات الجنسية. للمزيد من المعلومات عن مشروع “لأستعيد جسدي،” راجعي الوصلة التالية:
http://www.mybodybackproject.com/ (الدخول في 31 آب/ أغسطس، 2017) - 3. يشير مصطلح البورنوغرافيا الأخلاقية إلى طيفٍ من المبادئ التي ترافقها عقليةٌ تحترم مؤدّيات ومؤدّي البورنو وتعاملهن/م كعاملاتٍ وعاملين ليس فقط في مكان التصوير بل في السوق أيضًا. ونتيجةً لذلك، تكون كافة شروط الفيلم – مثل الأفعال الجنسية أو الاتفاقيات المالية – رضائية.
- 4. في هذا المقال، لا تُقدَم البورنوغرافيا النسوية والأخلاقية والكويرية كصنفٍ بورنوغرافيٍ موحّد، إذ يمكن لها أن تكون إما منفصلةً أو متداخلةً مع بعضها البعض.
- 5. توجّهت هذه الأفلام إلى الرجال وكانت من إنتاج رجالٍ من الهواة، وعُرفت بالإنكليزية بأفلام “ستاغ” (stag).
- 6. حتى هذه اللحظة، أشير إلى البورنوغرافيا ككلٍ، ولمزيدٍ من التحديد، أشير إلى البورنوغرافيا “السائدة.” طبعًا، هناك جزءٌ مبررٌ من القلق بشأن الآثار العنيفة للبورنوغرافيا، فالغالبية العظمى من النساء اللواتي يدخلن مجال صناعة البورنوغرافيا السائدة يواجهن الاستغلال والاضطهاد. لكن سيغدو جليًا في هذا المقال أني أركز على صنفٍ معيّنٍ من البورنوغرافيا الذي يحمل في طيّاته إمكانياتٍ علاجية، وليس على كافة أشكال الإعلام البورنوغرافي.
- 7. للمزيد من المعلومات عن حروب الجنس، راجعي أعمال:
Heather Butler (2004), Drucilla Cornel (2000), Betty Dodson (2013), Jack Halberstam (1998), Patrick Keilty (2012), Lara Kipnis (1999), Gayle Rubin (1984), Ingrid Ryberg (2012), or Linda Williams (2004)
للمزيد من المعلومات عن التيار النسوي المناهض للبورنو، راجعي أعمال:
Andrea Dworkin (1989), Catharine MacKinnon (1993), Robin Morgan (1982), or Diana Russell (2000)
للاطلاع على أعمالٍ نسويةٍ مناهضةٍ للبورنو من وجهة نظرٍ أكثر معاصرة، راجعي:
Gail Dines (2010) and Robert Jensen (1997) - 8. ذاتيّ الصنع.
- 9. نشر “بول بريسيادو” كتابه “Testo Junkie: Sex, Drugs, and Biopolitics in the Pharmacopornographic Era” في العام 2013 تحت اسم “بياتريس بريسيادو،” لكنه أعلن عن بدء تحوّله في العام 2014، ثم غيّر اسمه من “بياتريس” إلى” بول” في كانون الثاني/ يناير 2015. لذا، أشير إليه في هذا المقال باسم “بول،” لكن يمكنك العثور على الكتاب في لائحة المراجع تحت اسم “بياتريس بريسيادو.”
- 10. نُشر الكتاب للمرة الأولى باللغة الإسبانية في العام 2008 بعنوان “Testo Yonqui.”
- 11. أقدّم في القسم الثاني تحليلًا مطولًا للأفلام البورنوغرافية ولمجموعة “مذكرات قذرة” (Dirty Diaries: Twelve Shorts of Feminist Porn).
- 12. “An Archive of Feelings: Trauma, Sexuality, And Lesbian Public Cultures”
- 13. “Michigan Womyn’s Music Festival”
- 14. في خلال فترة الثمانينات، كانت الفيديوهات ذات المحتوى البورنوغرافي تُمهَر بشريطٍ أزرق اللون، لذا أخذ الناس يشيرون إلى الأفلام البورنوغرافية بـ”الأفلام الزرقاء.” ويحمل عنوان هذا القسم لعبًا كلاميًا على اللون الأزرق الذي يرمز إلى الأفلام الإيروتيكية، واللون الزهري (السياسي) الذي يرمز إلى الجانب النسوي والكويري والأخلاقي للأفلام التي يتناولها القسم الثاني من هذا المقال.
- 15. “Too Much Pussy: Feminist Sluts in the Queer X Show” (2010); “Much More Pussy” (2010)
- 16. “Public Cervix Announcements”
- 17. “Post Porn Modernist”
- 18. “Silver Shoes”
- 19. فعل السيطرة الجنسية على شخصٍ آخر.
- 20. بالإضافة إلى “الحذاء الفضّي،” أنصح عمومًا بمشاهدة الأفلام الإيروتيكية من إنتاج “The Blue Artichoke” وإخراج “جينيفر بِل،” إذ تمتاز أفلامها بجماليّةٍ رقيقةٍ ورومانسية. ويمكن العثور على أمثلةٍ بورنوغرافيةٍ أخرى من الجماع الحسّي والرقيق في الأفلام التالية:
The Good Girl (Erika Lust, 2004), Feeling It (Petra Joy, 2008); Skin (Elin Magnusson, 2009) - 21. على الرغم من أن هذه الممارسات قد تتضمّن أفعالًا عنيفةً ومؤلمة، فإن الرضا هو العامل الرئيس لتحقيق مجامعةٍ جنسيةٍ صحّيةٍ وممتعة. لكن الرضا لا يتضمّن الاتفاق على كلمةٍ آمنةٍ فحسب، فالنقاش والفهم المتبادل واحترام حدود الشخص الآخر في سياق ديناميّات القوة القائمة تشكّل كلها جزءًا أساسيًا من العقلية التي تحكم هذا النوع من الجنس ككلّ، ولهذا السبب بالتحديد، يمكن استخدامه كشكلٍ من أشكال العلاج الجنسي.
- 22. “Imag(in)ing Possibilities: The Psychotherapeutic Potential of Queer Pornography”
- 23. في ما يتعلّق بمسألة التعريف الجندري، أتحتُ الخيارات التالية: “الهوية الجندرية مطابقة للتكوين البيولوجي،” و”متحوّل/ة،” و”ثنائي/ة الجنس” و”غير ذلك.” واخترت ألا أقسم خيار “المتحوّل/ة” بين امرأةٍ متحولةٍ ورجلٍ متحولٍ لرغبتي في شمل جميع الأفراد المتحوّلين/ات، والمتحوّلين/ات ذوي/ات الخصائص الأنثوية والذكرية، ومن هن/م في طور التحوّل ممّن لا تعبّر عن هويّاتهن/م الخيارات المتاحة أعلاه. لكن في حال رغبة المشارك/ة بتقديم جوابٍ أكثر تحديدًا، كان ممكنًا لهن/م اختيار “غير ذلك” ومن ثم كتابة الإجابة المحدّدة.
- 24. كوني أنجذب إلى الناس بغضّ النظر عن جندرهم/ن أو جنسهم/ن، أؤمن بأن بعض أنواع الميول الجنسية تتطلّب نوعًا من الوعي والمعرفة بالهويات الجندرية الأخرى. على سبيل المثال، تتطلّب هويتي الجنسية مني الوعي بأنّ الجندر ليس محكومًا بثنائيةٍ فرعية، ولهذا السبب بالتحديد، قلتُ أن النساء المنجذبات إلى أكثر من جندرٍ واحدٍ، ومن خلال دراساتهنّ أو معتقداتهنّ النسوية، يمكنهنّ أن يكنّ أكثر انفتاحًا على الانجذاب إلى أشخاصٍ بهوياتٍ جندريةٍ غير ممتثلة، لكونهنّ يعترفن بتلك الهويات في الأساس. لذلك، فإنّ نسبة المشارِكات ممّن عرّفن عن أنفسهنّ كمزدوجات الميول الجنسية أو كمنجذباتٍ للأشخاص بغضّ النظر عن جندرهن/م وجنسهن/م، تبدو نسبةً منطقيةً نظرًا لكون غالبيتهنّ منضوياتٍ في مجموعاتٍ نسوية.
- 25. أُجريَت كافة المقابلات باللغة الإنكليزية عبر برنامج “سكايب.”
- 26. كنتُ على معرفةٍ بكلتيهما، وأعتبر هذا الأمر مفيدًا هنا، إذ كنت أعرفهما من الدوائر النسوية والمثلية في أثينا، لكن من دون أن تجمع بيننا علاقة صداقة. ونتيجةً لذلك، كانت بيننا ثقةٌ متبادلةٌ، لكن مع وجود مسافةٍ معينةٍ أتاحت المجال لإجراء المقابلتَين.
Butler, H. (2004) “What Do You Call a Lesbian with Long Fingers? The Development of Lesbian and Dyke Pornography” In: Williams, L. (ed.), Porn Studies, 1st ed. Durham and London: Duke University Press, pp. 167-197.
Cvetkovich, A. (2003) An Archive of Feelings: Trauma, Sexuality, and Lesbian Public Cultures, Durham and London: Duke University Press.
Keilty, P. (2012) “Embodiment and Desire in Browsing Online Pornography” In: Proceedings of the iConference, [online] Available at: http://works.bepress.com/patrick_keilty/4 (accessed on 21 June 2017).
Lane, K. (2013) “Imag(in)ing Possibilities: The Psychotherapeutic Potential of Queer Pornography” In: Tristan, T., Parreñas Shmizu, C., Penley, C., and Miller-Young, M. (eds.), The Feminist Porn Book, 1st ed. New York: The Feminist Press, pp. 164-178.
McKee, A. and Sullivan, R. (2015) Pornography: Structures, Agency and Performance, Cambridge: Polity Press, pp.74-102.
Pollock, G. (2013) After-Affects, After-Images, Manchester: Manchester University Press, pp.1-33.
Preciado P. (2013) Testo Junkie: Sex, Drugs, and Biopolitics in thePharmacopornographic Era, New York: The Feminist Press, pp. 23-54.
Rubin, G. (1984) “Thinking Sex: Notes for a Radical Theory of the Politics of Sexuality” In: Aggleton, P. and Parker, R. (eds.), Culture, Society and Sexuality, 2nd ed. London: Routledge, pp. 150-187.
Ryberg, I. (2012) Imagining Safe Space: The Politics of Queer, Feminist and Lesbian Pornography, Stockholm: Acta Universitatis Stockholmiensis.
Tarrant, S. (2016) The Pornography Industry, New York: Oxford University Press.
Wosick, K. (2015) “Pornography” In: John DeLamater, J. and Plante, R. (eds.), Handbook of the Sociology of Sexualities, 1st ed. Switzerland: Springer International Publishing, pp. 413-434.
Webography:
Lee, J. (2015) Ethical Porn Starts When We Pay For It, [online] Jiz Lee, Available at: https://www.jizlee.com/ethical-porn-consumption-pay-for-porn-anti-piracy/ (accessed 4 September, 2017)
Mybodybackproject.com, (2017) About The Clit List [online] Available at: http://www.mybodybackproject.com/about-the-clit-list/ (accessed on 4 September, 2017)
Filmography:
Dirty Diaries (2009) [film] Sweden: Mia Engberg
Erotic in Nature (1985) [film] USA: Cristen Lee Rothermund
Much More Pussy (2010) [film] France: Émilie Jouvet
The King (1968) [film] USA: Looney Bear
Too Much Pussy: Feminist Sluts in the Queer X Show (2010) [film] France: Émilie Jouvet
Silver Shoes (2015) [film] The Netherlands: Jennifer Lyon Bell
Suburban Dykes (1990) [film] USA: Debbie Sundahl