ثورة من؟ تأملّات في الانتفاضة الإيرانية | إيران

السيرة: 

سيما شاخسارى هي عالمة أنثروبولوجيا ثقافية وتدرّس في قسم الجندر والنّساء ودراسات الجنسانية في جامعة مينيسوتا. كتاب شخصري، بعنوان "سياسات القتل الشرعي: المجتمع المدني، والجندر، والجنسانية في ويبلوجستان، الصادر عن مطبعة جامعة ديوك، في يناير 2020، هو دراسة إثنوغرافية لـ"ثورة المدونات" الإيرانية خلال"الحرب على الإرهاب".

مينو معلم أستاذة دراسات الجندر والنساء في جامعة كاليفورنيا بيركلي. وهي مؤلفة كتاب "بين الأخ المحارب والأخت المحجّبة: الأصولية الإسلامية والسياسة الثقافية للبطريركية في إيران"، الصادرة عن مطبعة جامعة كاليفورنيا سنة ٢٠٠٥، وهي المحررة المشاركة (مع كارين كابلان ونورما ألاركون) لمجلة "بين المرأة والأمة: القوميات، النسويات عبر الوطنية، والدولة"، عن مطبعة جامعة ديوك سنة ١٩٩٩. وهي ضيفة محررة في عدد خاص من "دراسات المقارنة: جنوب آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط" عن المهاجرين الإيرانيين والمنفيين واللاجئين. أحدث مؤلفاتها بعنوان "السجاد الفارسي: الأمة كسلعة عابرة للحدود"، وقد نشرتها روتليدج في عام ٢٠١٨.

اقتباس: 
سيما شاخسارى، مينو معلم. "ثورة من؟ تأملّات في الانتفاضة الإيرانية | إيران". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 5 عدد 3 (17 ديسمبر 2019): ص. 4-4. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 23 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/Whose-Revolution.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

هبة عباني هي باحثة ومترجمة وكاتبة تعيش في بيروت، درست الصحافة في الجامعة اللبنانية، وعملت في مجال حقوق الأفراد غير المنضبطين جندريا والنساء. تهتم في كتاباتها وأبحاثها بالقضايا التي تندرج ضمن هذه العناوين.

revolutionary-page-001.jpg

كلارا شيدياق

 

ملک یبقی مع الکفر و لا یبقی مع الظلم

گفتی که یک دیار
هرگز به ظلم و جور
نمی ماند بر پا و استوار

"وحدت" – أغنية ثورية إيرانية

 

منذ تشرين الأول/أوكتوبر 2019، انطلقت موجة من الاحتجاجات الشعبية شملت مناطق مختلفة في العالم، منها لبنان وتشيلي والعراق وإيران وغيرها. تكشف هذه الاحتجاجات فشل سياسات النيو-ليبرالية ورأس المال العابر للجنسيات، وأيضًا فشل الدولة-الأمة في الاستجابة إلى المطالب المحقّة والشرعية التي حملتها شرائح واسعة من الشعوب. من جهة أخرى، أظهرت هذه الاحتجاجات وجود إمكانية فعلية للتغيير الاجتماعي الحقيقي، خالقة بذلك مساحة أمل للمناضلين/ات من أجل عالم تسوده العدالة والتغيير السياسي والاجتماعي-الاقتصادي. ولكن، على الرغم من اعترافنا بأهمية "الأمل" ودوره في الحشد والتجييش والضغط باتجاه التغيير الاجتماعي الجذري وإحداث التحوّلات الاجتماعية عبر الثورات، نبقى حذرات وقلقات إزاء احتمالات الانجرار إلى مزيد من العسكرة والحروب والاحتلال. ونؤمن، انطلاقًا من التجربة التي عايشناها خلال الثورة الإيرانية في العام 1979، أن ثمة ضرورة للابتعاد عن بذل الجهود في إطار المفهوم الحديث للثورة، أي باعتبارها قوة دافعة وهادفة لاستبدال دولة الأمة الواحدة بأخرى عبر "تغيير النظام"، وهو خطاب منتشر في السياقات الإيرانية. في المقابل، نعتقد أن ما نحتاجه، هو تحديد ورسم ملامح السياسات الداخلية والخارجية، التي أنتجت موجات الاحتجاجات الراهنة، كما معرفة مواضع الاختلاف في السياقات والمطالب التي حملها المتظاهرين/ات في كل منطقة.

وبناء على ذلك، نعتبر أن معرفة سياق ومضمون الاحتجاجات أمرًا مفصليًا، لأن كلّ منها، وبصرف النظر عن تقاطعها وتشابهها ضمن الحالة العالمية، تحمل بعدًا فريدًا وشديد الخصوصية، يعصى علينا فهمه من دون التساؤل والتشكيك بالترابطات العابرة للجنسيات، الأوضاع الوطنية، والعلاقات الجيو-سياسية غير المتكافئة أيضًا. ولتطبيق ذلك على الحالة الإيرانية، لا بدّ من إجراء تحليل يستهدف مختلف الفاعلين السياسيين في الداخل والخارج، بما في ذلك أجنداتهم السياسية التي تحمل فروقات جذرية، بدءًا بالقوى المستثمرة في تغيير النظام من أعلى إلى أسفل، ووصولًا إلى سحب استثمارات النخبة الحاكمة، كاستجابة للمطالب الشعبية حول العدالة الساسية والاجتماعية والاقتصادية. بالفعل، تختلف مطالب الذي يريدون من الدولة تحمّل مسؤولياتها تجاه مواطنيها/اتها عن الحشد والتجييش الذي قامت به الجهات المتحالفة مع القوى الامبريالية، بهدف تحويل مسارات الأحداث باتجاه خدمة مصالحها.

انطلقت شرارة التظاهرات الأخيرة في إيران على إثر الارتفاع المفاجئ في أسعار الغاز والاجراءات التقشفية للدولة الإيرانية، والتي اقترحها أيضًا صندوق النقد الدولي في وقت سابق في العام 2018. فالمجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي، وهو "غرفة/جبهة حرب" جديدة، تشكلت للرد على الانهيار الاقتصادي الناتج عن العقوبات الأميركية، يتحمّل مسؤولية قرار قطع الإعانات. كما يكشف تشكيل "غرفة/جبهة الحرب" هذه، عن التحالفات الجديدة بين قوى اليمين والإصلاحيين والمعتدلين، وذلك في ظلّ مناخ سياسي يسوده خطاب مضخّم يدعو إلى حماية الأمن القومي لمواجهة الضغوطات الخارجية. وفي هذا السياق، لا بدّ من التنويه بأن الدولة الإيرانية لم تكن يومًا كيانًا موحّدًا أو متجانسًا، بل ساحة تناقضات ونزاعات بين مختلف القوى السياسية التي شهدت تغيّرات جذرية وتحوّلات متتالية لجهة تحالفاتها وأجنداتها السياسية خلال التاريخ الإيراني بعد الثورة. وبالتالي، تحمل هذه التحالفات الجديدة والداعية إلى التوحّد في وجه التهديدات الخارجية تداعيات سياسات خطيرة بالنسبة للأصوات المعارضة. فالصدفة ليست ما دفع بالرئيس المعتدل روحاني إلى الاعتراف بشرعية "احتجاجات المياه" من جهة، واتهام التظاهرات الأخيرة بأنها نتيجة تحريض خارجي، من جهة أخرى. ولكن التاريخ أثبت مرارًا، أنه لا مجال لتجنّب أو احتواء أو ترويض التمرّد الشعبي، عندما تفشل الدولة في الاستجابة إلى مطالب الشعب مستخدمة القوة لقمع المعارضة.

على مرّ السنين، دمرت العقوبات الاقتصادية الأميركية، والتي سبقت انسحاب ترامب من "الصفقة الإيرانية"، حياة الشعب الإيراني، الذي لم يعد قادرًا على تكبّد الكلفة العالية لحاجاته الأساسية، وبات وصوله إلى الدواء والتكنولوجيات الطبية الضرورية لإنقاذ الحياة محدودًا للغاية. فطوّرت الدولة الإيرانية، للتعامل مع تداعيات العقوبات، محطات تكرير وتقنيات تصفية للمياه "محلية الصنع"، ولكنّها أنتجت بذلك كوارث بيئية، تلوثًا شديدًا في الهواء، وشحًا في المياه النظيفة طال عددًا كبيرًا من المحافظات. بطبيعة الحال، أدّى ذلك إلى ارتفاع معدّلات الإصابة بالسرطان، والتي بلغت حدّها الأقصى في السنوات القليلة السابقة، في ظل تفاقم ندرة توفّر أدوية السرطان. لمواجهة هذا الوضع المتردي، فرضت الدولة الإيرانية إجراءات تقشفية لإدارة الأزمة الاقتصادية. وعلى الرغم من أنّ تحرير/لبرلة الاقتصاد في إيران بعد الثورة بدأ قبل العام 1989، إلا أن الدولة عجّلت في فرض الإجراءات التقشفية، للاستجابة إلى الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها العقوبات. قد يكون بمقدور هذه الإجراءات ووضع برنامج إعادة توزيع وتوفير معونات لمن هم أكثر حاجة مساعدة الاقتصاد الإيراني، ولكن قطع الإعانات بهذا الشكل المفاجئ، وغياب خطة إعادة التوزيع الواضحة والقابلة للتطبيق، أثار قلقًا عارمًا حيال انخفاض معايير الحياة بالنسبة لمعظم الإيرانيين/ات. كما ساهم الوضع الحالي، والذي يُظهر أن الفئات الأقل امتيازًا ( غالبًا المهمشين/ات اقتصاديًا كالنساء الكويريات، اللاجئين/ات، الطبقات العاملة، وسكان المناطق الريفية) باتت غير قادرة على تكبّد كلفة الحياة، بينما تنعم فئة صغيرة من الإيرانيين/ات الحضريين/ات بالحياة المرّفهة، بازدياد الشكوك والتساؤلات حول الفساد والمنتفعين من العقوبات. لذا، فإنّ الاحتجاجات الإيرانية جاءت نتيجة ظلم تعاني منه شرائح واسعة من الشعب الإيراني، والذي يتكبّد، في الوقت ذاته: أعباء العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة، المنطق النيو-ليبرالي العالمي، وإجراءات التقشف التي وضعتها الدولة الإيرانية.

لنفترض أننا نوافق على أن العديد من الحركات الاحتجاجية حول العالم ترتبط بشكل أو بآخر بفشل النيو- ليبرالية، ولكننا، في الوقت ذاته، نعتبر أن الرؤية الشمولية التي تختصر الاحتجاجات ضمن منطق نيو-ليبرالي موحد، لا يمكنها سوى أن تكون رؤية جزئية في حدها الأقصى. فالاعتراضات الشعبية في وجه النيو-ليبرالية غير كافية وحدها لشرح أسباب الاحتجاجات الإيرانية، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الإجراءات التقشفية للدولة الإيرانية جاءت كرد على العقوبات الاقتصادية، وأنّ الدولة الإيرانية (والتي تبقى لاعتبارات عملية دولة رعاية) طبقت سياسة تخفيض الإعانات، كمحاولة لإعادة توزيع الثروات على من هم في أمسّ الحاجة إليها (على الرغم من الشوائب في خطة التنفيذ). على النحو ذاته، لا يمكن للخطاب الإيراني حول "الفساد" أن يختزل تشعبات السياسة الإيرانية، ولا أن يأخذ في اعتباراته تفكك وتشرذم الدولة الإيرانية. في الواقع، إن النقاشات الأكثر إثارة للجدل، كما الاعتراضات على الاعتقالات والإجراءات التقشفية وقمع الاحتجاجات، صدرت من قبل أعضاء في المجلس النيابي، ومن رجال دين معروفين، وعددًا من الإصلاحيين، الذين استبعدهم التحالف الذي ضمّ اليمين والمعتدلين والإصلاحيين في فترات الأزمات الاقتصادية والغزو الخارجي.

كما يستدعي تحليلنا للدولة الإيرانية المتعددة الكفاءات شرحًا أكثر تفصيلًا ودقة إزاء الاحتجاجات، التي لا يمكن اختزال أسبابها بالاختلاس. وفي حين أننا نوافق على تفشي الفساد بين بعض عناصر الدولة الإيرانية وكياناتها شبه الحكومية، لكننا لا نعتقد أن الفساد وحده سببًا كفيلًا بشرح الانهيار الاقتصادي والقمع السياسي الذي شهدنا على تصاعده خلال التظاهرات الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، نرفض أيضًا الانضمام والتهليل للمنطق الاستشراقي الذي ينتج ثنائية الديموقراطيات الشفافة والليبرالية في مقابل دول المحسوبيات في الشرق الأوسط. لذا، وبدلًا من تأليه الديموقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط بوصفها نموذجًا مثاليًا للحكم، نوجّه أنظارنا نحو القمع العنيف الذي تعرضت له حركة "حياة السود مهمة"، وحركة حماة المياه من قبل الشرطة الأميركية، بالإضافة إلى الفساد المستشري في النظام السياسي الأميركي، والمسارات الانتخابية غير الديموقراطية التي تُآثر رأسالمال على الصوت الشعبي، لنبرز بذلك الصورة الحقيقية "لأمريكا"، والتي تدحض اعتبارها نموذجًا يُقتضى به لإرساء "مستقبل الديموقراطية" في إيران.

ومن ناحية أخرى، لا يمكننا اعتبار تاريخ التدخلات الأميركية في إيران، بدءًا بالإطاحة بالرئيس المنتخب ديموقراطيًا محمد مصدق، إلى الهجمات الإلكترونية والاستثمارات الضخمة في "مشاريع الدمقرطة" في إيران مجرد حالة "ارتياب"، كما يروّج بعض المتحمسون ل "تغيير النظام". في الواقع، أدى اختطاف الاحتجاجات من قبل ماكينة الحرب الأميركية (ووكلائها) في إيران بعد الثورة، في معظم الأحيان، إلى بلوغ عنف الدولة حدّ الذروة في مواجهته للحركات المحلية المطلبية، ومنها الحركة العمالية وحركة حقوق النساء. فمزاعم دعم حقوق الانسان والديموقراطية الليبرالية التي تطرحها الدول "المُحرّرة" أو بعض مجموعات المعارضة الإيرانية المنتشرة في الخارج، ليست وحسب سلبًا انتهازيًا للاحتجاجات الإيرانية، بل إنها تساهم في تعريض حياة المحتجين/ات في إيران لخطر محدق، حيث تتهم الدولة الإيرانية ناشطي/ات الحركة العمالية وحركة حقوق النساء بالخيانة. لأن تعامل الدولة الإيرانية مع المحتجين/ات بوصفهم وكلاء/وكيلات للخارج أو منقلبون/ات على النظام وفقًا للدولة الإيرانية أو أجهزة تغيير النظام، يحجّم استقلاليتهم/ن ويعرضهم/ن لعنف مهول.

 

لقد شهدنا على هذا النمط مرارًا وخلال موجات احتجاجية متعددة، منذ انطلاق الثورة الخضراء في العام 2009، مرورًا بحركة "بنات شارع الثورة"، وخلال الاحتجاجات التي حصلت مؤخرًا. ويتمثل هذا السلب المتكرر في التظهير والإبراز المكثف لصورة الإيرانيات الشابات المقموعات كأدوات لارضاء فيتيشية سرديات الإنقاذ الاستشراقية والمنحازة للغيرية، والتي تعمل بدورها على إعادة انتاج المنطق الاستعماري القائم على استخدام ورقة الجندر/النوع الاجتماعي. لهذا، لم نتفاجئ عندما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يوثّق لحظة موت ندى آغا سلطان، وهي إحدى المارة التي قتلت في ساحات التظاهر في العام 2009. حيث سلب المحافظون الجدد في الولايات المتحدة وبعض مجموعات المعارضة المشكوك بأمرهم صور ندى ىغا سلطان، وظهّروها كشخصية نموذجية للشابات الإيرانيات الضعيفات. ووانطلاقًا من المنطق ذاته، لا يفاجؤنا إطلاقًا أن تصبح صورة نيكيتا اسفاندياري، وهي شابة قُتلت في ساحات الاحتجاجات هذا العام، رمزًا لهشاشة وضعف المحتجين/ات في إيران. كنسويات أكاديميات تعشن في الولايات المتحدة، نحتاج إلى تصنيق القوى المختلفة المنخرطة في هذا المسار، والتي تحمل مطالب متعارضة أحيانًا، كما علينا مساءلة "امتيازاتنا الامبريالية" في ظل الأجندة العسكرية التي تفرضها إدارة ترامب وحلفاؤه في المنطقة. وعليه، نعبّر عن دعمنا للاعتراضات الشعبية المحلية للمجموعات الناشطة المختلفة، بما فيها ناشطات حقوق المرأة ومنظمو/ات نقابات العمل والناشطين/ات البيئيين/ات وغيرهم/ن. ونقف بشدة في وجه أجندات تغيير النظام المدعومة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل. لأننا نؤمن أن التدخلات الأميركية باسم "الدعم"، ستضاعف وحسب الإجراءات الأمنية المشددة والرقابة والعنف والفقر، تمامًا كما رأينا في العراق وأفغانستان "بعد التحرير". مثلًا، عبّرت ناشطات حركة حقوق المرأة الإيرانية مرارًا عن معارضتهن للتدخلات الأميركية، ولعمليات السلب الانتهازي لنضالهن. ولكن، تم التعتيم على أصواتهن واستبدالها بشخصيات تدّعي أصالة صوت الشعب الإيراني.

كما ينبغي أن يُعير تحليلنا اهتمامًا خاصًا للتجاذبات الحادّة التي تتجاوز الموقف الاختزالي المعارض للامبريالية. مثلًا، لا بدّ من التنبّه للشعارات النوستالجية التي تحيّي رضا بهلواوي، الحداثوي القومي والشاه السلطوي لإيران في مطلع القرن العشرين. حيث يجدر بنا أن نسأل أيضًا لماذا أنتجت حكومات بعد الثورة فقدان ذاكرة ثقافي، ومحوًا نوستالجيًا للعنف، الذي تضمّن خلع الحجاب وفرض الثقافة الفارسية، والفروقات الاقتصادية، والتسهيلات الأميركية، وسجن وتعذيب المعارضة السياسية – سواء كانت شيوعية أو اجتماعية أو دينية أو طلابية علمانية قومية، أو ناشطة في مجال حقوق النساء – خلال حكم الشاه رضا وابنه محمد رضا بهلاوي. وفي حين أننا لا ننكر انخراط القوى الملكية خارج إيران، والتي تقودها عائلة بهلاوي المخلوعة، من أجل تغيير النظام، لا يمكننا، في الوقت ذاته، تحجيم الاحتجاجات واختزالها بوصفها كمجرد نتيجة للتحريض من الخارج. في المقابل، نعتقد أن الشعارات النوستالجية الداعية لعودة النظام الملكي تعكس فشل الدولة الإيرانية بعد الثورة في الاستجابة الفعالة للمظلومية التي يتعرض لها الشعب الإيراني. فالدعوات الرومانسية لعودة إيران "بحلّتها الأميركية" قبل إيران الثورة، تتصل أيضًا بشكل وثيق بإغراءات الاستهلاك الرأسمالي والصورة المثالية "لأمريكا"، والتي أنتجها التمثيل الثقافي القائم على محو ماضي وحاضر المستعمر العنصري وشرطته العنيفة وقوانيه ومشاعره المعادية للمهاجرين/ات والمُعززة للفقر في الولايات المتحدة.

على نحو مماثل، علينا أن نتعاطى بجدية حاسمة مع مشاعر العداء للعرب، والتي تحمل بعدًا يرتبط بتاريخ السلالات في التاريخ القومي الإيراني، ويروّج غالبًا لأسطورة آرية القومية الإيرانية. ففي السنوات الأخيرة، تعاظمت مشاعر العداء والرهاب تجاه العرب والإسلام، كردة فعل على تحالفات الجمهورية الاسلامية في لبنان وفلسطين. ولكن، في ظل الضغوطات الاقتصادية التي تدمّر الشعب الإيراني، لا يمكننا اختزال شعارات مثل "لا غزة، لا لبنان، حياتي فداء لإيران"، ووصفهم كمجرد انعكاسات للخطاب القومي. فهذه الشعارات هي تعبير عن الشحّ الاقتصادي، وانعكاس لمنطق التنافس والوجود، في وقت حوّلت فيه العقوبات حياة معظم الإيرانيين/ات إلى جحيم، لدرجة تراجُع وانحسار التضامن الاجتماعي. وبالتالي، يرتبط أيضًا الغضب العارم تجاه فشل الدولة الإيرانية في الاستجابة لحاجات مواطنيها بتكثيف الرهاب العرقي ومشاعر العداء للأفغان في إيران. وبينما نحتاج إلى تحميل الدولة الإيرانية مسؤولياتها تجاه جميع مواطنيها/تها واللاجئين/ات في أراضيها، بصرف النظر عن عرقهم ودينهم، علينا أن نعترف، في الوقت ذاته، أن ظروف الأزمة الاقتصادية والقمع السياسي التي قادت إلى موجات احتجاجية، لا تنفصل عن السياسات الجيو-السياسية ومصالح الدولة الاسرائيلية والدولة الأميركية في زعزعة الاستقرار والترويج للطائفية في الشرق الأوسط. وعلى صعيد آخر، يُظهر ابتهاج وحماسة مروّجي الحرب الأميركيين والإسرائيلين لتغيير النظام في إيران أهمية الدور الإيراني في تقييد السياسات التوسعية لدولة اسرائيل في كلّ من فلسطين ولبنان، وإعاقته للهيمنة الاقتصادية والسياسية الشاملة للولايات المتحدة في المنطقة. لهذا السبب تحديدًا، نؤمن، كنسويات أكاديميات عابرات للقوميات والجنسيات، أن الاحتجاجات على سياسات الدولة الإيرانية لا يجب أن تنطلق من خطابات عنصرية تخلط بين الاسلام والارهاب، وتشيطن المقاومة الاسلامية في غزة ولبنان. وبدلًا من افتراض ملائمة الأجندات النسوية أو الكويرية والسياسات الدوغمائية العلمانية التي ترفض أي ارتباط مع الاسلام أو مجموعات المقاومة الاسلامية، نحتاج إلى تجاوز المقاربة التشهيرية بالاسلام أو الدولة. فالنسويات الأكاديميات الإيرانيات أنشأن فعلًا استراتيجيات تحالفية فعالة، ضاربات بذلك ثنائية العلماني/الديني عبر تغيير القوانين المجحفة من دون الانزلاق إلى الأصوليات الدينية أو العلمانية.

لذا، نحتاج لاستبدال التحليل المجهري للدولة، والذي يعيد إحياء خرافة سيادة الدول القومية، والاستعاضة عنه بتفكير نقدي حيال الترابطات العابرة للجنسيات، العلاقات الجغرافية غير المتكافئة، التاريخ الاستعماري، الأجندات الامبريالية، والممارسات الاستيطانية الاستعمارية التي خلقت (ولا تزال) نزاعات قائمة على مبدأ "فرق تسد"، في جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا. وفي الوقت ذاته، علينا أن نعترف أن مطلب الدولة القومية الحديثة ب "الصداقة الأفقية العميقة" والتضحية، غالبًا ما يمحو الفروقات بينما يخضع غيرهم ممن يعتبرون آخرين/يات داخل الدولة. لهذا بالتحديد، نحتاج إلى رفض أشكال التنافس على قومية الدولة. والمفارقة الساخرة هنا، هي نشر وهيمنة خطاب "الأمن القومي" و"محاربة الإرهاب"، للتخلص من آخرين داخل الدولة، خلال "الحرب على الإرهاب"، مثلًا، في السياق الإيراني. لذا، هناك ضرورة لإدراك الأشكال القومية التي تمارس عنفًا ماديًا ومعرفيًا على الأكراد والعرب الإيرانيين/ات، ورفض التواطؤ مع المشاريع التوسعية الأميركية في الوقت ذاته.

يجدر بنا، على الأرجح، بدلًا من الانزلاق نحو السياسات الطائفية، والمشاعر القومية، والعلمانية الدوغمائية، والهويات الحديثة الإقصائية والثابتة، أو المفاهيم الرومانسية للثورات كأساس لتجييش الحركات الشعبية، أن نتعلم درسًا من الناشطات النسويات والأكاديميات، اللواتي عملن بصبر وجدّ لعقود من الزمن في إيران وومناطق أخرى في جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا. في المحصلة، يمنحنا تصوّر مستقبل ثوري قابل للتطبيق خيارًا واحدًا: تضمين تحليلاتنا نقدًا للقومية، الاستعمار القديم والحالي، العلاقات الجيو-السياسية غير المتكافئة، والممارسات البيو-سياسية والنكرو-سياسية، التي تهب الحياة للبعض وتتيح قتل غيرهم باسم السياقات القومية والعابرة للجنسيات. في الوقت ذاته، نحتاج إلى الإنصات إلى صوت وصمت أولئك الذين يواجهون الاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي والهيمنة الثقافية ضمن سياق الدولة-الأمة. هذا هو امتحان الثورة والأمل على المدى البعيد.

ملحوظات: