أنا لست أما إذن أنا غير موجودة

السيرة: 

شيرين أبو النجا أستاذة لغة إنجليزية وأدب المقارنة في جامعة القاهرة، وهي ناقدة أدبية. وقد نشرت كتب (عربية وإنجليزية) ومقالات أدبية نقديّة في مجلات علمية، مع التركيز بشكل خاص على الجندر. واعية بموقعيّتها في العالم الثالث، أبو النجا تنظر إلى العالم من منظور النسوية الاشتراكية. خلال دراسة اللقاءات بين/عبر ثقافيّة في الأدب والفنون، في ذروة العولمة والاستياءات التّي تتبعها، تعكس موقفها، وتضيف إلى حقل الدراسات الثقافية/الجندريّة. هي مهتمّة بقراءة مظاهر النظام الأبوي الجديد والليبرالية الجديدة التّي من شأنها أن تعجّل ظهور"النص الجديد"، علامة مقاومة قوية.

اقتباس: 
شيرين أبو النجا. "أنا لست أما إذن أنا غير موجودة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 4 عدد 2 (2018): ص. 212-218. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 11 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/im-not-mother.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (476.89 كيلوبايت)

Cover Website.jpg

رسومات زينة حمادي 2018 ©

كم عدد المرات التي تلقيت فيها السؤال همسا: "كم لديك من الأبناء؟" هو سؤال في الأغلب تطرحه امرأة، انطلاقا من فرضية يقينية أنني أم وعليه فالاستفهام هنا يكون عن العدد فقط، أمر بهذا الموقف في مصر بشكل كبير وفي قليل من البلدان العربية بشكل أقل. وعندما أُعلن أنني لست أما لأحد، يتراوح رد الفعل بين مواساة دينية أو ابتسامة جوفاء مرتبكة أو شبح صدمة نابعة من عدم الفهم. سأتجاوز الآن مشروعية طرح السؤال، فنحن النساء اللواتي نعيش في المجتمعات العربية تعلمنا منذ الصغر أن حياتنا لابد أن تكون مكشوفة، بالرغم من تفاوت تفاصيل حياتنا من الفلسفي إلى الحياتي والعابر إلا أن كل الأمور تتساوى. وبما أنني لم أفتخر بصور أبنائي التي كنت قد خزنتها على تليفوني المحمول تنعدم مساهمتي الثقافية والاجتماعية ويبدو وضعي مشكوكا فيه، ما الذي قدمته تحديدا لهذا المجتمع؟ نعم، يبدو الأصل في المسألة أنني أم وغير ذلك هو استثناء. أكاد أقول أن الأمومة في حد ذاتها – أي دوري كأم – أصبح متعلقا بالطبقة، فيما يعني أن غياب أمومتي يخلخل تناسق وتماسك الطبقة (تماما كما كان الحجاب تاريخيا مفروضا على الحرائر من النساء). لابد أن نبرر للجميع لماذا نحن غير متزوجات أو زوجات دون أبناء، لماذا نحن لسنا أمهات، لماذا لم يقم جسدنا بالعمل المنوط به.

لكن ما معنى/مغزى/هدف السؤال عن عدد أبنائي (الافتراضيين)؟ وما سبب الاحباط من كوني لست أما؟ لكنني زوجة، ألا يكفي ذلك لوضعي في خانة اجتماعية آمنة بها مسحة من الفضيلة؟ بالتأكيد ليس كافيا لأن الزوج ليس إلا وسيلة تساعدني لأنتقل إلى المرحلة الأسمى: أم. ليس كافيا حتى لأمي التي ارتأت بكثير من الحزن الممزوج بنظرات الشفقة أنها "مشيئة الله" فحملتني عبئا نفسيا تجاهها. إذ أنها تشعر بدورها أنها قصرت فلم تمنح المجتمع ابنة قادرة على القيام بالدور المتوقع، تسببت لأمي في شعور بالخذلان. كوني لست أما يعني أن هناك خللا في وجودي، نقصانا في ذاتيتي الاجتماعية، عوارا يشوب أهلية حيثيتي الانسانية، وغموضا يشوب مقدرتي على الحياة. الأنا الخاصة بي لا تكفي لأن تجعل مني انسانا يحيا في العالم بمفرده المتعددة، لابد من استلهام الوجود من آخر، طفل أو أطفال: أربيهم، أتماهى معهم، أضحي من أجلهم، أتحمل كل السخف من أجلهم، أتوهم غرقهم، أعاقبهم، أحقق فيهم أحلامي، أسقط عليهم رغباتي، أحمل صورهم في حقيبتي، أبكي من أجلهم وأحمل همومهم. أنا لست أما إذن أنا لست موجودة. أنا غير المكتملة، أنا التي لم تصطف مع الأمهات، أنا التي تخطط حياتها بدون أخذ الأطفال في الاعتبار، أنا لست أما إذن أنا غير موجودة.

كيف أفسر عدم قيام جسدي بما هو مطلوب منه في ثقافة تقوم على ابتزاز عاطفي بين الأم وأطفالها؟ كانت الرحلة صعبة وجبلية كما تصفها فدوى طوقان، وتكمن صعوبتها في الخوف من السؤال، من الرفض والنبذ، والأهم هو الحيرة أمام التناقضات التي يتعثر عندها العقل قليلا حتى يتمكن من تجاوزها أو ايجاد حلول تلفيقية لها أو رفضها بشكل كامل، وهذا الرفض لا يأتي إلا عبر منظومة فكرية صارمة تقبل وترفض من أجل الوصول إلى الاتساق النسوي. كيف أعبر من نفق النقصان إلى نفق الاكتمال مع ذاتي؟ كيف أحول ما يُنظر إليه على أنه هامش إلى متن يملؤني؟ كيف أقبع في منطقة بينية، ليست هنا أو هناك دون أن أتورط في العبء النفسي أو الاحساس بالتقصير أو الادانة بالشرح؟ أدركت في وقت متأخر أن العقبة الرئيسية في طريق تصالحي مع ذاتي هي نظرات أمي التي تحمل أسئلة ويدها التي تحمل عناوين الأطباء القادرين على المعجزات، أرادتني أن أقضي حياتي (وربما مماتي) في البحث عن مساعدة لجسدي، وأدركت أيضا أن استجابتي في البداية كانت من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها. فاستجابتي تعني رغبتي في تحفيز جسدي على تأدية عمله، ولكنه جسد عنيد، يعي تماما أنه مجبور على ما يفعله فيرفض، لأعود وأتلقى الكثير من الشفقة والدعاء والمواساة التي كانت تسبب لي الكثير من الغضب. كان لابد أن أستلهم أمثلة من أخريات تجاوزن وعبرن أمهاتهن، أخريات لم يردن أن يدخلن في منظومة الأمومة القسرية. في لحظة المواجهة مع الذات أدركت أنني لست وحيدة، وإلا ما معنى السنوات التي قضيتها مع كتب كانت تثير سخرية من حولي؟ إذا لم تقدم لي تلك القراءات عونا فهذا يعني أنها لا تساوي شيئا. ومن هنا تبلورت الفكرة شيئا فشيئا، لماذا لا أجعل مفهوم الأمومة الشائك موضوعا لكتاب؟ بالتأكيد هناك نساء في العالم كله من كن أشجع مني في مواجهة الأمر، حتما سأجد السند لديهن. وبدأت رحلة البحث، وكان ما وجدته يفوق أحلامي المحدودة.

قدمت سيمون دو بوفوار – الفيلسوفة الفرنسية – تفاصيل رحلتها في العبور من المنطقة المسيجة بالأعراف والتقاليد إلى منطقة أكثر رحابة وأكثر تحررا وذلك في مذكراتها التي نشرتها عام 1958 بعنوان "مذكرات فتاة رصينة". نشأت دو بوفوار في بيئة تعتبر الرصانة فيها هي الأصل لتشكل الأنوثة، فقد كانت محاطة بعاملين من الصعب مواجهتهما: بيئة كاثوليكية محافظة وقد تجلت بتطرف في الأم، وعائلة – نووية وممتدة – بورجوازية حتى النخاع. فكان العبور يستدعي تجاوز الأم والدين والطبقة. لم تكن المنظومة التي يتوجب عبورها سهلة، فهي تأخذ شكل المثلث الذي يحاصر العقل بدونية النساء "الطبيعية"، والنفاذ من أي ثغرة له عواقب وخيمة: فتجاوز الأم يعني الشعور بالنبذ والانفصال العنيف، وتجاوز الدين يعني الشعور بالإثم ومعاناة الرفض من المجتمع، أما تجاوز الطبقة فهو ما كان يعد في فرنسا العشرينيات بمثابة جنون مطبق. كان الحل الأمثل بالتالي هو التعامل مع المنظومة الدينية التي تخلص العقل من الشعور بالإثم. لم يكن سهلا لطفلة اعتادت الذهاب إلي الكنيسة ثلاث مرات أسبوعيا والاعتراف شهريا أن تتخلص من ذلك، كما أن الأسرة لم توفر أي دعم لهذا العبور، فكانت الفلسفة هي الملاذ والملجأ. لا تتوانى دو بوفوار عن طرح كافة التناقضات التي عانت منها وتشرح بدقة الكيفية المعرفية التي تمكنت من خلالها من اتمام رحلة العبور والتخلي بشكل كامل عن المفاهيم التي تنظم الجندر في مجتمعها. إلا أن مواجهة الأم كانت أصعب عقبة واجهتها دو بوفوار، فدون هذه المواجهة، ما كان من الممكن أن تقدم كتابها المعروف "الجنس الآخر". وعندما أفهمت أمي بكل الطرق الممكنة أنني لن أحقق لها حلمها المنشود وأنني سعيدة للغاية (مما استدعى بعض التصنع لأن وجود امرأة سعيدة للغاية لهو أمر مستحيل) انزاح عني الكثير من العبء. ثم أدركت أن سعادتي تعني لها استمرار رضا الآخر عني، فكان على زوجي أن يؤكد لها أن كل شيء على ما يرام، بمعنى آخر، كان عليه أن يؤكد اعترافه بي كفرد مستقل، كان عليه أن يُظهر للجميع أنني موجودة!

كتبت فاطمة المرنيسي – عالمة الاجتماع المغربية – ما يشبه المذكرات بعنوان "نساء على أجنحة الحلم" عام 1994. إلا أنها لا تشبه ما كتبته دو بوفوار. إذ يأتي السرد من وجهة نظر طفلة في السابعة تعيش في حريم في مدينة فاس، وهو ما يفتح المجال للعديد من الأصوات النسائية التي تُشكل هذا الحريم. والحريم هو ما يُعادل الأسرة الممتدة التي تضم عدة أجيال من النساء، وبالتالي تتشابك علاقات القوى التي ترتبط بالمكانة الاجتماعية والسن والطبقة. لكن العقبة الرئيسية تتجلي في كون نشوء فكرة الحريم على أساس ديني يجعل هذا المجال المغلق هو المساحة الوحيدة المتاحة للنساء، فإذا كانت الرصانة هي السلوك الطبيعي لتشكل الأنوثة في فرنسا فإن الالتزام بقواعد الحريم الذي يتشابك ويتداخل مع أفكار عقائدية يبدو هو العقبة في طريق العبور. إلا أن كلا من السياقين – الفرنسي والمغربي – قاما على أسس دينية – الكاثوليكية والاسلام – ترسخ مكانا محددا للنساء. وبالرغم من دعم الأم لابنتها فاطمة وتشجيعها على كسر منظومة الحريم، إلا أنه كان هناك عامل إضافي في المغرب يُصعّب من رحلة العبور: الاستعمار الفرنسي والإسباني. الحفاظ على الهوية يعني الابقاء على وضع النساء دون مساس عبر الابقاء عليهن داخل الحدود المفروضة والتأكد من التزامهن بها. كان على فاطمة – الطفلة ذات السابعة – أن تحاول العبور من داخل المنظومة الدينية التي تُكرس لفكرة الحريم، فجاءت الأسئلة "الطفولية" التي تطرحها على النساء بمثابة طرقات عبور من ناحية أو تحديات أو هي أسئلة تكشف التناقضات الكامنة داخل الفكرة ذاتها فتتحول إلى ثغرات عبور.

يقدم النصان نفسهما كوثيقة ترصد العلاقة المتداخلة بين المجالين الخاص والعام من ناحية رؤية المجتمع الدينية والمؤسسية لما يجب أن يكون عليه وضع النساء قسرا: ابنة، زوجة، أم. لا يغفل أي نص دور الأم – ما إذا كانت قد سهلت الرحلة أم وضعت عوائق أمام العبور. فكانت أم المرنيسي تقول لابنتها: "عليك أن تتعلمي الصراخ والاحتجاج كما تعلمت المشي والكلام، إذا كنت تبكين حين تسمعين السباب فكأنك تطالبين بالمزيد" (17)، بالطبع أحيانا ما يتوجب علينا أن نكون كالقطط المتنمرة بغض النظر عن الأسباب التي تسمح لشخص ما أن يعنفنا. وتقول دو بوفوار عن أمها، أنها "كانت في لحظة، وحتى في أعمق أسرار قلبي، شاهدي، ولم أكن أميز قط بين نظرها ونظر الاله. ومن أجل هذا، كنت أعتقد أن بوسعي، بل من واجبي، أن أساويها بالتقوى والفضيلة" (13-14). إلا أن دور الأم لا يقوم منفردا بدون تعزيزات، بل هو مدعوم من قبل الطبقة والدين والمكان. فالأم بوصفها امرأة خاضعة لنفس القيود المجتمعية وملتزمة بنفس مفاهيم الجندر قد تقوم بدور إعادة انتاج وترسيخ القيم الذكورية – كما هو الحال مع أم دو بوفوار وأم صديقتها ظاظا – وبالتالي تعلن رفع يد الحماية عن الابنة، رمز العقوق وخيبة الأمل، أو قد تكون داعمة للابنة – كأم المرنيسي – مُعولة عليها الآمال في تشييد مستقبل مختلف عن الحريم، لكنها في الوقت ذاته خاضعة قهرا لسلطة أمهات أخريات في الأسرة الممتدة يتمتعن بسلطة ما. وبالتالي فإنه عبر القراءة المتأنية لدور الأم ومواقفها المتسقة أو المتغيرة أو المتناقضة أحيانا بفعل عوامل مجتمعية أو سلطوية أو نفسية يُمكن فهم جوهر رحلة العبور وتتبع سردية التمرد التي يتم نسجها تدريجيا.

لكن ماذا عن معاناة المرأة في الأمومة القسرية؟ يبدو كتاب "عن المرأة المولودة" (1976) للشاعرة الأمريكية إدريان ريتش (1929-2012) من أفضل المصادر في هذا المجال. ظهر الكتاب في وقت لم يكن يدور فيه أي حديث عن الأمومة، بل كان هذا الحديث في حد ذاته مستهجنا لوجود رؤى مجتمعية ثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين بشكل عام والأدوار المنوطة بها الأم بشكل خاص مع افتراض الغيرية الجنسية بالطبع. وبالرغم من ذلك فقد تعرضت كل المكاسب المجتمعية التي حصلت عليها النساء في أمريكا لهجوم شديد في الثمانينيات وقام معسكر المحافظين بشن حملات عنيفة ضد حقوق النساء. في الوقت ذاته تعرض الكتاب عند صدوره للكثير من الهجوم بسبب أسلوبه الذي يعتمد على التجربة الحية والبحث العلمي المنتجين لرؤية نظرية، إلا أن ريتش أكدت في مقدمة 1986 أن ذلك هو أسلوبها في الكتابة، فالتنظير يخرج من قلب التجربة المادية والشرط الانساني، وقد اختارت أن تكون تجربتها الحية هي نقطة الانطلاق. لكن الأمر لم يكن معتادا بالطبع في السبعينيات، خاصة أنه تقريبا أول كتاب يتناول تجربة المرأة بوصفها أما تتعامل مع كافة أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة دور وصورة النساء في العائلة. وربما ينبغي التأمل في الاهداء الذي افتتحت به الكاتبة عملها: "إلى جداتي، اللواتي بدأت أتخيل حياتهن، وإلى المناضلات اللواتي يعملن على تحرير أجساد النساء من قيود بالية وغير مهمة". حتى يومنا هذا يحتفظ الكتاب بأهميته، خاصة أن الكاتبة عرضت الأزمة التي خاضتها في كونها أما وكاتبة. وانطلاقا من هذه الرؤية يبقى الكتاب صالحا للقراءة والتأمل في بيئات مغايرة زمنيا وجغرافيا مع اختلاف الثقافات، ويرجع ذلك للتفاصيل الحميمية اليومية التي سردتها ريتش لتوضح الضغط الهائل الذي كانت تعاني منه... حتى أن الشاعرة المصرية ايمان مرسال اقتبست منه وأشارت إليه في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" (2017). تعمل ريتش على تحليل رؤية الثقافة الذكورية الراسخة لدور الأم وكيفية تعاطي النساء مع هذا الخطاب المؤسسي، وتحرص على التأكيد أنها لا تهاجم الأمومة (وهو اعتذار استباقي مبطن كان لابد منه ليمر الكتاب في سبعينيات أمريكا) بل هي تعمل على تفنيد الخطاب الذي نُسج عنها. من المهم تذكر هذا التأكيد عندما نقرأ المقال الذي نشرته ريتش عام 1980 بعنوان "الغيرية الجنسية القسرية ووجود المثليات"، وفندت فيه عدم قدرة النساء على اختيار توجهاتهن الجنسية والكيفية التي تتحول بها الغيرية الجنسية إلى أداة استغلال لأجساد وعمل النساء. وبسبب الهجوم الذي تعرض له المقال كتبت ريتش في عام 1984 مراجعة للمقال بعنوان "تأملات حول الغيرية الجنسية القسرية" وقالت أن مقالها الأول كان "محاولة استكشافية". إلى أي مدى يمكن أن نواجه الهجوم على أفكارنا؟ نحتاج دائما إلى الآخر الذي غالبا ما يكون مختلفا معنا، نعود في لحظة لنطلب الدعم من الثقافة السائدة. نشعر بالتعب. نبكي في لحظات ضعف. لا نرغب في الوحدة المطلقة في البرية.

لم يقتصر بحثي عن العون في المذكرات بل امتد ليشمل الكتابات الأدبية من شعر ورواية، وأعتقد أنني قد أبحث في كل أشكال التعبير الفني. وجدت في الشعر الكثير من الاجابات وبالتالي السند والدعم. لفت نظري الصوت الشعري النسوي الذي ظهر بعد ثورة 25 يناير، واضحا في تمرده على الثقافة الأبوية السائدة، ومشتبكا مع الأب بشكل واضح. يبدو أن طرح الأمومة لهدير الأسئلة لهو من علامات الاشتباك مع السائد. فعلى سبيل المثال، تبدأ الشاعرة المصرية سارة عابدين (المقيمة في القاهرة) حوارا لا ينتهي مع الشاعرة المصرية مروة أبو ضيف (المقيمة في كندا) عبر رسائل شعرية متبادلة علي موقع الفيس بوك. تحولت الرسائل إلي ديوان بعنوان "وبيننا حديقة" صدر في 2017. لكن الجدة هذه المرة تأتي من التعامل النسوي مع التفاعل الشعري، فالأمر لا يحمل شبهة تنافس أو استعراض مهارات تسعى إلى الحصول على صيحات إعجاب أو نظرات استحسان، بل هو حوار عميق ينبش طبقات الحزن المتراكمة ويزيل من عليها الغبار ليحولها إلى قصيدة طازجة، فتتحول القصيدة إلى فكرة. وهو حوار لا يغفل بقية أفراد الأسرة الأمومية، فيبدأ الديوان باقتباس من قصيدة آنا سوير البولندية التي ترجمتها الشاعرة ايمان مرسال في كتيبها المذكور أعلاه. تزرع الشاعرتان – سارة ومروة – حديقة مليئة بأشباح الأمومة وآلامها وأفراحها وأوجاعها. لكن الديوان ليس عن الأمومة – تلك الحالة النبيلة الطوباوية التي تتلبس النساء في يوم وليلة – بل هو عن الذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، ورطة كاملة لا يشبهها سوى الوضع الذي اختاره الفنان رودان لعمله الرائع الذي أسماه "المفكر"، في الوضع الذي جلس فيه المفكر تظهر ورطة الوجود الانساني بأكمله. ورطة الأمومة لا مخرج منها إلا بها، ولا سبيل إلى المغادرة ولا سبيل إلى العودة إلى الذات السابقة عليها. هي ورطة تدفع سارة عابدين ومروة أبو ضيف إلى نبش تلك الفجوة بين ذات سابقة وذات حاضرة.

لكل كاتبة بيئتها المكانية وسياقها النفسي، فتقول ريتش "أصبحت أما في أمريكا الخمسينيات حيث مركزية العائلة والمجتمع الاستهلاكي والتوجه الفرويدي" (25). إنها أمريكا ما بعد الحرب التي تحفر الفكر الحداثي، أما سارة فتكتب في زمن مغاير يجعلها تشعر بالخوف "الأخبار تقذف الخوف في قلبي كل يوم"، ومثلها مروة التي تقرأ العالم بيأس: "لقد جن العالم يا سارة/ ليس من المنطقي الآن أن نتحدث عن حرية أو عدالة أو ثورة" (112).

وفي حين يُعد كتاب ريتش بمثابة فتح أفق ثوري في النظرية النسوية في السبعينيات، ولا يخلو كتاب صدر بعده عن الأمومة في مجال النظرية الاجتماعية النسوية من الاشارة إليه، فإن ديوان سارة عابدين ومروة أبو ضيف يٌعد أيضا بمثابة حجر ضخم تم القائه في مياه راكدة. فإذا كانت مسألة الأمومة قد تم التنظير لها بكثافة في الغرب، لا يزال المتن الثقافي في منطقتنا يرفع شعار تمجيد الأمومة، ولا تكتمل المرأة سوى عبر كونها أما لأحد. كل مسار الحياة لا يهم، أي انجازات لا تُحتسب طالما لم تكتسب المرأة صفة الأم، وهكذا تحتل الأمومة المساحة بأكملها ولا تبقي مكانا للذات المتفردة، فتقول مروة: "الأمومة: محاولة تجريد من الخصوصية، وربما الآدمية يا سارة" (90)، وتقول سارة بشكل مباشر: "حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلي هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس" (130). الذات التي كانت في الأصل متعددة، وأحيانا منقسمة تحولت قسرا إلى مسار أوحد يلبي صورة الأم، وهي الصورة التي وقعت ريتش في أسرها مع طفلها الأول، فقد أدركت أنه مطلوب منها أن تقوم بعدة أدوار، المرأة العاملة طبقا للحداثة في الخمسينيات والزوجة المثالية، "شعرت أن هناك أشكال الهاء زائفة تنخر في روحي، وأردت بشدة أن أعود لما كنت عليه من قبل" (27). مع الطفل الثالث كان وعيها قد نضج فكان القرار أن تعيد تشكيل حياتها لتنتشلها "من الانجراف والانقضاء مع الزمن" (28).

أنا أيضا لن أنجرف، أنا موجودة ولست أما لأحد... أنا موجودة.

 

ملحوظات: 
المراجع: 

Mernissi, Fatima. Dreams of Trespass: Tales of a Harem Girlhood. Reading, Massachusetts: Addison-Wesley, 1994.

Rich, Adrienne. “Compulsory Heterosexuality and Lesbian Existence.” Signs, vol. 5, no. 4, 1980, pp. 631-660.

Rich, Adrienne. Of Woman Born: Motherhood As Experience and Institution. New York and London: W. W. Norton & Company, 1986. (First published 1976).

Rich, Adrienne. “Reflections on ‘Compulsory Heterosexuality’.” Journal of Women’s History, vol. 16, no. 1, 2004, pp. 9-11.

Tuqan, Fadwa. A Mountainous Journey: A Poet’s Autobiography. Trans. by Olive E. Kenny. Minneapolis, Minnesota: Graywolf Press, 1990.

ايمان مرسال، كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها. الكتاب الرابع في سلسلة "كيف ت"، 2017.

سارة عابدين ومروة أبو ضيف، بيننا حديقة. القاهرة: دار نشر روافد، 2017.

سيمون دي بوفوار، مذكرات فتاة رصينة. بيروت: دار العلم للملايين، 1959.