خشبة زلقة: صراعات وتحالفات ضمن مشهد الكباريه القاهريّ

السيرة: 

كريستين شاهين هي باحثة في الرقص وممارسة له، وهي عالمة إثنوغرافيا متخصصة في الرقص الشرقي في سياقات القاهرة المعاصرة. وهي محاضرة في دراسات الرقص في جامعة ولاية كاليفورنيا، سان ماركوس وحصلت على الدكتوراه في دراسات الرقص النقديّة من جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد. يبحث بحثها الإثنوغرافي في التداولات المحلية والعالمية لمنصات رأس شرقي المتمركزة داخل القاهرة، مصر. وبصفة خاصة، تعتبر بحثها موقعًا أساسيًا لتحليل التحولات السياسية والجنسانية والاقتصادية التي مرت بها البلاد في أعقاب ثورة مصر عام 2011.

‫ ‫الملخص: 

تقدّم دراسة الحالة الإثنوغرافيّة هذه عملًا استقصائيًّا يستهدف الاطّلاع من الداخل على المدارك والحيَل والصراعات التي تشهدها راقصات الكباريه من خلال علاقتهنّ بالسياسات الجندريّة والطبقيّة والجنسانيّة والقوميّة على المستوى الكلّي داخل مجتمع القاهرة في مصر. فمع تقدّم ساعات الليل، تزداد خشبات مسارح الرقص في كباريهات شارع الهرم زلقًا لا بسبب أوراق الخمسة جنيهات المتناثرة على الأرض فحسب، بل نتيجة الحضور الرجاليّ المشحون بالتنافس على إبراز التفوّق الذكوريّ والقوميّ بين أبناء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال "التحيّات" و"النقوط". ووسط احتدام مبارزات "النقوط"، تراوح "الرقّاصة" موضعها كمحور للدوران الطرديّ فيما تتأرجح بين الرقص واللعب والخضوع للرقابة التأديبيّة تحت سطوة وتحكّم القوى المتصارعة. تنتمي هذه الدراسة إلى مجال أوسع من الأبحاث الميدانيّة الإثنوغرافيّة في القاهرة والمتّصلة بدراسات الرقص النقديّة والدراسات الشرق أوسطيّة. كما تسعى إلى الكشف عن كيفيّة مواجهة "الرقص الشرقيّ" وغيره من المساحات الأخرى التي تضمّ الأجساد المتحرّكة المهمّشة للاحتمالات المتأرجحة وسط اشتعال التحوّلات السياسيّة والاقتصاديّة، وبالرغم منها، والتي تشهدها مصر منذ ثورة يناير 2011.

الكلمات المفتاحية: 
نظريّة الأداء/الرقص
تحالفات كوريوغرافيّة
الاقتصاد السياسيّ
إثنوغرافيا
اقتباس: 
كريستين شاهين. "خشبة زلقة: صراعات وتحالفات ضمن مشهد الكباريه القاهريّ". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 1 (01 يونيو 2020): ص. 111-126. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 29 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/236.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (780.21 كيلوبايت)
ترجمة: 

باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.

Tears in the fabric.png

تمزّقات في النسيج

سكِن سلز

في أعقاب الأحداث العاصفة لثورة 25 يناير 2011 المصريّة، تواصل القاهرة المعاصرة تصادماتها مع السياسات الجندريّة والجنسانيّة والطبقيّة والهويّاتيّة المتزعزعة. إذ تنشغل المدينة اليوم بهموم عدّة من بينها اضطراب المقاربات السياسيّة للقضايا الجندريّة في ظلّ نظام استبداديّ قمعيّ وتفاوتات اقتصاديّة حادّة ومتداخلة ناجمة عن تركيبة النظام المصريّ والاقتصاديات النيوليبراليّة الغربيّة والنفطيّة الخليجيّة. في هذا المقال، أقوم بتحليل دراسة حالة إثنوغرافيّة مستندة إلى عملي الميدانيّ في أوساط الرقص الشرقيّ في القاهرة بهدف الاستدلال على عمق التجسّد والتداخل بين السياسة المجهريّة أي على مستوى الأجساد المتحرّكة والسياسة الكلّية على مستوى الدولة. تنظّر دراسات الرقص النقديّة لفكرة أن الجسد الراقص هو نمط مهمَل من أنماط الإنتاج والنشر المعرفيَّين. من هنا فإنّ التنقيب في السياسات الحركيّة الكوريوغرافيّة المؤطِّرة للعلاقات بين الأجساد المتحرّكة زمانيًّا ومكانيًّا، يلقي الضوء على نموذج من شحم ولحم يمثّل نطاقًا أوسع من الديناميكيّات السياسيّة وبشكل أكثر التفافًا وتعقيدًا من مجمل المقاربات الأخرى.

مع تقدّم ساعات الليل، تزداد خشبات مسارح الرقص في كباريهات شارع الهرم زلقًا، لا بسبب أوراق الخمسة جنيهات المتناثرة على الأرض فحسب، بل نتيجة الحضور الرجاليّ المشحون بالتنافس على إبراز التفوّق الذكوريّ والقوميّ بين أبناء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال "التحيّات" و"النقوط".1 وسط احتدام مبارزات "النقوط"، تراوح "الرقّاصة"2 موضعها كمحور للدوران الطرديّ فيما تتأرجح بين الرقص واللعب والخضوع للرقابة التأديبيّة تحت سطوة وتحكّم القوى المتصارعة. هنا، أسعى إلى البحث معمّقًا للتعرّف إلى الوسائل التي تتّبعها الأجساد داخل الكباريه للحفاظ على توازنها وهي تجتاز المسطّح الاقتصادي الزلق بالارتباط مع تغيّر المفاهيم الطبقيّة والمجندرة حيال الذكورة وجسد المرأة العاملة وتداخل مساحات الهيمنة الاقتصاديّة المحليّة والإقليميّة وتحديدًا البترودولار الخليجيّ المرتبط باقتصاديّات النفط. تدور هذه الاضطرابات السياسيّة لا داخل الكباريه فحسب، بل على النطاق الأشمل للنظام والبنية السياسيّة في القاهرة.

أمّا سؤالي المحوريّ فعن الملاحظات والعبَر التي يمكن استخلاصها من النظر إلى السياسات الحكوميّة بمستواها الكليّ عبر منظار مرتكز على الرقص. كيف يمكن لهذه المعرفة أن تساهم في تنمية شبكات التضامن والحركات المستدامة في مواجهة بنى ومكامن الصراع السائدة؟ أناقش هنا وجود إمكانات متاحة للتفكير بمفهوم "الانزلاق" حتى داخل النطاقات والهيكليّات والنظم المشبعة بالتوتّرات التي تكرّسها المنظومة السياسيّة المهيمنة. إذ إنّ تكوين مقاربة نظرية لمفهوم "الانزلاقيّة" يحتّم اعتماد أطر عمل ومواقع متمحورة حول الجسد ومتمركزة فيه، حيث يمكن للظروف المتزعزعة عينها أن تجسّد إمكانيّات لتقوية الجذع البدنيّ وممارسة التوازن والاعتماديّة والتضامن اللاسلطويين تجاه الآخر. بعبارة أخرى، يمكن للجسد أن يوجد من صميم حركيّته العضليّة المتفاعلة مع أرضيّة التوتّر الزلقة حيّزًا للالتفات نحو اتّجاهات وحركات وعلاقات تبعيّة وتضامن متبادلة هامشيّة ولكنّها مليئة بالإمكانات. بين هذا المسرح الزلق وصالة الكباريه، تطرح احتماليّة الانفلات أو الانزلاق بين جبهات التوتّر فرصة التوصّل إلى عبرة سياسيّة أوسع: أن أنماط التواجد والمعرفة والتصميم الكوريوغرافي الجسمانيّ متعدّدة الوضعيّات والاتجاهات هي شرط جوهريّ لتنظيم شبكات التضامن وبناء الحركات النسويّة التقاطعيّة المستدامة.

يركّز هذا النص على أحد الكباريهات الشهيرة في شارع الهرم في فترة ما يسمّى "بالموسم العربيّ" حين يتحوّل إلى مقصدٍ لأبناء الطبقتَين المتوسّطة والعليا والرجال من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، علمًا أنّه يستقطب السيّاح الخليجييّن بالدرجة الأولى.3 بُني شارع الهرم في عهد الخديوي اسماعيل عشيّة افتتاح قناة السويس في العام 1869 بهدف نقل كبار المدعوّين إليها من القاهرة. وكان كازينو "أوبيرج" وكازينو "شاليمار" أوّل صالتين راقيتين تقدّمان عروض الرقص الشرقيّ في شارع الهرم أيّام كانت تلك الأماكن مقصدًا لصفوة المجتمع المحلّي وللزوّار الأجانب القادمين لمشاهدة نجمات الرقص. تحوّلت هذه المنطقة في عهد جمال عبد الناصر إلى المنطقة السكنيّة والتجاريّة الحيويّة التي نعرفها اليوم. ثم بدءًا من عهد أنور السادات الذي شهد الطفرة النفطيّة مرورًا بعهد حسني مبارك الذي شهد تراجعًا اقتصاديًّا حادًّا، خضعت كباريهات شارع الهرم لتحوّلات حاسمة، فوجّهت تركيزها نحو حمل الزبائن على إنفاق النقود التي تعرف بالنقطة أو "الكيت". منذ ذلك الحين، باتت الكازينوهات تتّبع نظام "النِمَر" حيث تقوم الراقصة بأداء وصلة لمدّة ثلاثين دقيقة ببدلة رقص واحدة تُسمّى "النمرة" تليها استراحة وجيزة تدخل من بعدها الراقصة التالية فتطوف في المكان استعدادًا لتقديم فقرتها الاستعراضيّة، وغالبًا ما تشهد الليلة الواحدة عددًا من الراقصات يؤدّين رقصاتهنّ طوال الليل متنقّلات ذهابًا وإيابًا في الشارع.

تُستَهلّ "النمرة" التي تستغرق ثلاثين دقيقة ونيّفًا بما يُعرف بـ"الافتتاحيّة" (أغنية الافتتاح في الرقص الشرقيّ)، على أن تنصرف الراقصة بعدها إلى الارتجال على حسب ما يطلبه الزبائن والمغنّي. وفي معظم الأحيان تغلب الأغاني الشعبيّة المصريّة (موسيقى الطبقة العاملة) التي تشتهر بالموّال4 على البرنامج، إضافة إلى الأغاني الخليجيّة ومجموعة متناثرة من الأغاني من كلاسيكيّات أم كلثوم إلى الدبكة5 اللبنانيّة استجابة لرغبات الزبائن الأكثر إغداقًا للمال. ولا تعرف الراقصة ما ستكون الأغنية التالية، وقد ترقص طيلة الخمس والعشرين دقيقة من استعراضها على الأغاني الخليجيّة. باستثناء راقصات الكباريه الشهيرات، تؤدّي الراقصات "نمرهنّ" على أنغام الفرقة المتعاقدة للعمل مع الكباريه. وبين "النمرة" والأخرى، تزدحم خشبة المسرح بالأجساد الراقصة فيختلط الزبائن الرجال بلاعبي الدفوف والمضيفات اللواتي يتقاضين الأجر ليتجمّلن ويؤانسن روّاد الكباريه ويراقصنهم. هؤلاء النساء يتقاضين المال لقاء مجالسة الرجال ومؤانستهنّ وبعضهنّ عاملات جنس.6

ومن المظاهر الشائعة في عروض الكباريه الإيقاف المتكرّر للموسيقى والغناء والرقص من أجل إلقاء التحيّة. والتحيّة هي أن يقوم المغنّي بإسكات الموسيقى فجأة ليتلو عبر الميكروفون اسم أحد الأشخاص ومنطقته (البلد أو الحيّ) وأحيانًا مهنته أيضًا، بقصد التباهي بأهميّة صاحب الاسم أمام بقيّة الزبائن وفي الوقت عينه لإحراجه لتقديم المزيد من "النقوط". وفي الدارجة، يشبه هذا النوع من الأداء والسلام لعبة "إدفع واربح"، إذ غالبًا ما يترافق مع مشهد المغني أو الزبون إمّا وهو يرمي الكيت أو ينثر الأوراق النقديّة أو يحملها عاليًا وملوّحًا أمام أعين المتفرّجين. إذًا تساهم التحيّة في إزكاء الروح التنافسيّة الذكوريّة على إغداق "النقوط" والتي تشكّل أحد مصادر الدخل الذي تسعى الكباريهات لتحصيله. فما إن يُذكر اسم أحد الزبائن وبلده حتّى يشتعل التحدّي بينه وبين بقيّة الرجال المتواجدين الساعين لإثبات تفوّق مكانتهم وثروتهم وحتى بلدهم. فقد يتنافس بعض الرجال من أبناء البلد الواحد على التباهي برفعة بلدهم وكرمه من خلال بذل النقود، فيما يدخل البعض من أبناء الجنسيّات الأخرى إلى حلبة التنافس من باب كسب الاعتراف والمكانة. وتزداد حيويّة المنافسة عندما يبادر الرجال بإهداء التحيّات إلى بعضهم البعض، فيما تشكّل مظاهر السخاء والاعتداد بالنفس غطاء تستتر وراءه الصراعات الاقتصاديّة المجندرة والتباري القومي الهويّاتي.7

تعدّ الكباريهات من أوّلى الأماكن التي قدّمت الرقص الشرقيّ في القاهرة علمًا أن سمعتها شهدت تدهورًا شديدًا منذ عهد الملكيّة حين كانت مقصدًا لأبناء الطبقة المخمليّة من المشاهير والشخصيّات بمن فيهم الملك فاروق من أجل اللهو والاستمتاع بعروض أشهر الرقّاصات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع التدهور الاقتصادي الذي شهده عهد مبارك، أصبح الكباريه في عرف المشتغلين/ات بالرقص مرادفًا للانحطاط، على تنوّع درجاته، يقصده الرجال للسكر وتعاطي المخدّرات والفرجة على أجساد النساء.8 ومع ذلك، فقد كانت الكباريهات من الأماكن القليلة التي تمكنّت من مواصلة العمل إبّان ثورة يناير 2011 وعقبها مباشرة، في وقت كانت القوارب السياحيّة والفنادق قد أقفلت إمّا تمامًا أو بصورة جزئيّة مسجّلة تراجعًا حادًا في أعداد العروض والرحلات النهريّة.9 لعلّ السرّ في ذلك يعود إلى الربحيّة والاستدامة اللتين توفّرهما "حروب النقوط" الشرسة والتي لا تنفكّ تتغذّى على ذكورة الرجال المنتفخة. هذا هو الانطباع الذي تكوّن لديّ وأنا جالسة في الكباريه أراقب تطاير الجنيهات المصريّة وتراكض الشبّان من جامعي "النقوط" لالتقاطها كمن يجرف الثلوج وسط عاصفة شتويّة. وللمفارقة فإن نظام الكباريه هذا المركّز بشكل أساسيّ على الرجال ومفهوم التنافس الرجاليّ وحصر القيمة بحجم محفظة النقود، يسجّل العديد من أوجه الشبه مع حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي من حيث التركيز والأهداف. إذ يقوم مشروع السيسي هو الآخر على مبدأ تحقيق الاستدامة والنجاح لمصر من خلال تنفيذ مشاريع الأمن القومي ذات الطابع الذكوري. فضلًا عن ذلك، يعزّز التواجد الكثيف للرجال المصريّين من أصحاب البِدل والأيدي المكتوفة، وهم يراقبون كلّ ما يحدث ويشرفون على تدفّق الكيت، مناهج وقيم النظام الذكوريّ العسكريّ الاستبداديّ تحت حكم السيسي، نظام أحادي الاتّجاه شديد الهرميّة خطيّ السرديّة وخاضع للرقابة المشدّدة.

أمّا كباحثة إثنوغرافيّة نسويّة معنيّة بممارسات الرقص، فلا بدّ لي أن أسأل ما إذا كان هذا المشهد يعكس حقيقة الكباريه المطلقة، أو ما إذا كان ثمّة وجه آخر مغاير لا ينتمي إلى تلك التصوّرات ولا إلى الأجساد المهيمنة. ما الذي يحافظ على استمرار تدفّق الكيت؟ ومَن؟ هل هناك أنماط أخرى من الوجود والمعرفة والحركة في دوائر الكباريه؟ يقول سيّد حنكش، الشاهد على تاريخ تحوّلات الكباريه، إنّه وحتى مرحلة معيّنة كانت كلّ أموال "النقطة" حقيقيّة. كان الزبون يدخل بمائة جنيه فيرمي مائة جنيه على المسرح. ولكنّ مع الوقت تبدّل النظام وبدأت الكباريهات تستخدم النقود المزيّفة، أو بالأحرى باتت تستخدم "صكوكًا قابلة للبيع" لتضخيم حروب "النقوط" وإشعال الحماسة فيها بشكل يخدم مصلحة الزبائن الذي يُعتقًد أنّهم الأوفر مالًا.10 أي أنّ "القيمة التبادليّة" للعملة الحقيقيّة أصبحت تعتمد على المزيد من التجسيد للتفاوتات المعروفة في تدفّقات رؤوس الأموال على المستوى الإقليميّ. فعلى سبيل المثال، يمكن للزبون المصري أن يدفع مبلغ مائة جنيه فيتلقّى مقابله خمسمائة جنيه لينثرها، في حين يحصل الزبون الخليجيّ الميسور الهيئة على مبلغ ألفي جنيه للنثر مقابل نفس المبلغ الذي يبذله المصريّ. وبناء على ذلك، يبدو لنا أنّ هذا النظام "المستدام" ظاهريًّا هو مجرّد واجهة تحجب أمورًا أخرى يجدر النظر إليها.

إلى ذلك، كانت "النقوط" في السابق تقسّم على ثلاثة: المحلّ والراقصة والفرقة، ولكنّ الوضع اختلف منذ عهد مبارك فبات المحلّ يأخذ "النقوط" كلّه. إذًا فإنّ مخطّط إشعال التنافس في حروب "النقوط" الذي تتّبعه الكباريهات لجني المال ليس نظامًا متينًا يضمن الاستدامة. كما أنّه يزيد من تبعيّة عمالة الكباريه من المصريّين المهمّشين وانعدام الأمان لديهم بنفس الطريقة التي تساهم فيها سياسات الدولة المتعامية عن الجندر والواقع المادّي في تهميش هذه الفئة (بما فيها الطبقة العاملة والشباب والنساء). تدفعنا هذه الملاحظات إلى البحث على مستوى أعمق ومن مواقع وتموضعات مختلفة لتكوين فهم أفضل وأكثر إحاطة ودراية بالحيل والتكتيكات المتّبعة سعيًا إلى بناء عوالم أكثر عدالة واستدامة سواء على المستوى المجهري داخل نطاق الكباريه أو على المستوى الكلّيّ المتعلّق بسياسات الاقتصاد القومي وديناميكيّات الجندر.

 

البنية السرديّة والمنهجيّة

يستند هذا النصّ إلى مقاربات نظريّة ومنهجيّة متداخلة عابرة للاختصاصات، فتتعانق المفاهيم والنظريّات النابعة من سياق دراسات الجندر والجنسانيّة في الشرق الأوسط مع دراسات الرقص والإثنوغرافيا والكوريوغرافيا. تتكوّن مقاربتي البحثيّة من تحليلات دقيقة مرتكزة إلى الأداء الراقص ومنسجمة مع حساسيّة الكتابات الداخلية العميقة والكوريوغرافيّة التي تجسّد أسلوب الرقص الشرقيّ الخاص بمدينة القاهرة وبنيته وسيميائيّاته. وتستند منهجيّتي بشكل أساسيّ إلى العمل الميداني أي ملاحظات المشاركين/ات في صالات رقص متفاوتة طبقيًّا، مع مقاربة خاصّة بدراسات الرقص تحلّل الجانب الكوريوغرافيّ للمواقع الميدانيّة المذكورة. في هذا السياق، يحيل استخدامي لمصطلح "الكوريوغرافيا" إلى العلاقات البنيويّة التأسيسيّة بين الأجساد والحركة والزمن والفضاء. من هنا، فإني أعتبر الكوريوغرافيا بمثابة الحدث الأعمّ الذي يشمل جميع الأجساد المتحرّكة في نطاق صالة الرقص، ويستهدف بالتحليل لا الراقصات والراقصين على مسارح القاهرة فحسب، بل جميع الحركات والتفاعلات والعلاقات التي تربط المتفرّجين والموسيقيّين وطاقم الخدمة والمضيفات. بناء على ذلك، أركزّ على دراسة كيفيّة تداول السلطة بين مختلف هذه الفئات، علمًا أن كلًّا منها يشكّل مصدرًا لسلطة ما وإن كان مقدارها يتحدّد بحسب السياق وطبيعة التعامل. إلى ذلك، أردف تحليلي بمجموعة من المقابلات غير الرسميّة التي أجريتها مع راقصين/ات محترفين/ات وأعضاء من الجمهور ومديرين وموسيقيّين وغيرهم من الذي ترتبط مجالات أعمالهم بقطاع الرقص.

في معرض التنظير للمنهجيّات النسويّة في الدراسات الشرق أوسطيّة، تنبّه كلّ من ليلى أبو اللغد وشرين حافظ الباحثين/ات إلى ضرورة عدم الانجرار خلف رومنسيّات المقاومة. وتؤكّدان أن سرد قصّة متداخلة وتقاطعية وباطنيّة يمكن أن يعكس مصداقيّة أكبر من مجرّد التركيز على النهايات السعيدة التي تخدم بشكل سطحيّ السياسات التقدّمية (أبو اللغد، Re-Making Women، 1998؛ مشاعر محجّبة، 1999؛ حافظ، Bodies That Protest، 2014؛ No Longer a Bargain، 2014). كما تشيران إلى أهميّة الاستقصاء الميداني المركّب والغنيّ والذي يأخذ في عين الاعتبار تفاصيل الواقع المعاش للشخصيّات التي يستهدفها البحث، حيث تلحظ حافظ مدى ضرورة إعادة الاعتبار للتجربة الماديّة في صميم هذا الواقع (2014، 173). وهذا الطرح بالغ الأهميّة خصوصًا في مجال دراسات الرقص، إذ غالبًا ما ينظر الجمهور إلى الرقص بصفة مجازيّة كتعبير عن التحرّر، في حين أنّنا نقارب الرقص في هذا السياق كسلطة يمكن أن تستخدم إمّا للتمكين أو الكبح، وأحيانًا الإثنين معًا.

ومن أجل التنقيب عن الرمزيّات السيميائيّة لهذا المجال بشكل يجسّد معالم منظومة الكباريه الترفيهيّة، يتّخذ هذا النص البنية الكوريوغرافيّة للنمرة والتحيًات الموزّعة ضمن إطارها الزمنيّ. إذ تجزم الدراسات النقديّة في مجال الرقص بأنّ الجسد الراقص ينتج خطابه الخاص، فحبّذا لو تمكّن/ت الباحث/ة في مجال الرقص من تطبيق البنية والجماليّات الكوريوغرافيّة لنوع الرقص الذي يـ(تـ)مارسه على أطر البحث والعمل الميدانيّ والكتابة. تصبو هذه المقاربة إلى بناء تحليل متمركز حول الرقص يتّصف بالتمايز والدقّة ويجسّد الواقع من صميم تجربة الرقص الشرقي داخل الكباريه، ويقرّ بإشكاليّة تموضعي الشخصيّ إزاء موضوع البحث والكتابة كباحثة إثنوغرافيّة أجنبيّة مقيمة في الولايات المتّحدة أسعى إلى جعل سرديّات وشخصيّات القاهرة محور هذا العمل.

وفي حين يركّز البحث على التحليل الكوريوغرافيّ لنوعيّات الأجساد التي تصعد إلى الخشبة، تتمثّل عمليّة الكتابة بأجواء الكباريه من حيث تفاعلها مع التوّقف المفاجئ بين الحين والآخر من أجل إلقاء التحيّات. هذه التحيّات التي تخدم دافع المحافظة على تدفّق الإيرادات النقديّة، تلقي الضوء في الوقت عينه على "الأجساد التي تحدث الفرق" داخل الكباريه. ويحيد هذا النصّ عن تقييم هذه الأجساد بحسب مقاييس الثراء المادّي، ويستبدله بمنظار غنى التجربة. لذا، تتخلّل هذا النص مقتطفات من مقابلات كنت أجربتها مع مجموعة شديدة التنوّع من الشخصيّات الهامشيّة في نطاق عمل الكباريه، ما يخلق محطّات ووقفات أدائيّة في خضمّ الصخب الكوريوغرافيّ التأليفيّ.

ولا بدّ من طرح السؤال: أين موقعي كباحثة إثنوغرافيّة أجنبيّة من هذه الدراسة التي تتناول رقص الكباريه في موضع وظروف محدّدة؟ أجلس في الخلف في ركن بعيد من الصالة. هويّتي كراقصة ومدرّبة احترافيّة اعتادت اعتلاء المسرح والأضواء في الولايات المتّحدة، تأخد منحى مختلفًا في سياق هذا البحثّ الذي يتوخّى مركزة الشخصيّات والتجارب القاهريّة، ما يتطلّب منّي على الصعيد المنهجيّ أن ألتزم بالمكوث في المقعد الأخير في الصالة. وهذا ما فعلته على مدى ليالٍ متعدّدة بين العامين 2016 و2019 وعلى امتداد شارع الهرم، طبعًا بعدما استحصلت على الإذن للقيام بالأبحاث الميدانيّة كمراقبة مشاركة من قبل طاقم العمل في الكباريهات التي قصدتها والإدارة والراقصات/ين. ولم يخلُ ذلك من بعض التوتّر، إذ أذكر بعض المرّات حين رفض العمّال إدخالي خوفًا من أن أكون مخبرة سريّة للشرطة أو الحكومة المصريّة. وقد احترمت هذه القرارات في كلّ مرّة كنت أُواجَه بهذا النوع من الشكّ. ولكنّ عندما كان يُسمح لي بالدخول لفترة وجيزة كي أشاهد ما يحصل وأجري المقابلات مع الراقصات/ين بين "النِمر"، كنت أجلس مع صديقي المصريّ في آخر ركن من الصالة (وقد أصرّ هذا الصديق على مرافقتي باستمرار إلى هذه الأماكن، كامرأة تتجوّل بمفردها، لحمايتي والتأكّد من معاملتي باحترام). وقد مكّنني هذا التموضع من المراقبة وتسجيل الملاحظات والسماح للأجساد الأخرى الراقصة وغير الراقصة باعتلاء خشبة المسرح.

 

دراسة حالة: أمسية في كباريه قاهريّ

انفجار من المؤثّرات الحسيّة تهبط على جسدي كموجة عاتية. من خفق إيقاع الموسيقى الشعبيّة يتردّد بعنف داخل قفصي الصدريّ وكتل الدخان الكثيفة من الشيشة والسجائر والحشيش، إلى الأضواء الملوّنة المتوهّجة في أرجاء الصالة؛ أجساد وحركات تجتاح الرؤية من كلّ صوب. يصدح المغنّي على الخشبة في حين يتوزّع لاعبو الطبول والنُدُل المتيقّظون والمستعدّون دومًا لخدمة الزبائن والنساءُ اليافعات اللواتي يعملن في المكان، كلّ في موقعه الاستراتيجيّ. ولا ننسى بالطبع، الأوراق النقديّة الحقيقيّة التي تتطاير في الهواء بين الفينة والفينة كقصاصات الورق البرّاقة في حفلة رأس السنة. هذه الأوراق النقديّة المتناثرة في كلّ مكان في الصالة وعلى الخشبة، تحوّل الأرض إلى مسطّح شديد الانزلاق، ما يجبر الراقصات على بذل المزيد من المجهود لتلمّس مواطئ أقدامهنّ بين الحركة والأخرى وشقّ طريقهنّ على المستوى الإيديولوجيّ بين مختلف حواجز وأشكال التوتّر السياسيّ سواء الهويّاتي أو الجندري أو الجنسانيّي أو الطبقي.

وإلى جانب كلّ هؤلاء، هنالك الأجساد الأكثر تواجدًا في المكان والمخفيّة في الوقت عينه. تلك الأجساد الزاحفة المهرولة المقرفصة المتسلّقة للخشبة المتحرّكة باستمرار وخفّة في الصالة تحت الطاولات وعند قوائم الكراسي، تحت أقدامنا وحواليها. هؤلاء الصبية المصريّون هم في الأغلب الأسرع والأكثر بذلًا للمجهود العضليّ والجسمانيّ وهم يتنقّلون بين أرجل الزبائن والطاولات والكراسي وعدّة الشيشة ذات التوازن الدقيق وكأنّهم يتبارون في حلبة لسباق الحواجز قبل انتهاء الوقت. مهمّتهم الوحيدة هي جمع النقود (الكيت) من على أرض الصالة والمسرح والطاولات لحظة سقوطها تحضيرًا لإعادة توزيعها على الزبائن.11 لكنّ الجهد ينصبّ في التأكّد من لَمِّ الكيت قبل أن يقع في أيدي الزبائن فيخفي أحدهم بعضًا منه في جيوبه. يعدّون النقود ليتأكّدوا من أنّ المبلغ المجموع من الأرض يساوي ما أحصته إدارة الكباريه في أوّل الأمسية، فإن نقصت الأموال يتحمّل الصبية الخسارة. عقوبة باهظة جدًّا بالنظر إلى المجهود البدنيّ المضني الذي يبذلونه.

وعلى الرغم من شدّة قربهم من الزبائن، يبقى وجود هؤلاء الصبية مُتجاهًلًا بالكامل. ظهورهم وخفيتهم في الوقت عينه دلالة على موقعهم في أسفل السلّم الذي تتوزّع عليه الأجساد في هذا المكان. ولا تعدّ كوريوغرافيّتهم الحركيّة في المكان مجرّد انعكاس لسياسات الظهور المفرط12 للعمالة المجندرة والظروف الاقتصاديّة التي تملي مسار حياة هؤلاء الصبية قبل الثورة وبعدها، بل وتمثّل انزلاقًا فيها. فهؤلاء يجاهدون في سبيل اقتناص فرص العمل المتضائلة التي يحدّ أغلبها سقف زجاجيّ يمنع من هم من خلفيّة اجتماعيّة واقتصاديّة معيّنة من الترقّي، أي أن ثمّة حواجز هيكليًّة تحرمهم من فرص الصعود مهما عملوا بجدّ. لكنّهم مجبرون على العمل بجدّ لتحصيل قوتهم ولكي يتمكّنوا من مجاراة تضخّم أسعار المواد الغذائيّة والمواد الاستهلاكيّة الأساسيّة. يبذلون عرقهم ليجمعوا الكيت من الأرض، لكي يعيدوه إلى أيدي الأغنياء الذين سيرمونه مجدّدًا. وفي صميم الوضع الاقتصاديّ المتدهور وفي ظلّ سيطرة المعايير الأبويّة، يجد هؤلاء الصبية أنفسهم في الدرك الأسفل بين أقلّ المستفيدين من النظام إلى جانب نساء الطبقة العاملة، بالرغم من كونهم الأكثر بذلًا للمجهود البدنيّ، وهم في الوقت عينه الأكثر عرضة لمنظومة الرقابة والعقاب.

تختال جوليا على خشبة المسرح بإغراء تمهيدًا لبدء "النِمرة" التالية.13 نزلت بعض المضيفات من على الخشبة بعدما بدأت جوليا عرضها فيما بقيت أخريات يرقصن ويتمايلن بخصورهنّ إلى الموسيقى. كانت جوليا سمراء البشرة وفارعة الطول، يزيدها حذاؤها ذو الكعب العالي المدبّب طولًا وحضورًا آسرًا. ترتدي بدلة من صديريّة حمراء فاقعة وتنّورة ضيقّة تتسّع عند أسفل الرجلين وساعة يد فقط، لا مجوهرات ثمينة تزيّنها كالنجمات. فبدلًا من المجوهرات، كانت جوليا قد استثمرت بعض المال في عمليّة تكبير لثدييها النافرين بشكل استراتيجيّ من حمّالة الصدر الكاشفة لمفاتنها.

هرع رجل سعوديّ مفتون بسحر جوليا معتليًا خشبة المسرح ليرقص معها فيما كان المغنّي يتّجه ليلقي التحيّة على طاولة جلس إليها عدد من رجال الأعمال القادمين من صعيد مصر. بقيت نظرته الجائعة مغروسة في صدر جوليا حتّى وهو يمدّ يده إلى محفظته ليخرج مائتي جنيهًا. استشعرت جوليا الخطر في نظرته المحدّقة وراحت تبحث عن المغنّي ليساعدها في السيطرة على الموقف، ولكنّه كان على الجانب الآخر من الخشبة في حين بات الرجل السعوديّ على بعد خطوة واحدة من جسدها. ابتسمت جوليا للرجل وهزّت صدرها طلوعًا ونزولًا بحركة إيقاعيّة، ثم مدّت ذراعيها وأمسكت يديه وراحت تراقصه. بدا الزبون كالمنوَّم مغناطيسيًّا بينما هو مستمرّ في التحديق ويداه قابضتان على يديها. ومع محاولاته المتكرّرة للاندفاع بجسده نحوها، جعلت جوليا ذراعيها الممدودتين حاجزًا يحول دون اقترابه منها، فيما راحت تبحث من جديد عن المغنّي طلبًا للمساعدة.

تعاطفتُ مع جوليا كوني راقصة مثلها، وقد استشعرت من حركة ذراعيها أنّها تلجأ إلى الأسلوب الذي يتّبعه الراقصون/ات في كلّ مكان عندما يوشك أحدهم على اجتياح المساحة الخاصّة لأجسادنا من أجل التغلّب السريع على الموقف. ولكن في هذه الحال، لم يقتصر التعدّي المحتمل على المساحة الشخصية لجسد الراقصة، بل على مساحة الدولة أيضًا. فالكباريهات في القاهرة هي من الأماكن الأكثر خضوعًا لسلطة النظام ورقابة الشرطة. إذ تواجه الراقصة احتمالات الغرامة أو الحبس إذا ما ترجّلت عن المسرح أو تلقّت البقشيش في ثيابها أو على جسمها أو إذا حدث أن كانت ترتدي ملابس داخليّة أقصر من المسموح أو لم تكن ترتدي الشبكة (غطاء السرّة). ولا تنطبق هذه العقوبات على الزبائن الرجال عندما يصعدون إلى المسرح محاولين لمس الراقصة. تحيّة دنيا، مضيفة كباريه تقول: "أكره أولئك الذين يظنّون أن في وسعهم ممارسة الجنس معي وأنّني فتاة سوء. أنا دائمًا المُلامة وكأنّني أنا المسؤولة عن قذارة هذه الأماكن. لم لا ينتقد الناس هؤلاء السوقيّين السكّيرين الذين يأتون إلى هنا؟! أنا سيّدة مطلّقة وأعمل لكي أعيل ابنتي الوحيدة، أمّا هؤلاء فيتركون زوجاتهم وأولادهم ويقصدون هذا المكان ليبدّدوا أموال عائلاتهم".14

وكما تشير دنيا، ترزح أجساد النساء العاملات في هذا المجال تحت أثقال العمل، لا من أجل الاستمرار فحسب بل سعيًا لكسب المال ودفع الشبهة الجرميّة للإتجار بالجنس الملتصقة بأجسادهنّ عنهنّ في الوقت عينه. وفي هذه الأثناء، تعمد هذه الأجساد إلى ابتداع الأساليب لحماية أنفسهنّ بواسطة كتلتهنّ الجسمانيّة15، تمامًا كاستخدام جوليا لحركة الذراع الممدودة. وتعرّف دراسات الرقص الحضور الجسمانيّ في إطار التنظير المتعلّق بالواقع المعاش من خلال التجربة المجسَّدة. بمعنى آخر، فإن الجسد محدّد في الثقافة، حيث هو مركز الفاعليّة والمستلب من قبل أنظمة السلطة في الوقت عينه.16 تحيّة بوسي، راقصة كباريه، تقول: "الكباريه هو أصعب مكان للعمل، فهنالك الرجال السيئون الذين يسعون دومًا لتخطّي الحدود ولمس أجساد النساء بطريقة شهوانيّة، فيما يتخاذل حرّاس الأمن في الكباريه عن أداء مهمّاتهم على أكمل وجه. ففي وسط الصخب، ينصبّ اهتمام العمّال على التأكّد من استمرار نثر النقود. وإن لم أحصل على حماية الإدارة في هذه المواقف، سيكون عليّ أن أحمي نفسي وأن آخذ زمام الأمور. أمّا قوّتي فأستمدّها من جاذبيّتي وفطنة حركاتي. فإن اقتربوا منّي أتظاهر بالبهجة كي يبقوا مبتهجين، ولكنّني في الواقع أستخدم أسلوبي في الرقص كي أمنعهم من تخطّي حدودهم".17

في حين تتوقّع كلّ من جوليا وبوسي الحماية من نظام الكباريه بنفس الطريقة التي تتوقّعان فيها الحماية في ظلّ المنظومة الجندريّة الأبويّة عمومًا، إلّأ أنهما لا تقفان مكتوفتي الأيدي عندما تفتقدانها، بل تتولّيان زمام الأمور من خلال الانزلاق إلى كوكتيل من الأداء الجسمانيّ الذي يجمع بين الجاذبيّة وسرعة البديهة والكوريوغرافيات المرمّزة للحفاظ على صلابتهما البدنيّة وتوازنهما وسط الصراعات الدائرة.

أقبل المغنّي ولاعب الدفّ على الرجل السعوديّ وحاولا حثّه على نثر البقشيش، ولكن جوليا كانت قد باشرت بهذه المهمّة قبلهما، فإذ بالسعودي يلتفت إلى المغنّي ويرميه بعنف برزمة من النقود كانت لا تزال في رباطها المطّاطي، فنزلت عليه كطوبة مقذوفة. راح الرجل يرمي المزيد من رزم النقود على لاعب الدفّ والمغنّي فيما تراجعت جوليا خطوة لتباعد المسافة بين جسدها والزبون الذي بدأ يزداد عدوانيّة من شدّة السكر. عندها وصل اثنان من المديرين ليساعدا في فض البلبلة واستعادة السيطرة، ما أكّد لي أن الموقف كان ملاحظًا من قبل الجميع في ظلّ التوتّر المتصاعد. أمّا بالنسبة للإدارة فقد بقي الهدف الأهمّ الإبقاء على تدفّق الكيت بغضّ النظر عن سلامة العمّال والعاملات وعدوانيّة الرجل.

تدخّلت جوليا بأداء انحناءة شديدة إلى الخلف أمام الزبون حتى بات ثدياها المنتصبان تحت مستوى نظره مباشرة في حين أرخت رأسها إلى الأسفل وراحت تهزّ صدرها بانفعال من جهة إلى أخرى. هدأت فورة الرجل السعوديّ قليلًا وهو يتمتّع بمنظر النقود المتساقطة من الرزمة التي كان قد رفعها فوق شقّ ثدييها وهي ترتدّ عن صدرها المترجرج. ولحسن الحظ، نجحت حركة جوليا الخطرة في تبديد التوتّر والتي كانت لتعرّضها لموقف أشدّ تهديدً لسلامتها لولا استجابة الرجل لها. فرقع الرجل أصابعه مناديًا على النادل كي يضع في يده الممدودة رزمًا إضافيّة من النقود ليمطرها فوق ثديي جوليا وراح يصيح ويثرثر متحمّسًا وينحني فوقها مراقبًا النقود وهي تتقافز وترتدّ عن جسدها العاري الهزّاز.

على الجانب الآخر، كان النادل اليافع يهرع لاهثًا جيئة وذهابًا ليملأ كفّ السعوديّ الممدودة، فيما الأخير يشيح بنظره عنه وكأنّه فقط ينتظر أن تمتلئ يده بالنقود بلا أي سؤال أو حتى شكر. شعرتُ بانقباض في معدتي وأنا أراقب النادل الشاب يركض ليلبّي طلب الزبون من دون أي تقدير فيما الرجل يواصل ثرثرته التي تنمّ عن شعور بالاستحقاق، وأراقب عضلات جذع جوليا وساقيها وأنا أتخيّل شعورها الحارق من شدّة المجهود الذي يتطلّبه الثبات الطويل على تلك الوضعيّة. وكنت أسأل نفسي في تلك اللحظات ما إذا كانت الذكورة الرأسماليّة السامّة المتجسّدة في هذا المشهد هي المسبّب لآلام معدتي.

لقد كانت نظرة الرجل السعوديّ، الذي قصد تمضية إجازته في دولة تعتمد بشكل كبير على بلده للمساعدات الماليّة وتحويلات العمالة المهاجرة، تنضح لذّة وهو يلقي بآلاف الجنيهات فوق ثديين مزيّفين لمجرّد التباهي واستعراض السلطة. في المقابل، لم يكن اهتمام جوليا بالزبون نابعًا من شهوة أو انجذاب حقيقيّين، بل كان هو الآخر جزءًا من العرض. وبشكل ما، يظهر هذا العالم المنبثق من هيمنة الذكورة الرأسماليّة الفحلة وكأن مكانه هو خشبة المسرح، إذ يخلق عوالم لا يمكن أن تتواجد إلًا في الخيال. إنّها مجرّد تمثيليّة مفضوحة، نظام لا استدامة فيه. وفي نفس الوقت، تتحمّل ساقا الراقصة العاملة المجهدتان وصدر النادل المصريّ اللاهث عبء المحافظة على هذه الواجهة بواسطة العمل المضني. عملهما وجهدهما هما الحقيقة بعينها. أما الذكورة التي تتغذّى من الرأسماليّة فتستمدّ وجودها من إيديولوجيا مؤطّرة ضمن نسق من عدم الاكتفاء ومن صورة الذات القائمة على الخسارة والعجز. من هنا، تأتي الحاجة للاستزادة، أيًّا كان هذا "المزيد"، مقابل سعر محدّد في المتناول. المشكلة تكمن في ما يمكن أن تفضي إليه مراكمة هذا الكمّ من "المًزيدات" من عوالم خياليّة وعلاقات سلطة هرميّة شديدة العدوانيّة بين الأجساد. لقد اكتسب جسد جوليا المقوّس إلى الخلف في خدمة المحافظة على منظومة السلطة الخياليّة،ليونة وقوّة وثباتُا بفعل الممارسة، ولكنّ العضلات القويّة وإن كابرت تتعب في نهاية المطاف.

فجأة، بدأ حمّودة لاعب الطورة في الفرقة بالرقص بخفّة متقدّما نحو جوليا مستدعيًا انتباه إحدى المضيفات التي راحت تسير في اتّجاه جوليا. تبادلا نظرات ذات مغزى فيما راحا ينضمّان تدريجيًّا في الأداء. انحنت المضيفة وهي تهزّ صدرها فوق جوليا، جثا حمادة على ركبتيه تحت ظهر جوليا المقوّس وهو يدقّ الطورة بحماسة تضاهي طاقتهما وهما تهزّان صدريهما معًا. وبعد برهة، استقام الثلاثة واقفين وراحوا يرقصون بدلال حول الرجل السعوديّ. حافظت هذه النقلة على المشهد التمثيليّ لاستمتاع الزبون اللامتناهي، وساعدت في الوقت عينه على تبديد التوتّر وتدارك انهيار الراقصة تحت ثقل التعب الذي أصاب فخذيها وجذعها. أدهشتني سلاسة تعاملهم مع الموقف وأحزنني عدم التقدير لجهودهم بعدما توقّفت عمليّة تداول البقشيش. نظرت جوليا إلى ساعتها وكان الوقت قد انتهى، فقفزت عن المسرح بسرعة لتلتحق بنمرتها التالية في كباريه آخر في الشارع نفسه.

 

تحليل

بالرغم من التحالفات والكوريوغرافيات الذكيّة التي تُمارس داخل الكباريه فمن غير الممكن تخطّي إشكاليّة ارتهان البنية ككلّ لآليّات الهيمنة الاقتصاديّة جرّاء ندرة الموارد المحليّة والتبعيّة العابرة للحدود. وفي الوقت عينه، تقدّم دوائر الكباريه لمحة عن عوالم أخرى وأساليب أخرى للعيش. هنا، يؤدّي المكان المكتظّ بالأجساد، بخشبته الصغيرة التي تتيح سهولة الحركة والتنقّل، إلى نشوء دوائر وأنظمة قائمة على علاقات تفاعليّة ومنظومات قيميّة مغايرة. هذه الكثافة في التواجد وتأثيرها على كيفيّة حركة الأجساد داخل الفضاء المشترك، هي ما يساعد على نشوء الحركات والتحالفات والتجمّعات في وجه النظام المسيطر. هنا، تتضافر الأجساد المهمّشة لتعزيز انتفاعها من المتعة والانتماء والأمان الوظيفي والطمأنينة. فبدلًا من مقاربة الاختلافات على الطبقية أو الجندرية أو الجنسانيّة أو الهويّاتيّة كلبنات خام تستخدم في بناء العوازل والتقسيمات الهرميّة التنافسيّة، تعمل هذه الشبكات البديلة على استغلال الفوارق كمنطلقات مهمّة في تأسيس التحالفات المتماسكة والذكيّة. فقد وجد كلّ من حمادة والمضيفة وجوليا في اتّفاقهم الضمني على التعاون على النهوض عن الأرض ومواصلة الرقص سويّة ملاذًا آمنًا في مقابل التهميش والتقليل اللذين تمارسهما المنظومة السائدة على بقيّة العاملين في الكباريه. وبدلًا من انجرارهم إلى عمليّة التشييء والاستغلال الإمتاعي أو التنافس فيما بينهم لاقتناص جرعة من الشهرة والرأسمال الاجتماعي، وجدت أجساد الشغّيلة الراقصين المتعة والمنفعة في تشبيكها مع بعضها البعض وفي ممارستها لقيم العطاء وروح الجماعة والثقة بالنفس والإبداع الجسماني. ففي وقت يختبر عمّال الكباريه ظروف العمل وسط فوضى من الوضعيّات والاتّجاهات اللامعياريّة بدءًا بالصبية الزاحفين بين أرجل الكراسي للملمة النقود وصولًا إلى الراقصات مقوّسات الظهور، تبتكر هذه الأجساد متعدّدة القدرات سبلًا مختلفة للتعامل مع العالم. وبهذه الطريقة، يكوّنون نوعًا مغايرًا من الغنى والكفاية من خلال تواجدهم مع بعضهم البعض وتشابكهم وتحرّكهم وفق أنماط هامشيّة متعدّدة الأشكال والاتجاهات.

يتّخذ العاملون والعاملات في الكباريه بذلك اتّجاهات مغايرة تمامًا لما يحصل في أوساط الرقص الشرقيّ الاحترافيّ الأخرى كفنادق الخمس نجوم، حيث تحقّق الراقصات تمايزهنّ الاجتماعي عن بقيّة العاملين من خلال التأكيد المقصود على الانقسامات الماديّة والإيديولوجية والجسديّة فيما بينهم. لا يسعني هنا سوى العودة إلى ملحوظة مهمّة عبّرت عنها راقصة شرقيّة أخرى كنت قد أجريت مقابلة معها في مراحل البحث الأولى وتعبّر في هذا السياق عن رأي حاسم. تحيّة زارا، راقصة "من زيرو نجمة إلى خمس نجوم" على حدّ تعبيرها (لأنّها تقدّم جميع مستويات الرقص). "أتدرين ما تعلّمته من خلال عملي في مختلف هذه الأماكن؟ الثروة. ما الهدف من القدوم إلى القاهرة لأكون نجمة؟ أوّلًا، الجميع ينظرون إلى الراقصة كعاهرة، فما الفرق إن كنت عاهرة بخمس نجوم؟ كره الذات. أظنّ أن الكثير من الراقصات في قرارتهن يكرهن عملهن. هذا طبعًا إذا كنّ من نوع النساء اللواتي يشتركن مع الجميع في إدانة النساء ووصمهن بالعهر. ولكن أودري لورد تقول إن الثورة الحقيقيّة تكمن في المواجهة، لا أذكر كلماتها حرفيًّا، ولكنها تقول ما معناه أنّ علينا التغلّب على الاضطهاد الموجود في دواخلنا. تواجه الكثير من الراقصات صراعات مع أنفسهنّ ومع فنّهن نتيجة اقترانه بالجنسانيّة والدعارة واستخدام الجسد لكسب المال، أمّا في الواقع فلا خطأ في ذلك".18

لا تلتفت زارا إلى التقسيمات الماديّة والإيديولوجيّة الخارجيّة بوصفها قمعيّة ومقيِّدة، بل تلقي الضوء على أهميّة تفكيك الفرز الداخليّ المتجذّر الذي يشكّل مرجعًأ لتكوين إحساسنا بالذات. تتّسق ملاحظتها المهمّة مع واقع كلّ من جوليا وبوسي ودنيا اللواتي توصّلن إلى بناء ثقتهن بأنفسهن على الرغم من عدم توافق عملهنّ مع المعايير الجندريّة والجنسانيّة والاقتصاديّة السائدة والتي تمارس باضطراد مهمّة القمع والتهديد في أوساط القاهرة المعاصرة. تشير تجارب هؤلاء النساء إلى نوع أكثر صدقًا واستدامة من الثراء ومن القيم ينبع من مشهديّات حركيّة حافلة بالأجساد المتلوّنة بكلّ لون والمجتمعة في تشابك وتراصف جسمانيّ يعبّر عن التضامن بدلًا من التنافس على الكيت وما يخلّفه من توتّر في أجواء الكباريه.

تتردّد أصداء هذه الديناميكيّات في نظريّات المفكّر السياسي المتخصّص في الشرق الأوسط تيموثي ميتشل الذي يتحدّث عن ديموقراطيّة الكربون والماك جهاد.19 ففي معرض تشريحه للهيمنة المستمرّة للرأسماليّة العالميّة بفضل اقتصاديّات النفط، يلاحظ ميتشل التقسيمات المدروسة التي عزّزتها الشركات النفطيّة العابرة للحدود من أجل السيطرة على الانتفاضات والاحتجاجات المطالبة بالمزيد من الحقوق الديموقراطيّة. فبحسب ميتشل، عمدت الشركات العابرة للحدود إلى تعميق الانقسامات الطبقيّة والهويّاتية والإثنيّة إضافة إلى بناء الحواجز الماديّة بين العمّال في سياق عمليّة إنتاج النفط ونقله، ما أدّى إلى إضعاف قدرتهم على النظيم (2013). انطلاقًا من هذا الفهم، يمكن النظر إلى كيفيّة اقتناص الأجساد المهمّشة داخل عالم الكباريه المجهريّ للحظات ومتّسعات للانفلات في سياق تعاملاتها مع بعضها البعض في المساحة التي تتشاركها سواء على المسرح أو في الصالة. ففي هذه الومضات تمظهر للأساليب الإبداعيّة والهشاشات التي تنطوي عليها سيرورة الماك جهاد المحليّة الهجينة. تدفع الراقصة المصريّة الأميركيّة زارا نظريّة ميتشل إلى مجال أبعد عندما تلفت النظر إلى أنّ جوهر هذه الانقسامات والهشاشات والاحتماليّات إنّما يكمن في النطاق الجسمانيّ.

 

الخاتمة

إن التنقيب عن الجذور والمنابع الدقيقة لهذه السيرورات وكيفيّة تمظهرها على الأجساد المجتمعة داخل الكباريه، يُظهر لنا كيف تشكّل الفروق الطبقيّة والجندريّة والجنسانيّة والهويّاتيّة المتجسّدة جوهر الصراعات السياسيّة والاقتصاديّة على المستوى الأشمل. إذ يتحرّك كلّ من جوليا وحمادة وجامعي البقشيش والمضيفات وغيرهم من الأجساد العاملة في الكباريه في إطار مراوغ وإنّما ذي دور بالغ الأهميّة في تكوين شبكات تضامن وتحالفات إبداعيّة قابلة للميل والانحراف في اتّجاهات مختلفة. هكذا تجتمع جسمانيّاتهم وكوريوغرافيّاتهم على خلخلة التوجّه الأحاديّ التنازليّ الهرميّ الذي تعتمده ديناميكيّات السلطة المتمثّلة بالذكورة الغيريّة البترودولاريّة وديكتاتوريّة القبضة الحديديّة، من أجل بناء منظومة اجتماعيّة على نسقها وقولبة الذوات الخاضعة لهذه المنظومة وفق تصوّراتها. في مقابل ذلك، ينبّهنا عمّال / عاملات الكباريه إلى أهميّة إعادة مركزة معاش الأجسام المهمّشة على الأرض في السياقات التي تستلزم تكوين مواقف وتكتيكات تسعى لتحقيق العدالة المساواة على مستوى سياسات الدولة. ويمكننا الاستدلال من الملاحظات والتنبيهات والتكتيكات المتّبعة داخل الكباريه على أن السبيل للمضيّ نحو الاستدامة يكون بالتحرّك الجماعيّ متعدّد الاتّجاهات ومتعدّد التموضعات والتجارب الجسمانيّة.

 


                                     
  • 1. جرت العادة أن يقوم الرجال بنثر المال على المغني أو الراقصة، لت(ي)قوم المغني بدوره بتوجيه تحية في المقابل. وكلما كان المال أكثر، كانت التحية أكثر تميزًا وتكرارًا والعكس صحيح. يسمى المال المنثور على المغني/الراقصة نقوطًا بالتعبير الدارج المصري. (هيئة التحرير)
  • 2. التعبير الدارج لكلمة راقصة.
  • 3. "الموسم العربيّ" هو التعبير الدارج عن موسم قدوم السيّاح العرب لقضاء إجازاتهم في القاهرة خلال فصل الصيف عندما تكون درجات الحرارة في مدينة القاهرة اكثر رحمة من قيظ الخليج، وحيث تجتمع تكاليف الحياة المتدنّية مع الأنشطة السياحيّة في أجواء مألوفة ثقافيًّا ولكن فريدة في الوقت عينه.
  • 4. الموّال نوع من الموسيقى العربيّة يتميّز باستعراض القدرات الصوتيّة لدى المغنّي/ة وسرعته/ا في الارتجال. ويكون الموّال في مُستهلّ الغناء ويرتبط بالتقليد الشعريّ القائم على النظم عميق الدلالة وبعيد التأثير في جمهور المستمعين/ات
  • 5. الدبكة هي موسيقى رقص جماعيّ مصفوف تنتشر في بلاد الشام في الشرق الأوسط.
  • 6. في حين يشير عمل الجنس إلى مجموعة متنوّعة من الخدمات تشمل الترفيه، أخصّ بالذكر هنا الأفعال الجنسيّة مدفوعة الأجر تحديدًا.
  • 7. إنّ تتبّع جذور ومسارات عمليّة النقوط في الكباريهات يشير إلى تداخل القوى بين مصر ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم. ففي الأفراح الشعبيّة، يقوم المدعوّون بتقديم النقطة في حين يؤدّي المغنّي دور النبطشي (الذي يجمع النقوط ويعلن أسماء أصحابها ويمدحهم). كما تتقاطع هذه العادة مع الطفرة النفطيّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وسياسات الباب المفتوح التي اتّبعها السادات والتي أسفرت عن ازياد كثيف في أعداد الزبائن الأثرياء من المنطقة داخل الكباريه حيث راحوا يشاركون في نثر النقود.
  • 8. ترد هذه الثلاثيّة من "السكر والمخدّرات والنساء العاريات" على لسان الكثير من الأصدقاء والصديقات المصريّين والمصريّات المنخرطين/ات في صناعة الرقص ممّن حاورتهم/ن، وهي ما يردّ إليها تعليل "القذارة" أو الوصف بـ"الفنّ الهابط". وعلى سلّم الهرميّة الذي تشهده أوساط الرقص الموصومة عمومًا، يقابل هذا النوع من التصنيف لرقص الكباريه على أنّه رديء نوع آخر من الرقص الشرقي الراقي الذي يُعرض على متن القوارب السياحيّة وفي الفنادق ومراقص الديسكو.
  • 9. لا أعني أنّ الكباريهات لم تشهد أي عقبات في استئناف عملها في أعقاب ثورة 2011. فعلى مدى التاريخ، كانت الكباريهات موضع هجوم من قبل بعض فئات المجتمع التي تعتبرها أماكن للفسق والفجور والتفسّخ الأخلاقيّ. وقد تعرّض عدد من الكباريهات للسطو والتخريب بعد الثورة. وفي حين اعتبر الكثيرون أنّ منفّذي هذه الاعتداءات هم من "البلطجيّة"، رجّح البعض الآخر أن يكونوا من الإخوان المسلمين. وقد تمّ إقفال العديد من الكباريهات، على الأرجح استجابة لرؤى جديدة تهدف إلى تقويم المجتمع من خلال القضاء على "بؤر الانحراف".
  • 10. تحدّثتُ إلى سيّد حنكش وعدد من مديري الكباريهات عن ممارسة "النقوط" وجذورها التاريخيّة ولكنّ حنكش كان الأكثر اطّلاعًا ودراية في هذا التاريخ. وقد أجريت مقابلات عدّة مع سيّد حنكش في المقاهي المفتوحة برفقة صديقي خالد منصور الذي قام مشكورًا بالترجمة (أغسطس/ آب 2015، أغسطس /آب 2016، مارس/آذار 2017). وسيّد حنكش شاهد وراوٍِِ للتاريخ الشفهيّ يتحدّر من عائلة موسيقيّة شهيرة من شارع محمّد علي. أمّا الطريقة الأساسيّة المتّبعة في النقوط فهي أن يدفع الزبون مبلغًا محدّدًا، مائة جنيه مصريّ مثلًا، فيحصل في المقابل على أضعاف هذا المبلغ بحسب المستوى الطبقيّ والشخصيّة اللذين توحي بهما هيئته و"الشطارة" في التفاوض. ويقرّ مديرو بعض الصالات بإن لا عدالة في نظام "إدفع والعب" هذا، ولكنّهم يحاولون استخدام طرق ذكيّة في التوزيع غير العادل للأموال من أجل تفخيم مكانة الزبائن الاجتماعيّة وإمتاعهم ما يكوّن في رأيهم نموذجًا ناجحًا في إدارة الأعمال.
  • 11. "النقطة" بالعربيّة الدارجة هي بصيغة المفرد، في حين ترد مفردة "الكيت" بصيغة الجمع لوصف نوع من البقشيش الذي يتمّ تداوله في الكباريه.
  • 12. في سياسات الظهور، تراوح الأجساد بين قطبي الاختفاء والظهور المفرط، اللذين يشكّلان وجهين للسلطة المهينة على وجود ولغة تمثيل الأجساد المهمّشة (جندريًّا او عرقيًّا أو إثنيًّا إلخ.). ويعبّر الظهور المفرط عن التمعّن المبالغ فيه في مواضع الاختلاف بين الأجساد على أساس الجندر أو العرق، ويساهم في ترسيخ وتطبيع التمييز تجاه الآخر كنوع من أنواع الانحراف عن "الطبيعة". ملاحظة المترجمة.
  • 13. جوليا هو اسم مستعار بهدف حماية الهويّة الحقيقيّة للراقصة. أصل جوليا من الاسكندريّة، قدمت قبل سنوات عدّة إلى القاهرة بحثًا عن فرص أفضل لكسب المال وعن إمكانيّة لتحسين وضعها الاجتماعيّ من خلال العمل في كباريهات القاهرة. وقد كانت الراقصة الأساسيّة في هذا الكباريه بالذات ولم يكن يتسنّى لها المكوث طويلًا بين النمر في الكباريهات الأخرى. وقد منحتني إذنًا شفهيًّا بالنشر.
  • 14. أجريتُ مقابلة سريعة وعفويّة لمدّة عشر دقائق مع المضيفة دنيا أثناء دوامها في الكباريه يوم 20 يوليو/تموز 2016. وقد توزّعت هذه المقابلة في شكل أسئلة وأجوبة قصيرة يستغرق كلّ منها من دقيقة إلى دقيقتين على عدّة استراحات كانت تأتي أثناءها لأخذ طلباتنا إذ كانت مشغولة طوال الوقت بالاهتمام بالكثير من الزبائن. ناولتها مبلغ 50 جنيهًا للمقابلة فيما ساعدني زميلي المصريّ في الترجمة. ونظرًا لأنّ المقابلة أجريت عند طاولة جانبيّة داخل الكباريه الصاخب، فقد سجّلنا المقابلة وأعدنا ترجمتها لاحقًا إلى الإنكليزيّة أثناء عودتنا إلى المنزل. وقد قمت لاحقًا بتفريغ المقابلة بمفردي لدى عودتي إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة. وقد كانت مقابلة المضيفات من أصعب المقابلات التي أجريتها إذ رفضت الكثيرات منهنّ الإجابة عن أسئلتي ومنعتنا الإدارة من ذلك في بعض الاحيان. في هذه الحال، كانت دنيا قد منحتنا الإذن بإجراء المقابلة ولكنّها أيضأ آثرت أن تعلم الإدارة وتأخذ موافقتها على ذلك. وقد توجّس العديد من عمّال الكباريه من أن أكون مخبرة لدى الشرطة أو الحكومة المصريّة وأن أقوم بكتابة تقرير يركّز على الجوانب السلبيّة من عملهم. وفي كلّ مرّة كنّا نحصل على مقابلة، نجد أنفسنا مدعوّين إلى مكتب المدير لكي أحدّثه عن بحثي.
  • 15. استخدمت تعبير "جسمانيّ" و"جسمانيّة" بدلًا من جسديّ للإشارة إلى الجانب الماديّ العضويّ، نظرًا لأن مفردة الجسد في هذا السياق ترد دائمًا في معرض الإشارة إلى الواقع المادّي وامتداداته في علاقات السلطة والخلفيّة الاجتماعيّة أو الجندريّة أو الإثنيّة وهي خلفيّات مركّبة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. (المترجمة)
  • 16. لفهم المزيد عن مفهوم "الجسمانيّة" (corporeality) يرجى مراجعة أنطولوجيا بعنوان Corporealities: Dancing Knowledge, Culture, and Power (1996) للباحثة الرائدة في مجال الرقص سوزان فوستر.
  • 17. أجربت مقابلة سريعة لمدّدة خمسة عشر دقيقة مع بوسي يوم 10 أغسطس/آب 2016 في شارع جانبيّ صغير خارج الكباريه بعدما أنهت نمرتها. وكنت بصحبة زميلي المصريّ الذي ساعدني في الترجمة بحضور زوجها ومدير أعالمها. وقد سجّلت المقابلة وأعدت تفريغها لاحقًا بمفردي لدى عودتي إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة.
  • 18. أجريت هذه المقابلة مع الراقصة المصريّة البريطانيّة زارا ومديرها في مقهى مفتوح أثناء استراحة طويلة بين حفلاتها يوم 13 أيلول/سبتمبر 2017. تعمل زارا في محلّات متباينة المستويات من المراكب النهريّة إلى الفنادق والأفراح والكباريهات وغيرها، وتستمع بعملها في جميع هذه الأماكن نظرًا لما تقدّمه من غنى وتنوّع لمسيرتها المهنيّة وخبراتها الحياتيّة. أجريت المقابلة باللغة الإنكليزيّة وقد قمت بتسجيلها ومن ثمّ بتفريغها في الولايات المتّحدة الأميركيّة.
  • 19. يشير تيموثي ميتشل في كتابه "ديموقراطيّة الكربون" (Carbon Democracy) إلى أن الوقود الأحفوري قد يسّر صعود أنماط من الديموقراطيّات الحديثة وحدّ من أنماط أخرى. وديموقراطيّة الكربون هو سيرورة عالميّة تتقاطع فيها سياسات الدول فيتكوّن النمط السياسيّ في أحد البلدان بالعلاقة مع العديد من السياسات العابرة للحدود. ويعمد ميتشل إلى تحليل هذه العلاقات والتواريخ وخطوط الإمداد ومعامل التكرير والشحنات والتداولات النفطيّة والنقديّة بهدف رسم صورة معزّزة وأكثر تعقيدًا لفهم الديموقراطيّة الأميركيّة الحديثة ونوعيّة علاقاتها مع بعض ديكتاتوريّات الشرق الأوسط. ويقول ميتشل إنّ الانتقال إلى اقتصاديّات معتمدة على النفط مرتبط بشكل مقصود بالسعي للسيطرة ولاحتواء المطالبات الشعبيّة بالديموقراطيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة وفي بعض بلدان الشرق الأوسط كمصر والسعوديّة، وذلك من خلال الحدّ من قدرة هذه الشعوب على إنتاج نفطها والتحكّم به بحريّة. أمّا "الماك جهاد" فهو نظريّة ميتشل القائلة أن الرأسماليّة العالميّة قادرة على النفاذ إلى الجغرافيات المختلفة (كالبلدان الرئيسيّة المنتجة للنفط في الشرق الأوسط) من خلال التحالف مع القوى الاجتماعيّة والسلطات الأخلاقيّة المحليّة، علمًا أن هذا التماهي قد يتشابك أو يتعارض مع أساليب وأهداف الرأسماليّة العالميّة والإمبراطوريّة ما يؤدّي إلى تصاعد التوتّرات والتناقضات. يطلق ميتشل على هذه الأنماط المحلّيّة الهجينة القائمة على التماهي بين الرأسماليّة العالميّة والسلطات الاجتماعيّة والأخلاقيّة المحلّية تعبير "ماك جهاد"، حيث يتوجّب على الناس التنقيب عن مكامن الضعف والهشاشة في المنظومة. وهذا ما ينطبق في رأيي على المستوى المجهري داخل فضاء الكباريه.
ملحوظات: 
المراجع: 

Abu-Lughod, Lila. Re-Making Women: Feminism and Modernity in the Middle East. Princeton: Princeton University Press, 1998.

---. Veiled Sentiments: Honor and Poetry in a Bedouin Society. Berkeley: University of California Press, 1999.

Adum, Priscilla. “Farewell to the Al Ghandoul Nightclub on El Haram Street.” Shira.net. Accessed: May 19, 2017. http://www.shira.net/about/el-gandoul-nightclub.htm.

Ahmed (Cabaret Singer). Personal Interview. Apr. 3, 2017. Cabaret in Cairo, Egypt.

Ahmed (Stage Manager). Personal Interview. Apr. 3, 2017. Cabaret in Cairo, Egypt.

Bossy. Personal Interview. Aug. 10, 2016. Cabaret in Cairo, Egypt.

Botman, Selma. Engendering Citizenship in Egypt. New York: Columbia University Press, 1999.

Cabaret Manager (Anonymous). Personal Interview. Mar. 10, 2017. Cabaret in Cairo, Egypt.

Donya. Personal Interview. July 20, 2016. Cabaret in Cairo, Egypt.

Foster, Susan Leigh, editor. Corporealities: Dancing Knowledge, Culture, and Power, London: Routledge 1996.

Gelvin, James. The Modern Middle East, 4th ed. New York: Oxford University Press, 2016.

---. The Arab Uprisings: What Everyone Needs to Know, 2nd ed. New York: Oxford University Press, 2015.

Hafez, Sherine. “Bodies That Protest: The Girl in the Blue Bra, Sexuality, and State Violence in Revolutionary Egypt.” Signs: Journal of Women in Culture and Society, vol. 40, no. 1, pp. 20-28. 2014.

---. “No Longer a Bargain: Women, Masculinity, and the Egyptian Uprising.” American Ethnologist, vol. 39, no. 1, pp. 37-42. 2012.

---. “The Revolution shall not pass through Women’s Bodies: Egypt, Uprising and Gender Politics.” The Journal of North African Studies, vol. 19, no. 2, pp. 172-185. 2014.

Hamada. Personal Interview. Feb. 5, 2017. Cabaret in Cairo, Egypt.

Henkesh, Sayyad. Personal Interview. Aug. 2015, Aug. 2016, and Mar. 2017. Dream Coffee Shop in Cairo, Egypt.

Mitchell, Timothy. Carbon Democracy: Political Power in the Age of Oil, London: Verso 2013.

Nieuwkerk, Karin Van. A Trade like Any Other: Female Singers and Dancers in Egypt. Austin: University of Texas Press, 1995.

---. Performing Piety: Singers and Actors in Egypt’s Islamic Revival. Austin: University of Texas Press, 2013.

Pratt, Nicola. “Gendered Paradoxes of Egypt’s Transition.” 50.50. Gender, Sexuality, and Social Justice. OpenDemocracy.net. Feb. 2, 2015. Accessed: Sep. 5th, 2016. https://www.opendemocracy.net/5050/nicola-pratt/gendered-paradoxes-of-eg... transition.

Wynn, L.L. Pyramids and Nightclubs: A Travel Ethnography of Arab and Western Imaginations of Egypt, from King Tut and a Colony of Atlantis to Rumors of Sex Orgies, Urban Legends about a Marauding Prince, and Blonde Belly Dancers. Austin: University of Texas Press, 2007.

Zara. Personal Interview. Sep. 13, 2017. Baladi Coffee in Cairo, Egypt.