صرخةٌ مكتومةٌ: العواطف الكويريّة في “جيش الخلاص” لعبدالله الطايع
يقدّم هذا المقال قراءةً لجيش الخلاص لعبدالله الطايع، وهو فيلمٌ يشابه السّيرة الذاتيّة ويؤرّخ لرحلة بلوغ طفلٍ مغربيّ من خلال عواطفه الكويريّة. تدور أحداث الفيلم في المغرب وسويسرا، ولا يظهر فيه بطل الطايع مقموعًا أو ضحيّةً للظروف البطريركية والإقتصادية – الإجتماعية التي تحكم وجوده. وتبدو جنسانيّته ساذجةً ومنحرفةً، ومستغَلّةً ومستغِلّة. تنهار المعرفة الكويريّة في هذا الفيلم على مستوياتٍ عدّة، ويتجلّى أثر هذا الضياع في إصرار الفيلم على قراءة هذه السرديّة خارج المعرفيّات/الإبيستيمولوجيات الجنسية البسيطة.
يعرّف هذا المقال مصطلح “كوير” لا كمَيلٍ جنسيّ فحسب، بل كعلاقةٍ عاطفيةٍ بالفقدان. فالعواطف الكويريّة المنقولة في آثار الكائن الجنسي، تقاوم ترويضَ الجنسي في سبيل الإعتراف الإجتماعي. هي أجزاؤنا تلك التي ترفض أن تُستَعمَرَ لتغدو موضوعاتٍ أليفةٍ ومستقيمة. في جيش الخلاص، يكبر البطل ليغدو مثليًا بالمعنى الذي نفهمه الآن، لكن ذاتيّته تبقى متباينةً وفي حالٍ من الحداد.
لين هاشم كاتبة ومؤدّية نسوية تعيش في بيروت. حازت على شهادة الماجستير في علوم الجندر والجنسانية من جامعة لندن، وهي جزءٌ من مجموعاتٍ نسويةٍ عدّة في لبنان والمنطقة. نُشرت كتاباتها وترجماتها في عددٍ من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من بينها ملحق "شباب السفير" ومجلة "كحل" لأبحاث الجسد والجندر. عملت كمدرّبة ومستشارة وباحثة في عددٍ من المؤسسات من بينها "فريدا: الصندوق النسوي الشاب" والجامعة الأميركية في بيروت. تشارك باستمرارٍ في أمسياتٍ شعريةٍ ومهرجاناتٍ فنيةٍ في لبنان والخارج. في أيار 2018، كتبت عرض "المسافة الأخيرة" وأدّته مع الفنان والراقص ألكسندر بوليكفتش في ختام معرض "رسائل حب إلى ميم" من تنظيم ديمة متى في بيروت، ثم في بلفاست وكتماندو. تعمل حاليًا على نشر مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "حقد طبقي".
يقدّم الفيلم الأول لعبدالله الطايع بعنوان جيش الخلاص قصّةَ فتًى مثليّ في رحلة البلوغ. والفيلم الذي عُرِضَ في عدّة مهرجاناتٍ عالميّةٍ (تورونتو، البندقية، ريكجافيك، نامور، ساو باولو وجنيف) مقتبسٌ من رواية تحمل العنوان ذاته وتروي السيرة الذاتية للمخرج. وتدور أحداث الفيلم في المغرب وسويسرا، وهو يقدّم تمثيلًا جريئاً للمثليّة الفتيّة. لكن ما يجعل الفيلم بارزًا من البداية، هو كونه تمثيلًا صريحًا وغير حذرٍ للجنسانيّة الكويريّة في العالم العربي. الطايع هو شابٌ مغربيّ مثليّ يندفع بوعيٍ وتصميمٍ كاملَين لتحدّي المجتمع المغربي من خلال فيلمه (Knegt, 2013). وممّا يبدو، لا تعتمد مقاربته على كبح الواقع أو سحقه، كما أنه مدركٌ أن الكثيرين/ات قد يجدون فيلمه صادمًا. بالطبع، ليس من السهل مشاهدة قصّة بطله الفتيّ الذي يتخلّل العنفُ والإنتهاك واقعَه. لكن بحسب كلمات الطايع: “لستُ الوحيد الذي عاش هذا الواقع، كما أني لستُ الوحيد الذي يراه” (Forsch 2013، م. 9). ويلمّح الطايع هنا إلى ما قاله آخرون: الجنسانية في العالم العربي لا تُسوّى عبر بُنى الخطاب والمعرفة، بل من خلال أنماطٍ غير محكيّةٍ من التعبير ((Massad, 2007. ويولَد هذا التباين من تقليدٍ يؤثر التجربة والتعبير الجمالي على اللغة، ويُفرض على شكل عقيدة من الصمت، لا سيّما على أولئك الذين/اللواتي يحتاجون لأن تكون رغباتهم/ن ملحوظةً بأمانٍ من دون تهديدٍ بالأذى. لكن هذا التمييز بين التسوية والصمت يغدو أيضًا أداةً للقمع.
بالنسبة لكثيرين/ات، إن الصمت الثقافي الذي يحيط بالجنسانية العربية يأتي بكلفةٍ عالية. في الفيلم، يعيش البطل عبدالله هذه الكلفة العالية، اذ تبدو قصّته بسيطةً لكنها تتّسم بالكثافة والتعقيد العاطفي. وكما سأبيّن في هذا المقال، ليس عبدالله مقموعًا ولا ضحيّةً للظروف الإقتصادية – الإجتماعية والبطريركيّة التي تحكم وجوده. هو ساذجٌ ومنحرفٌ، ومستغَلّ ومستغِلّ. وفي زمنٍ تسهل فيه قراءة الجنسانية العربية من خلال الثنائية الحضارية للشرق والغرب1، يبدو فيلم الطايع محرّرًا من عبء سياسات الجنسانية، فهو لا يقف موقف المدافع عن القمع الجنسي العربي، لكنه في الوقت عينه لا يُموضِع الثقافة المثليّة الغربية كفاتحةٍ للحريّة. بالطبع، ليس في جيش الخلاص أيّ أبطالٍ كويريين أو مسار واضح يعِد بأوقاتٍ أفضل، فالمعرفة الكويريّة فيه تتجزّأ على مستوياتٍ عدّة. هذا الفيلم الذي يلقي بثقله على المشاهد/ة، يتّسم بسوداويّةٍ متعنَتةٍ، ويصفه ناقد الأفلام دييغو كوستا على نحوٍ موفّقٍ بالقول: “إنه فيلمٌ يشبه الإرتطام، ويحتضن ببهاءٍ وإتقانٍ بشاعةً أن يكبر المرء وفي حلقه رغبةٌ عالقةٌ كصرخةٍ مكتومةٍ” (2014، م. 1).
يقتبس الفيلم بنية الرواية ذات النطاقًين، فالنصف الأول يؤرّخ لمراهقة عبدالله الكويريّة في بيته في حيّ فقيرٍ في كازابلانكا، أما النصف الثاني فيتقدّم في الزمن عشر سنينٍ إلى الأمام، حين يصل عبدالله إلى جنيف مفلسًا ووحيدًا بعد فوزه بمنحةٍ دراسيّةٍ جامعيّة. وأبعد من بنية القصّة وأحداثها، تنطلق الاستراتيجيات الجماليّة للفيلم من الرواية. وفي ظلّ قلّة الحوار، يغدو من الصعب ابتلاع الفيلم وهضمه، فالمشاهد الصامتة تلبث لوقتٍ طويلٍ نوعًا ما، داعيةً المشاهد/ة إلى رؤية العواطف الكويريّة التي يجري تناقلها. والعاطفة الكويريّة في الفيلم، كما سأفسّر بوضوحٍ بعد قليلٍ، لا تُختَبر كمعرفةٍ قابلةٍ للتأويل، بل كمعرفةٍ محسوسةٍ تتّسم بالخطر والفقدان. هكذا، تنتقل سوداويّة عبدالله واضطرابه من حلقه إلى حلقنا نحن. وفي هذا السياق، قد لا يكون الصمت في الفيلم أداةً فنيّةً فحسب: فاللغة ليست متاحةً بسهولةٍ لعبدالله، وهو أمرٌ يستمرّ معه كرجلٍ بالغٍ حتّى حين يغدو باحثًا في الأدب وملمًّا في الثقافة المثليّة. وفي الرواية، يسرد عبدالله الفتيّ أفكاره الخاصّة بصراحةٍ، لكن دائمًا خارج أيّ حوارٍ مفتوحٍ، اذ هناك خطّ واضحٌ مرسومٌ بين ما يمكن أن يُقال في العلن، وما يمكن التفكير فيه في المجال الخاص. إن معظم الجزء الأول من الرواية الذي يروي قصّة عائلته وطفولته، يتّخذ شكل مفكّرة يوميّةٍ لمراهقٍ، إذ يحتوي على مُدخلاتٍ وتواريخ محدّدة. ليس من شيءٍ مطهّرٍ في الرواية – لا الحبّ الشغوف إنما العنيف بين والديه، ولا قسوة والده على زوجته وأولاده، ولا المتعة التي كان عبدالله يحصل عليها من تعرّضه للإستغلال. وتبدو أحاديث عبدالله المطوّلة عن حبّه لعائلته قاطعةً لكن محيّرةً، فرغبته الجامحة والفاضحة تجاه شقيقه الأكبر سليمان، تظلّ مربكةً وإن عُبّر عنها بصراحة. في الرواية، المُقال هو ما يثير الإضطراب والقلق، أما في الفيلم، فغير المُقال يُحدث الأثر ذاته. وما يثير الإهتمام هنا، هو أن لا اللغة ولا الصمت يهدّئان من انزعاج القارئ/ة أو يمدّانه/ا بشرحٍ لرحلة البطل.
أُجري هذه المقارنة الوجيزة هنا بين الرواية والفيلم بغرض إيضاح مسألةٍ خطرت لي بعد قراءة مقالٍ لجاي وايسّبيرغ: على نحوٍ مثيرٍ للإهتمام، أراد وايسّبيرغ للفيلم أن يكون “صريحاً” كما الرواية (2013، م. 1). بحسب كلماته: “تنبذ الصورة سرديّة المتكلّم التي أتاحت الوصول إلى عقل البطل، مستبدلةً إيّاها ببرودةٍ مبعِدةٍ زادت من حدّتها الأداءاتُ عديمة العاطفة” (2013، م. 1). أصابني هذا التعليق بالدهشة – لقد كان وايسّبيرغ راغبًا في الوصول إلى عقل البطل، ملمّحًا إلى حاجته لفهم عبدالله، ومعتبرًا صمته في الفيلم مثيرًا للإحباط. لقد حيّر البعد العاطفي في الفيلم الناقدَ الذي رأى أنه أحال المتفرّج/ة إلى متلصّص/ة. في الكتاب، كما يشرح وايسّبيرغ، يبدو الطايع “غير مثقلٍ بالذنب أو الإثاريّة، ومواجِهًا التوقّعات الغربية بشكلٍ مباشرٍ” (2013، م. 2). بمعنًى آخر، يعيق الطايع إمكانيّة التلصّص الجنسي، ويردّ بدلًا من ذلك على قرّاءه وقارئاته بتمثيل جنسانيّته بوقاحةٍ ومن دون حياء، وهي عاطفةٌ قد لا يتوقّعها شخصٌ غربيٌّ من شخصٍ عربيّ منخرطٍ في ممارساتٍ جنسيةٍ مثليّة. على سبيل المثال، يحلّل وايسّبيرغ لقاءات البطل الجنسيّة مع رجالٍ أكبر سنًّا في خلال مراهقته على أنّها “تقدّم هذه الأحداث كطقوسٍ إنتقاليّةٍ يربطها عبدالله بجنسانيّته، ثم يفهمها لاحقًا كتجلّياتٍ إشكاليّةٍ للقمع ولديناميّة القوة المفروضة من الرجال الأكبر سنًّا على الشبّان الأصغر سنًّا” (2013، م. 4). وبحسب منطق وايسّبيرغ، لا يستعيد الطايع تجاربه الجنسية علنًا فحسب، بل يحسم معناها للقارئ/ة أيضًا، زاعمًا مؤانسة القارئ/ة عبر تقديم تفسيرٍ نفسيّ – إجتماعيّ مُطَمئن. وعلى الرغم من تحليلي المختلف للرواية، فإنّ وايسّبيرغ يلمّح إلى تفضيله عدم إتاحة الإجتهاد التأويليّ للمشاهِد/ة، في سبيل خدمة التمثيل “الصحيح”.
لقد انتقيتُ مقال وايسّبيرغ من بين الآخرين/ات لمساعدتي على إيضاح المآزق التي تسِم قراءة جيش الخلاص والجنسانيّات العربية بشكلٍ عامٍ، إنطلاقًا من موقفٍ قلقٍ أو دفاعي. لقد اشتهرت ايف سيدجويك بتصوير هذه القراءات على أنّها “زَوَرانيّة”، وهو مفهومٌ أخذته عن عمل ميلاني كلاين في التحليل النفسي. بالنسبة لسيدجويك (2003)، أظهرت كلاين كيف أن علاقتنا بالعالم الخارجي محفّزةٌ نفسيًّا. إن الموقف الزّوَراني يقرأ العالم بانتقائيةٍ وريبةٍ وتوتّرٍ، مرغَمًا على كشف وإيجاد ما هو خبيث. لكن رغبة الدافع الترميمي يتمّ تحفيزها من خلال فائض التأريخات والمعرفيّات المألوفة. إن القراءة الترميميّة تظلّ منفتحةً على المفاجأة والأمل، لترى وتختبر ما لم يكن القارئ/ة يترقّب. ومن خلال القراءة الترميميّة، لا يبدو العالم الخارجي إما “جيّدًا” برمّته أو “سيئًا” برمّته، بل معتمدًا على العلاقة بين الناس. وتشجّع القراءات الترميميّة نظرةً تكامليّةً، وان تناقضيّةً وفوضويةً للعالم.
لا أريد أن أتجاهل أو أقلّل من أهميّة التّبِعات المؤذية للمعرفيّات التي تتسبّب بالإساءة والضرر من خلال الترويج لتصوّراتٍ نمطيّةٍ عن المَظلوميّة الجنسية العربية. بالطبع، إشتهر إدوارد سعيد في كتابه الإستشراق بإظهاره كيف أن بناء المعرفة الجنسية الغربيّة تطلّب نسجَ التخيّلات عن الجنسانيّة الشرقيّة بصفتها أضعف، لكن أكثر خطورةً وغموضًا وإثارة. وكما يجادل سعيد، بات الشرق مكانًا معتمدًا يمكن للمرء البحث فيه عن التجربة الجنسية، وهو أمرٌ كان مرفوضًا في أوروبا (1978). لقد أتاح تصوير الرحلات في الشرق للمسافرين/ات النظريّين/ات2 الإستمتاع بالتلصّص على “الآخر” المدهش والغامض، في وقتٍ يُشكّل فيه هؤلاء الناس على أنهم/ن أدنى مرتبةً وفي حاجةٍ إلى الإنقاذ. وإذا تكلّمنا من منطلق التحليل النفسي، فإن الخطاب الإستشراقي يُسقط مخاوفه من المجهول خارجَ نفسه، مختزلًا الآخر إلى غرضٍ يخدم كيانه النفسيّ بشكلٍ ملائم. وفي مقابل ذلك، فإن القراءة التي تصرّ على حتميّة السيادة الجنسية أو التمكين الجنسي هي اختزاليّةٌ بالقدر نفسه، كما أنها تنتج مشكلاتها الخاصّة، وتحديدًا كونها تُغفل المعرفة التي تعتمد عليها لجعل الجنسانية مفهومةً، وتُسقِط ما يتخطّى المعرفة كلّيًّا حين تفترض أن كل الجنسانيّات قابلةٌ للمعرفة بالكامل.
إنّ موروثات الإستشراق تتغذّى من صعود الإمبرياليّة المثليّة المستثمِرة في معرفيّة التحرّر المثليّ3. ونظرًا لفهم الكويريّة كتحرّرٍ من خزانة العار التي لطالما شكّلت رمزًا لحياةٍ مظلمةٍ بلا مستقبلٍ، بات أن تكون/ي كويريًّا/ةً وفخورًا/ةً يعني الجرأة على عيش حياتك بلا استحياءٍ، والقدرة على إعلان التحرّر من القمع والعار. بهذا المعنى، أن يكون المرء مثليًّا/ةً هو فعلٌ خطابي. وكما جادل فوكو مرّةً، ما يميّز جنسانيّة الحداثة هو كونها حقيقةً يجب أن تُكتَشَف، وما إن تغدو هذه الحقيقة معروفةً للذّات، حتى يصير من واجب الذّات أن تعترف بها للعالم الخارجي. وتمكن المجادلة أن فوكو كان يسعى إلى تعريف حتميّة “الخروج من الخزانة” التي باتت اليوم مهيمنةً ومفروضةً على المجموعات غير الغربية، تلك التي يصنّفها جوزيف مسعد جَماعيًّا بال”مثليّة العالميّة” في اشتهاء العرب. وبحسب مسعد، فإنّ هذه المجموعات تخرّب التعبير التقليدي عن الحبّ المثلي، وتختزله إلى الكبت الجنسي والبربرية الثقافية التي يجب تحرير الناس منها. واذا ما قُرِئت رواية جيش الخلاص من منطلقٍ دفاعيّ زَوَرانيّ، فقد تجعل من عبدالله شابًّا يعيش مسار التحرّر المثلي المذكور، اذ أنه يخرج من ماضٍ مليءٍ بالتعيير والخزي، ليُشهِر هويّته الجنسية ويُطالب بها. أما القراءة الترميمية، فيمكن لها أن ترى ميوله المراهِقة لا كميولٍ مكبوتةٍ فقط، بل أيضًا كتعبيراتٍ عن الفضول والتجريب. بالطبع، يختبر عبدالله الفتيّ الحدودَ والإمكانات في ظلّ الظروف الصعبة والقمعيّة التي عاش فيها، ويتوصّل لا إلى هويّةٍ ثابتةٍ ومستقرّةٍ، بل إلى ذاتيّةٍ متصالحةٍ مع نفسها وإن مثّلت مشروعًا غير منجزٍ بعد.
يمكن القول أن القراءة الزَّوَرانيّة لجيش الخلاص توفّر الإرتياح في سياق الحتميّة المعرفيّة، إذ تثبت أنه يمكن لمسار القمع الجنسي أن يقود إلى الحريّة. لكن ما يضيع أو يسقط في هذه القراءات التطبيعيّة هي العواطف الكويريّة في الفيلم، تلك العواطف التي يمكنها تحفيز التأمَل والتبصّر بدلًا من الحقائق المُجرّبة معرفيًّا. بالطبع، يمكن للقراءة الترميميّة أن تحدّد مدى ذكاء الفيلم في قدرته على وصف ما هو جوهريًّا غير واضحٍ وغير متّسق. يُموضِع جيش الخلاص نفسه لا في ذهن البطل بل في عواطفه المتجسّدة، إذ أن نكون في ذهن أحدٍ ما يجعل الأمور بسيطةً وواضحةً، لكن فقط في حال ثقتنا بأن ما نقوله بوعيٍ هو فعلًا كذلك. إن ما يقود رغبات الذّات هي الوكالة الكويريّة التي لم تنتج عن أيّ عمليّةٍ إدراكيّةٍ، بل عن رغباتٍ لاواعيةٍ تُعاش عاطفيًّا ويمكن إدراكها في التعبير الجمالي حيث يُتاح انعدام اليقين.
إنّ العواطف الكويريّة، كما سبق أن جادلت في أعمالي الأخرى4، هي بقايا الفقدان واللذّة الشّهوانيّة المنبوذة. ولكونها غير مقروءةٍ بالنسبة إلى البُنى الثقافية للرغبة، توجد العواطف الكويريّة في فائضِ ما نراه في العادة جذّابٌ جنسيًّا. بالطبع، هي عودةٌ إلى مواضع الدّناءة وراوبط سفاح القربى. وهذه العواطف الكويريّة متضمَّنةٌ في العلائقيّة المتبادَلة، إذ فقط في العلاقة مع ارتباطاتنا الإيروتيكيّة الطفوليّة يمكن لنا أن ننبذ روابطنا الشّهوانيّة في مقابل روابط مقبولةٍ إجتماعيًّا. بمعنىً آخر، إن نبذ اللذّة يضمن لنا الدخول في المجتمع، والحصول على الإعتراف والأمن في العائلة والأمّة، وربّما الحصول على مجتمعٍ كويريّ أيضًا. لكن ما يسقط في هذا التبادل هو الجنسي المتّسم “بالإنحراف” – أو تلك اللذّة الجنسية بلا أيّ قيمةٍ إجتماعيّةٍ، والموجودة خارج الحسّ المعياريّ، ومن دون أيّ مستقبلٍ قابلٍ للمعرفة. ويمكن فهم “كوير” كآثار الرّضوخ لعواطفنا الكويريّة ومقاومتنا لترويض التلذّذيّة الجنسية في سبيل الإنتماء الإجتماعي. عندما يحدث هذا، فإننا بشكلٍ لاواعٍ نرفض أن يتمّ تطويعنا لنغدو أشخاصًا أليفين/ات ومستقيمين/ات – إننا نختار “الجنون” بدلًا من درب السلامة العقليّة المعياريّة5. وفي الوقت الذي يُخضعك إختيار الكويريّة إلى الإدانة والنبذ الإجتماعيَّين، قد يكون هذا الخيار هو الحياة الوحيدة التي تجعلك تشعر/ين حقًّا بأنّك عاقل/ة. يذكّرنا آدم فيليبس بأن سلامة العقل ليست دومًا الدرب المؤدّي إلى السعادة، ويرى أنها “علّة الروح” (2005، 28)، إذ دائمًا ما تترك فينا شعورًا بأننا مُفقرين/ات.
في مقاله المرجعيّ بعنوان “الحداد والسوداويّة” (Mourning and Melancholia)، يقدّم فرويد فهمه للسوداويّة كاختبارٍ للإفقار6 – إنه الفقدان الذي لا يمكن إشباعه لأن ما فُقِد ليس واضحًا حتّى. وبصفتها بقايا الرّغبة المفقودة، تقدّم العواطف الكويريّة دلائل على ما تمّ نبذه، وعندما تنجح في إيجاد التعبير أو في اختراق واجهات العقل، يتمّ إسكاتها أو طردها، أو الحكم عليها بأنها مخطئة أو متوحّشة. لكن العواطف الكويريّة تقدّم أيضًا الفرصة لإشباع ما تمّ إفراغه، وللحداد على الفقدان، وللخروج من السوداويّة وترميم آثار الفقدان في النّفس. إن استغلال هذه الفرصة هو تحدٍّ نفساني: فباختيار العواطف الكويريّة، تتهدّد الأرضيّات التي تقف عليها المجتمعات، وكذلك القيم المشتركة التي تربط الناس ببعضهم/ن البعض. بالطبع، يجعلنا حضور العواطف نعتاد أن رغبتنا في دخول المجتمع الذي يمنحنا الأمان، هي في تضادٍّ مع بعض رغباتنا الأخرى الأكثر خطورة. والعواطف الكويريّة ليست مستدامةً تمامًا في حيواتنا اليوميّة: فنحن كائناتٌ إجتماعيّةٌ نعتمد على اللّغة، والمعنى المشترك والإنتماء للمجتمع. بالطبع، أجادل هنا أن فيلم الطايع يتناول قصّة عبدالله في تدبيره وترميمه لهذه المفاوضة بين رغباته الكويريّة وإخلاصه لمكانه وعائلته، بطرقٍ قد لا تكون قابلةً للإدراك في السياق الصارم للمعرفيّة المثليّة والمجتمعات التي تشكّلها.
بطل عبدالله ليس كويريًّا لأنه يبدو معقولًا، بل لأنّه لا يبدو كذلك، ورغباته هي صرخاتٌ مكتومةٌ: هي في الوقت عينه ساذجةٌ ومنحرفةٌ، ومستغَلّةٌ ومستغِلّة. كما أن الدوافع خلف لقاءاته الجنسيّة مع رجالٍ أكبر منه سنًّا تبدو متناقضةً وغير واضحةٍ أيضًا. ويبدو هؤلاء الرجال وضيعين ومتلاعبين، فيما يبدو عبدالله الفتيّ فاتر العواطف معهم أحيانًا مع استعداده للأداء، وفي أوقاتٍ أخرى نراه يسعى بنفسه إليهم. لا يُصوّر عبدالله كضحيّةٍ لهذه اللقاءات، لكنه لا يبدو ممتلكًا أفعاله تمامًا طيلة الوقت. في بعض الأحيان، تكون أفعاله الجنسية مقابل ثمنٍ ما (بطّيخةٌ لعائلته)، وفي أوقاتٍ أخرى لا تكون كذلك. من الصّعب معرفة ما إذا كان عبدالله يعيش هذه اللقاءات كتجارب مخزيةٍ، ممتعةٍ أو نفعيّة. أما انجذابه القطعيّ والأكثر وضوحًا فهو إلى شقيقه الأكبر سليمان. وعلى الرغم من أن هوس عبدالله بشقيقه يتّخذ طابعًا جنسيًّا واضحًا، إلا أن سليمان هو أيضًا الإبن الأول الذي يحظى بالإعجاب والتقدير: فهو يتحدّث الفرنسية بطلاقةٍ، ويحبّ القراءة، ويُتاح له السّفر، ومن بين كل أولاد الأسرة، هو الذي يمتلك غرفةً خاصّةً به. وتبدو العائلة واعيةً لهوس عبدالله بشقيقه، لكن من غير الواضح كيف يفهم أفرادها الأمر. فالأم تخاف من أن يٌقبض عليه ويُقتل إذا ما ضُبط متلصّصًا داخل غرفة سليمان، بينما يدخل عليه أباه مرّةً ليجده ينزع أوراق الوردة بكآبةٍ مردّدًا: “يحبّني، لا يحبّني”. وبدلًا من توبيخه، يحتضن الأب إبنه ويطبع قبلةً على جبينه برفقٍ، ثم يطلب إليه ألا يخلد إلى النوم جائعًا. ومن الصّعب معرفة ما إذا كانت العائلة تتعامل مع انجذاب عبدالله الجنسي لشقيقه كسرّ عائلي معلَنٍ، أم تطبّعه كجزءٍ من مرحلة البلوغ الجنسي للفتى، وقد يصحّ الإحتمالان. لا يلتزم فيلم الطايع بتقديم عبدالله الفتيّ كفتىً مقموعٍ تمامًا أو مقيّدٍ بالعار، لكنّه أيضًا لا يصوّره كفتًى سعيدٍ ومُطمئِن.
أودّ هنا أن أسأل عمّا يعنيه أن نقرأ العار في الفيلم لا كتهديدٍ للمثليّة، بل كعاطفةٍ ثانويّةٍ للعواطف الكويريّة المشوّشة. العار، كما أطرح هنا، يكشف عن عاطفةٍ كويريّةٍ أو رغبةٍ غير مقبولةٍ إجتماعيًّا، وبالتالي يهدّد روابط وقواعد الإنتماء. بمعنىً آخر، العار هو الشعور الذي ينشأ عندما تحتكّ عواطفنا الكويريّة بالعالم الخارجي، وبالتالي لا بدّ من إخضاعه للمفاوضة. هكذا، يخلق العار الظروف الملائمة للتبصّر والتغيير، ويجعلنا نتوقّف لبرهةٍ بدلًا من إجبارنا على التغلّب عليه. بالطبع، جادلت سيدجويك أن العار توليديٌّ، فهو لا يؤقلمنا مع التفرّديّة المؤلمة فحسب، بل أيضًا “نحو علائقيّةٍ خارجةٍ عن السيطرة” ، لأنه يشحذ حسّ الشخص بذاته/ا عندما ينكسر الإتّصال وتغدو الحياة في حدّ ذاتها مهدّدةً (2003، 37). وبحسب تعبير إلْسبيث بروبين، فإن الشعور بالعار يفعّل الأمور المهمّة، إذ “أيًّا كان ما يُشعرك بالعار، فإنّه سيكون أمرًا مهمًّا بالنسبة إليك، جزءاً جوهريًّا من نفسك” (2005، x). والعار يحدث دائمًا في العلاقة بأمرٍ أو بشخصٍ ما، وبالتالي يضعنا في تماسٍ مع استثماراتنا الأكثر عمقًا في بعضنا البعض. في العار، نغدو ملغيّين/ات بشكل كويري، كما أن مخاوفنا وقلقنا بشأن استثماراتنا العلائقيّة واعتمادنا على الآخرين/ات وعلى مجتمعنا تغدو أكثر شفافيّة. وبما أن للعار دائمًا أثرٌ جسديُّ مباشرٌ، فإنه يستدعي التأمّل، بل حتّى الترميم الإبداعي.
في البيت، تبدو انحرافات عبدالله الكويريّة ولقاءاته المخزية أكثر وضوحًا. وتتّسم حياته العائلية بالفقر، والهرميّات الأبويّة، والأدوار الجندريّة المُتّفق عليها والتي تبدو علاقته فيها متأرجحةً (فهي تعمل لصالحه أحيانًا، وضدّه في أحيانٍ أخرى). ومن بين كل أخوته المؤلّفين/ات من أربع أو خمس بناتٍ، بالإضافة الى سليمان وشقيقٍ آخر صغيرٍ، عبدالله هو الوحيد الذي يشغل مساحتَين: مساحةً عامّةً يهيمن عليها الذكور في البلدة، ومساحةً خاصّةً بيتيةً مؤنّثةً في المنزل، يتشارك فيها الأعمال المنزلية مع شقيقاته تحت حكم أمّه الجليل. وتوضع ولاءات عبدالله تحت الإختيار حين يُجبر على الإنحياز إلى والده بعد ليلةٍ من العنف الجنسي بين والدَيه، والتي تُصوّر كحدثٍ مُعتاد. في اليوم التالي، يعيد الأب طعام الغداء إلى زوجته مع عبدالله، شاكيًا أنها تعاقبه وأنه لا يريد تناول الطعام وحيدًا. وحينما تجيب الأم ابنها بأن عليه التوجّه إلى المطبخ وتناول وجبة والده غير المرغوب بها، يبدو الأسى جليًّا على عبدالله. وإزاء كونه عالقًا بين امتيازات عالم الرجال (إذ يمكنه الحصول على وجبة والده المتروكة لنفسه ولكن وحيدًا مع نفسه)، وبين دفء وطُمأنينة عالم النساء، يختار عبدالله النساء: فيجيب أمّه بأنّه يفضّل تناول الطعام معهنّ. ففي نهاية الأمر، هو يشاركهنّ المنامة ليلًا حين يتحلّقن جميعًا بإحكامٍ حول أمّهنّ على الكنبة وعلى الأرض في غرفة المعيشة. وفي تعبيرٍ عن ولائهنّ لأمّهنّ المضحّية (التي يتماهَين جميعهنّ معها بما فيهنّ عبدالله)، تضع إحدى شقيقاته الملح فوق جراحه إذ تصيح: “أنظرن يا فتيات، سوف يبدأ بالبكاء مجدّدًا”. بالطبع، يشعر عبدالله بالخزي لأن على الصبيان ألا يبكوا، وتحديدًا لسببِ كاستبعاد الفتيات لهم. أودّ أن أشير هنا إلى أن حزن عبدالله لم يأتِ ردًّا على إقصاءه عن المساحة الأنثويّة فحسب، بل أيضًا عن العالم الذي يرتبط فيه وينتمي إليه – مجتمعه. وإذا كان الشعور بالعار مرتبطًا بأكثر ما يعني لنا، وتحديدًا العلاقات التي هي جزءٌ منّا، فإنّ عار عبدالله يبيّن رهاناته العلائقيّة. وفي هذا المشهد، عاره الناتج عن عواطفه الكويريّة المُجندَرة يهدّد روابط الحياة العائلية ومكانه فيها.
في الجزء الثاني من الفيلم، نرى عبدالله شابًّا في جنيف بعد أن ترك موطنه ليتابع دراسته الجامعيّة. وتمكن المجادلة هنا أن باتّخاذه هذا القرار، إختار عبدالله عالم الرجال الذي يُتيح حرّيّاتٍ معيّنةٍ كامتياز ترك المنزل الذي لا يتوفّر للنساء في معظم الأحيان. لكن في حال عبدالله، لم يكن إمتياز ترك المنزل ممكنًا فقط لكونه رجلًا، بل رجلًا مثليًّا أيضًا، وهو إمتيازٌ معقّد. في المشهد الأخير من الجزء الأوّل، يلتقي عبدالله بسائحٍ سويسريّ أبيض في أثناء إجازةٍ يقضيها مع أشقائه، بعد مغادرة أخيه سليمان بصحبة فتاةٍ ما. وفي اليوم الذي يسبق انصراف سليمان، تجري محادثةٌ بينهما على الشاطئ، يحاكِم فيها عبدالله سليمانَ على قرائته الروايات الفرنسية وإصراره على التحدّث بالفرنسية، “لغة الأثرياء”، بحسب عبدالله. “بماذا تفيدني الفرنسية؟”، يسأل عبدالله الذي لا يبدو متأثّرًا بمنطق سليمان القائل بأنّ “ما من ضررٍ في التحدّث بالفرنسية”، وأنّها ستساعده على مغادرة المغرب والنجاح في الحياة. “سوف تغيّر رأيك، أعرف أنك ستفعل”، يقول سليمان بإصرار. وبالطبع، يغيّر عبدالله رأيه فعلًا.
يبدأ الجزء الثاني في منتجعٍ على الشاطئ في المغرب، هذه المرّة مع حبيبه، أستاذ جامعيّ سويسريّ في منتصف العمر. يبدو عبدالله مصقولًا ومتحدّثًا الفرنسية بأناقةٍ، على الرغم من أنّ سلوكه صامتٌ وبارد. وإذا كان شقيقه سليمان قد قصد في كلامه هذا النوع من النجاح، فإنّ المشهد الإفتتاحيّ يبيّن وصوله الشائك. وفي رحلةٍ بحريّةٍ في القارب برفقة حبيبه لزيارة أحد المواقع السياحيّة، لا ينفي عبدالله افتراضَ دليل الرّحلة بأن علاقته مع صاحبه الأوروبي هي في مقابل ثمنٍ معيّن. ولعلّ عبدالله استجاب لهذه الحكاية إمّا لكون التعاقد الجنسي المثليّ الذي يلمّح إليه الدّليل بين الرجال المحلّيين والأوروبيّين أمرًا مقبولًا في المغرب، وبالتالي من الأسلم له ألا يهزّ المركبَ الرمزي، وإمّا لأن عبدالله يؤمن فعلًا بحقيقة تقييم الرجل لعلاقتهما، وأنه هو مَن يعيش في كذبة. وفي إحدى المرّات، يصادِف عبدالله في الجامعة حبيبَه السابق الذي يتّهمه بالإستغلاليّة والقسوة بسبب مغادرته، ومجدّدًا لا ينكر عبدالله هذه القراءة للأحداث، لكنّه يفعل ذلك بحرقةٍ أكبر، وبشعورٍ يتأرجح بين الغضب والألم. عبدالله البالغ قد استغَلّ واستُغِلّ في آنٍ معًا، وتُظهّر تأمّلاته في الفيلم ببراعة. فعلى سبيل المثال، يجلس عبدالله على مقعدٍ في المنتزه، مفلسًا ومشرّدًا وعاجزًا عن الإتّصال بأمّه لطلب المساعدة منها، ثم يجلس إلى جانبه رجلٌ في منتصف العمر ويسأله من أين يكون. يبدو عبدالله متوتّرًا: قد يكون هذا لقاءٌ آخر. يظلّ متوتّرًا إلى أن يفصح الرجل عن قصّة حبّه الحزينة وكيف هجرته زوجته المغربية لكونه غير ثري. وبعد سماع هذا، يرتخي جسد عبدالله مباشرةً وبوضوحٍ، إذ يتّضح أن الرجل لا يبتغي شيئًا منه على الإطلاق. وفي نهاية الأمر، يسأل عبدالله الرجل عن مكانٍ يأويه ليلًا في ملجأ “جيش الخلاص”.
إذا كان عبدالله متحرّرًا جنسيًّا من الكبت، فإن “حريّته” ليست ملموسةً ولا سائرةً على مسارٍ طوليّ وتصاعديّ. تدور المشاهد الختاميّة من الفيلم في ملجأ “جيش الخلاص”، حيث يلقى عبدالله معاملةً حسنة. وبترتيبٍ من المشرِف/ة، يلتقي عبدالله في ليلته الثانية في الملجأ بشريكه الجديد في الغرفة، وهو شابٌّ من شمال إفريقيا أيضًا. يعرض عبدالله على رفيقه مشاركته تناول برتقالةٍ، لكن الشاب يرغب في الغناء له أوّلًا، ويختار أغنيةً للعملاق عبد الحليم حافظ المعروف لغالبيّة العرب. وكان حافظ رجلًا من العامّة واعتُبر صوت الناس، واشتهر ليصبح واحدًا من عظماء الفنّ العربي الأربعة. وتميّز أسلوب حافظ الفنيّ براديكاليّته واعتُبر فنّان مصر الأول في الرومانسيّة، وبالطبع، كانت أغنياته ملهمةً في خلال إنتفاضة العام 2011 في مصر. وينتهي الفيلم بعد ذلك بشكلٍ مبشّرٍ عبر هذا الفعل المتبادَل من السّخاء، فيما يستمع عبدالله لأغنيةٍ لأحد أكثر فنّاني العالم العربي عظمةً، وهو عالمٌ يبدو أن عبدالله مازال شديد الإرتباط به. وتمكن قراءة هذه الخاتمة كدلالةٍ على علاقته الحنينيّة بموطنه، لكن من الممكن أيضًا أن تكون تلميحًا لعودته إلى بيته ومجتمعه بشكلٍ مختلفٍ هذه المرّة. هنا، يُعاد ترسيخ المجتمع والحبّ بتدخّلٍ من العطف بين رجلَين مشرّدَين.
إنّ مساهمة جيش الخلاص في التبصّر في الجنسانيّات العربية المعقّدة، تتمثّل في الإستراتيجيّات الجماليّة التي يُقدّمها الفيلم. ولكونه أحد التمثيلات البصريّة القليلة المتوفّرة عن الكويريّة العربية، تكمن قوّة الفيلم في قدرته على جذبنا عاطفيًّا، مشكّلًا الظروف الملائمة للتأمّل المتروّي. إن اهتمامي بقراءة الفيلم بشكلٍ ترميميّ إزاء العواطف الكويريّة، هو بهدف تقديم نقدٍ متبصّرٍ ومبتكرٍ للفيلم، لا يُختزَل إلى المعرفيّات المثلية ولا يتّسم بالسّذاجة حيال سطوتها على العرب والشعوب الأخرى في الجنوب. بالطبع، يتداول عبدالله في فيلمه في المعرفيّات الشرقيّة والغربيّة المتنافِسة. وهذا الوضع ما بعد الإستعماري/ الشّتاتيّ الذي يفرض على الفرد إجتياز الحياة بوعيٍ مزدوجٍ هو وضعٌ صعبٌ دومًا، كما يجادل بول غيلروي (1993، 2005)، لكن بإمكانه وضع الذات ما بعد الإستعمارية على درب إبداع. ويتّسم هذا الدرب بالفوضويّة لاسيّما في سياقٍ تاريخيّ يُفرض فيه الوعي المثليّ بشكلٍ مهيمنٍ، من دون أن يتمّ إخضاعه في أغلب الأحيان للتحدّي المعرفيّ. في عبدالله، نرى طفلًا فضوليًّا وحائرًا، ثم شابًّا غير قادرٍ على الإنصياع للأحكام المعرفيّة الشرقيّة والغربيّة، وبالتالي يُصارع لينتمي بشكلٍ كاملٍ إلى أحد السّياقَين الثّقافيَّين. وعلى الرغم من كون هذا مؤلمًا، إلا أنه ينتج الظروف الملائمة للإبداع والتدخّل، وهو أمرٌ نرتدّ عنه عندما نكبر بحسب فيليبس (1998).
بالنسبة للطايع، ليس المهمّ كيفيّة تحوّل الكويريّة إلى هويّةٍ مفهومةٍ، على الرغم من أن هذا يخفّف من حدّة الإلتباس طبعًا، ولا هو يسرد قصّةً تقود إلى التحرّر الكويريّ. بدلًا من هذا، يؤرّخ جيش الخلاص لكيف يكافح هذا البطل الفتيّ للبقاء في عالمٍ يقسو على الإختلاف. بالطبع، الدّرب التي على المرء سلوكها في هذه الرحلة هي دربٌ مؤلمةٌ لأنّ الإختلاف الكويريّ، كما بيّنتُ في هذا المقال، يُقابَل دائمًا بالحظر الإجتماعي الذي قد يجعل منك “مجنونًا/ةً” إن كان ثمن الإستجابة له باهظًا. وملاجئ “جيش الخلاص” حول العالم هي مآوي مخصّصةٌ للمجانين/ المجنونات والبائسين/ات. وفي الملجأ الذي يأوي إليه، لا يلقى عبدالله الخلاص بل التعاطف. والمطروح هنا ليس بعثةً تبشيريّةً لإنقاذ الآخر، بل مراعاةً لطيفةً لهشاشته/ا وضعفه/ا. فيلم الطايع لا يقدّم تحرّرًا متوهّمًا للكويريّين/ات العرب/يات، بل شيئًا آخر أكثر قابليّةً للتحقّق. وتتّسم خاتمة الفيلم بالأمل لكونها تلمّح إلى أن مستقبل عبدالله الكويري قد يتشكّل في حضرة الخسائر التي تحمّلها. ليس هذا المستقبل مبنيًّا ضمن مفهومٍ صارمٍ لما هو أفضل، بل هو مُعرّفٌ بما هو ممكنٌ إذا ما وُجّهت الرّحلة من خلال أفعال الحداد والتعويض.
- 1. راجع/ي العدد الخاص لهنادي السمّان وطارق العريس عن “العواطف الكويرية”، وهو مكرّسٌ لتحديد مآزق نمط التفكير المهيمن الذي يحبس الجنسانية الشرقية في مرحلة ما قبل الحداثة، ويضعها في علاقةٍ ثنائيةٍ مع الجنسانية الغربية المتّسمة بالحداثة. ويدفع الكاتبان نحو قراءةٍ وجدانيّةٍ للجنسانيّات بما يبيّن تشابك الثقافة في الظروف الجيو-سياسيّة المعاصرة.
- 2. أي المتفرّجين/ات الغربيين/ات على الصّور.
- 3. راجع/ي “Thinking Past Pride: Queer Arab Shame in Bareed Mista3jil” لدينا جورجيس.
- 4. للاطّلاع على مناقشةٍ موسّعةٍ للعواطف الكويرية، راجع/ي “The Better Story: Queer Affects from the Middle East” لدينا جورجيس.
- 5. المرجع السابق.
- 6. في The Melancholy of Race، تبدع آن آنلين تشينغ في تطوير وتوسيع مفهوم السوداويّة عند فرويد بصفتها حالة إفقارٍ.
Al-Samman, Hanadi and El-Ariss, Tarek. 2013. “Queer Affects: Introduction.” International Journal of Middle East Studies. 45: 205–209.
Cheng, Anne Anlin. 2001. The Melancholy of Race: Psychoanalysis, Assimilation and Hidden Grief. New York: Oxford Press.
Diego, Costa. 2014. “Salvation Army.” Slant Magazine. March 18, 2014. http://www.slantmagazine.com/film/review/salvation-armyAccessed August 7, 2015.
Foucault, Michel. 1978. The History of Sexuality. Translated by Robert Hurley. New York: Pantheon Books.
Frosch, Jon. 2013. “Exclusive interview: ‘There is a place for gays in Islam.” France 24. September 5, 2013. http://www.france24.com/en/20130905-venice-film-festival-abdallah-taia-gay-muslim-islam-homosexuality-morocco-arab-salvation-army Accessed August 7, 2015.
Georgis, Dina. 2013. The Better Story: Queer Affects from the Middle East. Albany: SUNY.
—. 2013. “Thinking Past Pride: Queer Arab Shame in Bareed Mista3jil.” International Journal of Middle East Studies. 45: 233-251.
Gilroy, Paul. 2005. Postcolonial Melancholia. New York: Columbia University Press.
—. 1993. The Black Atlantic: Modernity and Double Consciousness. Cambridge: Harvard University Press.
Knegt, Peter. 2013. “Que(e)ries: ‘Salvation Army’ Director Abdellah Taïa on The Challenges of Making a Queer Moroccan Film.” Indiewire. September 23, 2013. http://www.indiewire.com/article/que-e-ries-salvation-armyAccessed August 5, 2015.
Massad, Joseph. 2007. Desiring Arabs. Chicago: University of Chicago Press.
Phillips, Adam. 1998. Beast in the Nursery: On Curiosity and Other Appetites. New York: Vintage Books.
—. 2005. Going Sane. London: Penguin Books.
Probyn, Elspeth. 2005. Blush: Faces of Shame. Minneapolis, Minn.: University of Minnesota Press.
Said, Edward. 1978. Orientalism. New York: Vintage.
Sedgwick, Eve Kosofsky. 2003. Touching Feeling: Affect, Pedagogy, Performativity.
Durham, NC: Duke University Press.
Taïa, Abdellah. 2009. Salvation Army. Translated by Frank Stock. LA: Semiotext(e).
— (dir). 2012. Salvation Army. 81 min. France, Morocco, Switzerland.
Weissberg, Jay. 2103. “Venice Film Review: ‘Salvation Army’.” Variety. September 3, 2013. http://variety.com/2013/film/global/salvation-army-review-venice-toronto-1200609534/ Accessed August 8, 2015.