من الشتات إلى القومية عبر الإستعمار: “الذاكرة” اليهوديّة تحت التّبييض، والأسرلة، والغسيل الورديّ، ومحو الكويريّة
أعالج في هذا المقال مفهوم الكويريّة المعروف بأنّه يقاوم إنتاج المعرفة والحاضر الثابتين. ويشكّل هذا المفهوم تهديدًا للرواية الصهيونيّة المتجانسة عن ذاكرات الشّتات اليهوديّ. وبما أنّ الذكرايات اليهوديّة تمّ جمعها في روايةٍ واحدة تسرد الوقائع، فقد أدّى ذلك إلى تبييض الهويّة الإسرائيليّة وتسويقها. لقد ميّزت الهويّة الإسرائيليّة نفسها عن الهويّة العربيّة لليهود المزراحيم، وعملت على قمع تاريخ المهاجرين كما الفلسطينيين، لصالح السّيادة المطلقة والإستعمار الإستيطاني. وتضعف العمليّة التي أسميتها عمليّة محو الكويريّة من الذاكرة روايات الشّتات عبر الزمن، وتحتفل بهويّةٍ يهوديّةٍ بيضاء، بعد مرورها بالغسيل الورديّ.
خلال آخر انتخابات برلمانيّة إسرائيلية جرت في شهر آذار/مارس من العام 2015، أكّدت المناظرات والتحاليل وجود "انقسامٍ" تحدثه استطلاعات الرأي المتكرّرة بين الأشكنازيين، أيّ يهود أوروبا، والمزراحيم، أيّ يهود الشرق الأوسط. ومنحت أصوات المزراحيم اليمين الإسرائيلي فوزه الانتخابيّ، في حين فشلت الأصوات اليساريّة في تحقيق تغيّرٍ سياسيّ "إيجابيّ". ويعود هذا "الإنقسام" إلى تاريخ إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948، لما أجبر المزراحيم على الإختيار بين هويّتهم العربيّة والهويّة الإسرائيليّة. ففي الواقع، وفي الخطاب الصهيونيّ، "اعتبرت الثقافة العربيّة - الإسرائيليّة دلالة على "شتات"، وهو مصطلح ورد بدلالةٍ سلبيّة في الخطاب الصهيونيّ الأوروبيّ - الإسرائيليّ" (شوحاط، 2006:205). لقد أتى اليهود المزراحيم بالشتات إلى إسرائيل. ففشلوا في "الإنخراط" جيّدًا، ولم يشعروا "بالإندماج" في بلدٍ لم يحظَ قطّ برئيس وزراء من المزراحيم، تسوده مظاهر اليهوديّة الأوروبيّة والعلمانيّة القوميّة. لذا، توجّب عليهم إثبات هويّتهم الإسرائيليّة، وباستمرار، بينما يتعرّضون للتهميش الإقتصاديّ والسياسيّ.
وفي العام 1948، وقع "الإنقسام" أولًا داخل ذاكرة المزراحيم قبل أن يتحقق في الديناميّات السياسيّة مع الأشكناز. واستثنيت الذكريات الشرقيّة من الرواية الأوروبيّة الرسميّة، ووُحّدت التجارب المبعثرة في ذاكرةٍ موحّدة، تسرد الماضي والحاضر والمستقبل. وسرعان ما اضطرّ اليهود المزراحيم، حين تمّ وصفهم بـ"زنوج إسرائيل" (شوحاط،2006:222)، إلى النأي بالنفس عن تاريخ العرب ومنطقة الشرق الأوسط، الذي اعتبر بدوره أقل شأنًا ومعاديًا لإسرائيل. كما تاقوا إلى إثبات انتمائهم إلى قصّةٍ صاغتها ذاكرةٌ ليست لهم في الأصل. إذ حاكت الصهيونيّة، بإعتبارها إيديولوجية سياسيّة، قصّة ثابتة، خيوطها مشاهد مفقودة ومشتّتة، وأزمنة باتت طيّ النّسيان، وجغرافيّات وخبرات، وصهرت هذه القصّة في صفحات الهويّة الإسرائيليّة. بالإضافة إلى ذلك، سأوضّح في هذا المقال أن تلك الذكرايات المبعثرة عن الشّتات تشكّل تهديدًا كويريًّا للرواية الصهيونيّة، حيث سعت الصهيونيّة إلى تحييدها عن طريق التحكّم بها وجعلها متجانسة.
وقد صنّفت سلسلة من الإنتقادات الخاصة بتقاليد الكويريّة والنسويّة المتعلّقة بالأعراق مفهوم "الكويريّة"، واعتبرته موقفاً سياسياً. لكنّ مفهوم الكويريّة لا يدلّ فقط على السلوكيّات أو الهويّات تجاه الجنس. فعلى سبيل المثال، يحدّد جين هاريتاوورن أوجه التشابه بين "مجتمع م م م م" و"المجتمع المشتّت التخيّلي" لبنيديكت أندرسون (2007:2.8). ولغاية هذا المقال، سأستعين بمصطلح "الكويريّة" للدلالة على عمليّة تكوين الكويريّ. وسأستعين بمفهوم الكويريّة للدلالة على دولة مضّطربة في بنيتها وانتاجها للمعرفة. وتستخدم طيّب مفهوم الكويريّة لتصف "ممارسات الهويّة المفكّكة التي تفضي إلى خلق نوعٍ جديد من شتات الوعي، لا يرتكز على تحديد الهويّة العرقيّة ولا يدلّ على وطن متخيّل". في الواقع، إن حالة الشّتات هذه هي حالةٌ حرجة في حراكٍ دائم تعيشها فئات ترفض في غريزتها التصنيف، فيولّد تصنيفها القسريّ وانتاج المعرفة عنها عملًا استعماريًّا، وليس بناءً قوميّاً. وفي هذا السياق، لا تأتي كلمة "الإستعمار" لتدلّ على التطهير العرقيّ الذي تعرّض له الفلسطينيون وأرضهم المسروقة، بل لتدلّ على عمليّة إنشاء هويّة إسرائيليّة موحّدة من شتات الذاكرة اليهوديّة، بدءاً من العام 1948. لقد أدّى الإستعمار الإسرائيلي للذاكرة اليهوديّة دور المبرّر لإستعمار الأراضي والتاريخ والشعب الفلسطينيّ. وتركّز عمليّة "محو الكويريّة" على تجميد روايات الشتات اليهوديّ عبر الأزمنة وتجميدها في روايةٍ تسلسليّة خطيّة. كذلك، تمّ قمع روايات الشعب الفلسطيني، وصنّفت ضمن فئة "الأخر"، في نسخةٍ مستعمَرة من "أرض الميعاد".
لقد سمح اعتراض الهويّة الإسرائيليّة لروايات الشتات اليهوديّ بالتعامل مع المزراحيم كموضوع داخليّ قابل للإستعمار، وقد ساهم هذا الاعتراض في إنتاج ذاكرة جامدة مثبّتة. ويعالج إيال سيفان في فيلمه الوثائقيّ "إذكر، عبيد الذاكرة" (انتاج العام 1990)، كما في سلسلة محاضراتٍ لاحقة، الذاكرة اليهوديّة الإسرائيليّة وعمليّة ضخّها منهجياً في أذهان أطفال إسرائيل، من خلال النظام التعليميّ. وانطلاقًا من حجّة براه حول الشّتات والقوميّة، بالإضافة إلى توضيح بوار حول استخدام الجندر كأداة في الترويج لهويّة، سيجادل هذا المقال، على خلفيّة مشروعٍ استعماريٍّ جديد، بأن صلابة اليهوديّة الصهيونيّة تسعى لـ"محو كويريّة" عن روايات الشتات اليهودي وتسليعها، على حساب السرديات المتقاطعة والمتعدّدة المستويات، كحال المزراحيم.
في "أفكاره الأخيرة"، "توقّع" إدوارد سعيد في العام 1999 أن "التفوق الديموغرافي لليهود (في اسرائيل) سيضيع بحلول العام 2010". وتفسّر بتلر أن "ما لم يكن في حسبان سعيد هو كيفيّة تطبيق قانون العودة في زيادة عدد المهاجرين اليهود وأثرها، وكيفية تدخّل مصادرة الأراضي ورسم حدودٍ جديدة في تحوير الديموغرافيا". وفي حال اعتبر السفر الكبير أو لم يعتبر كنقطة البداية في روايات مختلفة عن الشتات اليهوديّ، فإن الرواية اليهوديّة التي تمّ تبنّيها على أنها الذاكرة الإسرائيليّة الدوليّة تربط بشكل خطيّ ما بين فرار موسى من مصر سنة 1446 قبل الميلاد وبين معسكرات الإعتقال الأوروبيّة التي أنشأها هتلر خلال الحرب العالميّة الثانية (1945-1939). وفي الفصل اللاحق من الرواية، يجد "الشتات اليهوديّ" نهايته التاريخيّة مع "العودة" إلى إسرائيل، "أرض كلّ اليهود" (شوحاط، 1988:1)، عبر "الدروب" التي قادت إلى "الجذور" (غيلروي في براه، 1996:192). لقد شمل قانون العودة كلّ اليهود، وأصبحت إسرائيل "المركز والموضع والمنزل الذي بدأ الشتات منه" (براه، 1996:181). مترسّخاً في دور الضحيّة، يستفيد هذا السرد من خوف شتاتيّ عابر للأجيال سيطوّع ويُستخدم لاحقاً لتغذية الخوف التالي له من التكرار، تكرار الأحداث التاريخيّة نفسها. فبالفعل، يقدّم الإستعمار الإستيطاني الإسرائيلي مسألة التكرار، تكرار سفرٍ حصل منذ آلاف السنين ومحرقة من الزمن الحديث، كمصدر لشرعية الرواية الإستعماريّة، وحصر ذاكرة/ات الشتات تالياً بهويّة محدّدة العناصر. وتبقى هذه الهويّة التي تتمتع بصلابة الحقّ المكتسب منذ الولادة، بعيدةً عن ماضيها وحاضرها الكويريّ: تقبع اليهوديّة الإسرائيلية في هويّة أحاديّة الوجهة تحدّد الإنتماء العرقيّ والإثني، وتعمل على تفكيك الإختلاف وقمع إنتاجه.
لم تترك التركيبة الديموغرافيّة يوماً بلا رقابة في دولة إسرائيل. إن ولادة دولة-قوميّة يهوديّة أنتجت ولادة مواطَنة إسرائيليّة. ومنذ تاريخ انشائها في العام 1948، هندست الدولة هويّتها وكذلك جسم المواطَنة فيها، على خطوط الطبقة الإقتصادية والعرق والجندر. وحتى قبل إنشاء الدولة، تصوّرت الصهيونيّة في "أيّامها الأولى" الهياكل الإقتصاديّة اللازمة "للتقليل من شأن الجانب الشرقيّ لإسرائيل كما عالمثالثيتها" (شوحاط، 1988:2). لقد خضع الجانب الأسطوريّ من الشتات اليهوديّ لتجسيدٍ حرفيّ، في حين تمّ استعمار التواريخ والجغرافيّات المبعثرة للشتات اليهوديّ من قبل خطابٍ خطّيّ غربيّ: "اعتبرت الصهيونيّة نفسها امتدادًا لأوروبا في الشرق الأوسط، حاملةً راية التنوير الخاصة بـبعثة التحديث" (شوحاط، 2006:219). من خلال إعادة إنتاج الديناميّات الخاصة بالإستشراق والإستعمار الأوروبيّ، قامت الهويّة الإسرائيليّة بافتراض جوهرٍ في ذاكرةٍ يهوديّة، واستعمرت بواسطته كلًّا من شتاتها الكويريّ، والأرض والشعب الفلسطينيّين. متجسّداً بالشتات والعروبيّة واللون الأسود، تمّ تحييد الكويريّة العابرة للزمن لصالح روايةٍ جعلت من العودة والحقّ أدواتٍ لها. وعلى الرغم من الحكم على يهود أفريقيا والشرق بأنهم من "الهمجيين" (شوحاط، 1988:5)، فقد نُظر إليهم كمصدر لليد العاملة الرّخيصة، فكان لابدّ لهم أن يُساقوا للهجرة إلى فلسطين" (شوحاط، 1988:13). ولتضييق الفجوة بين "الأوروبيّة" والأخر "الخاص بها" في السياق الوطنيّ لبناء دولة، تمّ اطلاق "بعثة تحديث" استعماريّة موجّهة نحو الذات، فعمّقت الشقاق المستمرّ حتى يومنا هذا (سعيد، 1978:169-263). وقد سلّطت شوحاط الضوء على الأساليب التي اعتمدت في تصنيف المزراحيم كـ"يهود مشتّتين"، بلا تاريخٍ ولا انتماء. امتصّت الذاكرة الموحّدة للرواية الإسرائيليّة تواريخ وجغرافيات عديدة خاصة بالشتات والهجرات الأسيويّة والافريقيّة، بما يحدّ من قدرة المهاجرين على الوصول إلى معارفهم وتواريخهم. في الواقع، لا يشرح التأريخ التالي لذلك أسس الفكر الصهيونيّ، بل يوضّح أيضًا المعركة الواعية التي خاضتها الهويّة الإسرائيليّة ضدّ عناصر الشتات التي يستدعيها اليهود الشرقيون، فضلًا عن العسكرة المفرطة لدولةٍ نوويّة "قويّة".
في نسخٍ للرؤية الأورو-مركزيّة للعالم المستعمَر في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، طبّقت ديناميّات العنصريّة الداخليّة في إسرائيل. لقد اتّبعوا توازنًا إيديولوجيًّا سمح لإقتصاد "العالم الأوّل" آنذاك وما زال يسمح له اليوم، بأن يستفيد ممّا يُسمّى باليد العاملة (اليهوديّة) الشرقيّة الرخيصة. ويشكّل "الجوهر" اليهوديّ، المنبثق من الهويّة الإسرائيليّة والمستثمر فيها، أحد المبادئ الأساسيّة في الفكر الصهيونيّ. وعلى الرغم من العنصريّة اليهوديّة الداخليّة، يشرّع هذا الجوهر كلمة "جميع" في الرواية المؤسسة لإسرائيل كـ"موطن لجميع اليهود"، كما تستثمر في تحصين الهويّة ضد بقايا الشتات الكويريّ واحتمالاته. فقد تشكّل الطاقة الكويريّة الوافدة ضمن الحمولة التاريخية للمهاجرين الوافدين تهديدًا على انتاج المعرفة الثابتة حول الدولة والرواية الصهيونيّتين، خاصةً إذا ما وُضعت في حوارٍ مع روايات الشعب الفلسطينيّ وحمولاته. بالنسبة إلى شوحاط، فإن التجربة الموحّدة لمعنى أن يكون المرء يهودياً لا تحتمل أيّ "تداخلٍ مع طائفة أخرى أو عرق أخر" (شوحاط، 2006:215). ففي الواقع، تفترض الرواية الصهيونية أن إنتماء الأفراد إلى الديانة اليهوديّة يعني تخلّيهم عن أيّ ثقافةٍ انتموا إليها سابقًا. ومع ذلك، فإن الهويّة المصنوعة لهذه الجماعة في أوروبا في زمن الحداثة احتاجت ألا تغرق في الدين، ولو بُني كجوهرها الصريح والمؤسّس - تعتبر التوراة مرجعيّة مركزيّة على كافة المستويات في إسرائيل، حتّى في الجيش. من هنا، أتت العلمانيّة الأوروبية التالية لعصر التنوير لتمنح الصهيونيّة التوازن الدينيّ في حداثتها: "أوروبا جديدة وموحّدة تمتاز بعلمانيّةٍ متسامحة متجذّرة في المبادئ المسيحيّة" منحت مشروع الصهيونية الجديد والموحّد إسرائيل علمانيّة حديثة متجذّرة في اليهوديّة (الطيّب، 2001:81،82).
من الممكن إعادة تعريف هذه الهويّة الإسرائيليّة العلمانيّة باستخدام مفهوم التأطير العنصريّ للجماعة الدينيّة، الذي أشارت إليه براه، إذ أن "الخطابات والممارسات الإستعماريّة" (1996:169) قد أتاحت بشكل ملموس للصهيونيّة أن تقيّد الإلتزام الوطنيّ بالإنتماء الدينيّ، بينما تسوق هويّةً علمانيّة. وبسبب الإطار العلمانيّ، عانى السرد الموحّد للشتات اليهوديّ من توترات داخلية بين اليهود. ولكن، ومثلما أشارت شوحاط، فقد تمّ تشريع الصهيونيّة ووضعت معاييرها في فترة ما بعد المحرقة النازية (شوحاط وأخرون، 2013). فتستفيد الهويّة الإسرائيليّة، ضمن العلمانيّة، من إمكانيّة تفعيل الأساطير راهناً، وتجسيد الأيمان والمعتقدات، وإدارة خوفٍ شتاتيّ كويريّ. في الروايات الغربيّة الأميركيّة - الأوروبيّة، ينظر إلى الشتات والهجرة بصفتهما "تهديد لتكامل الأمة" (تينزلي، 2008:193). ومن الممكن أن يقال الشيء ذاته عن الصياغة الصهيونيّة للهويّة اليهوديّة في علاقتها بالشتات، مع إختلاف لجهة أن "فضاء الشتات" يُساق هنا على أنه تهديدٌ "كويريّ" يشوّش على السرد الخطيّ لرواية الذاكرة. مقاربةٌ كويريّة للشتات، بحسب هاريتاورن، "تكون وسيلة لإعادة توطيننا ضمن جماعات شتات متخيّلة وتحقيق توقنا الحنينيّ إلى الإنتماء" (2007:5،2). بعباراتٍ أخرى، ستستدعي إلى السطح "التجارب المشتركة لشخصيّات متعدّدة ومتناقضة" (الطيّب، 2011:xxxvi)، بما يهدّد بتفكيك البناء الهرميّ، الجامد، لليهوديّة، ضمن الدولة-القوميّة الإسرائيليّة.
في الواقع، ترفض اسرائيل أن تكون فضاء شتات، وتتفاداه عبر استعمار الخطاب حول الشتات (براه، 1991:181). يقف مفهوم الوطنيّة اليهوديّة في مواجهة مفهوم الشتات، مع العلم أن هذا الأخير "يقدّم نقدًا لخطابات الأصول الثابتة، مع الأخذ بعين الإعتبار للرغبة بمنزلٍ، وهي تختلف عن الرغبة بموطن" (براه، 1996:180). الشتات الكويريّ والهويّات الموصولة تمّ تثبيتها على محاور محدّدة للوقت، الزمن، ومساحة الهويّة (سبيفاك، 2008:220): "أصبح اليهود العرب إسرائيليين. ولقد حصل ذلك كله افتراضياً في ليلةٍ وضحاها" (شوحاط وأخرون، 2013). لم يستوي الإصباح الإسرائيليّ مع إصباحٍ أوروبيٍّ أبيض. وإنما، عنى الإلتزام بتعريفٍ لمعنى أن يكون المرء يهودياً أنتجه الأوروبيون-البيض، كما أنتجوا تأطيراً محدداً لتلك الذاكرة، بينما يتمّ تطبيق العنصريّات الأوروبيّة-البيضاء المرتبطة بالطبقيّة، والعرق، والجندر.
وفي دلالةٍ على ذلك، برهن الخطاب الإستعماريّ الأميركيّ-الأوروبيّ فاعليّته في تعريف الهويّة الإسرائيليّة، التي استلزمت اتساقاً عبر الزمن. المثليّة التطبيعيّة في خطاب الحقوق الذي ترفعه جماعات م م م م، لا تحلّ كاستثناء في سياق محو الكويريّة: فهي تنطلق من النموذج الأميركيّ-الأوروبيّ، الذي يُوضع "مجتمع م م م م الغربيّ" في "دور المحدِّث"، بينما يسمّي "المسلمين الكويريين" كـ"نتاجٍ لحضارة هي في الأساس أقل شأنًا من الغرب العلمانيّ" (الطيّب، 2011:120). لذا، يُسلّم جدلاً بانتاج صورة غير-الغربيّين كـ"يرهبون المثليّة والغيريّة الجنسيّة"، في مقابل الهويّة البيضاء. كمرحلةٍ تأسيسية في هندسة الهويّة، أتى تبنّي الهويّة الإسرائيليّة لما أسمته جاسبير بوار بالمثليّة التطبيعيّة منذ فترة التسعينيات، ثم أعيدت هندستها لتلائم خطاب المرحلة الإستعمارية "الورديّ"، عبر تسليعها كهويّة صديقة للمثليين وليبراليّة.
ولكن، سبق عمليّة الغسيل الورديّ إنجاز عمليّة تبييضٍ تعكس الإنشطار الأميركي-الأوروبي مقابل المجتمعات المتعدّدة الألوان. التبييض السابق للغسيل الورديّ وضع الأسس الديموغرافية للذاكرة اليهوديّة الجديدة، المتفوّقة، والموحّدة. وهو سردٌ "جمع من أصقاع الأرض" أمّةً، هويّة، وشعباً (شوحاط، 1988:13). وفعلاً، مع توحيد روايات الشتات وزرعها في "موطن"، انوجدت الذاكرة اليهوديّة كتجربةٍ مكتملة متاحة لاستخلاص العبر منها وتأطير الخوف. مسلَّعةً، قدّمت الصهيونيّة الرواية الوطنيّة للذاكرة اليهوديّة بصفتها المحطة النهائيّة التي انتظرها حراك الشتات الطويل، المتواصل، والمتشعّب، طويلاً. استبدلت الهويّة الإسرائيليّة الهويّات اليهوديّة الكويريّة، بواسطة القوميّة: "مفهوم اليهودي الجديد استوحي من يوغندكولتر، أو الحركة الشبابيّة بالألمانية. غالباً ما يكون البطل أشقر الشعر، عيناه زقاوان، أو على الأقلّ فاتح البشرة، وطبعًا لم يحظَ يوماً بأنفٍ معقوف" (شوحاط وأخرون، 2013). في هذا السياق، رسمت شوحاط صورة لافتة وبارزة: فقد موضعت "اليهوديّ الجديد" في إسرائيل ضمن مثلّث للهوية (يهوديّ، عربيّ، غربيّ)، يعترضه مثلّث أخر خاص بالزمن (التاريخيّ، المقدّس، والحديث). ويأتي محو الساميّة في سياق المنطق الغربيّ المهيمن (شوحاط وأخرون، 2013) كالعمليّة الأولى والأهمّ في آلية محو الخصائص الكويريّة من "اليهوديّ الجديد"، الذي يصبح مرمّزاً ومحايداً في الخطاب الصهيونيّ القائم على ثنائيّة الأبيض مقابل المزراحيم، وثنائية الورديّة مقابل الرجعيّة.
وكجزء من عملية تسليع الهوية المبنية على الغسيل الأبيض، فرضت اسرائيل عمليّة "تطهير" المزراحيم من عربيّتهم، لـ"انقاذهم" من أصولهم وانتماءاتهم الشرقيّة (شوحاط، 2006:225). إذ قامت المؤسسة الرسمية بقمع الهويّات الشرق أوسطيّة والعربيّة، في معرض التأسيس القوميّ على التغريب، مميّزةً الإنتماء اليهوديّ كغربيّ عن والإنتماء العربيّ كشرقيّ (شوحاط، 2006:225). ولم تحدّد الصهيونيّة أصلاً لتلك الذاكرة فحسب، بل استمرت بهندسة خصائصها أيضاً على مرّ السّنين، و"ضمن رابطَيّ التاريخ والإقتصاد" (بوار، 2013:337). مستنداً على عبارة قالها غوته يوماً في ما يخصّ الذاكرة، يؤكّد الباحث الأكاديميّ الإسرائيلي والمخرج سيفان: "حين أسمع كلمة ذاكرة، أتساءل فوراً عمّا تم نسيانه" (سيفان، 2012).
في فيلمه الوثائقي الفائز بجوائز "إذكر، عبيد الذاكرة"، يقارب إيال سيفان ركيزة عمليّة الأسرلة للمواطَنة اليهوديّة، المرساة بصرامة في النظام التعليميّ. ففي شهر نيسان/أبريل من كلّ عام، وعلى مدار ثلاثين يومًا، يتوجّب على المواطنين الإسرائيليين إحياء أربع مناسبات قوميّة شبه مقدّسة، وهي: 1) عيد الفصح اليهوديّ (باسوفر) الذي يستحضر السفر التاريخيّ، الخروج من مصر، والإحتفال بحرّيّة العبيد اليهود، 2) يوم إحياء ذكرى المحرقة النازية خلال الحرب العالميّة الثانية، 3) يوم إحياء ذكرى الجنود الذي قتلوا وضحايا الإرهاب الذين سقطوا في الحروب مع العرب ما بعد العام 1948، وتستحضر فيها بشكل خاص الحرب مع مصر في العام 1973، و4) عيد الإستقلال، وهو يوم النكبة على أجندة الفلسطينيين والعرب. "موسم" نيسان/أبريل يأتي بشحنٍ قائم على تدعيم الذاكرة. في المدرسة، وتحت إشراف الأساتذة الصارم، يُفرض على الأطفال المزراحيم والسفرديم حفظ رواية الذاكرة، والمشاركة في النشطات المدرسيّة والرسميّة المخصّصة لإحياء الذكرى، والإنخراط في تمثيل هذه الرواية وتجسيدها.
في فيلم سيفان الوثائقي، يتماهى طفلٌ من أصول مغربيّة مع ذكرى المحرقة، ويقول: "أشعر وكأنّها حصلت لي أنا". ويضيف: "لا يوجد في التاريخ إلا الأشياء السيّئة". لا يرغب أيّ يهوديّ بأن يعود إلى هناك. لا يرغب أيّ يهوديّ بالمجازفة بفعل شيء قد "يعيدنا" (يعيدهم) إلى هناك. معظم الأطفال في الفيلم الوثائقي أبدوا إندفاعاً وحماسةً للإنضمام إلى الجيش. فتقول فتاة يافعة: "أنا أدين بذلك لوطني". وفي طيّات رواية الذاكرة، يتم الإحتفاء بلقتلى الجيش في الحروب ضد العرب عبر تبرئة ذكراهم وتخليدهم كضايا: جنديّ يبلغ من العمر 18 سنة مات خلال حرب العام 1973 ضد مصر، أو "أصابه صاروخٌ مصريّ"، بما يسكت سياق الحرب. إذ تتيح الرواية الإسرائيليّة الخطيّة، المتأسسة على مفهوم الضحية، عملية تبرئة منهجيّة، مثلما يوضح سيفان في فيلمه الوثائقيّ. بجهدٍ واعٍ، منهجيّ، وسلوكيّ، تحارب الهويّة الإسرائيليّة كويريّة الشتات اليهودي، أيّ عنصر "الأخر" غير المستقرّ الآتي مع المهاجرين ذوي البشرة غير البيضاء.
في الواقع، يظهّر شهر نيسان/أبريل الجهد المبذول لمكافحة الكويريّة بغية تأمين استقرار الهويّة الإسرائيليّة. مرّتان خلال هذا الشهر، يقف الشعب الإسرائيلي جامداً، لدقيقة صمت صباحية، ثم دقيقتيّ صمت في اليوم التالي، على صوت صفّارة الإنذار يصدح في كافة أنحاء الأرض، للتذكير بالموتى. وعلى الرغم من أن سبيفاك تؤكّد أنّ "لا خط متواصل يربط آنذاك واليوم" (2008:211)، فإن هذه الصفّارة تجسّد الخوف من تكرارٍ خطيّ. أينما كان المواطنون (في سيّاراتهم، أماكن عملهم، المنزل، ...)، ومهما اختلفت سياقات حياتهم (مواطنون فلسطينيون في إسرائيل، يهود عرب لم يتعرّضوا لمحرقة، ...) يقفون جامدين، ويشهدون لحظة الصمت تلك كتجسّدٍ للهويّة الإسرائيليّة. صوت الصفّارة يخدم في "توحيدهم". وأكثر من ذلك، هو يسعى إلى فرض السيادة على الفوارق والإختلافات وجعلها متجانسةً، عبر تثبيت اللحظة الراهنة في تاريخ وذاكرة محدّدين. السفر الكبير، المحرقة، الحاضر، والمستقبل، تمّ تكثيفها في مكان وزمان مجلّدين ومعادين للشتات. هذه اللحظة المذهلة، تصهر أيضاً شعور الخوف والضحيّة، فتقول أغنية "نام، يا ولدي" التي تُنشد في أيام الذكرى: "نام الآن يا ولدي / سترى يومًا ما أنّنا لن نخاف" (هرموني وليبل، 2011:477).
تضرب القوميّة الإسرائيليّة جذورها في روايات الضحيّة، تستخدمها كمنارة تقود الشعب إلى الأمان: "فكرة أن اليهود في كلّ زمان يتشاركون شعوراً واحداً وفريداً كضحيّة، تسكن الخطاب الإسرائيلي الرسمي" (شوحاط، 2006:214). ولا يقتصر شعور الضحيّة على تأمين التزام أكبر في المواطنيّة، ولكنّه يقترح أيضاً أنه يمكن استخدام الذاكرة كـ"لقاح" يردع الضحايا من أن يصبحوا مجرمين. في محاضرة ألقاها في ساراييفو، يجادل سيفان بأنه من الممكن استخدام الذاكرة كـ"أداة لجريمة" (سيفان، 2012). وبالفعل، تترافق أسرلة الذاكرة مع العسكرة: جنود الدولة المكرّمون هم حماة الشعب من تكرار الفظائع. وبدلًا منها، تتكرّر دروس هذه الذاكرة في الفضاء الإسرائيلي، إلى ما لا نهاية. وبينما يشبّه طفلٌ صوت الصفّارة بصوت "طفلٍ يصرخ طالباً النجدة"، يشرح أخر أنه يقف ساكتًا وصامتاً على صوت الصفّارة "من أجل طفلٍ ما، مات فداء لوطني" (سيفان، 1990).
يخضع كلّ من الجيش والهوية الإسرائيلية بشكلٍ متكرّر لعمليتي تبرئة وإحتفال، أو، على نحو أدقّ، هما يُكرَّسان لخدمة "الترويج / التسليع" على مستوى الهويّة داخل إسرائيل. فالتجذير المكثّف للقومية الإسرائيلية في الذاكرة لا يقوى وحده على إسكات الانتقادات الدولية المصاعدة للوجود الإستعماريّ الاستيطانيّ، أو على ملاءمة متطلّبات أجندة غربية نيوليبرالية/نيواستعمارية محدّثة. وفي أواخر التسعينيات، خضعت الهوية الإسرائيلية لـ"الغسيل الورديّ" من أجل إعادة "ترويج اسرائيل" عن طريق "الإستفادة من الدوائر الخطابية والهيكلية التي أنتجتها الولايات المتحدّة والحروب الصليبية الأوروبية ضد الإسلام، ولكن أيضًا السعي نحو حقبة معاصرة من الإقتصاد الرأسمالي المعولم" (بوار، 2013:337). هندسةٌ جديدة للهوية الاسرائيلية تنفّذ من أعلى هرم السلطة إلى أسفل المجتمع، لكي تلبّي معايير الألفية الغربيّة الجديدة: "علماً أنها تستهدف المدن العالمية مثل نيويورك وتورنتو، ولندن، استغلّت حملة "الترويج لإسرائيل" مناسبات لافتة، مثل المهرجانات السينمائية، لتعزيز صورتها كمثقفة وحديثة" (بوار، 2011:137،138).
احتاجت الهويّة اليهوديّة "الجديدة" والموحّدة "ترويجاً" متعدّد الألوان: فأتى اليهوديّ "الورديّ" ليمثّل نسخة محدّثة وصديقة للمثليين من اليهوديّ الأبيض. ويعتبر اليهوديّ الورديّ الأقرب إلى الخطاب الغربيّ الليبراليّ الذي يدفع باتجاه حقوق "المثليين"، والمبني على أساس تناقضه مع شتات "أخريه" الداخليّ والخارجيّ. مشروع الترويج الذي أطلقته وزارة الخارجية الإسرائيلية في شهر كانون الثاني/يناير من العام 2013، هو مشروع "خلّاق" بدأ العمل عليه منذ العام 2006، ليستهدف الصورة والهويّة والجاذبيّة الإسرائيليّة. تحت عنوان "الترويج لإسرائيل: التاريخ خارجاً، الإبداع والابتكار هنا!"، اختارت صحيفة "هآرتس" في تغطيتها للخبر وضعه في السياق التالي: "تذكر وسائل الإعلام الدولية عادةً البلاد في سياق الحرب والصواريخ والإرهاب. وقد حلّت اسرائيل المرتبة 27 في مؤشر رواج البلدان في العام 2012، ما يشكل تحسنًا طفيفًا عن المرتبة 28 التي احتلتها في العام 2011، و30 في العام 2010" (تاكر، 2013). وفقًا لبوار، فإنّ "واحدة من أبرز ملامح حملة "الترويج لإسرائيل" هو تسويق إسرائيل كدولة حديثة بصفتها صديقة للمثليين" (بوار، 2011:137،138). لقد تركزت انتقادات الباحثين والناشطين في مجال ما بعد الاستعمار على سعي "الغسيل الورديّ" إلى "إعادة تأطير إحتلال فلسطين على مستوى روايات التحديث تقاس بواسطة الحداثة (الجنسية)" (بوار، 2013:337). ومع ذلك، فإن لعملية "الغسيل الورديّ" مهام استعمارية أخرى سعت لإنجازها أيضاً: إذ سمحت لإسرائيل الحديثة أن تسيطر على الوجود الخارج عن التطبيع المغاير، عبر إعادة تعريفه كوجود من داخل "الإطار المفهوميّ للتطبيع المثليّ" (بوار، 2013:336). لقد سجنت عمليّة الغسيل الوردي مفهوم الكويريّة، واحتفلت في المقابل بخطاب الهويّات الثابتة: فتعلن حملة الترويج أنه "فقط في إسرائيل" يمكن للضابط أن يكون مثليًّأ أو متحوّل الجنس علانيةً، بما يصبّ في سياق تقليدٍ طويل الأمد من تأديب الكويريّة بواسطة الجيش.
لقد استدعى "اليهوديّ الجديد" ملامح "جديدة" تلائم حداثة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. وفي تناغمٍ مع أسلافهم، أتت صور الشبّان والشابات الذين يفترض بأنهم "كويريون" تحتفل بولادة "اليهوديّ المثليّ الجديد"، فيخرج أبطالها من الخزانة الإسرائيلية "أقوياء البنية، بشعرٍ أشقر اللون وعينين زرقاوين، يبدون صحيّين ومطهّرين من جميع "عقد الدونية اليهودية"" (شوحاط، 2006:217،219). وبينما اليهوديّ الورديّ هو نسخة منقّحة من اليهوديّ الأبيض، تراه لا يفقد خصائص الهوية البيضاء. لذلك، في سياق الغسيل الورديّ وإسرائيل، يصبح الورديّ ظلًا من ظلال الأبيض. ولكن ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة إلى اليهود الشرقيين، وهل يشملهم بياض "اليهودي الجديد؟"
بتناسقٍ مع قراءة بورار للإسلام في النظام العالميّ القوميّ-المثليّ الجديد، تذكرنا مانويلا بواتكا بأن "التهديد الإسلاميّ" حلّ مطرح الخطر الشيوعيّ في خيالٍ غربيّ مهيمن" (2013). إن المزراحيم، وعلى الرغم من "قربهم" التاريخيّ والجغرافيّ من الأرض الفلسطينيّة، يشكلون النسخة أقل احتفاءً بها من "اليهوديّ الجديد". إذ يُنظر إلى "عروبتهم" بصفتها "نتاج للتعايش الألفيّ" و"وصمة عار يجب تطهيرها من خلال الاستيعاب" (شوحاط، 1999:6). وبينما خُصّص للفلسطينيين موقع "الأخر" المطلق – الهدف المباشرة للإستعمار، فقد تمّ بناء صورة المزراحيم بصفتهم "الذات غير المكتملة" في الهوية الإسرائيلية (بواتكا، 2013). وبما أنّه لا يمكن فصلهم عن الشتات اليهوديّ العام، تمّ التعامل معهم كأهداف داخلية للإستعمار. بشراتهم غير البيضاء وتواريخهم الممتزجة بـ"العروبة"، يسلّعانهما كتهديدٍ كويريّ محتمل للذاكرة اليهودية الخطيّة: فهم ليسوا فقط رموزاً للاختلاف عبر انتمائاتهم العرقيّة وتواريخهم غير الخطيّة، بل إنهم يشكّلون تحديّاً أيضًا للتثبيت الجامد للهوية، سواء على المستوى الجنسيّ أو سواه. للتعامل مع ذلك، تأتي ظلال الغسيل والترويج لتطبّع تجاربهم وتخلطها في سياق الرواية الصهيونية الخطيّة، مع الحفاظ على وضعهم كيهود "بشكل غير كافٍ" (شوحاط، 1999:8)، لارتباطهم بالعرب في دورةٍ دائمة من الإستثناء. فتح الباب أمام مفهوم الشتات الكويريّ سيؤدي إلى التشكيك في جدوى هوية ثابتة "مستعمَرة"، وقد تجلّى هذا الشتكيك من خلال التعبئة السياسيّة التي حصلت مؤخراً ضد الغسيل الورديّ والتطهير العرقيّ. من هنا، فإن إسرائيل هي مثالٌ متطرّف عن العديد من عمليات محو الكويريّة التي تجمّد ذكريات وروايات الشتات لتحقيق السيادة السياسيّة والعسكريّة.
على مرّ 67 عام من سيادة الدولة، ادّعى التدخّل القوميّ في ذكريات الشتات اليهوديّ "المبيّضة" امتلاك انتماءٍ غربيّ يتناقض مع الملامح العربيّة والشرقيّة، وغسل العسكرة بالورديّ على محوري الخوف والضحية. حالة شتات، معروفة بشكل عام بصفتها "تعريف الشتات بحدّ ذاته" و"النموذج المثالي عن الشتات" (سفرا، 1991:84)، تم استعمارها بسرديّة خطيّة وتوجيهها نحو الإنتماء القوميّ، بدلًا من أن تكون حركة كويريّة تتحدّى صرامة هذا الإنتماء. تحارب الصهيونيّة الخصائص الكويرّية في الهوية الإسرائيلية والذاكرة. ومع ذلك، فإن "الذاكرة هي التفاعل بين النسيان والتذكّر" (سيفان، 2012)، حيث تفضي ذكريات متعدّدة إلى الإنفتاح الديناميّ على مفهوم الكويريّة.
يسمح التأريخ العابر للقرون بمقاربةٍ سياقيّة للمرحلة الإسرائيليّة، ضمن المشهد الأوسع لروايات الشتات اليهوديّ. في الواقع، لا تقتصر الروايات والذكريات اليهوديّة على إسرائيل، ولكن، يستحيل تخيّل سردٍ يهوديّ معاصر منفصلاً تمامًا عن إسرائيل، سواء بالنقد أو الدعم. ومن وجهة نظر داخليّة، تحاول إسرائيل وضع نهاية لروايات الشتات المتنوّعة. إلا أن مقاربة شتاتيّة عابرة للزمن ستقرأ إسرتئيل كـ"تجربة" أخرى، تسعى لمحو الكويريّة عن ذكريات الشتات اليهوديّ. بالفعل، إن مقاومة إسرائيل الإستعمارية لمفهوم الكويريّة تشكّل سبباً لإنتاج العديد من التدخّلات النقديّة في سردٍ متواصل يمضي برفقة الواقع الأسطوريّ والتاريخيّ والإجتماعيّ والإقتصاديّ والسياسيّ، بالإضافة إلى الأحاديث الداخلية والخارجية، اليهوديّة والإسرائيليّة.
تلاحظ شوحاط ميلًا إلى إنتاج أنواعٍ جديدة من الموسيقى الشرقيّة في أوساط اليهود العرب. وبعد استقصاء المسألة، تراها أعادتها مفهومياً إلى "الرغبة بـ"عودة الشتات" الذي يوقظ لسخرية القدر موقفاً يعكس التعبير التوراتيّ عن الحنين إلى الصهيون. فيصبح الآن: عند مياه صهيون، حيث جلسنا، وحيث بكينا، لمّا تذكّرنا بابل" (شوحاط، 2006:226). وفي نهاية الأمر، الخطيّة تتحدى آليات الذاكرةـ، روايات التاريخ، وتجارب البشر الحياتية، سواءً في الشتات أو داخل الإنتماء القوميّ.
Boatcă, Manuela (2013) “Multiple Europes and the Politics of Difference Within.” Worlds and Knowledges Otherwise 3.3. Available at: https://globalstudies.trinity.duke.edu/wp-content/themes/cgsh/materials/WKO/v3d3_Boatca2.pdf
Brah, Avtar (1996) “Diaspora, Border and Transnational Identities.” Cartographies of Diaspora. Contesting Identities. London, New York: Routledge S.
Butler, Judith (2004) “The Charge of Anti-Semitism: Jews, Israel, and The risks of Public Critique.” Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence. London, New York: Verso
Butler, Judith (2012) “What shall we do without exile?” Parting Ways. Jewishness and the Critique of Zionism. New York: Columbia University
Duggan, Lisa (2002) The Incredible Shrinking Public: Sexual Politics and the Decline of Democracy. Boston: Beacon Press
El-Tayeb, Fatima (2011) European Others. Queering Ethnicity in Postnational Europe. Minneapolis, London: University of Minnesota
Haritaworn, Jin (2007) “Shifting Positionalities: Empirical Reflections on a Queer/Trans of Colour Methodology.” Sociological Research Online 13.1. Available at: http://www.socresonline.org.uk/13/1/13.html
Heller, Aron (2015) “Ethnic Tensions Between Israeli Jews Fuel Netanyahu Victory.” The Associated Press, published in The Huffington Post, 04 April 2015. Available at: http://www.huffingtonpost.com/2015/04/04/israel-ethnic-tensions_n_7003404.html
Hermoni, Gal & Lebel, Udi (2012) “Politicizing Memory.” Cultural Studies 26(4): pp. 469-491. Available at: http://dx.doi.org/10.1080/09502386.2011.622779
Izkor: Slaves of Memory (1991) Directed by Eyal Sivan. Documentary film, 97 minutes, Israel. Paris: Ima Production
Puar, Jasbir K. (2011) “Citation and Censorship: The Politics of Talking About the Sexual Politics of Israel.” Feminist Legal Studies 19: pp. 133–142
---. (2007) Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times. Durham NC: Duke University Press
---. (2013) “Rethinking Homonationalism.” International Journal of Middle East Studies 45: pp. 336–339
Said, Edward W. (1978) Orientalism, 2003. London: Penguin Books.
Safran, William (1991) “Diasporas in Modern Societies: Myths of homeland and Return.” Diaspora: A Journal of Transnational Studies 1(1): pp. 83-99
SaraJevo Film Festival (2012) “Discussing the Present, Shaping the Future - An Encounter with Eyal Sivan,” published on 14 November 2012. Available at: https://www.youtube.com/watch?v=ZaEPU89fexM
Shohat, Ella, Boatcă, Manuela, & Costa, Sergio (2013) “Bodies and Borders: An Interview with Ella Shohat.” Jadaliyya. Available at: http://www.jadaliyya.com/pages/index/15203/bodies-and-borders_an-interview-with-ella-shohat
Shohat, Ella (1988) “Sephardim in Israel: Zionism from the Standpoint of Its Jewish Victims.” Social Text 19/20: pp. 1-35. Duke University Press
---. (2006) “Taboo Memories, Diasporic Visions: Columbus, Palestine, and Arab-Jews.” Taboo Memories, Diasporic Voices. Durham and London: Duke University Press
---. (1999) “The Invention of the Mizrahim.” Journal of Palestine Studies 29.1: 5-20
Spivak, Gayatri Chakravorty (2008) “Our Asias 2001 – How to Be a Continentalist.” Other Asias. Malden, MA, Oxford: Blackwell Pub. 209–238
Tinsley, Omise’eke Natasha (2008) “Black Atlantic, Queer Atlantic: Queer Imaginings of the Middle Passage.” GLQ: A Journal of Lesbian and Gay Studies 14.2-3: 191-215. Duke University Press
Tucker, Nati (2013) “Rebranding Israel: History out, creativity and innovation in.” Haaretz, 6 January 2013. Available at: http://www.haaretz.com/news/features/rebranding-israel-history-out-creativity-and-innovation-in.premium-1.492147