الوحش الثلاثي: نحو خسوف حقوق النساء
شيرين أبو النجا أستاذة لغة إنجليزية وأدب المقارنة في جامعة القاهرة، وهي ناقدة أدبية. وقد نشرت كتب (عربية وإنجليزية) ومقالات أدبية نقديّة في مجلات علمية، مع التركيز بشكل خاص على الجندر. واعية بموقعيّتها في العالم الثالث، أبو النجا تنظر إلى العالم من منظور النسوية الاشتراكية. خلال دراسة اللقاءات بين/عبر ثقافيّة في الأدب والفنون، في ذروة العولمة والاستياءات التّي تتبعها، تعكس موقفها، وتضيف إلى حقل الدراسات الثقافية/الجندريّة. هي مهتمّة بقراءة مظاهر النظام الأبوي الجديد والليبرالية الجديدة التّي من شأنها أن تعجّل ظهور"النص الجديد"، علامة مقاومة قوية.
Tears in the fabric.png
في ظلّ وقوعها في مرمى نيران الانتهازيّة السياسيّة والانتصار النيوليبراليّ والمغامرة الجيوسياسيّة تبدو المنتديات النسويّة الآن في لحظة انسحاب. ولا يمكن مجابهة هذا الخسوف إلّا عبر سياسات بناء التحالف.
لحسن الحظّ أن الخسوف ظاهرة نادرة الحدوث وعابرة. فهو يحدث عندما تصطفّ الكواكب بشكل معيّن يجعلنا نغرق في الظلام. يمكن القول إنّه إذا كان هناك معادل سياسيّ لهذه الظاهرة فهو حقوق النساء – التي لم تتمتّع مطلقًا من قبل بوضوح ظاهريّ في المشهد الدوليّ – والتي تتجه بخطورة نحو لحظة عنيفة. لا توجد واقعة فرديّة أو دراميّة تشي بهذا الاحتمال، بل إنّه بالأحرى نتيجة التنقيط المتواصل لمجموعة متفرّقة من التأثيرات التي تغذّي "رهاب النسوية"، والتي أصبحت رائجة للأسف.
يمكنكم أن تتساءلوا عمّا يدفعني لهذا التنبّؤ الكئيب في لحظة تعلن فيها جريدة بريطانية رائدة أن العام 2014 هو "العام الأفضل على الإطلاق للنساء"، وتحتفي به بوصفه "عام تمرّد نسويّ ضدّ العنف الذكوريّ: عام تصاعد رفض الصمت، رفض السماح لحيواتنا وآلامنا أن تُمحى أو تُهمل". لا يوجد مساحة لهذا الرضا. على العكس من ذلك، يمكن القول بيقين إنّ هناك تأثير ثلاثيّ يُفقر المناظرات المتعلّقة بحقوق النساء ويُقلّص المساحات الخطابية للأجندة النسويّة.
قبل البدء في مناقشة هذه التأثيرات، أودّ أن ألفت النظر إلى مفارقة واضحة. فما بين عامي 2011 و2014 افتتحنا في Open Democracy 50.50 منتدى لمناقشة تأثيرات الجندر في "الربيع العربي" وحركات الاحتجاج في الشرق الأوسط بشكل أعمّ. كانت إحدى أهمّ السمات التي تشي بالتفاؤل في احتجاجات الشباب، والتي اتخذت أشكالًا غير مسبوقة في المنطقة، هي اندفاعهم/نّ نحو مناهضة الاستبداد والأبويّة وادراكهم/نّ للطبيعة السياسية في المقام الأول للعنف الجندري. لم يقتصر الأمر على مشاركة النساء في احتجاجات الشارع وظهور صوتهن في الفضاء العام، بل التحق بهن الكثير من الرجال من نفس الجيل في عرض غير مسبوق للتضامن الجندري. لم تكن هذه الحركات تطالب بدولة إسلامية، كما لم تلعب أحزاب الإسلام السياسي دورًا قياديًا أساسيًا، بالرغم من بروزها الأولي في أنظمة لاحقة. وبالرغم من التطوّرات المدمّرة التي وقعت بعد ذلك كان هناك علامات جليّة على طموحات متزايدة ومطالبات بالمواطنة شاملة، وعدل ومساواة على أساس الجندر في الاحتجاجات ذاتها.
وبالرغم من وجود الدليل على التعبئة القاعدية في السعي نحو مجموعة من الحقوق التي تتضمن حقوق النساء وحتى التحرّر من العنف والمشاركة العامة، إلا أنّه على مستوى الخطاب الأكاديمي والسياسي والشعبوي ظلّت النسويّة تفقد مصداقيتها بشكل متزايد أو تُلفظ باعتبارها لا تصبّ في الموضوع الأساسي أو أنها انتهت، والأسوأ باعتبارها صنيعة الامبريالية أو الدول الأمنية المتغطرسة. كيف يمكن شرح هذا الانفصام؟ كيف انتهى النضال من أجل حقوق النساء – الذي بدأ كإحدى الحركات التحرّرية على مدار القرنين المنصرمين جنبًا إلى جنب مع مناهضة العبودية والعنصرية – ملفوظًا ومُشهرًا به، ليس فقط من قبل الذكوريين اليمينيين أو المؤسسات الدينيّة المُطالبة بتحكّم كامل في ضبط الجندر والجنسانيّة، بل أيضًا من قبل كُتّاب ومعلّقين يعتبرون أنفسهم منتمين إلى الجناح اليساري أو الليبرالي؟ هل يُمكن أن نتصوّر أحدهم يقول إنّ الكفاح ضد العنصرية قد "تجاوز الحدود" أو "وقع به خلل" (باستثناء الأحياء المتطرّفة المؤمنة بسلطة الأبيض)؟ إلا أنه بات من المألوف، وحتى التافه، أن نسمع تلك التهمة المتعلقة بالنسويّة. كيف وصلنا إلى ذلك؟
أخوات النسوية القبيحات: الرابطة العولميّة وأشكال الاستلاب المنحرفة
كانت هناك ثلاثة لقاءات مُعرّفة بين الحركات النسائيّة – وهي متنوّعة ومحكومة بخصوصية سياقها – وتأثيرات عولمية قويّة.
الأول هو اللقاء مع "المأسسة" العولمية لمعايير وآليات المساواة في الجندر من خلال عمل نظام الأمم المتحدة والمموّلين الدوليين الأساسيين. وإذا نحينا جانبًا المناظرات الواسعة حول قصور أو مميزات القانون الدولي لحقوق الانسان، فلابدّ من الإقرار بالطرق المتنوّعة التي تمّ بها إفراغ منابر حقوق النساء من السياسة عبر قيام الحكومات المموِّلة باستلابها (يظهر هذا بشكل فاضح في الأنظمة القمعية اللا-ديمقراطية). وفي حالة الانتفاضات العربية، ساهمت الطبيعة الانتهازية السابقة للاشتباك مع منابر المساواة في الجندر في سرعة انحرافها عن المسار وزوالها، وهو ما ساعد الحكومات على إعادة الانقضاض على الحقوق الكائنة بالفعل.
كان القفز على عربة المساواة في الجندر بمثابة "قرار لين" استخدمته العديد من الأنظمة الاستبدادية من أجل الاشارة إلى التزامها بالمسار الديمقراطي الذي لم يكن لديها أيّة نيّة في تبجيله. ينطبق نفس المنطق على محاولات أخرى لاستلاب المعايير الليبرالية في مجالَي الجندر والجنسانيّة، مثلما تفعله حركة القوميّة المثليّة الاسرائيلية من أجل رفع قيمة أوراق الاعتماد الديمقراطي، وهو ما يحوّل النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تُمارس ضد الفلسطينيين/ات.
هل يحوّل استلاب أعراف المساواة / الليبرالية نشطاء وناشطات حقوق الإنسان الذين يوظفون الإطار الدولي كنقطة مرجعية إلى مغفّلين عديمي التمييز؟ ما الذي يُمكن كسبه من مقاربة عدميّة للحقوق المنصوص عليها في القانون الدولي؟ وما هي المخاطر التي يتضمّنها ذلك؟ لا يمكن التغاضي عن هذه الأسئلة بسهولة.
وقع اللقاء الثاني المحتوم بالتحوّل العالمي إلى النيوليبرالية منذ فترة حكم ريغان-ثاتشر. بينما التزمت بشكل معلن الكثير من الحركات النسائية بالعدالة الاجتماعية وأهداف إعادة توزيع الثروة إلا أن دمجهم في الأجهزة المموّلة في العصر النيوليبرالي أدّى، أوّلًا، إلى إنتاج حركات سياسية تعمل في إطار المنظمات غير الحكومية، حيث تكون المنظمات النسائية بمثابة مقاوِل لدى الحكومات والمموّلين، وثانيًا غياب جذريّة الأهداف، التي تحوّلت الآن إلى حلول تكنوقراطية من أجل "تمكين" النساء داخل العوامل المتغيرة لاقتصاد السوق. في الغرب أدّى ذلك إلى صعود نسويّة مجلس الادارة أو النسويّة الإجرائية أو الانتهازية التي تمجّد فضائل السوق الرأسمالي للنساء اللواتي "يصنعنه". في الوقت ذاته، في الجنوب، تُركت مساحات خالية بفعل تبخّر دعم الدولة وقلّة الرفاه الاجتماعي وهو ما أدّى إلى ظهور فاعلين وحركات اجتماعية لديها أجندات محافظة وجذور ضاربة في منظّمات دينية (سواء كاثوليكية أو انجيلية أو إسلامية). أما الحركات الدينية والشعبوية التي تدّعي أنها تتكلّم بالنيابة عن الفقراء والمهمّشين والضعفاء في سياقات إقليمية مختلفة فقد ازدادت جاذبيتها بغض النظر عن النغمات الدوغمائية أو الاستبدادية لرسائلها السياسية. إن الهوّة التي وقعت بين أهداف عدالة الجندر والعدالة الاجتماعية كان لابدّ أن تؤدّي إلى نتائج خطيرة: فقد وسمت حقوق النساء بوصفها الانشغال المزعوم للنخبة المميّزة، خاصة في المجتمعات التي قامت فيها الأنظمة الاستبدادية بتنفيذ أجندات التحديث من أعلى إلى أسفل. استدعى إغفال حقيقة أن النسوية لا يمكن فصلها عن أجندة عدالة اجتماعية أشمل تكلفة باهظة.
لم يكن اللقاء الأخير والأكثر تدميرًا قد وقع بعد. فقد تبلور في شكل "الحرب على الإرهاب" التي تبعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة الأميركية وعملية "الحرية الدائمة" التي أطاحت بحكم طالبان.1 وقد أثار استدعاء النساء المسلمات المقهورات كجزء من تبرير التدخّل العسكري غضبًا متوقعًا في وجه الذرائعية العارية المتخفّية في التحوّل النسويّ لإدارة جورج بوش. كما تكاثر نقد حقيقي لكن غير محترف للنسويّة بوصفها إمبريالية (وهو ما سأتحدث عنه أكثر لاحقًا) ولموقع حقوق النساء بوصفها أدوات في ترسانة القهر.
أحد النتائج غير المتعمّدة لهذه الانتقادات هي تقويض شرعية نضالات النساء اللواتي يحاولن زيادة حقوقهن بالوسائل الضئيلة المتاحة لهن في أفغانستان (بما في ذلك الإشارة إلى الاتفاقات الدولية مثل السيداو والمشاركة في المشاريع المموّلة). كيف يُمكن أن يقمن بذلك الآن دون التعرّض لاتهام أنهنّ محرّضات على الامبريالية؟ هل أدّى توظيف القوى الغربية لمحنة النساء الأفغانيات كدعاية مادّية لتحفيز الدعم لتدخّل "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") إلى تحويل النساء إلى "متعاونات محلّيات" في حين كنّ يسعين إلى النضال من أجل حقوقهن من داخل اطار القانون الدولي؟ أم كان من الأفضل أن يتمّ نصحهن بالتزام الصمت أو حتى محاولة إيجاد شيء من القوة والفضيلة فيما كانت طالبان تقدّمه لهن؟ وهو ما اقترحه بعض المعلّقين الغربيّين بالفعل عندما كانت المفاوضات مع طالبان من أجل تسوية سياسية مطروحة.
يُمكن لقوى الردع والتخويف أن تكون ساحقة في مجتمع مستقطب وممزّق بالصراعات. يتمّ ممارسة هذا التخويف بقوّة السلاح وبتشكّلات مثل طالبان. إن هذا الكورال الإغريقي من النقّاد الذين يندّدون بالنسويّة بوصفها إمبريالية قادر على زيادة مصائب النساء وتعزيز ترسانة الدعاية ضد من يخالفهم الرأي. ولكن لماذا يجب على النساء أن يواجهن مثل هذه الخيارات المنحرفة؟
ما بعد النسوية بوصفها إمبريالية
لا تُعدّ الانتقادات الموجّهة للنسويّة، باعتبارها امبريالية، جديدة كما أنّها ليست منتج الحرب على الإرهاب. في الواقع فإنه في وقت مبكر منذ العام 1984 استخدمت كلّ من فاليري عاموس وبراتيبا بارمار مصطلح "النسويّة الامبريالية" في سياق بريطاني لتفنيد ادعاءات حركات نساء الطبقة المتوسطة البيض أنهن يُمثّلن الأختيّة العالمية، وأن هذه الادعاءات كانت قائمة على إنكار العنصرية (والاختلاف) وأيضًا القهر العام لنساء العالم الثالث عبر علاقات السيطرة الامبريالية. وأصبح كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" (1978) بمثابة النص التأسيسي لمجال النسويّة ما بعد الكولونيالية والتي تتمتع بتاريخ طويل ومتميز. تعمل الدراسات النسوية العابرة للقوميات المناهضة للإمبريالية على البناء على هذا الإرث، حتى وإن كان ذلك بشكل فكري غير منظم، بما أن مناهضة الامبريالية تُوظَّف أحياناً باعتبارها "الحلّ السحريّ" لعلاج كل أشكال القهر.
لا يطعن أحد في حقيقة أن النسويّة الكولونيالية التي تمارسها قوى أوروبية ترتكز على الرؤية الاستشراقيّة للعالم الاسلاميّ بوصفه عنصريّاً ضدّ النساء ومتخلّفاً كما أنّ نساءه يحتجن إلى التحرّر من خلال ذاتية غرب مستنير. في الحقيقة، شكّل ذلك "الخطيئة الأصليّة" للحركات النسائية. فقد عنى اشتباك النسويّة مع سياسات الكولونيالية أنّه لم يكن أمام الناشطات والاصلاحيات المبكرات سوى خيارات مستحيلة. فتلك اللواتي كنّ يسعين وراء توسيع رقعة الحقوق في ظل أنظمة ما بعد كولونيالية والعلمانية صوريًا، كنّ واقعات تحت ضغط مهول من أجل التوافق مع أولويات قومية مناهضة للاستعمار والتي دائمًا ما تميّز النساء بوصفهن مستودع الأصالة الثقافية، وذلك من قبل حتى أن تبدأ التوجهات الإسلامية النامية في تصعيد رهاناتها بشكل أكبر. إن النسويات اللواتي اشتبكن مع الإسلام وحاولن خلخلة التفسيرات الذكورية للشريعة كنّ بالتأكيد يبحثن عن مخرج من هذا القيد العقيم.
ولكن، للأسف، بعيدًا عن تخفيف المحنة المستمرة أدى الوضع الحالي إلى تصلّب المواقع. عبر التاريخ الطويل للحركات المناهضة للاستعمار، بداية من ثورة هايتي في العام 1790 وحتى حركات الاستقلال في ستينيّات وسبعينيّات القرن العشرين في آسيا وأفريقيا، لم يعتمد النضال ضد الاستعمار على الرفض الكامل للمُثُل الثوريّة في الغرب. ومع ذلك، وفي السياق الاستقطابي للجيو-سياسة المعاصرة، فإن أي شيء نابع من الغرب الامبرياليّ قد يتمّ اعتباره بضاعة ملوّثة وذلك من قبل النقّاد المنادين بالنقاء والذين يندّدون بمخرجات التنوير وخاصة الانسانويّة العلمانية بوصفها منبع الشر. وقد تتبعتُ هذا الخط من المحاججة بدرجة طفيفة من الفضول الفكري في البداية، قبل أن يتحوّل إلى ملل متزايد (نظرًا لطبيعة الصياغة وإعادة الصياغة المتكررة لهذا الموقع) حتى تلقّيتُ إشارة يقظة: الأمر سيّان، لا يهمّ إن كنّ ناشطات علمانيّات، أو نسويّات إسلاميّات يحاولن العثور على صوت أصليّ للتغيير والاصلاح، فكلهنّ الآن في مرمى نيران النقّاد. بالقدر الذي يفشلن فيه من التنصّل من مبادئ المساواة المنصوص عليها في القانون الدولي – أداة أخرى للإمبراطورية – ألا يمكن أن يتمّ وصمهن بشكل مشابه بالليبرالية وبالقياس بالإمبريالية؟
بشكل مساو، قد ينطبق هذا المنطق بالطبع على أي محاولات إصلاح من داخل الإسلام بما أن القوى الغربية ليست فقط مهتمّة بهذا الأمر، بل تعزز بقوة وحماقة تامّة البحث عمّا يسمّى الإسلام "المعتدل" من أجل احتواء التوجّهات الجهادية التي تُعد بمثابة تهديد إرهابي. وأضيف سؤالًا بلاغًيا إلى القائمة: هل يجب أن يعمل الجوّ المسمّم للجيو-سياسة على التكميم الدائم لأفواه المنشقّين العلمانيين في العالم الاسلامي؟ بالمناسبة، كانت هذه الأصوات موجودة دائمًا ومضطهدة بشكل ممنهج. دعونا لا نضيف إلى أعبائهم.
التأثير الضعيف
وصلنا الآن إلى طريق مسدود لا بدّ من تجاوزه إذا أردنا أن نفتح بدلًا من أن نضيّق ونقلّص مساحات تجد فيها الأصوات والمواقع النسويّة المتنوّعة التعبير الشرعي. إن النقاشات حول النسوية والامبريالية التي ظهرت على موقع Open Democracy بين ديا كومار، ميريديث تاكس، سعدية تور، عفية ضياء تشير إلى ضرورة تجاوز مؤشرات هذه النقاشات. فالمتحّدثات، وكلّهن نساء من اليسار، داعمات للسلام وغير معاديات لنضال النساء من أجل حقوقهن، لم يناقشن الامبريالية في حدّ ذاتها بل أنواع التحالفات التي تنخرط فيها النسويّات أو يتغاضين عنها أو يحجمن عنها في أثناء السعي لتحقيق الأهداف. حتى التوتّرات المتغلغلة حول ثنائية علمانيّ / إسلاميّ تبدو لي ظاهرة سطحية تخفي فوضى عميقة للسياسات في بلدان مثل باكستان. فقد قام الجيش المموّل أميركيًا برعاية التوجهات الجهادية من أجل غاياتها الجيو-سياسية والمحلّية، وهي توجهات زعزعت استقرار النظام السياسي وتحولت إلى هدف في حرب أميركا على الإرهاب.
أين يمكن وضع حدود الاشتباك مع الامبريالية في مثل هذا السياق؟ هل تنتهي الحدود عند المنظمات النسائية غير الحكومية المستفيدة من التمويل السخي للحرب على الإرهاب تحت مظلة الحكم العسكري لبرويز مشرّف؟ أم تنتهي عند النسويات – ومجموعات أخرى – اللواتي يدعمن الحكم العسكري لانقلابه أخيرًا على المجموعات الجهادية بمساعدة أميركية، وذلك أملًا في خلخلة هذه العلاقة الضارّة ومن ثم دفعه السياسة الباكستانية في مسار جديد؟ لابدّ أن نواجه حقيقة أنّ ناشطات حقوق النساء غالبًا ما يُدفع بهنّ إلى مواقف صعبة ليست من صنعهن، ويجب عليهن الخوض فيها ليتّخذن قرارات براغماتية وتحالفات ليس لديها الكثير من التأثير. وهذا هو بالتحديد ما نتحدّث عنه: المسألة ليست رواية عن حركة قوية مسنودة بإمبراطورية في ظهرها، بل واقع دوائر ضعيفة ومهمّشة سياسيًا تقع مكاسبها السياسية والقانونية الضئيلة تحت رحمة قوى سياسية ليس لها عليها سيطرة. كما أن حقوق هذه الدوائر – ضعيفة وهشّة – كانت دائمًا ولا تزال بمثابة كرة اللكم للسياسات الذكورية.
قد يكون من المفيد أن نعود إلى الأساسيّات ونتذكّر كلمات ريبيكا وست – مناصرة منح النساء حق الاقتراع – "النسوية هي المفهوم الراديكاليّ أن النساء بشَر". دعونا لا نخدع أنفسنا بأنّ هذا الهدف قد تحقّق. إذ لا نحتاج إلى شيء دراميّ مثل سوق النخاسة الذي أنشأته داعش في الموصل ليذكّرنا بذلك. كل ما نحتاجه هو إدخال بعض التفكير السليم والواقعية على تقييمنا لموقع حقوق النساء في نظرتنا الشاملة. دعونا لا نتجاهل حقيقة أن هناك تحالفات قوية عابرة للقوميات ممتدة عبر القارّات والأديان تهدف إلى إرساء مبدأ ان المسائل المتعلّقة بالجنسانيّة وسيطرة النساء على أجسادهن والخيارات الإنجابية لا تنتمي إلى مجال التفكير المدنيّ أو الاختيار العام أو حقوق الانسان بل تنتمي إلى نطاق أخلاقية غير قابلة للتفاوض محكومة بضرورات مذهبية. إن زخم هذه المنابر هو الذي أدّى إلى فشل الأمم المتحدة في تمرير قرار بعقد مؤتمر عالمي خامس للنساء خوفًا من إعادة طرح الاتفاقيات الدولية حول حقوق النساء للنقاش. علاوة على ذلك، فإن الصراع بين الدين والعلمانية حول سياسات الجندر لا يتجلّى فقط في تقسيمات الشمال/الجنوب أو الإسلام/ المسيحية. ففي حين يعمل البعض على التعبئة من أجل حقوق المثليين في الولايات المتحدة الأميركية، ينشغل البعض الآخر بتفجير عيّادات الإجهاض. ولا يخاف المثليون/ات على حيواتهم في أوغندا فقط، لا توجد منطقة أو بلد أو دين يحتكر التعصّب الدينيّ أو التعصّب الأعمى. كما أن هذه المواقع الفكريّة لا تحرّض الرجال ضد النساء بما أن هناك تحالفات عابرة للجندر على طرفي هذه المعادلة. إن الأمر باختصار متعلّق بالسياسات. فالقوى شديدة المحافظة – وهي مختلفة – أفضل رسوخًا وتنظيمًا وتمويلًا، والكثير منها لا يعادي استخدام العنف. لقد آن الأوان لملء فراغات تحدّيات هذا الوضع والبحث بإبداع تحالفات سياسية يمكن أن تساعد في تحقيق الاستفادة القصوى من حركات حقوق النساء ومنابر الحريات الجنسية والتي تم التعامل معها باستهانة واستخفاف حول العالم.
أعود إلى الاستعارة الفلكيّة التي استخدمتها في البداية، فما لم يتمّ إخراج بعض الكواكب السيّارة من مسارها أثناء جهودنا الحثيثة ومهاراتنا في بناء تحالفات فإننا نسرع ونجيز خسوف حقوق النساء. إن الشعاع الرئيسي لأملٍ في هذا المشهد الصعب هو أن الواقع السوسيولوجي للعديد من المجتمعات يسبق ايديولوجيات السيطرة الاجتماعية والحكم الاستبدادي الذي يفرضه مالِكو القوّة.
هناك جيل صاعد – من رجالٍ ونساء، علمانيين/ات ومتديّنين/ات، ذوي/ات خلفيات وتوجّهات جنسية متنوّعة، يتكلّمون معنا بصوت جديد، ومطالباتهم بالخبز والحرية والكرامة لم تتحقق بعد. لنستمع لهم بتواضع ولتتسع عقولنا لإمكانيات جديدة.
- 1. توضيح من "كحل": "عملية الحرية الدائمة" هو الإسم العسكري الرسمي الذي أطلقته الولايات المتحدة الأميركية على حربها على أفغانستان التي بدأت عام ٢٠٠١ تحت عنوان محاربة الإرهاب، للقضاء على حركة طالبان. آخر فصول هذه الحرب كان توقيع اتفاق بين الإدارة الأميركية وطالبان بداية العام الحالي بعد نحو ١٩ عاماً من الصراع ومئات آلاف القتلى والجرحى واللاجئين.