جاءت سكرة الموت بالحقّ: الشراكة في حظّ الحياة

السيرة: 

رياض الأيوبي دارس للاقتصاد وقارئ لحقول العمران والفلسفة واللغويات في تاريخ العرب، بادي البدء في ممارسته الترجمة لمّا عمل على نقل الأدبيات الشيوعيّة للعربية عبر صفحة «ما العمل؟» ومن ثمّ توسّع في هذا البحر من خلال تتبّع مخاض عمل شيوعيّي لبنان زمن الستينيات على نقل الإنتاج المعرفي من عالم الشمال إلى العالم العربي.

اقتباس: 
رياض الأيوبي. "جاءت سكرة الموت بالحقّ: الشراكة في حظّ الحياة ". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 8 عدد 2 (09 يوليو 2023): ص. 11-11. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 02 مايو 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/402.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.

 

المقدّمة

ضرَبَ العرب من قبل قول "اليأس إحدى الراحتين" عند الإخفاق في السعي إلى "الراحة الأولى" – وهذه تعني استحصال الآمال والأماني – إذ في اليأس "الراحة الأُخرى" بالخلاص من استهلاك العمر في مساكنة الأوهام.1

أمّا بعد، افتُتح مؤتمر الأمم المتّحدة المعنيّ بالأزمة المناخيّة (عند انعقاده في سيناء، عام ٢٠٢٢) بالتحذير من "العقاب المناخيّ" – على وزن النذير من "العقاب الإلٰهيّ" – وبالدعوة إلى سبيل التعاون والتضامن بين الأمم، وإلّا كان الهلاك حقًّا علينا. إذ تنبّأ الأمين العام أنطونيو غوتيريش باقتراب الساعة الآخرة بالقول: "نحن على طريقٍ سريعٍ إلى جحيم المناخ".2 وبعد أيّام المفاوضات المكثّفة أُقرّ صرف "دِيّة القتيل": أي الوعد بالتعويض عن العطل والضرر في البيئة. من ثمّ انفضّ المؤتمر دون صوغ واعتماد سياسةٍ تكبح أرباب استخراج الوقود الأحفوريّ وأصحابهم من تجّار ومشايخ كار الموت. لاحقًا، أدّى غوتيريش واجب العزاء لنشطاء المجتمع المدنيّ، وقال للتخفيف عنهم: "أشارككم إحباطكم". ويُحكى أنّ ناشطةً في المؤتمر تحسّرت: "كم عدد أجراس الإنذار التي يجب أن تُقرَع قبل أن نتحرّك؟"3 – يا خيبة المسعى. هذا وكانت قد بلّغتنا "منظّمة الصحّة العالميّة" من قبل أنّ ما بَدا لنا بأنّه "زفير الأرض الأخير" في "الحرب مع كورونا"، ليس بالضرورة أكبر المصائب (دايفي 2020) – إذ حتى لو انخفضت أعداد الإصابات والوفيّات وتلاشَت، لن تمّحي الآثار السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة – ومع شدّة الاحترار والحرائق والجفاف والفيضان، علينا التكيّف بالتعايش مع هذا المأزق. ليس من ذلك بدّ، كما يبدو، كلّ الوقائع البيئيّة تُنذر: "اقتربت الساعة وانشقّ القمر"، والموت الحاضر أمامنا في كلّ حينٍ هو شارة النهاية. ولكنّ وقوع علامات الساعة الكبرى يستوجب اشتغال الفكر في إدراك شروط اختراق السماء واقتحام الجنّة – دون افتتانٍ بأوهام التفكير الرغبويّ في ظلال الدول وخُطَب الليبراليّة الموزونة. فكيف الطريق وما الطريقة إلى الجنّة؟

 

معالم في الطريق: الفَرقُ بين الفِرَق

حدّثنا سلاڤوي جيجك عن افتراق الناس اليوم على خمسة مذاهبٍ (استراتيجيّة) في التعاطي مع الأزمة الإيكولوجيّة (جيجك 2021)؛ وأصناف تلك الفِرَق هي: الفرقة المطمئنّة بالرهان على العِلم والأدوات التكنولوجيّة الأمينة على المستقبل. والفرقة الواثقة بالسوق وتدابيره (كالضرائب) الكفيلة بالاقتصاص من المفسدين – أصحاب الصناعات الملوّثة. والفرقة المؤمنة بالدعوة إلى التوبة والاعتدال بعد الإفساد واتّباع الأهواء المسعورة في استباحة الطبيعة. والفرقة الرافضة المعانِدة للقول بأحقّيّة الانشغال في التفكير بالكارثة، فهي تحتجّ بالكلام عن استطاعة الطبيعة (من تلقاء ذاتها) أن تستوعب الأزمة وتتخطّاها. والفرقة القائلة بأنّ أفعال الأفراد واقعةٌ (بالتمام) على وجه الاستقلال بالإرادة والقدرة، فلا تعهد للمشاريع والمؤسّسات الكبرى بأيّ دورٍ حقيقيٍّ (أو ضروريٍّ) في المعادلة؛ بل تدعو فرادى الناس أجمعين إلى الالتزام بإعادة التدوير والتقشّف بالإقلاع عن عادات الاستهلاك المذمومة؛ وكأنّها تستعير بذلك القول: "اخشَوشِنوا فإنّ النِعَم لا تدوم".4

بالرغم من غمرة الشقاق، فإنّ إمكان الفصل والوصل بين الفِرق لا يقوم (في العموم) إلّا على القول في أربع مسائل هي: البقاء والفناء والدولة وأسواق المال والأعمال، فهذه ميادين المناورة ومفترق الطرق بين المذاهب الخمسة في مقولاتها. فالاستعاذة من الموت، ومن أرباب صناعته، والاحتساب للتعايش مع حضرته، هو حديث كلّ آنٍ ومكانٍ يشتغل بالتباحث في الأزمة الإيكولوجيّة؛ فمنهم مَن يرى في هذه النهاية المُحرِقة القصاص الموعود إمّا من الربّ (الأب) في السماء وإمّا من الطبيعة (الأمّ) في الأرض جزاء الطغيان على الأغيار في المنظومة البيئيّة. ويناظرهم المكذّبون، كمَن يستغرقون في الضحك أثناء التعزية، أو يكابرون على المصاب بالقول: "لا داعي للهلع، الحيّ أبقى من الميّت". والمعنى أنّ هذا الابتلاء من السنن الكونيّة في الطبيعة (عبر الزمن) أن تتوالى موجات الاحترار والبرودة، ولا يصحّ أبدًا إلّا بقاء الأصلح من بين القطعان.

ومن ثمّة تستشرف تلك التصوّرات اتّجاه الحياة ومعالم المستقبل في تبيان العمل والإرادة والقصد من سياسة اقتصاد السوق وجهاز الدولة. إذ ترى جماعات رأس المال الضاغطة بأنّ الدعوة إلى مراجعة النظام لإعلاء مقام الناس فوق مقام المال والأعمال ما هي إلّا هلوسةٌ عقائديّة، وفيها افتضاح غربة تيّار "الصحوة الخضراء" عن الواقع، إذ الظرف الحاليّ لا يحتمل أيّ مغامرةٍ بالاقتصاد، وهو التعبان من وقائع وعواقب اجتياح وباء كورونا والعدوان الروسيّ على أوكرانيا، فأيّ شقلبة لأسس الاقتصاد سوف تفضي إلى خراب (كلّ) البيوت؛ وجوابهم يوم الامتحان: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. أمّا الدعوات إلى التراجع في النموّ، بأخذ خطوتين إلى الوراء، تتهاوى أمام امتصاص النيوليبراليّة لهذه المساعي بإعادة قولبتها في خطاب الاستعمار المستحدث، المتأفّف من استعجال "البلدان النامية" في اللحاق بركب اقتصادات "العالم الأوّل".

أمّا أصحاب الطريق الثالث فهؤلاء يستعرضون مرسوم "الصفقة الجديدة" – باغتسال رأس المال وصباغته باللون الأخضر، لافتتاح مرحلةٍ تتولّد فيها الأرباح من "التحديث البيئيّ التدريجيّ"، ممّا سيرضي جميع الناس باستقامة حال الأطراف المذنبة. لكنّ بطلان هذه الدعوة، ليس فقط في أنّها لن تخرج بنا من الجحيم إلى النعيم، بل وأيضًا في ادّعائها التخفّف (أو التعفّف) من الإفراط في الاستغلال، كما ظهر جليًّا في وقائع البلدان الإفريقيّة، مثلًا (ديالو 2023).

ولما تستلزمه هذه التركيبات التحتيّة للاقتصاد من تصوّرات عن بنيان جهاز الدولة الفوقيّ وأغراضه، فإنّ سؤال السياسة الأبرز اليوم عن شكل وتكوين "الدولة" القادرة على ردّ المظالم الإيكولوجيّة (والاجتماعيّة)، هو سؤال النفوذ والتخطيط. أي إن كنّا نستبشر بمزيدٍ من ثقل الإدارات الرسميّة، والتسليم لها بسلطان الأمر والنهي في تدبير شؤون المجتمع – فالمحاججة في الأحاديث الشائعة، أنّ أداء مؤسّسات حكومة الصين في مكافحة وباء كورونا برهانٌ على أن هاكَ نموذج دولة بيروقراطيّة مستبدّة (لا تتورّع عن اعتماد حركيّات الرأسماليّة المتوحّشة) وقد صفّرت في وقت من الأوقات عدّاد الإصابات والوفيّات، في حين تخبّطت الدول (الناطقة بِاسمِ الديموقراطيّة) في أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة. أمّا أهل الرأي الآخر فليس طغيان جهاز الدولة في الصين عندهم إلّا هو "محراك الشرّ" الذي أشعل نار الأزمة ونفخ فيها لمّا فرض على الناس كتمان الأمر وغضّ السمع والبصر، حتى صار عاجزًا عن استيعاب المصيبة، التي هي أصلًا نتاج سياسة حكومة الصين للعمران الجامح في الإخلال بالموازين الإيكولوجيّة. فما كان لطبّاخ السمّ إلّا أن يتذوّقه، ولا فضل له حين صرف الجنّ الذي هو بنفسه أحضره؛ بل الإصرار في تمكين جماعات "المجتمع المدنيّ" – والمعنيّ بالمصطلح عندهم هو جمهور النشطاء والموظّفين والمدراء في قطاع المنظمّات غير الحكوميّة ومعهم روّاد رؤوس الأموال الخضراء – هو الإصرار (الحقّ) في تمكين "الناس" من التكافل بالعمل على تأسيس "الشبكات التضامنيّة" في مخاض الانتظام ضدّ السياسات التخريبيّة المعتمدة ممّن هم "فوق".

 

معالم الطريقة: النجاة بالقطيعة مع ثلاثيّة الاستنزاف والاعتراف والانصراف

لو احتكمنا إلى الميزان، فإنّ الفِرَق المتخاصمة كلّها في النار، وما من فرقةٍ ناجية، طالما المفاصلة قائمةٌ بالأخذ والردّ في مسائل البقاء والفناء من قنوات الاقتصاد والسياسة في غفلةٍ عن موضوعات "الاقتصاد السياسيّ"، من جرّاء القطيعة (الكبرى)، مع اعتماد مفهوم "الطبقة" في تحليل حركيّات الصراع، باستثمار سرديّة التنافر بين "الدولة والمجتمع المدنيّ".

إنّ المراجعة النهائيّة للمناظرة بين المذاهب المتنازعة، وكذلك قراءة وقائع الأزمات والمؤتمرات، والتدابير والتوصيات، تستخلص الأمر الواقع: إبرام الصفقات بإقرار التسويات، على الدوام، كي ينفضّ تضارب "جماعات المصالح" (وهي المتباينة في مستويات النفوذ والتمثيل) في "المجتمع المدنيّ" مع "الحكومات" – كما شهدنا في حوادث الموجات المتواترة من ڤيروس كورونا، حين كانت الحكومات في مأزقٍ ما بين لزوم إعلان الإغلاق الكامل من جهة، واجتناب استنفاذ طاقة الاقتصاد من جهةٍ أخرى، فادّعت السير على نهجٍ وسطيٍّ، من دون أن تُفلِح، فلا ننجو من متحوّرٍ واحدٍ حتى يحلّ علينا الآخر، وآخر تحديثٍ (في شهر نيسان/ إبريل في عام ٢٠٢٣) يستثير السخط هو متحوّر "أركتوروس". كذلك هي صفقات الإعانة الماليّة (المزعومة) للبلدان "الأكثر تضرّرًا" في الأزمة المناخيّة – بسبب التوزيع الظالم للخسائر البيئيّة في العالم – فليست تسمن ولا تغني من جوعٍ، مع تضاعف كلفة الترميم دون ردع المدمنين على انبعاثات الكربون والوقود الأحفوريّ في "العالم الأوّل". وأمّا هرطقات اغتسال رأس المال والصباغة باللون الأخضر، فهي ليست إلّا سياسة تبييض الأموال، باقتلاع الفلّاحين من أراضيهم، والمناورة بمشاريع "التشجير"، واستفحال نهب مقدّرات البلدان المستضعفة ـ كمعادن الليثيوم والكوبالت في استثمار صناعة بطاريّات السيارات الكهربائيّة ـ في سبيل "الثورة الخضراء" المزعومة (ديالو 2023).

إنّ أسلوب التسوية المتهافتة في انقلابها (الممنهج) ضدّ ما جاءت تبشّر به، هو بذاته البرهان على أنّ المظالم الواقعة ليست حصيلة خطيئة في الاقتصاد ولا صنيعة المُفسدين في الأرض من سادة وقادة السياسة والمال والأعمال، بل هي ما يشترطه وجود النظام عينه. وفي الخلاصة: حقٌّ (لنا وعلينا) هي الراحة باليأس من الخُطَب والاحتجاج والتفاوض.

ومن تجلّيات هذا اليأس البليغ إهمال الأخبار المستجدّة عن متحوّرات كورونا، والاستهتار بالتعليمات الرسميّة عن واجب معاودة الالتزام بإجراءات الوقاية كلّما طلع علينا متحوّرٌ آخر وسجّل عدّاد الإصابات حالةً إيجابيّة، بل تجاوز الأمر حدّ الاستهتار والتجاهل إلى الاعتراض على فرض أيّ إجراءٍ (احترازيًّا كان أو في حال الطوارئ) – حراك سكّان المدن الكبرى في الصين، مثلًا. هذا بعدما كاد الناس أن يتحوّلوا في السنوات الماضية إلى "مُخبرين" بالتعاون مع الحكومة، عبر الاتّصال (العاجل) للإبلاغ عن أيّ مخالفةٍ أو إصابة، أو إلى "أولياء" الدعوة والإرشاد والتأنيب عند التهاون في الوقاية. هنالك الآن، بتشخيص جيجك، حالةٌ انتقاليّة من الهلع والفزع إلى الاكتئاب العامّ، إذ ينتابنا الفزع عند نزول المصائب، والإحباط عند الاصطدام المتتالي بالعوائق والهزائم، أمّا الاكتئاب فهو علامة تلاشي الأمل والإعراض عن التطلّع والرغبة (جيجك 2021).

وهذا، عند تيّار المعارضة، اعترافٌ بالعجز، بل بالإعجاز، عن إنجاز أصغر الإصلاحات، حتى لو كانت من الضروريّات المنطقيّة؛ كالإقلاع عن إدمان انبعاثات الكربون، والامتناع عن التلاعب بالمقدّرات الطبيعيّة، وأقلّ من ذلك مراقبة ومعاقبة المُفسِدين، أو مدّ نُظُم الوقاية والعناية بالعدل، وإحالة الاستثمار من الفقّاعات الماليّة إلى القطاعات الحيويّة، مثلًا. هكذا ارتدّت شفاعة المُصلحين المُرسلين من المجتمع المدنيّ إلى النظام المُعانِد، بالصرف. فانصرف الحماس إلى التسليم بالقول: ليس في الإمكان أكثر ممّا كان، مع أنّ أسباب المعارضة لم تزل قائمة، ومع أنّ المطالب المعلّقة هي من المُمكِنات الفعليّة.

أمّا حديث عقد الفرقة الناجية يقول: إنّ هذا المنطق لم يغلب بانتزاع الهمم من الصدور، وإنّما استقرّ له النصر باختطاف الخيال التحرّري وبانصراف الرؤى القادرة على ابتداع السياسة بالاجتهاد والانغماس في الحراك الثوريّ والعراك النظريّ الملتزم بالتنظيم القاعديّ، لا بالعمل المنظوم على إيقاعٍ رتيبٍ في كواليس المؤسّسات الرسميّة والدوليّة – بل إنّ اعتزال هذه المجالس هو باب الصحوة من الغفلة في الطريق إلى يوم القيامة ونهاية هذا العالم، وهو باب اليقين في طريقة العمل بالتناقض، لا بالتفاوض، مع منطق القسمة على اثنين في حظّ البقاء والفناء، بين مَن لهم حقّ الحياة ومَن الموت حقٌّ عليهم.

وإنّ هذه اليقظة ليست إلّا وليدة العيش المديد مع أحوال الموت والحصار والطوارئ، ومحطّات التجفيف والتجريف والتعمير والتدمير، في مشاريع التحديث وبناء الدول، كما في البلدان التي أفردنا لها الحالات النماذجيّة، كي نتبيّن في كلّ مرّةٍ مَن هم أصحاب القول الفصل في الإحياء والإفناء، ثمّ مَن هم مهدورو الدم، وما الظرف الذي يستوجب استباحة أولئك، كالمنكوبين في فلسطين والمطلوبين في طرابلس، حيث (لم تزل) الصيحة الراهنة منذ قرنٍ فات: "طاب الموت".5

 

مقوّمات هذا التصوّر

للأمانة المنهجيّة، بعد الدعوة إلى خلع التطبيع مع التصوّرات القاصرة في النظر إلى الدولة بأنّها ذلك الكيان المتعالي فوق (طبقات) المجتمع، ينبغي الآن تعيين موقفنا وضوابط اجتهادنا في تأطير مفهوم "الدولة" – خاصّةً في السياق العربيّ.

نأخذ بالطرح الذي يقدّمه آدم هنيّة، في عمله البحثيّ عن الاقتصاد السياسيّ في المنطقة العربيّة (هنيّة 2020)، حول تشكّل الدول كإحدى تجلّيات الصراع بين الطبقات، وهي تحتكم إلى مصالح الطبقة المتغلّبة، ومقتضيات الحفاظ على التقسيم الطبقيّ النافذ في المجتمع، بخاصّةٍ عند اشتداد النزاع بين (وداخل) الطبقات. فهي انعكاسٌ للعلاقة بين الطبقات في المجتمع – فلا تشتغل في المجتمع بانفصال السياسة عن الاقتصاد، فالطبقات تعبيرٌ عن علاقات المِلكيّة وأنماط الإنتاج السائدة في المجتمعات (بما تحتويه من تفاعل إقليميّ وجغرافيّ وطائفيّ وغيره). هكذا تهيّئ "الطبقة" ظروف تشكّل "الدولة"، وكذلك تكون علاقة الطبقة بالدولة عاملًا محوريًّا في تشكيل الأولى – فلا تستقيم المقاربة على قاعدة استقلال الواحدة عن الأخرى.

فإنّ شغل الدولة الشاغل في عصور الحداثة هو حفظ السيادة على القُطر6 والانضباط في المجتمع، عبر استعمال "السياسة الحيويّة" – باصطلاح ميشيل فوكو، في السعي إلى السلطة الناجزة على الحياة في ظلّ الدولة، بالتنظيم المعتمد على هيبة المعرفة والعقل، في لباس "الحكم الرشيد" – بالاتّكال على مؤسّسات الديموقراطيّة، التربية والتعليم، القضاء والتشريع، الصحّة والطبابة، وغيرها – للدفع إلى ترشيد الإنفاق في سياسة الربط بين نموّ رأس المال والمعيشة، بالقياس حسب مؤشرات الاقتصاد والأمن ومعدّلات المواليد والأعمار وغيرها. هي الحيلة والوسيلة في قبض السلطة وبسط النفوذ بدون الرجعة إلى الأسلوب القديم: التسلّط بالترهيب الفظّ في الصراحة.

وإنّ القُدرة على الإحياء لا بدّ وأن تتعلّق بالقُدرة على الإفناء، أي إنّ السلطة على الموت هي شريطة السلطة على الحياة. إذ التعبير عن السيادة على القُطر هو القُدرة على تعيين مَن (وماذا) تُحيي أو تُميت الدولة داخل حدود القُطر، كما والغرض من ضبط الحدود هو الرقابة على مَن (وماذا) يُستحسَن أو يُستنكَر عبور الحدود له أو عليه. هذا ما عناه فوكو بانتقال الدولة من الاستجابة للدفاع عن القُطر ذاته إلى الدفاع عن انتظام مجتمع القُطر، فانضباط المجتمع يستوجب اتّباع "سياسة النَخْر" – باصطلاح أشيل مبيمبي،7 في السعي إلى نخر نسيج الجماعات التي تهدّد "الهويّة الوطنيّة والسيادة، والنظام والقانون، والأمن والأمان" باعتماد نفس الصروح – الديموقراطيّة في هيئة "مكافحة الإرهاب" كما غزوات الاستعمار، العلم على صورة نظريّة الأعراق، القانون في حال إعلان الطوارئ، إلخ..

وإنّ الغرض، الذي حضّرنا له هذه المقاربات، هو الاستدلال على حضور سياسة النخر في صُلب مشاريع بناء الدول، وفي اشتغال نظم التحديث والتطوير، من باب البيئة الطبيعيّة، بالفصل بين مَن هو أهلٌ للحياة العاقلة، ومَن هو في منزلة الوحش والحيوان، "غاشي وماشي" دون عقلٍ وانضباط، خلال الصراع في المجتمع، وحركة الاستعمار الاستيطانيّ، في العالم العربيّ، كما سيتبيّن من طيّات الحالتين (المتباينتين) فيما يلي.

 

ثنائيّة التجفيف والتجريف في فلسطين البحر والبحيرة

صرّح مبيمبي بأنّ وقائع استعمار الأراضي الفلسطينيّة اليوم هي التجلّي الخالص لماهيّة السلطة على الحياة والممات معًا (مبمبي 2019، ص. 88)، إذ إنّ بنية الدولة الصهيونيّة هي الطراز الجامع بين نظام الإلجام والضبط والترهيب بالإعدام والربط والتعذيب في المعتقلات كما في الشوارع، وكذلك وسائل السياسة الحيويّة بالاستثمار في مقوّمات تعمير وتطوير العيش في المستوطنات وتحديث مؤسّسات الإدارة والتدبير والرقابة والتنظيم – وهذا من خلال الاستئثار بالموارد الطبيعيّة واحتكار الحقّ في الأرض والماء والزرع والغذاء. استئثار دون العرب، وبالأحرى على حساب العرب، إذ صار استهلاك اليهود للماء، مثلًا، يعادل أربعة أضعاف استهلاك العرب تحت الحكم الصهيونيّ (منظمة العفو الدوليّة 2017)؛ وهذا الواقع ما هو إلّا عين سياسة النخر.

والحقّ أنّ معدن الدعوة الصهيونيّة إلى "إحياء القِفار" (كما نادى نوّاب العصابات الصهيونيّة في نصّ الإعلان عن قيام الدولة)8 سنة ١٩٤٨ ليس إلّا إسقاط الحقّ العربيّ في أرض فلسطين – بل وهو الاعتقاد والقول الصريح بانعدام الروح والحياة السابقة على استيطان اليهود في فلسطين، فالقِفار في اللغة هي الأراضي الخالية، بلا زرعٍ ولا ماءٍ ولا بشر.9 واختصر دايفيد بن غوريون مقاصد القول حين راسل ابنه للكلام عن "إمكانيّات الاستعمار الكامنة في أرض فلسطين، التي ليس للعرب غرضٌ بها، ولا هم أهلٌ لاستغلالها (..) بل قدرات اليهود الإبداعيّة هي القادرة على تحقيق ازدهار الصحراء وإنجاز تأسيس الصناعات وبناء الاقتصاد، كما والنهضة بالثقافة وغزو البحار والفضاء بالاعتماد على العلوم والقدرات الطليعيّة". ومن ثمّ تذمّر لابنه من "العناد العربيّ" في "حرمان عشرات آلاف اليهود من العودة إلى الوطن" حين تشبّث العرب بالأرض، حتى خَلُصَ في المقاطع الختاميّة إلى واجب "طرد العرب" – بالقول صراحةً: "إنّ كلّ مطامحنا، حتى هذه اللحظة، قائمةٌ على قناعةٍ تساندها وقائع حركتنا في البلاد، ألا وهو أن ليس في (هذه) الأرض متّسعٌ لنا وللعرب معًا".10

هذا وكانت الصحراء في فلسطين قد بدّدت من قبل أوهام المستوطنين الأوروبيّين عن "الأرض الموعودة" في خطاب الحركة الصهيونيّة والأساطير التوراتيّة ولوحات الرسّامين القدماء عن الأرض الخضراء التي يفيض فيها الماء، إذ غلب الجفاف الصحراويّ في أرض فلسطين أواخر القرن الـ ١٩ – بحكم المناخ الطبيعيّ وثمّ مكانة كسب الرزق من العمل بالرعي في اقتصاد البلاد كما وسياسة تعيين الضريبة على كلّ شجرة. فافتتحت الصهيونيّة مُذّاك حملات التضليل، وزعمت أنّ "الأرض المقدّسة" خربت من جرّاء سوء الإدارة العربيّة العثمانيّة – وأقرّ المؤتمر الصهيونيّ عام ١٩٠١ استحداث "الصندوق القوميّ اليهوديّ" للاستحواذ على الأراضي العربيّة وانطلاق بنيان وزراعة العمران الاستيطانيّ.

ثمّ اشتدّ الغلوّ الإسرائيليّ بالعمل في تكوين الدولة على قوام عقيدة الصهيونيّة وسياسة الاستعمار، بالمباشرة في استكمال نكبة اقتلاع الشعب الفلسطينيّ من أرضه، باقتطاع أشجار اللوز والتين والصبّار والزيتون، وثمّ غرس أشجار الصنوبريّات لكي يكون البلد "أوروبيّ المظهر" (بابه 2007)، كما اقتطعت فيما بعد مليونين ونصف المليون من الشجر في الأراضي المحتلّة منذ حرب عام ١٩٦٧ (مفتاح 2012). انطلق العمل لتحقيق مشروع دولة الاستعمار الاستيطانيّ، أواخر أربعينيّات القرن الماضي وخلال عقد الخمسينيّات، بالإصرار في مصادرة السيادة على الثروة الطبيعيّة، لا سيّما موارد المياه، على اعتبار نُدرة المنابع في فلسطين، وباعتماد وجهة بن غوريون في سياسة الدولة، "المملختيوت"، القائلة بأنّ التمكين من تسديد الخطى نحو تحقيق الوعد الصهيونيّ يستوجب قيام أركان الدولة كالبنيان المرصوص، ومن ثمّ وجوب تذليل (كلّ) العقبات الحائلة دون ذلك (غلنور وبلندر 2018).

تجسَّدَ هذا الطغيان عام ١٩٤٨ بالتصميم على إطلاق مشروع نقل مياه بحيرة طبريّا في الشمال إلى صحراء النقب في الجنوب، بإقامة السدود على طول مجرى نهر الأردن، عملًا بالمخطّط القائم على تسخير المياه في خدمة إعمار المستوطنات. وحين تعطّل العمل في المشروع عام ١٩٥٣، مع دعوة الأمم المتّحدة إلى عقد المفاوضات بين إسرائيل والدول العربيّة المعترضة على تجريد سوريا ولبنان والأردن من الحقّ في مياه النهر، وكذلك على حرمان البحر الميّت من حصّة المياه الواردة إليه عبر النهر مّا سيؤدي إلى تجفيف البحر والنهر، تعنّتت إسرائيل في مصادرة السيادة وصدّت المقترحات الحريصة على التسوية الوافية باحتياجات البحر والنهر أكثر ممّا تستوفي حساباتها في ريّ آلاف الهكتارات من أراضي صحراء النقب، لإحلال الوفود اليهوديّة المهاجرة في المستوطنات (العطوط 2006)؛ فاستأنفت بعدئذٍ العمل في المشروع عام ١٩٥٦ حتى اكتمل بعد ٨ سنوات، ومن ثمّ استحكمت بالقبض على روافد النهر العليا عقب حرب الـ ٦٧.

وإنّ مشروع ناقل المياه، ومعه مشروع تجفيف بحيرة الحولة للاستفادة من مياهها في الريّ، كذلك لاستغلال أراضيها في الزراعة، قد استنفذ واستنزف عبر السنين موارد مياه نهر الأردن الذي صار للمستوطنات مصرف المياه العادمة. والبحر الميّت، الذي انحسر وجفّ الجزء الجنوبيّ منه، وصار جزؤه الشماليّ موضوعًا لصناعات التعدين الإسرائيليّة يجري استنزافه بتحويل المياه إلى ملّاحات التعدين (عرب 48 2021). كما وبحيرة طبريّا التي انخفض مستوى المياه فيها إلى الحضيض التاريخيّ بعد زهاء ٤٠ عامًا من الضخّ، وكذلك المياه الجوفيّة، التي من جرّاء الإفراط فيها، تسرّبت المياه المالحة إلى التربة وجرّفتها. فيما ازدهرت وتنامت المستوطنات في الصحراء، التي هي كذلك تعاني من العدوان على الموازين الطبيعيّة الخاصّة بها، على مرّ الزمن، بالاستثمار والبنيان الاستيطانيّ والعسكريّ والنوويّ والصناعيّ، وبالاستكبار الاستعماريّ على المناخ الطبيعيّ فيها، عبر هوس "الصبغ" باللون الأخضر (شحادة 2019).

 

ثنائيّة التعمير والتدمير في طرابلس النهريّة والبحريّة

قامت عمارة طرابلس النهريّة وتحصّنت عند ضفاف نهر "أبو علي" بعد تحطيم طرابلس البحريّة (الميناء) عند فتح المماليك عام ١٢٨٩.11 اختير الموقع بالبحث عن جغرافيّةٍ بيئيّة مستعصية على الغزاة (مرسي علي 2017)، فأولى إشكاليّات العمران كانت: مَن سيحتمي بالآخر، المدينة أم أصحابها؟

والنهريّة هذه تقع على بُعدِ ميلٍ من البحريّة الهالكة وفي ظلال تلّة قلعة صنجيل وتلّة الحجّاج وتلّة القبّة. تسوّرت بالمساكن المتلاصقة، حاميةً باتّصالها باطن المدينة من الخارج الذي لا يَصِلُها إلّا عبر البوّابات الـ ١١. بُنيت البيوت عند ضفاف النهر، ونشأت الصناعات والأسواق والبساتين بالتوازي معه – حيّ الدبّاغة وبساتين السقي والمسلخ البلديّ وسوق اللحامين، مثلًا؛ فالنهر كان "ضابط الإيقاع" في حياة المدينة (منجّد 1988). إذ "وبالإضافة إلى ريّه بساتين المدينة جاعلًا منها حدائق غنّاء ومضفيًا على المدينة تسميتها: الفيحاء، ومحقّقًا لها ثروة من مداخيل المنتجات الزراعية التي كانت تصدّر إلى مختلف الأنحاء، كان النهر يؤمّن لطواحين المدينة طاقة نظيفة ومجّانيّة لإدارتها".12

وأمّا مشهديّة اليوم فهي "كما في أفلام الخيال العلميّ، تنهار المباني في طرابلس على رؤوس قاطنيها" (أبو روفايل نيسان 2022)، – وما كان عامرًا بالبساتين الفيحاء صار ضامرًا بالعقارات الخالية من البشر والشجر، عدا بقعة صغيرة فيها اجتماع سكّان "حيّ التنك" (أبو روفايل شباط 2022). يقع الحي قرب "معرض رشيد كرامي الدوليّ" القائم في مساحة ٧٠٠ ألف مترٍ مربّع13 كانت جزءاً من منطقة البساتين اقتُطِعت أشجارها من أجل بنائه، وهو المعطّل منذ إنجازه، في برزخ الحياة والموت، كما بقيّة المدينة، في انتظار الانهيار الأخير من جرّاء النخر. عناصر المشهد: بنيانٌ متآكل ونسيجٌ مفتّت، وفي المشهد اختصار العلاقة المحكومة بمشاعر العداوة، بين الدولة اللبنانيّة والمناطق الطرفيّة، مُذ كبرت الأولى بالأخرى حين استحدثت فرنسا "لبنان الكبير" بإعلان ضمّ البقاع وثمّ "طرابلس وضاحيتها المسلمة" إلى "الدولة المسيحيّة". ضمٌّ جاء على مضض، بل وكان هنالك دعوةٌ لإجراء "فترة اختبارٍ" للمدينة – كما بيّن بحث فوّاز طرابلسي في الوثائق (طرابلسي 2020). وليس سبب الإصرار في "زيادة عدد المسلمين" من أهل طرابلس في "لبنان الكبير" إلّا عقد الطموح الاقتصاديّ بالتصوّر الطائفيّ في رؤى الاستعمار.

ولقد وافقت المخططات الاستعمارية هوى "مُحِبُّوا فرنسا" في لبنان باتّباع خطط اقتصاد الريع، القائم بالخدمات المصرفيّة والسياحيّة والمضاربات الماليّة والعقاريّة ومحطّات العبور والتبادل التجاريّ، وبالتخفّف من أعمال الزراعة والصناعة (بحيري 2020)، ولذا استولت على المرفأ (المنافس) في طرابلس والمرفأ (الأصغر) في صيدا.

بعد جلاء الاستعمار الإداريّ، تسلّمت الدولة اللبنانيّة مهمّة "الإدارة والتحديث" بالاحتكام إلى مصالح رأس المال – وفي طرابلس كان اقتصاد الخدمات والتجارة في مخطّطات الإدارة اللبنانيّة محمولًا بالتمحور حول عمليّة التطوير العقاريّ، وبالقطيعة مع اقتصاد الزراعة، كما تلبّس فيه "الهوس" باستثمار الواجهة البحريّة في هيئة منتجعاتٍ سياحيّة (أبو روفايل شباط 2022)، وذلك بالإفراط في تسخير قانون "الضمّ والفرز" للاستيلاء على ملكيّة أراضي البساتين، ومحاولات اقتلاع السكّان من أحيائهم بعد تجريدهم من حقّ المُلك وبعد اعتصام هؤلاء بالامتناع عن مغادرة البيوت14 – فبقيت الأراضي في حكم المستباحة للمضاربة العقاريّة في مكاتب الملّاك ورجال الأعمال. وبعد إزالة الأشجار الممتدّة في مساحة ملايين الأمتار المربّعة، وافتتاح أوتوستراد وسط منطقة البساتين، بمحاذاة الأحياء المستقبحة في حساب المطوّرين العقاريّين وسكّان المباني المستحدثة، التي تحاصر الأحياء وتنذر بالخطر الداهم: الإخلاء، تحت ضغط الحصار والظروف المتردّية والحرمان من الخدمات كما والمعاناة من التكدّس.15

وكذلك، انتُدِبَت مؤسّسات الدولة اللبنانيّة لـ "مكافحة المخرّبين" في المدينة – إذ كانت أسواق طرابلس قد سمّيت في مقدّمات الحرب "الأهليّة" اللبنانيّة: "دولة المطلوبين" – بعد لجوء الخارجين ضدّ السلطة إليها في حوادث سنوات ١٩٦٩ و١٩٧٣، لاجتناب الاستسلام إلى "جزمات الدرك وفلقاتهم وشتائمهم وإلى النوم في زرائب الحيوانات التي يدعونها سجونًا" (اسكندر 1975) – وكان قد تعمّم أسلوب التحصّن في المدينة منذ انتفاضة عام ١٩٥٨. كان قد سبق الانتفاضة، بأعوامٍ قليلة، طوفان نهر أبو علي، ومن بعده عمليّةٌ تخريبيّة استهدفت شرذمة نسيج المجتمع واختراق المدينة. إذ حين ضاقت الدولة بالمناعة ضدّ اقتحام المداهمات، استغلّت الطوفان لكي تشقّ أوتوسترادًا يتّسع للدوريّات السيّارة، قام بتخريب النهر والأحياء التاريخيّة. فطال التدمير الجزء الأعظم من المباني التاريخيّة، ولم ينجُ من مخطط "مصلحة التعمير" (أو: مصلحة التدمير) إلّا جامع البرطاسيّ، باكتشاف السكّان (صدفةً) الورشة التي تريد هدمه، وهي تضع أغراضها في باحته، فقاموا بطردها.

لكن الأهالي استفاقوا أواخر عام ١٩٥٦ على مشروعٍ أطاح بالبيوت والإنشاءات المملوكيّة عند النهر (ضنّاوي 2004) وما صعب استباحته، تُرِك للإهمال والنخر على مرّ الزمان، بواسطة قانون التصنيف التراثيّ، وشروط الترميم المستحيلة على السكّان، فتفاقمت الأزمة بانهيار المباني المتسلسل.16

هكذا استحكمت ثنائيّة رأس المال، التعمير والتدمير، بالمدينة. تعمير (المعرض) وتدمير (البساتين) – تعمير (مصالح التجار ورجال الأعمال والمهن الحرّة، والمتخصصين في قطاع البناء وكبار ملّاك الأراضي) وتدمير (نسيج صغار المُلّاك والعمال الزراعيّين). وهكذا استباح منطق النخر في نسيج المدينة، ولم يزل. ومن معالم النخر القائمة منذ عقد السبعينيّات، حتى اليوم، "جبل الزبالة" الشاهق بارتفاع ٤٥ مترًا ومساحة ٦٧ ألف مترٍ مربّع، الجاثم على صدور السكّان، عند مصبّ النهر، حيث تتسرّب عشرات الأمتار المكعّبة من رواسب النفايات إلى النهر، ومن ثمّ إلى الشاطئ والبحر كلّ يوم، وهو الكامن فيه انفجارٌ وشيكٌ، جرّاء احتباس الغازات في التربة، بانتظار أيّ اشتعالٍ كي ينتشر الغاز السامّ في عموم المدينة (مصطفى 2020).

 

رؤى الاحتضار: التنظير والتنظيم في ظلّ الاعتزال

إنّ الادّعاء بأنّ الهموم والمظالم الإيكولوجيّة غريبةٌ وغير مألوفة أو ثانويّة في ظروف العالم العربيّ، هو إفلاسٌ بيّنٌ، وكذلك هو الإذعان إلى تسوية قضيّة الفناء والإبادة في علياء الدول والمجتمع المدنيّ – حيث لا تدخل طليعة الضحايا إلّا وهم عمّالٌ مأجورون أو مسخّرون، أو معتقلون في السجون، أو ملاحقون في المنافي، أو أمواتٌ في المقابر. وإنّ هلاك الإيكولوجيا هو منطقٌ وسلوكٌ مؤسّسيٌّ، كما أنّ فعل القطيعة مع ضلالات التسوية هو منطق الثورة والخلاص. لذا، الآن تنبغي المجاهرة بأنّ معدن هذه المقالة (اليائسة) هو الكلام في الاستماتة ضدّ الإماتة، وفي العنف ضدّ الإبادة. استحضارٌ للعمل الفدائيّ والإعراض عن النشاطيّ، في فلسفة الخروج بالضدّ من الارتهان للذعر من الموت والتباكي، بل الخروج إلى المواجهة المستميتة للنصر ضدّ التمويت، كما الثورة في قاعدة غسّان كنفاني: "الثورة وحدها هي المُؤهّلة لاستقطاب الموت، وحدها هي التي توجّه الموت وتستخدمه لِتشُقّ سُبُلًا للحياة".

واليوم، ومع اشتداد الهرج والمرج في الحرب، والخراب والاختلال في موازين الإيكولوجيا، وشبح الموت على المستوى الكونيّ، المطلوب اجتهادٌ في ابتداع سياسة الثورة النقيض فيما يحاكي مشروع جنّة، لا جنينة – أو فلتكُن جنينةً كونيّة.

وللانعتاق من شريعة التسوية في مسائل الحياة والممات، نتلمّس التمكين في التنظيم القاعديّ من خلال دراسة التجارب المحقّقة. كما "الإدارة الذاتيّة الديموقراطيّة" في شبه الجزيرة الفراتيّة، شمال شرقيّ سوريّا، حيث تجري سياسة اجتماع المدن والأرياف على قواعد تمكين الجمهور في الاقتصاد والسياسة، من خلال تعميم حقّ الاستفادة من موارد الرزق، كما والقبض على زمام التدبير والقرار بالنزول عند مصالح الجماعة والإجماع في تأسيس المجتمع الديموقراطيّ، عبر تكوين مجالس الإدارة الذاتيّة خارج سلطة المركز. كذلك كان نموذج حراك عمّال وصيّادي "إدكو"، شمال محافظة البحيرة، في مصر، بالاحتشاد ضدّ حلف شركة "بريتيش بتروليوم" (BP) والعسكر والإخوان المسلمين، عام ٢٠١٣، حين مُدّت المواسير في البحر وصرّفت سوائل المخلّفات في البحيرة، وبهذا هجر السمك المنطقة، فانقطعت أرزاق الصيّادين. استعانت الشركة بالقوارب الحربيّة كي تمنع أولئك من الاصطياد في المياه التي استولت عليها، كما استولت على الغاز والنفط بالرُخص، بالتسليم والمباركة من المحافظ والحكومة – فانصرفت الشركة بعد إصرار الحراك الشعبيّ في رفض التهجير والتسميم، وانتصارًا لما هو الأصلح للمنظومة البيئيّة في المنطقة.17

ومن الاجتهادات في التنظير، دعوة جميل أكبر إلى استصلاح مفهوم الإسلام عن الشراكة في ثلاث: الماء والكلأ والنار. فأمّا الشراكة في الماء هي اختصارُ الشراكة في حقّ الحياة، وكلّ ما دونه الموت، كالغذاء والدواء. وهي في النار اليوم اختصار الشراكة في المعارف والتقنيّات النافعة، التي (كمثل الشعلة) لا تنطفئ ولا تنقص إذا امتدّت للغير. أمّا الشراكة في الكلأ، وهو العشب الأخضر واليابس في اللغة، تختصر الشراكة في حقّ الانتفاع من موارد الرزق والإنتاج بدون احتكار، المعمّرة منها كالمعادن والبذور، والموات منها كالأراضي المتروكة. إذ وكما أورد في إعلان البراءة من مفهوم براءة الاختراع (أكبر 2017)، ومن ثمّ احتكار الدواء ومناهج العلم في العمل على كسب الرزق، فإنّ الأزمة متأصّلة في مغالطة عزل الملكيّة الفكريّة عن الاستئثار بأحقّيّة استخراج المواد الخام، كما فصل الأمراض والأوبئة عن سياسة الاستثمار في العمران.

وفي الإصرار على اشتراك الأمم في الخيرات والمعارف والموارد، بما هو الإصرار في الإنسانيّة، وباختلافنا عن جميل أكبر في اقتصاره مقاربة المشروع الشيوعيّ بأنّه مذهب الدَولَجِيّة، فإنّنا لا نعرف اسمًا آخرًا للإصرار في شراكة العلوم والمعرفة، وموارد الرزق والإنتاج، والغذاء والدواء، غير: الاشتراكيّة.

ملحوظات: 
المراجع: 

Alatout, Samer. “Towards a Bio-Territorial Conception of Power: Territory, Population, and Environmental Narratives in Palestine and Israel.” Political Geography 25, no. 6 (2006): 601-621.

Davey, Melissa. “WHO warns Covid-19 pandemic is ‘not necessarily the big one’.” The Guardian, December 29, 2020. https://www.theguardian.com/world/2020/dec/29/who-warns-covid-19-pandemic-is-not-necessarily-the-big-one

Galnoor, Itzhak, and Blander, Dana. “The State and Its Meaning, The Formative Early Years of the State (1948–1953).” The Handbook of Israel’s Political System. Cambridge University Press, 2018.

Mbembe, Achille. Necropolitics. Duke University Press, 2019.

MIFTAH. “Olive Trees – More Than Just a Tree in Palestine.” The Palestinian Initiative for the Promotion of Global Dialogue and Democracy, 21 November 2012. http://www.miftah.org/Doc/Factsheets/Miftah/English/factsheet-OliveTrees.pdf

Žižek, Slavoj. Heaven In Disorder. Verso Books, 2021.

آدم هنيّة. جذور الغضب، ترجمة عمرو خيري. صفصافة للنشر، ٢٠٢٠.

إيلان بابه. الاستعمار الافتراضيّ والصندوق القوميّ اليهوديّ، محو ذكرى النكبة، التطهير العرقيّ في فلسطين، ترجمة أحمد خليفة. مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، ٢٠٠٧.

بشير مصطفى. جبل نفايات طرابلس - كارثة بيئيّة متوقّعة شماليّ لبنان. العربيّ الجديد، ٢٧ كانون الأوّل ٢٠٢٠. https://tinyurl.com/yc5j32cr

جميل عبد القادر أكبر. براءة الإسلام من براءة الاختراع. ٢٦ آذار ٢٠١٧. https://www.researchgate.net/publication/315729029_brat_alaslam_mn_brat_alakhtra

طلال منجّد. مجتمع النهر في طرابلس. الجامعة اللبنانيّة – معهد العلوم الاجتماعيّة – الفرع الثالث، ١٩٨٨.

عرب 48. هل يجفّ البحر الميّت قريبًا.؟ ٦ تشرين الأوّل ٢٠٢١. https://tinyurl.com/4eb36287

فوّاز طرابلسي. الاقتصاد والطوائف في نشوء "لبنان الكبير". بدايات، العدد ٢٨ - ٢٩، ٢٠٢٠. https://bidayatmag.com/node/1240

كريبسو ديالو. "أقنعة خضراء": أزمة المناخ في إفريقيا تخلق فرصًا جديدة للنهب. مجلّة حبر (إلكترونيّة)، ١٢ آذار ٢٠٢٣. https://tinyurl.com/mm9ks2d9

كريستينا أبو روفايل. السكّان في مواجهة مشاريع الضمّ والفرز: حيّ التنك في الميناء مثالًا. استوديو أشغال عامّة، ١١ شباط ٢٠٢٢. https://publicworksstudio.com/residents-facing-land-consolidation-and-parcellation-projects/

كريستينا أبو روفايل. طرابلس "مدينة أثريّة" على حساب سكّانها. استوديو أشغال عامّة، ٢ نيسان ٢٠٢٢. https://publicworksstudio.com/tripoli-a-heritage-city-at-the-expense-of-its-residents/

لمى شحادة. حين يعطش الغرباء. عرب ٤٨، ١٢ كانون الثاني ٢٠١٩. https://tinyurl.com/yuh84vax

محمد علي ضنّاوي. أكرم عويضة، قضايا ومواقف: معالم مدينة في القرن الـ ٢٠. دار مكتبة الإيمان، الطبعة الثانية، ٢٠٠٤.

محمد محمد مرسي علي. تأثيرات إيرانيّة وتركيّة على عمارة مدينة طرابلس الشام في العصر المملوكيّ. مجلّة العمارة والفنون، العدد السابع، 2017. https://sciences.univeyes.net/journals/mjaf_journal/article_21278_720d901d557a8aade198d3eb2507cb3a.pdf

مروان بحيري. دور بيروت في الاقتصاد السياسي للانتداب الفرنسي: ١٩١٩ - ١٩٣٩. بدايات، العدد ٢٨ - ٢٩، ٢٠٢٠. https://bidayatmag.com/node/1252

منظمة العفو الدوليّة. الاحتلال الإسرائيليّ: ٥٠ عامًا من السلب، ٢٠١٧. https://www.amnesty.org/ar/latest/campaigns/2017/06/israel-occupation-50-years-of-dispossession/

نجيب اسكندر. رئيس دولة المطلوبين يروي قصته ورفاقه. جريدة النهار، ١٠ تشرين الثاني ١٩٧٥. https://www.attamaddon.com/2018/04/article-2859.html